الخميس، فبراير 25، 2010

جريمة اقتحام الفلوجة ووسائل الاختزال الأميركي

-->
جريمة اقتحام الفلوجة ووسائل الاختزال الأميركي
19/ 11/ 2004م
 
على قاعدة تهريب الأسباب الحقيقية لقضايا الصراع العربي - الأميركي – الصهيوني يتلاعب الإعلام الأميركي، والإعلام العربي المتأمرك، بصورة الواقع على أرض الفلوجة. فيعمد إلى اختزال الأسباب الكبيرة بالنتائج الصغيرة. والجرائم الكبرى بالجرائم الصغرى.
إن جريمة الحرب الكبرى التي ارتكبتها إدارة «القرن الأميركي الجديد» تمثَّلت بالعدوان على العراق واحتلاله. وهي حقيقة أمسكت بها حركة الضمير العالمي. وغابت رؤيتها، أو غُيِّبت، عن أعين المثقفين الليبراليين العرب خاصة مالكي وسائل الإعلام منهم، ومن يأوون من كتَبَة في تلك الوسائل.
ولتغييب معالم تلك الجريمة، قام الإعلام الأميركي – الصهيوني بطريقة الاختزال بتوجيه الأنظار وحشو الذاكرة بأن ما يجري في العراق اليوم ليس إلاَّ صراعات بين حكومة عراقية، (أضفى الإعلام المتآمر والمتواطئ الشرعية عليها)، ومتمردين على تلك الشرعية. وحسب ذلك المنطق تحوَّلت حكومة فيشي، وقرضاي، العراقية إلى شرعية يجب تثبيتها، كما تحوَّلت المقاومة العراقية إلى مجموعة من المتمردين والإرهابيين الذين يمارسون طرقاً غير شرعية في إسقاطها.
وبمثل هذا التصوير الإعلامي الخبيث، تحوَّلت قضية احتلال العراق، كجريمة كبرى، إلى مجموعة من القضايا الجزئية التي لا توحي بأن هناك احتلال كامل وشامل لأرض وطنية. ولهذا قامت وسائل الإعلام المعادية بتوجيه الأنظار تارة إلى النجف وكربلاء، وتارة أخرى إلى الفلوجة وسامراء، وثالثة إلى الموصل وكركوك.
إن تجزئة معادلة الاحتلال والمقاومة واختزالها إلى معادلة صراع بين شرعية ومتمردين يظهرون في هذه المنطقة العراقية أو تلك، كانت مدخلاً إعلامياً خطراً لتنظيف ذاكرة الرأي العام من كل آثار الجريمة الكبرى.
بالأمس كانت المعادلة الجزئية تظهر بشكل صراع بين الحكومة العراقية وأهالي النجف وكربلاء، واليوم تظهر معادلة الصراع وكأنها بين الحكومة الشرعية والمتمردين في الفلوجة. وبمثل تلك التجزئة تظهر قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني وكأنها تقوم بواجب قانوني وإنساني كبير عندما تساعد ما يسمى بالحكومة العراقية على بسط شرعيتها ضد فلول من المتمردين على شرعيتها في الفلوجة.
وهنا علينا أن نثبِّت حقيقة استراتيجية هي أن نعيد التأكيد على أن الصراع الدائر اليوم على أرض الفلوجة هو صراع بين الاحتلال كله والشعب العراقي كله.
وعلى قاعدة الاختزال الإعلامي، الذي يطبقه الإعلام المعادي والمتواطئ يعمل من أجل تغييب السبب الحقيقي والتلهي بالنتائج المتنافرة والمشتتة، وذلك باختزال جريمة تدمير الفلوجة بإحالة جندي أميركي إلى المحاكمة بتهمة قتل جريح في أحد مساجد الفلوجة.
من متابعتنا للخبر، ومتابعتنا إلى كثرة الترويج له وكأنه حادث إجرامي ارتكبه جندي أميركي تحت تأثير التوتر النفسي الذي يعاني منه، كاد أن ينغرس في الذهن انطباعان، وهما:
الانطباع الأول: تغييب الإيديولوجيا الأميركية في قتل السكان الأصليين وإبادتهم: ومحو صورة الممارسات الوحشية لجنود الاحتلال، وهي ممارسات ليست لها أسباب فردية، بل هي وسيلة استراتيجية من وسائل تصدير مشروع أمركة العالم القائمة على سياسات «الضربات الاستباقية»، و«نقل المعركة إلى أراضي الخصم لمنعها من الوصول إلى الداخل الأميركي»، والتي تُدار بإيديولوجيا «صراع الحضارات»، على قاعدة الصراع بين «معسكريْ الخير والشر».
وكأن جريمة قتل أحد الجرحى في الفلوجة كانت غيمة صغيرة في سماء صافية.
وكأن حمم التكنولوجيا الأميركية كانت برداً وسلاماً على بيوت الفلوجة وأبنائها.
وكأن الأوامر المعطاة لوحوش أميركا أن «يطلقوا النار على كل شيء يتحرك في الفلوجة» تمثِّل أرقى وسائل الديموقراطية والرحمة.
وكأن آلاف القتلى من أهالي الفلوجة الذين سقطوا بفعل الوحشية الأميركية لا تمت إلى عناصر الجريمة بصلة.
وكأن ستة آلاف منزل هُدِّمت لا تمثل عناصر جريمة موصوفة!!!
الانطباع الثاني: تفريغ ذاكرة الرأي العام الدولي والعراقي من نتائج اقتحام الفلوجة المأساوية: إن الذين كانوا يتابعون أخبار الفلوجة، وكانوا يتساءلون عما يدور في داخلها، ويخمِّنون نتائج الاجتياح البربري، وهم لا يعلمون شيئاً بسبب التعتيم الأميركي على وقائع الأمور ومجرياتها. جاء توسيع نشر خبر إحالة الجندي الأميركي المجرم إلى محكمة لتحاكمه بتهمة ارتكاب جريمة حرب، فإذا بمن كان ينتظر معرفة حقيقة ما كان يجري، لا يجد أية جريمة أميركية جماعية سواء كانت كبرى أو صغرى، إلاَّ جريمة قتل جريح عراقي واحد على يد جندي أميركي واحد. وبمثل هذا الإخراج الإعلامي تكون وسائل الإعلام الأميركي وكأنها اختزلت جريمة اجتياح الفلوجة بكل نتائجه المأساوية، وحصرتها بقتل جريح عراقي واحد، وبها تقوم وسائل الإعلام بتفريغ ذاكرتنا من كل الجرائم التي كنا ننتظر أن نسمع عنها، والتي كانت كثيرة وكثيرة جداً. كما أن الإعلام الأميركي، أو المتأمرك، اختزل كل «فلسفة القتل» التي تستند إليها إيديولوجيا أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، بإدارة جورج بوش، وهي أسباب تجرِّم النظام الأميركي بأكمله، إلى جريمة واحدة ارتكبها جندي تحت ضغط نفسي.
وكي لا نتوسَّع ونستطرد في مسألة جزئية، على أهميتها ودلالاتها، لا بدَّ من أن نرفع تساؤلات سريعة:
-هل لا يمكن لأصحاب القلوب الرقيقة إلاَّ أن يتألموا لحال ذلك الجندي الأميركي، الذي تحوَّل إلى وحش كاسر، إذا ما عرفوا سبب «توتره النفسي»؟
-وهل لنا إلاَّ أن نخفف الحكم عليه لأنه رأى أمه واخته وزوجته وأبيه وأطفاله (الساكنين في أرضهم التي ورثوها في الفلوجة!!)، وكأنهم تعرضوا لأذى الحصار والتجويع على أيدي (المتمردين والإرهابيين من سكان الفلوجة الأصليين!!)؟
-وهل يتغير الحكم عليه إذا عرفنا أن ذلك الجندي هو من أحفاد من استعمر أميركا وطهَّرها من «الهنود الحمر» سكانها الأصليين. وهل هناك ما يردعه عن تطهير العراق من سكانه الأصليين أيضاً؟ وهل يردعه الياور وعلاوي والنقيب والشعلان؟ وهل يردعه «الحكيم المحكوم» و«الطالباني المطلوب»، و«البرازاني الصهيوني»، و«عبد الحميد غير المحمود»...؟
وإلى مزيد من التعتيم على سبب احتلال العراق الحقيقي. كما إلى مزيد من تنظيف ذاكرتنا بملاحقة الخبر دون تحليل أو تفسير. ومزيد من تجهيل طبيعة الصراع. سنبقى غرقى في بحر الظلمات. وستبقى جماهير الشعب فينا مضلَّلة ومسترخية ولامبالية إذا بقي أولو الأمر في «منتديات أحزاب حركة التحرر العربية» يقبعون في أوكار الانفصال عن قضايا أمتهم يتجادلون حول «جنس الملائكة».
بلى ستبقى طلائع المقاومة العراقية، وطلائع المقاومة الفلسطينية، تلك الجياد التي تنعقد على نواصيها طلائع النصر.
بلى ستبقى قبضات أبطال الفلوجة أمثولة فاقت الأسطورة بواقعية بطولاتهم، وهم يقاتلون العدو الأميركي -حتى الآن- ويُنزلون به الخسائر البشرية على الرغم من أن جنرالات الاحتلال، وأذنابهم من وزراء (معطوفين على رئيسهم) أعلنوا أن رايات الاستسلام ارتفعت فوق سماء الفلوجة.

ليست هناك تعليقات: