الخميس، فبراير 25، 2010

الاحتلال الأميركي في العراق أفعى مقطعة الأوصال

--> --> -->
الاحتلال الأميركي في العراق أفعى مقطعة الأوصال
ومكشوفة الغطاء في الداخل الأميركي وفي الخارج الدولي
28/ 2/ 2008
 
عندما أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على احتلال العراق، فقد حسبت أنها منتصرة بلا شك، وراحت تعد نفسها للاستيلاء على ثرواته، وتُنهي به آخر حصون المقاومة التي تواجه الإمبراطور الأميركي، وتُتوِّج جورج بوش أول إمبراطور أميركي لـ«قرن أميركي جديد». فيصفو الجو العالمي لأباطرة المال والثروة، وروَّاد «حرب الأفكار» و«الفوضى الخلاقة»، فتعوم شركاتهم على بحور من ثروات العالم التي لا تستطيع أي نار أن تأكلها. ويدين العالم، بخيراته وثرواته لعدد محدود من أباطرة المال الأميركيين. هؤلاء الأباطرة حددهم توماس فريدمان، بحوالي خمسة وعشرين شخصاً في واشنطن، تمنى أنه لو كانوا قد نفوا إلى جزيرة نائية لما كانت حرب العراق قد وقعت.
دولة امتلكت فضاء العالم، وسيطرت عليه، فدانت لترسانتها أكبر الدول، وإن اعترضت أي واحدة منها، فإنما لكي تنال أكثر ما يمكن من الفتات الذي سيسمح به إمبراطورها.
بعد العدوان على العراق واحتلاله، وبعد أن انطلقت المقاومة العراقية، وتجذَّرت مواقعها، انتهت آمال أولئك العشرات الذين يتفردون بحكم أميركا، وراحت أحلامهم تتبخر، وخدعهم سراب صحراء العراق، وانتشرت قواتهم كالأفعى في كل أنحائه، وبذلك صدقت أقوال محمد سعيد الصحاف، عندما أعلن أن العراق يترك الأفعى الأميركية تتمدد ليسهل تقطيعها.
سنوات خمس مرَّت من عمر العراق، وحكايته مع الاحتلال، حكاية الأفعى الأميركية التي تتلوى من الضربات التي تكيلها لها المقاومة العراقية من كل حدب وصوب. وحكاية الاحتلال الأميركي اليوم هي حكاية الأفعى التي تقطعت أوصالها، فلا هي قادرة على تجميع نفسها من جديد، وليست هي قادرة على التمدد. فالتجميع تارة، والتمدد تارة أخرى، هما حلاَّن أحلاهما مر، فراح مخططو الاحتلال يتخبطون في كل اتجاه، ولم يجدوا ما ينبئهم بأن حركة الأفعى التي أطلقوها في صحراء العراق ستستعيد زمام المبادرة. وبها تحول احتلال العراق إلى مجموعة من الاحتلالات، ومجموعة من الخطط التي لم تنجح واحدة منها في إعادة «ماء الوجه» لأصحاب القرن الأميركي الجديد.
فمن معارك الفلوجة، إلى سامراء، إلى تأديب محافظة الأنبار، في سلسلة لم تنته، إلى خطة «إعادة القانون» إلى بغداد، إلى «اجتثاث المقاومة من الموصل»، ومحافظة نينوى، لا تزال الأفعى تتلوى، وتتألم، وتعمل على التقاط أنفاسها، ولكن عبثاً حاولت، وعبثاً حاول المخططون العسكريون والسياسيون وحتى فلاسفتهم ومفكروهم أن يجدوا سبيلاً للقضاء على المقاومة، أو تحجيمها على أقل تقدير.
شنَّت قوات الاحتلال الأميركي مئات العمليات العسكرية في أكثر من منطقة عراقية، كـ«الأفعى المتسلقة»، و«المطارق الحديدية»، وجرَّبت كل «عمليات الاجتثاث»، ومُنيت جميعها بالفشل. وحاولت ترميم الجدار الدولي الذي كان يوفِّر غطاء دولياً للاحتلال، إلاَّ أن الجدار انهار كتلة إثر كتلة. وراهنت على أن يدعِّم عملاؤها الانهيارات، فبرهنوا على أنهم لا يقوون على حماية أنفسهم.
-تفرقت أيادي سبأ الدولية بعد أن عجزت عن مد يد الغوث بمساعدة الاحتلال وتغليفه بقرار دولي، ابتدأت بانهيار المساعدة الإسبانية، ومرَّت بالمساعدة الإيطالية، واليابانية، والبريطانية، ولن تكون آخرها المساعدة الأوسترالية.
-المآزق الكبرى التي أوقع فيه العملاء والخونة من العراقيين سيد نعمتهم، هؤلاء عادوا إلى العراق وهم مدربون على كل وسائل الفساد، وكان من الممكن أن ينجحوا في أدوارهم لو صفى الجو لأسيادهم. وهم عاجزون اليوم عن تقديم أي لون من ألوان المساعدة العسكرية، والدلائل أكثر من كثيرة. فهم خبراء في اللصوصية، والنهب والسرقة والقتل، لكنهم عاجزين عن حماية أنفسهم، فكيف بالأحرى إذا طُلب منهم أن يشكلوا حماية لأكبر جيش في العالم، تأكد أنه عاجز عن حماية نفسه.
-كان الممكن أن يقدِّم الإيرانيون نوعاً من أنواع الإنقاذ، احتذاءً لما قدموه للعدوان من مساعدات جليلة، لو أنهم لم يطمعوا بضعف «البقرة الأميركية»، وراحوا يعملون على «سلخها»، من أجل «تسمين بقرة» مشروعهم، مستغلين فرصة إسقاط حزب البعث العربي الاشتراكي من السلطة، مستفيدين من إرشادات الخميني التي أعلنها منذ العام 1980 حرباً شعواء ضد «البعث»، مستغلين جهد المقاومة الوطنية العراقية وجهادها في إنهاك الاحتلال وتأزيمه.
-وكان من الممكن أن يقدم الشارع الأميركي دعماً لحكومته لو لم يستقبل الجثث والجرحى والمعتوهين والمجرمين والمخبولين من أبنائهم.
إن هذه المرحلة، تحديداً، بعد أن شهدت تحولات جذرية في نتائج مقاومة الاحتلال، ووضعت إدارة جورج بوش على شفير الهاوية، بعد أن أسقطت أهم رموزه ومفكريه وسياسييه وعسكرييه والمخططين فيه، تشهد بداية جدية لتحولات جذرية في مقدمتها انكفاؤه إلى مرحلة الدفاع عن النفس، أولاً، وثانياً هروبه إلى الأمام في معارك وحملات عسكرية على الرغم من وحشيتها تشهد الواحدة منها الفشل تلو الأخرى.
أما تداعيات الاحتلال على الإدارة ذاتها، فقد وضعتها في مواجهة مع مصير سقوطها المحتوم، فهي بالإضافة إلى مواجهة المقاومة العراقية، فهناك مقاومات ومواجهات تستعر على نار هادئة في شتى أنحاء العالم، وعناوينها الكبرى:
أولاً: هناك بوادر اندلاع «الحرب الباردة» من جديد، ولعلَّ أهمها ظاهرتين:
-الأولى: صعود التنين الصيني، الذي حقق قفزات كبرى في تنظيم اقتصاده، بالشكل والجوهر الذي جعله من أهم منافسي الاقتصاد الأميركي. فليس لدى الصين اهتمامات بتوظيف اقتصادها من أجل الحرب، تلك التي تستنزف الاقتصاد الأميركي وتجعله يترنح بفعل الإنفاق الهائل الذي يوظف في الحروب المتواصلة التي قادتها الإدارة الأميركية في البلقان وأفغانستان والعراق.
-الثانية: بمواصلة حرب الابتزاز التي تمارسها إدارة جورج بوش ضد روسيا بوتين، وارث مجد الاتحاد السوفياتي، سواءٌ أكان الأمر بتطويقها بحاجز بشري معاد من أنظمة الدول التي كانت امتداداً للاتحاد السوفياتي، أم كان الأمر له علاقة بنشر منظومة من الصواريخ في دول أوروبا الشرقية. ذلك الابتزاز أدى إلى نفاد صبر روسيا، وما تشهده العلاقة بينهما تدل على أنها وصلت إلى بداياتها المأزومة والتي لن تنتهي إلاَّ بانتهاء أسبابها، أي نهاية مرحلة الاستفراد الأميركي بحكم العالم.
ثانياً: صياغة جديدة لعلاقات أوروبية أميركية، هدفها تصحيح الخلل في موازين القوى السياسية:
في مقابل التحديين، الصيني والروسي، فهناك تحدٍّ آخر يتمثل بمنظومة الدول الرأسمالية الأوروبية التي تتصرف على أساس أن مشروع «القرن الأميركي الجديد» لن يصب لمصلحتها الاقتصادية أولاً فهي ستكون تابعاً للاقتصاد الأميركي، ولا تستطيع أن تتحمل وزر الحروب المتواصلة التي تقودها الإدارة الأميركية خاصة وأنها تعلم أنها ستدفع من دم جنودها لمصلحة تلك الإدارة، وتتزعَّم فرنسا هذا التيار، ولن يدوم الأمر طويلاً لتلتحق بها بريطانيا بعد تعرية نظام طوني بلير والعمل على تجريده من «ورقة التوت».
أما فرنسا فقد خرجت من دائرة النزاع بين شيراك وبوش، الذي كان قائماً على قواعد ممانعة فرنسا لحرب ضد العراق ظناً من فرنسا أنها ستنال بابتعادها عن المشروع الأميركي جائزة في التقارب مع المنطقة العربية، بينما عاد ساركوزي لتصحيح طريقة العلاقة وليس أهدافها، لعله عن طريق المرونة السياسية يحصل على ما لم يستطع شيراك من الحصول عليه عن طريق الممانعة.
إنه وإن كان ما يجمع منظومة الدول الأوروبية الغربية الآن مع الولايات المتحدة الأميركية منع إعادة إحياء أي شكل من أشكال منظومة للدول الاشتراكية، إلاَّ أنها غير مستعدة لصراعات تستنزف أموال شركاتها، وتستنزف شارعها الشعبي الذي لا تزال تأثيراته ماثلة في إسقاط حكومات إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وأوستراليا.
وإذا كانت الإدارة الأميركية تحاول يائسة أن تحتل العراق كله، عبر مجموعة كبيرة من مشاريع الاحتلال الموضعي، إلاَّ أنها تواجه ثلاثة حروب أخرى أشد دهاء وتأثيراً، وهي:
-مع أن الحزب الديموقراطي يقود معركته الانتخابية، مسلحاً بموقفه الداعي إلى الانسحاب من العراق، إلاَّ أن شدة مواقف المرشحين الديموقراطيين أو ضعفها حول هذه المسألة تُعد عاملاً مؤثراً في استقطاب أصوات الناخبين. ويجد هذا الاستنتاج مكاناً له في ظاهرة حصد (باراك أوباما) أصواتاً كثيرة لمجرد أنه وقف ضد قرار الذهاب إلى الحرب في العراق، ويضعف مواقع هيلاري كلينتون لمجرد تصويتها إلى جانب قرار الحرب، ولم تشفع لها تصريحاتها بإدانة تلك الحرب فيما بعد.
-إسقاط كل الحكومات الأوروبية التي دعمت الحرب ضد العراق. حتى بريطانيا قد ارتدَّت على أسس العلاقة مع أميركا التي أسسها طوني بلير، وهي تعمل للخروج من عقدة «التبعية الذليلة» لأميركا.
-حرب الاستنزاف الدائرة على الحدود الشمالية للعراق، بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، وهي حرب وقائية، كما تزعم تركيا، لمنع قيام دولة انفصالية كردية في جنوب تركيا. وهي وإن بدت كأنها اعتداء على العراق إلاَّ أنها بطبيعة أهدافها تعتبر حرباً ضد الأهداف الانفصالية الكردية بشكل عام، تلك الانفصالية التي عمقتها وعززتها بالقوة قيام دولة كردستان في شمال العراق. ومن يريد منع تلك الظاهرة من دول الجوار لخطورتها، فلن ينجح في ذلك من دون إعادة توحيد العراق، وإن محاربة الانفصاليات في العراق ليست مهمة عراقية فحسب، وإنما هي مهمة للإقليم المجاور أيضاً.
-بداية شروق حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأميركية، كأخطر ممثل للرأسمالية، وبين نظامين خصمين سابقين، وهما الصين وروسيا.
-مخاوف بعض دول الجوار العربي من النتائج الوخيمة التي ستحصدها من مساعدة أميركا في احتلال العراق، خاصة بعد أن تحول إلى أكثر نماذج الأنظمة بشاعة. وإن كانت تلك المخاوف لم تظهر حتى الآن خشية من قصاص أميركي أو عقاب، إلاَّ أن مظاهر المآزق الشعبية الأميركية والأوروبية والدولية ستدفع دول الجوار العربي إلى وعي ما يحدق بها من مخاطر بقائها على حياد من جهة أو سكوت من جهة أخرى، أو تآمر من جهة ثالثة.
مثقل العراق بكل أنواع الآلام والمآسي والعذابات التي ألحقها الاحتلال الأميركي وعملاؤه، بالشعب العراقي، ولا يزال، ويواجه الآن أكثر من وسيلة من وسائل الوحشية في احتلالات متنقلة، هدفها تحصيل كل بارقة انتصار للاحتلال الأم، تبقى المقاومة الوطنية العراقية الأمل الوحيد والشرعي في إدامة مآزق الاحتلال وعملائه.
إن استمرار المقاومة العراقية، تعتبر المركزية الأساسية التي راكمت إلى جانبها ومصلحتها كل عوامل وأشكال الحروب الأخرى، الداخلية الأميركية والخارجية الدولية، التي تستنزف إدارة جورج بوش. تلك المواجهات التي لم تصل حتى الآن إلى حدود المواجهات العنيفة إلاَّ أنها ستقوى وتتعمَّق طالما المقاومة العراقية تُنزل الخسائر في الاحتلال وعملائه، وطالما هي سائرة على طريق التحرير والنصر.
وفي حسابات بسيطة وسريعة، لا يرى المراقبون أن إدارة جورج بوش قادرة، ليس على التقدم في العراق حتى ولو بنسب بسيطة فحسب، بل هي ليست قادرة على منع انهياراتها على شتى الجبهات، الداخلية الأميركية والدولية أيضاً. وإنما واقع الأمر يدل على أنها كلما غرقت في استخدام الوحشية في العراق كلما ازدادت قناعة الشعب الأميركي بكذب وخداع إدارتهم الحالية، وبها تتعمَّق أسباب إسقاط آخر معالمها التي لم تسقط حتى الآن.
ولعلَّ مشهد الاحتلال الأميركي لفييتنام في أواخر أيامه، شبيه بمشهده في العراق اليوم. فصبر ساعة عند المقاومين العراقيين الأشاوس كفيل بإيصال إدارة جورج بوش إلى نهايتها المحتومة، نهاية أحلام صقور «القرن الأميركي الجديد»، كما نهاية كل الأحلام الإمبراطورية الأصولية في التاريخ، وبها يسجل أشاوس العراق ورفاق صدام حسين وشعبه بداية لشروق فجر قومي عربي جديد.

ليست هناك تعليقات: