الخميس، فبراير 25، 2010

الحوار فن جناحاه: سؤال عميق وجواب واضح

-->
الحوار فن جناحاه: سؤال عميق وجواب واضح
في أواخر كانون الأول 2009
الحقيقة المطلقة ماثلة فقط في المُثُل العليا، وهي ما نسميها أيضاً بالقيم العليا، كمثل العدل والمساواة، والحرية، والفضيلة، و... هذه القيم وحدها هي التي لا يمكن أن نراها إلاَّ من زاوية واحدة. وهي التي نرى وجودها ضرورياً لاستمرار الحياة البشرية بشكل سوي، وهي التي إذا افتقدناها تتحول الحياة إلى صراعات دائمة لا تنتهي. وما الصراعات التي تعرفها البشرية، منذ بدء الخليقة والتكوين، إلاَّ أحد مظاهر غياب تلك القيم عن التطبيق، أو الاختلاف حول تطبيقها.
فالطفل الذي يُولَد، بحاجة إلى أم تلتزم بقيم الأمومة، وأب يلتزم بقيم الأبوة. وإذا ما صرخ من جوع أو ألم، فصراخه تنبيه لأمه أو أبيه أنهما قصَّرا بتطبيق قيم أمومة الأم وأبوة الأب. وإذا ضحك وابتسم فضحكه وابتسامته هما تعبير عن أن قيم الأمومة والأبوة قد تمَّ تطبيقهما بطريقة أرضته فعبَّر عن ذلك بالابتسامة.
وهكذا الحال بالنسبة لطبيعة العلاقة بين التجمعات البشرية والأفراد. تكون سوية يسودها الود والمحبة والرضى إذا كانت قيم التعاون والعدالة والمساواة سائدة بين هذه الجماعة أو تلك، أو بين هذا الفرد وذاك. أما إذا اختلَّ تطبيق تلك القيم فسيقود إلى الاختلاف والاحتراب والصراع. وهذا ما نسميه الحروب بين الشعوب والعداوات بين الأفراد.
وما إصرار كل شعب، أو كل جماعة، أو كل فرد، على قناعته بتطبيق أسس العلاقة مع الآخرين من زاوية نظره، إلاَّ إصرار على استمرار النزاعات والحروب والصراعات.
وما لجوء كل تلك المستويات البشرية إلى الحوار، كل على مستواه وصعيده، إلاَّ إشارة إلى الدخول الصحيح في بوابة تصحيح العلاقات بين مستويات البنية التحتية للإنسانية، وللمجتمع البشري.
وهنا نبدأ في السطر الأول للإسهام في تحديد مفهوم لفن الحوار المستند إلى فن السؤال والجواب.
ولأن الحقيقة المطلقة ظاهرة، ومحدودة في دائرة القيم العليا. فإن وسائل تطبيقها ليست كذلك، بل تحديد معرفة تلك الوسائل هي نسبية، تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر.
ولأن المواقف من وقائع الحياة والسياسة وقضايا الفكر تتباين بين جماعة وأخرى، أو حتى بين فرد وآخر، يأتي دور الحوار ليكون جسراً يلتقي عليه المتباينون بالمواقف والآراء يدلي فيه كل طرف ببراهينه وأدلته، ويستمع إلى براهين الآخرين وأدلتهم.
لذلك كان الحوار، ولا يزال، جسراً يردم الهوة بين البشر، لتقريب المواقف بينهم. والحوار ليس أكثر من وسيلة يستند إلى عامليْن أساسيين، وهما: فن السؤال وفن الجواب.
وفي هذا المجال لا بُدَّ من أن نشير إلى واقع مؤلم وشاذ يبتعد بالمحاور عن جادة الوصول إلى الحقيقة، عندما يتصرَّف وكأن الحقيقة مطلقة. ولا يمكن الخروج منه إلاَّ بإدراكه بأن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي نسبية يراها كل فرد من زاويته الخاصة، وإذا ما عمل على رؤيتها من أكثر من زاوية فإنه يقترب إليها بطريق أكثر أمناً وبأقل ما يمكن من الأخطاء.
فلذلك، ولأنه لا يجوز أن ننكر على الفرد أن يرى الحقيقة من زاويته، فإننا أيضاً ندعوه إلى الامتناع عن إنكار حق الآخر برؤيتها من زاويته الخاصة. وإذا ما اعترف كل منهما بحق الآخر، تتقارب مسافات التلاقي على حساب مسافات التباعد، الأمر الذي يفسح الطريق لحوار الطرفين بحيث يعرض كل منهما موقفه ورؤيته كما يراهما من زاويته، ويكون على أتم الاستعداد للرؤية من زاويتين، مما يغني معرفته أكثر، ويكون وضع المعرفة أغنى إذا ازدادت زوايا الرؤية إليها وتعددت.
فالمعرفة الغنية إذن هي المعرفة التي تتجاوز دائرة الزاوية الخاصة إلى النظر للحقيقة من الزوايا الأخرى. وهذا التجاوز لا يمكن الوصول إليه إلاَّ بما يُعرف بالتوق إلى المزيد من المعرفة، والمعرفة لها علاقة بفن السؤال، أي أن يكون الفرد قادراً بسؤاله على استخراج ما عند محاوره من أسباب وبراهين جعلته يرى الحقيقة كما رآها، وأن يتخذ الموقف الذي اتخذه.
وإذا كانت المعرفة تقتصر على زاوية واحدة فلن تحتاج إلى سؤال، بل تحتاج إلى فن الجواب فقط، وهنا أيضاً، ومهما بلغت مقدرة الفرد على إخراج جوابه بأفضل حلة فإنه واقع لا محالة بخطأ اعتبار الحقيقة مطلقة، خاصة إذا تبيَّن للفرد أن هناك زوايا أخرى قد فاتته أو كان قاصراً عن رؤيتها.
أنت لا تعرف زاوية رؤية الآخر أكثر منه، فلذلك عليك أن تفهمها من خلاله. ولن تصل إلى معرفة جيدة بزاويته إلاَّ إذا وضعت نصب عينيك مجموعة من الأسئلة توجهها إليه، وتستمع إلى جوابه بروية وصبر.
وإذا كان دورك أن تقنع الآخر بصحة موقفك ورأيك من الزاوية التي ترى منها، فلن تقدر على ذلك إلاَّ إذا كانت الرؤية عندك واضحة، أي أن تكون معرفتك بموقفك واضحة، عند ذاك يمكن أن يكون جوابك واضحاً وبالتالي مقنعاً، وهنا يستند فن الجواب إلى معرفتك الواضحة بالزاوية التي تنظر منها.
ففن الحوار يستند إذن إلى استعدادك النفسي بأن تسمع جيداً بناء لسؤال جيد قمت بطرحه على محاورك، هذا بالإضافة إلى استعدادك النفسي للاقتناع برؤيته إذا ما كانت أجوبته واضحة على أسئلتك وتلبي شروطها.

ليست هناك تعليقات: