الخميس، فبراير 25، 2010

المرجعية الشيعية في العراق أخذت تفقد أهميتها

-->
المرجعية الشيعية في العراق أخذت تفقد أهميتها
منذ أن تمزقتها التيارات السياسية الشيعية الأممية
نشر في المواقع التالية: المحرر: العدد (161): 29/ 12/ 2003م. والبصرة –نت: في 29/ 12/ 2003م. والكادر: في 30/ 12/ 2003م. والوحدوي – نت (اليمن): في 31/ 12/ 2003م. والتجديد العربي: بتاريخ 2/ 1/ 2004م.
إن اتجاهات الفكر الديني السياسي، من موقعها الأممي، عند التيارات السياسية الدينية، تتجاوز الحدود الوطنية والقومية وتعتبرها سجناً لما تحسب أنه رسالة إلهية، وتكليفاً شرعياً.
لقد اعتقدت الأديان السماوية أن أرضها هي الأرض قاطبة وأن رسالتها إنسانية موجهة للعالم بأجمعه. وظلَّت أمينة لمبادئها في تصدير أحكامها إلى العالم على قاعدة الحدود المفتوحة أمام الإمبراطوريات القديمة، بحيث كانت حدود الإمبراطورية هي تلك النقاط التي وصلت إليها الجيوش الفاتحة أو الغازية. ولما انبنت الحدود القومية في العصر الحديث لم تكن موضع ترحيب من حملة الدعوات الدينية.
لم تواكب البنى الفكرية الدينية التطور الجديد الذي تمثَّل بعصر القوميات، وأجمعت معظم التيارات السياسية الإسلامية على الاعتقاد بأن القومية » ما وُجِدت إلاَّ لمحاربة الإسلام«. وهذا السبب هو الذي أحدث جملة من التناقضات بين المشاريع السياسية القومية والمشاريع السياسية الدينية والمذهبية، وهو السبب الذي أوقع أصحاب الأصوليات الدينية في غربة عن عصرهم، وهو الذي وضعهم في دائرة الصراع بين الأصولية (بمعنى التجميد) والقومية (التجديد). فتاهت المشاريع الأصولية الدينية وراحت تحتفل في كل مرة يسقط فيها مشروع قومي، سياسي أو فكري، أو يصاب ببعض التراجع.
عندما نتكلم، هنا، عن البنى الفكرية الدينية، فلا نقصد نظرياً وعملياً- إلاَّ تلك البنى المذهبية ذات الأهداف السياسية، بحيث اختصر كل مذهب أصول الدين التوحيدية بنفسه، فكراً وممارسة.
وعندما نقدِّم لمقالنا تقديمات عامة، فإنما لندل على أنه لا مشروعاً مذهبياً في هذا المجال- يتميز عن مشروع مذهبي آخر. فالكل، في طبيعة أهداف المشروع الديني والمذهبي السياسي، واحد.
وأما تخصيص التحليل حول المذهب الشيعي، فليس إلاَّ لإلقاء الضوء على جزء من الكل أولاً، ولأن المسألة الشيعية، في هذه المرحلة، ذات علاقة وثيقة بالصراع الذي يجري على الساحة العراقية ثانياً.
كمثل جميع الأصوليات الإسلامية (وهي أصوليات متعددة المذاهب والمشارب) دخل فقهاء الشيعة في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي انطلاقاً من الحوزة العلمية في العراق- في معترك الصراع بين أممية المذهب أو قوميته، على قاعدة بناء دولة دينية شيعية تتميز بوجهها الأممي وتتجاوز قيود الحدود الوطنية والقومية.
أثمرت الحركة الفكرية السياسية الجديدة نجاحات واسعة منذ أن انتصرت حركة رجال الدين الشيعة في إيران، بقيادة الخميني. منذ تلك اللحظة انتقل المؤثرون في تعيين المرجعية الشيعية إلى حالة من الصراع، الخفي (في مراحله الأولى) والمعلن (في مراحله اللاحقة والحالية)، بين أممية المرجعية أو قوميتها. وراح كل منهم يدلي بأسبابه وبراهينه. ولم يتوصَّل الطرفان إلى ما يجمع بينهما حتى هذه اللحظة، بل تزداد الهوة بينهما من يوم لآخر.
وعلى خلفية قاعدة الصراع تلك تأثرت الحركة المذهبية الشيعية السياسية الناشطة في الوسط الشيعي العراقي اليوم، وهي مشاركة للاحتلال في إدارة العراق، أو من المهادنين له، وما يحدد لهم تلك الخيارات المُسْتَغرَبة ليس إلاَّ أنهم اختاروا أممية المذهب على وطنيته وقوميته. وشكَّلت تلك المواقف ضغطاً على المرجعية الشيعية في النجف، فتأثرت بها مواقفها، فبدا في كثير من الأحيان- وكأن تلك المواقف مشوبة بالغموض والتردد. وهذا ما لم تعان منه تلك المرجعية في أي مرحلة من المراحل. خاصة في كل ما له علاقة بالاحتلال واغتصاب الأرض.
فبين التيارات السياسية الشيعية المتعاونة مع الاحتلال، وتلك المهادنة من غير مشاركة، يقف، قسم كبير من الشيعة العراقيين، خارج تلك الدائرة لأنه حسم خياراته إلى العمل على قاعدة المواطنية والانتماء القومي، ووضعهما في المقام الأول على أي ارتباط آخر، تاركاً مسؤولية ترتيب البيت الشيعي دينياً لفقهاء المذهب. وهذا القسم أخذ يعبِّر عن قناعاته بتأدية واجب القتال ضد قوات الاحتلال الأميركي البريطاني.
ولكي تتوضَّح صورة الوضع الشيعي الراهن في العراق، علينا المرور بما كانت عليه العلاقة بين المرجعية الشيعية في النجف وبين مختلف السلطات السياسية.
بالأصل، ومن خلال الأصول الفكرية المذهبية الشيعية، لا يجوز للشيعة الإثني عشرية أن ينخرطوا في أي عمل سياسي أو سلطوي إلاَّ بعد ظهور »الإمام المهدي المنتظر«. وخلافاً للأصول الفكرية نبتت فكرة فقهية بين عدد من فقهاء الشيعة تنظر إلى الأصول بعين التطوير نظراً لطوباويتها. فأجازوا العمل السياسي للفقهاء؛ وتلك كانت من أوائل الأفكار التي وُلِدت منها مبادئ »ولاية الفقيه«.
ولما وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، كانت العلاقة بين نظام البعث والمرجعية الشيعية تقوم على أساس أن تتدخَّل الدولة في منع الأهداف اللاقومية من أن تتعمَّق، وتترك ترتيب شؤون المذهب الدينية الداخلية للمرجعية الدينية في النجف. وهذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها عند الأمميين من الأصوليات الشيعية، فانحازوا إلى إيران في مواقفهم على أساس أن الأولوية عندهم تقوم على نصرة المذهب على حساب نصرة الوطن والقومية. وانخرطوا في صراع مع السلطة في العراق مدَّعين أنها تحرم الشيعة من حقوقهم لسبب واحد وهو اتجاهاتها العلمانية.
وفي سبيل إثبات، ما اعتبروه، لا عدالة النظام تجاه الشيعة راحوا يروِّجون لمقولات إبعاد الشيعة عن حقوقهم في السلطة، تلك الحقوق التي تقوم حسب اتجاهاتهم السياسية- على قاعدة توزيع الحصص على قاعدة مذهبية، وهي القاعدة ذاتها التي يشكو من قصورها اللبنانيون، لأنها تؤمن مقاعد للنخب السياسية في الطوائف من دون أن تأخذ المصالح الشعبية بعين الاهتمام. فما يرفضه اللبنانيون (من شتى المذاهب والأديان) يعتقد الشيعة العراقيون كما يعتقد به كل أصحاب المشاريع السياسية من المذاهب الأخرى- فعساهم يتعلمون من تجربة اللبنانيين، وعساهم يوضحون بدون لبس ماذا يريدون؟
وإذا كان الصراع بين السلطة وبعض التيارات السياسية الشيعية يدور على تلك القاعدة، فما هو الذي يفسِّر طبيعة الصراع اليوم- في ظل الاحتلال الأميركي للعراق- بين العديد من التيارات الشيعية نفسها. فهم من مذهب واحد، ويحسب كل تيار منهم أنه معني بالدفاع عن مصلحة الشيعة، وإذا كانوا يحسبون أن مصلحة المذهب تستند إلى منطلقات مذهبية دينية، فهم جميعاً من المنتمين إلى المذهب الشيعي، وهذا ما يثير الاستغراب والتساؤل حول خلفيات صراعاتهم!!
فهل هناك سبب آخر غير الأهداف السياسية التي تحكم مساراتهم وعملهم؟
إن المراقب والمتابع والملاحظ لدموية الصراع بين تلك التيارات- يصاب بالدهشة والاستغراب، وليس أمامه إلاَّ أن يضع في حساباته كل الاستنتاجات إلاَّ مصلحة الشيعة.
تكتَّلت في ظل المرحلة السابقة- بعض التيارات السياسية الشيعية ضد النظام السابق، واتهمته بشتى التهم التي حسبت أنها تبرر لها لا وطنيتها ولا قوميتها عندما استقوت تارة بالخارج الإيراني وتارة أخرى بالخارج المخابراتي الأميركي والبريطاني.
هنا لا بُدَّ من أن نعيد التذكير بالموقع المهم الذي كانت تحتله المرجعية الشيعية في النجف ما قبل الاحتلال، وهي نظرة تختلف كلياً عن الذي يتم الترويج له الآن. ويقود حملة الترويج تلك كل أولئك الدعاة لموالاة المذهب على حساب الموالاة للوطن، وهذا ما دفعهم إلى الوقوع في أخطاء كبيرة عندما تبلبلت مواقفهم وارتبكت من الاحتلال الأميركي للعراق. أما أولئك الذين يعيشون عصرهم، عصر القوميات والوطنيات، فقد حسموا خياراتهم بشكل واضح، ومن دون لبس، وأظهروا حرصهم على المذهب عندما أثبتوا حرصهم على الوطن، وهم بلا شك- المفلحون والصائبون.
ومن هنا نقول صادقين إلى كل أولئك الذين أخطأوا السبيل في تقييم الأمور على الساحة العراقية: لا يمكن الدفاع عن الدين، أو المذهب، بصدق إذا لم تدافع عن الوطن بصدق. فالاحتلال للأرض هو احتلال للمذهب أيضاً.
إن مَثَل التيارات السياسية الشيعية في العراق، ذات المنطلقات اللاقومية، كمَثَل جماعة »التكفير والهجرة« المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين. وهم يتشابهون بالموقف اللامبالي من أي احتلال أجنبي لأرضهم الوطنية، لأن الدفاع عن الوطن في ظل أنظمة يحسبونها كافرة- ليس قتالاً إسلامياً بل هو دفاع عن أنظمة لا تحكم بما أنزل الله. وهم كما يدَّعون- يبتعدون عن مقاومة الاحتلال، حتى إذا ما استقر الأمر له يعودون إلى قتاله لتحرير الأرض؟!!
فهل بوسع أي تيار مهادن للاحتلال الأميركي، ومنها التيارات السياسية الشيعية المنخرطة في ما يُسمَّى »مجلس الحكم الانتقالي«، خاصة بعد أن يستقر الواقع للاحتلال الأميركي، أن يقاوموه؟
نحن هنا، لا نشك بأن من يراهنون على إنسانية وديموقراطية العدو الأميركي، هم مقتنعون بالفعل بواقعية مراهنتهم، لكنهم هم في الموقع الذي يضيِّع الوقت، وهم واصلون بدون أدنى شك إلى اختيار طريق المقاومة بشتى وجوهها، بدءًا من رفض التعاون بما يسهِّل للاحتلال استقراره على الأرض انتهاءً بأعلى درجات المقاومة وأقدسها، وهي المقاومة الشعبية المسلَّحة. فعلى كل المراهنين على ديموقراطية الاحتلال أن يبادروا للبدء بسلوك الطريق الصحيح والأكثر تأثيراً في طرده عن كل الأرض العراقية. ومن لم يستطع أن يؤدي واجبه على تلك الطريق، عليه أن لا يعترض كل من يقاوم العدو مهما كانت اتجاهاته الفكرية والدينية، وأن لا يشي به وأن لا يقوم بملاحقته، وأن يغض الطرف عن عمله، وهو أضعف الإيمان.
إن المرجعية الشيعية في العراق، مدعوة قبل غيرها- إلى الانتفاض على الواقع السياسي الذي يربك الشيعي في هذه اللحظة. وأن لا يغيب عن بالها أن العيش في ظل نظام سياسي وطني وقومي، هو ما يحفظ لها مكانتها ويسهِّل لها القيام بواجباتها الدينية، كما أنه هو المؤهل وحده إلى المحافظة على حرية شتى الأديان والمذاهب على قدم المساواة من دون أي تمييز. وهو الأقدر على محاسبة المواطنين كل حسب عمله تجاه مجتمعه الوطني التعددي وليس حسب انتمائه الديني أو المذهبي أو العرقي. ولعلَّ الموقع الحرج والصعب الذي وضعت فيه التيارات الشيعية والسياسية والاقتصادية مرجعيتهم الشيعية في العراق هو أبلغ درس يدفع المرجعية إلى أن تلعب دوراً موجِّهاً وحاضناً، لا أن تخضع لتوجيه هذا أو ذاك من تلك التيارات السياسية أو الاقتصادية التي يروم كل واحد منها تحقيق مآرب فئوية خاصة على حساب الأكثرية من أبناء مذهبهم.

ليست هناك تعليقات: