الخميس، فبراير 25، 2010

ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية.

-->
-->
ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية
 

الجمعية الفلسفية الأردنية
عنوان المؤتمر (العقلانية في الفكر العربي)
تاريخ انعقاد المؤتمر: من 27 28/ 10/ 2009
المشارك: حسن خليل غريب
موضوع البحث: ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية.
مدخل للبحث وموجز عنه
بين عقلانية المفكر الملتزم بحزب عقيدي وحاجة الحزب للعقلانية علاقة وثيقة، تلك هي الخصوصية التي وجدت أنها ضرورية لاستقصاء ملابساتها من خلال البحث عن دور ياسين الحافظ كمفكر في مؤتمر يبحث عن العقلانية في الفكر العربي.
أما السبب الذي دفعني إلى اختيار هذا الجانب، فهو أنه، كما أحسب، إذا بقي الفكر جزيرة معزولة في عقول المفكرين، من دون أن يمتلك إمكانية ترجمته إلى مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء، فسوف ينحدر إلى مستوى السفسطة، ويكون مآله الانقراض والتلاشي. إذ ليس هناك من يؤمن بإنتاج الفكر للفكر، بل هناك ترابط بين إنتاج الفكر ومصلحة المجتمعات البشرية، مما يجعل من هذا الترابط ثنائية يتكامل طرفاها في علاقة تبادلية وتكاملية يترجمها مفهوم الحزب في العصر الحديث، وتتشكل هذه الثنائية من الفكر كطرف أول ونضال الحزب السياسي العقيدي كطرف ثانٍ، أي الحزب الذي يعمل على الاستفادة من الفكر لصالح المجتمع الذي يعمل في وسطه.
وخصوصية المجتمع في التراث والحضارة، هي التي تضفي صفة العقيدة الثقافية الخاصة لهذا الوسط الاجتماعي أو ذاك، وتشكل إحدى ركائز بنائه الإيديولوجية، والتي إذا انغلقت أبوابها في وجه النتاج الفكري للآخر، تتحول إلى عصبية وشوفينية لا ترى في الآخر عوناً لها ونصيراً بالاستفادة من تجاربه. فتتحول الإيديولوجيا المنغلقة إلى سبب للاحتراب مع الآخر بدلاً من تكاملها معه. وهي تشكل خطورة أكثر إذا انقسم المجتمع الواحد إلى مجاميع من الإيديولوجيات المنغلقة بعضها على البعض الآخر.
لقد توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال استقراء التجربة الإسلامية التي بلغ فيها الاختلاط الحضاري المتعدد الوجوه مدى واسعاً، ووصل إلى مداه الأقصى في العصر العباسي. وفيها توسع الجدل بين الأنا والآخر إلى المستوى الذي باتت فيه الإيديولوجيا الإسلامية عاجزة عن الإتيان بالأجوبة المناسبة لكل الأسئلة التي ارتفعت في المجتمع الجديد. فاضطر المسلمون من عرب وغيرهم، إلى فتح خزائن الفكر الفلسفي الإنساني، وكان النتاج اليوناني من أهم تلك الخزائن الفلسفية. فكانت تلك التجربة دلالة مهمة خاصة وأن من أهم حراس تلك الخزائن قد قضوا موتاً على أيدي الدعاة الدينيين في أثينا.
وعلى الرغم من ذلك فقد غامر المفكرون المسلمون بتكثيف حركتهم إلى نقل تراث من ماتوا وتمثله ومن ثم تمييز أنفسهم في إنتاج فلسفي جديد دفع الكثير منهم ضريبة التكفير والتعذيب والإقصاء والملاحقة والمحاكمة.
من تلك المرحلة يمكننا أن نقول بأن الإيديولوجيا الدينية التي كانت سائدة كادت تنغلق على نفسها، أو هي انغلقت فعلاً، فلم تعد تروي عطش السؤال الفلسفي عند المفكرين الإسلاميين، فانفتحوا على الرأي الآخر من دون خوف أو رهبة. ومن تلك التجربة بدأت العقلانية تشق طريقها في وسط حقل من الفزع والخوف، فكانت رحلة الموت والاضطهاد، التي ما إن انتصرت، حتى بعد مئات السنين حتى انكفأت العقلانية وأصيب العقل العربي والإسلامي بالجفاف فالتخلف والأمية.
وكما أحسب، وحتى لا تُصاب حركة التغيير في عصرنا القومي الراهن بانتكاسة تتقوقع فيها العقيدة القومية في دوائر التعصب والعصبية، كان لا بدَّ من دراسة أنموذج ياسين الحافظ، بمنهجية ما يشبه التقريب والمصالحة بين الإيمان الإيديولوجي القومي والعقل الفلسفي العام.
في هذه المقاربة، أو لنقل المغامرة التي لن تريح غلاة الإيديولوجيين القوميين، أو تريح من ينظر بعين الريبة والاتهام للفكر القومي، كفكر إيديولوجي، شدتني تجربة ياسين الحافظ، كمفكر قومي عمل على التوفيق بين إيديولوجيته القومية، معتبراً إياها ثابتاً، وبين الانفتاح على كل فكر آخر كان يحسب أنه به يرتفع من القومية المنغلقة إلى رحاب القومية المنفتحة، فوجد في الماركسية ما يؤدي الغرض. فانكب على دراستها من زاوية قومية عربية، ولمصلحة الفكرة القومية العربية أولاً وأخيراً.
لقد وجد الخلاص، كما حسب، بتخليص الفكر القومي من تقليدية وجدها فيه. كما فتح بتجربته طريق الخلاص لكثير من الماركسيين الذين كانوا متعنتين لأمميتهم بمفاهيمها الستالينية، فاقتربوا كثيراً من الجدار القومي وبذلوا كل جهودهم ووضعوها في خدمة الفكرة القومية العربية.
من أجل الخوض في هذه المغامرة، كان اختياري ياسين الحافظ لأنه شغل الموقعين معاً: المفكر العقلاني الذي انفتح على الفكر الماركسي، وهو يمثل الفكر الآخر، والحزبي الملتزم بعقيدة قومية عربية. والمثير في التجربة هو أن الفكرين وصلا إلى حافة الحرب المفتوحة طوال عقود من زمن التجربة الحزبية العربية.
ومما يسَّر لي تحطيم بعض أسوار المغامرة وبعض عوائقها، هو أن ياسين الحافظ لم يكن الشمعة الوحيدة التي مهَّدت طريق الحوار بين إيديولوجيتين تحاربتا ردحاً من الزمن، بل كانت توجيهات ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، الذي التزم ياسين الحافظ بصفوفه، تحذِّر من توسيع أبواب الخصومة مع الماركسية وتحض على الحوار معها. كما هناك أنموذج آخر يمثله الدكتور الياس فرح، الذي شغل موقع مسؤول المكتب الثقافي القومي لحزب البعث لفترة طويلة، والذي نال شهادة الدكتوراه بتخصصه في الفكر الماركسي.
إضافة إلى ذلك، وإذا كانت تجربة ياسين الحافظ قد قطفت بعض النتائج الإيجابية من خلال انعكاسها على مقررات المؤتمر القومي السادس لحزب البعث، من خلال المنطلقات النظرية التي قام بصياغتها، وأقرها المؤتمر، إلاَّ أن تلك التجربة لم تكتمل، فبُترت بخروج الحافظ عن حزبه الأم ليؤسس حزباً آخر. وهذا ما طرح، كما أحسب، إشكالية العلاقة بين المفكر العقلاني في حزب عقيدي وبين حزبه. والتي حسبت من خلال نتائج بحثي أن ياسين الحافظ قد خسر حزبه الذي راهن على أنه سيكون أهم وسيلة من وسائل التغيير في بنى الأمة العربية، كما أن حزب البعث قد خسر بدوره مفكراً كان من الممكن، لو استمر ملتزماً به، أن يسير بعملية التجديد والإغناء أشواطاً كبيرة.
لكل ذلك،
وكوني مقتنعاً بأن لا تغيير في المجتمع العربي من دون حركة حزبية، ولا حركة حزبية سليمة من دون مفكرين ملتزمين.
وكوني مقتنعاً بأنه ليس بالإيديولوجيا المنغلقة تحيا الأحزاب، ولا إيديولوجيا منفتحة من دون وجود مفكرين يتصفون بالعقلانية.
وحرصاً مني على أن لا تحصل الخسائر المتبادلة بين المفكر الموصوف أعلاه والحزب الموصوف أيضاً، ومن أجل العمل لردم إشكالية العلاقة بين المفكر والحزب العقيدي، قمت باستنتاجات وصفية أحسب أنها توفر العلاج الذي قد يجسر الهوة بين طرفيً العلاقة. ومن أهم تلك الاستنتاجات التي توصلت إليها من خلال بحثي، هو القيام بثلاث خطوات:
-عقلنة المؤسسة الحزبية بانفتاحها على الآخر، وتعميق مفاهيم الديموقراطية في علاقاتها الداخلية، سواءٌ أكان بالنظرية أم كان بالتطبيق. وهي الحالة الأساسية التي تضمن للمفكر المجدد علاقة سليمة مع حزبه الذي التزم بعقيدته فكرياً، وبصفوفه تنظيمياً.
-وعقلنة المؤسسة السياسية وإبعاد المفكر الملتزم عن دوائر التنافس في التراتبيات السلطوية.
-والخطوة التي أراهن على أنها ستكون الضابط في علاقة سليمة، تكمن في تأسيس المؤسسات الفكرية بمواصفات حوارية وديموقراطية أيضاً.
لبنان في 24/ 10/ 2009
***
نص البحث
إشكالية العلاقة بين المفكر الملتزم والأحزاب العقيدية
لا يجوز أن نتناول موضوع ياسين الحافظ من زاوية كونه مفكراً تميَّز بجانب، أو أكثر من جانب، في تجديد الفكر القومي العربي فحسب، بل لا بدَّ أيضاً من الإضاءة على عدد من الزوايا التي ميَّزته عن غيره من المفكرين الآخرين، فهو مفكر ملتزم بحزب عقيدي، ولعب دوراً في ترسيخ أول تجربة حوار بين تيارين حزبيين طالما تغلبت فيه الخصومات بينهما على عوامل الحوار.
بين هذين الموقعين نجد بداية اقتراب نحو العقلانية التي يبدو أنها كانت عاملاً مقصياً عن النهج الإيديولوجي التقليدي، الذي لا يرى غالباً في الآخر صديقاً، ولا يرى عنده ما يمكن الحوار فيه. ومن خلال تجربة الحافظ، وهو الملتزم بخط حزبي إيديولوجي قومي، في الحوار مع الآخر الماركسي، ما يشد للدراسة والتأمل واستخلاص النتائج.
-أولاً: كونه مفكراً منتسباً إلى حزب عقائدي: إن انتساب مفكر إلى حزب عقيدي يقتضي التوفيق أو التكامل بين حاجتين: حاجة المفكر إلى مساحة من الحرية الفردية، وحاجة الحزب العقيدي إلى عقل جمعي يوحد الرؤية الفكرية للمنتسبين إليه. فالحرية الفردية للمفكر، قد تصطدم مع رؤية الأكثرية، التي هي في الغالب الأعم تتشكل من التقليديين الذين يصطدمون مع أي اتجاه للتجديد. وأما الحاجة إلى عقل جمعي داخل الأحزاب المنظمة، فهي أساس ضروري لتوحيد واقعها التنظيمي أولاً، وبما تحتاجه إلى أسس تنظيمية قائمة على مبدأ الديموقراطية المركزية التي تحكمه غالباً قاعدة «نفِّذ ثم ناقش» ثانياً.
-ثانياً: كونه لعب دوراً في تعزيز عوامل الحوار بين عقيدتين كانتا على خط احتراب دائم، وكانت كل منهما تمثل تياراً فكرياً له تأثير مركزي في الحركة الحزبية العربية، وهما: التيار القومي العربي والتيار الماركسي، فأضاف بذلك كسباً جديداً إلى التيار القومي العربي.
-ثالثاً: انفصاله عن حزب البعث العربي الاشتراكي، حزبه الأم، لاحقاً، على الرغم من إسهامه الأساسي في صياغة وثيقة فكرية «المنطلقات النظرية» التي أقرها المؤتمر القومي السادس، وبعد انفصاله قام بتأسيس حزب جديد هو حزب العمال الثوري العربي، جامعاً فيه مجموعة من اليساريين التي اقتنعت بالمنهج العقلاني لمؤسس الحزب.
-رابعاً: استمر حزب البعث العربي الاشتراكي على المستوى القومي حاكماً قطرين متجاورين، في سورية والعراق، ومنتشراً تنظيمياً على مساحة الوطن العربي، بينما عرف الحزب الذي أسسه الحافظ نشاطاً في بداياته ولم يستمر طويلاً حتى بدأ مرحلة من التراجع والانكفاء إلى أن وصل، كما وصفه أحد المنتسبين إليه، إلى حالة «الانغلاق الذي أدى إلى غربة الحزب عن الواقع واضمحلاله وتلاشيه في أوساط الناس»([1]).
وكونه شغل كل تلك الأدوار في حزب البعث العربي الاشتراكي، مقتنعاً بمركزية القضية القومية العربية، كعقيدة ثابتة في فكر الحزب.
وكونه اهتم بالماركسية واستفاد منها لتدعيم القضية القومية المركزية.
ولأن هذا الاهتمام لم يشكل افتراقاً عن حزبه، ولم ينظر حزبه إلى هذا الدور نظرة سلبية، بل أقرها مؤتمره القومي أيضاً.
من هذا المنطلق، واستناداً إلى ضرورة تشخيص عوامل التقائه مع الحزب الأم، وعوامل افتراقه عنه، ومن غرض الحرص على الأفراد المتميزين في أحزابهم، بخاصة المفكرين منهم، سنقوم بمغامرة البحث والدراسة والاستقصاء عن فرضية إمكانية المحافظة على علاقة سليمة بين المفكر الذي يحتاج دائماً إلى مساحة من الحرية الفردية داخل حزب عقيدي، وبين الحزب الذي ينتمي إليه، والذي يحتاج إلى رؤية فكرية جمعية موحدة.
تلك الفرضية، إذا استطعنا إثباتها، فقد تصل بنا إلى اكتشاف علاج لخصوصية العلاقة بين المفكر الملتزم بحزب (كشخص فرد متميز) وبين الحزب (كجمع موحد) الذي ينتسب إليه.وتتلخص بالإجابة عن المقدمات والأسئلة التالية:
-كمدخل للمحاولة سنعمد إلى صياغة مفهوم نعرِّف فيه المفكر النظري العام، وبالتالي نعمل على مقاربته مع تعريف مفهوم المفكر المنتسب إلى حزب إيديولوجي، وأهمية تكامل دوريهما. وسيكون المفهومان مدخلاً لتحديد موقع ياسين الحافظ كمفكر في هذا التمييز، ومن ثمَّ الانطلاق منها لتشخيص الإشكالية موضوع بحثنا، للاستناد إلى نتائجها من أجل استشراف آفاق جديدة تضع أسس علاقة سليمة بين الأحزاب العقيدية والمفكرين الملتزمين بصفوفها.
-أين تبدأ مهمة المفكر المنتسب إلى حزب عقيدي وأين تنتهي؟
-أين تبدأ العلاقة السليمة بين المفكر الذي لا يمكن أن يقيم أسواراً إيديولوجية جامدة لعقله وبين الحزب العقائدي الذي من أهم عوامل وحدته التنظيمية هو المحافظة على وحدته الفكرية وضمان استمرار هذه الوحدة؟
-أين تبدأ مهمة الإغناء والتجديد في الفكر الحزبي العقائدي وأين تنتهي؟
-كيف يمكن التوفيق بين مشاريع المفكرين المجددين وتوقهم للتجديد وحاجة الحزب إليها؟
تلك الفرضية يمكن دراستها من خلال تجربة ياسين الحافظ الذي جمع بين مهمتين، ولن نقول وظيفتين، وهما:
-الأول: دوره كعضو في حزب البعث العربي الاشتراكي.
-الثاني: دوره كمفكر داخل هذا الحزب.
على الرغم من أنه أسهم بجدية في صياغات نظرية في المؤتمر القومي السادس، بخروجه من الحزب، انتهت تجربته بخروجه من حزبه الأم وتأسيسه لحزب جديد.
تلك الحالة الانفصالية أدَّت إلى إهماله داخل حزبه الأم على الأقل، إذا لم نقل بأنه أصبح في موقع العداء، وهذا لا ينفي أن الحزب قد خسره مع مجموعة من الذين استقطبهم. كما أنه، أي ياسين الحافظ، خسر أيضاً بانفصاله عن حزب كان قد أسهم بإغناء فكره، وهو الحزب الذي كان يراهن على أنه سيقوم بمهمات التغيير على مستوى الأمة العربية. فيكون بذلك قد خسر حزب البعث العربي الاشتراكي ولم يكسب حزب العمال الثوري العربي الذي أسسه كبديل.
وبالخسائر المتبادلة تكون التجربة الحزبية العربية قد تضررت من تلك الخسارة المتبادلة. ونأمل في أن تأتي نتائج دراستنا هذه للحد من خسائر مماثلة قد تتعرض لها الحركة الحزبية العربية، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي.
إنه من أجل الوصول إلى تقييم موضوعي، يفيدنا في تشخيص الحالة المرضية، وبالتالي يُسهم في تقويم تلك الحالة، نرى أننا بحاجة إلى بحث عن تفاصيل ما جرى من سجالات بين ياسين الحافظ وغيره من البعثيين، سجالات تكون قد لعبت دوراً في حالة افتراقه وانفصاله عن الحزب الأم. كما أننا بحاجة إلى بحث شبيه به، لكن عما جرى لأقرانه من الماركسيين الذين لعبوا دوراً في ولادة فكرة تأسيس حزب آخر، ليس بعثياً وليس شيوعياً.
ولما كانت بعض عناصر البحث غير متوفرة، وقد لا تتوفر، لسبب أن الموت قد غيَّب الأكثرية العظمى منها، سنلجأ إلى عناصر الاستنتاج والتحليل، وإلى أن تتوفر فرص الحصول على ما يتيسر منها يمكن للآخرين أن يلعبوا دوراً في الإضافة والتصحيح. وليعتبر كل من يطلع على هذه الدراسة نفسه معنياً بدعوتنا هذه لخدمة أغراض البحث والدراسة التي تخدم الحركتين الفكرية القومية العربية والحركة الحزبية العربية.
***
أولاً: سيرة ذاتية
ياسين الحافظ مفكر سوري ، يعتبر من أهم المنظرين الماركسيين العرب الذين حاولوا العمل على تعريب الماركسية واستخدامها لفهم ونقد المجتمع العربي وتغييره فيما بعد.
ولد ياسين الحافظ في مدينة دير الزور لأم سورية من أصول أرمنية وأب سوري، عام 1930. و كان من الذين شاركوا في حرب 1948 في فلسطين. كما انتسب مبكراً إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. وخلال خدمة العلم تعرف إلى شريك عمره وصديقه، الياس مرقص، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي السوري. وسيبدأ في هذا الوقت مشروعه النقدي للماركسية المسفيتة والاهتمام بالبعد القومي. تحت تأثير مرقص سيبدأ تعرف الحافظ إلى الفكر الماركسي.
بعد تسلم حزب البعث السلطة في الثامن من آذار عام 1963 في الجمهورية السورية لعب الحافظ دوراً مهماً في المؤتمر القومي السادس حيث كُلِّف بكتابة «بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث»، التي ستقوم مقام الوثيقة الثانية من حيث أهميتها في المرجعية النظرية لحزب البعث.
ونشبت صراعات واضحة بين أجنحة الحزب (تيار القيادة القومية التيار القطري) التي وصفت باليمين واليسار ثم كان المؤتمر القومي السادس للحزب في خريف عام 1963 مرحلة جديدة في ضوء المنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر القومي السادس، وتم تثبيت مفاهيم وشعارات جديدة (الاشتراكية العلمية ، الجيش العقائدي ، نظرية الحزب القائد).
وقد أفرز الصراع بين اليمين واليسار عبر المؤتمرات القومية العادية والاستثنائية ظهور تيار يسار البعث الذي غادر الحزب، وشكل بعض أعضائه حزب العمال الثوري العربي لاحقاً بقيادة المفكر القومي اليساري ياسين الحافظ([2]).ومن المناهج الفكرية التي تأثَّر بها الحافظ، كان الطرح التاريخاني لعبد الله العروي، الذي لعب دوراً مهماً في منحاه الفكري.
بعد انتصار التيار اليساري توسع الخلاف مع المجموعة المتأثرة بالماركسية التي انشقت وأعدّت لمؤتمرها عام 1967 تحت اسم المؤتمر القومي السابع لحزب البعث اليساري، الذي تحول إلى المؤتمر الأول لحزب العمال الثوري العربي، تحت قيادة ياسين الحافظ. وتم اعتماد البعد القومي في تنظيم الحزب. وهذا الحزب لا يزال مستمراً ولكنه ينحسر يوماً بعد يوم([3]).
وعلى المستوى العربي مثَّلت أعمال الحافظ في وقتها، إضافة إلى أعمال الياس مرقص وعبد الله العروي، وكذلك سمير أمين وجورج طرابيشي، المرجعية النظرية العربية لحزب العمال.
كما تتلمذ على يدي الحافظ أسماء عدة من المثقفين السوريين كجورج طرابيشي وميشيل كيلو، واللبنانيين، كجوزيف سماحة.
***
ثانياً: مفاهيم المفكر الشمولي العام والمفكر الخاص
كمثل الفرق بين الفلسفة والإيديولوجيا، يكون الفرق بين الفيلسوف الذي يوظِّف جهده من أجل القضايا الإنسانية العامة غير المحدودة بزمان ومكان، والإيديولوجي الذي يوظِّف مفاهيم الفلسفة من أجل مصلحة قضية خاصة، يحدها زمان معين ومكان معين.
فالمفكر العام هو الفيلسوف، والمفكر الخاص هو الأيديولوجي. وإذا كان على الفكر الفلسفي أن يخدم الفكر الإيديولوجي، فإن تطبيقات الفكر الإيديولوجي ونتائجها العملية تصب في خدمة إغناء مفاهيم الفلسفة. فمن خلال هذا الفهم نستطيع أن نضع ياسين الحافظ في دائرتها الطبيعية، ونحسب أن هذا التحديد سيساعدنا على فهم دوره:
العلاقة بين الفلسفة والإيديولوجيا علاقة تكاملية:
الفلسفة بمعنى النظرية التجريدية تُعنى باستنباط أهم القواعد والقوانين والأفاهيم العامة للمعرفة الإنسانية، وتضعها في خدمة المعرفة أياً تكن ظروفها الزمانية والمكانية. وهي بالتالي تشكل عامل توحيد معرفية بين المجتمعات.
لكن لا معنى للفلسفة ونتائجها إذا كانت عصية على إفادة المجتمع البشري وتمهيد السبل أمام المجتمعات لتغيير أوضاعها المادية والاجتماعية تصاعدياً. فالتغيير المعرفي إذا لم يترافق مع تغيير معاشي يمس حياة الإنسان، ويساعده على تطوير سبلها وتجديدها نحو الأفضل، فإنه كمن يعمل على تحويل المعرفة إلى موضوع كمالي يتحول بدوره إلى ملهاة تخدم مالكيها من النخبة فقط.
من هذا الربط بين المعرفة التجريدية والتحسين المعاشي يأتي دور الإيديولوجيات التي تكون عبارة عن مصنع يستفيد من المادة الرئيسية للمعرفة التجريدية فتنزل بها من تجريديتها إلى تشكيليتها، وتستفيد من موادها العامة وتحولها إلى منتجات تستفيد منها المجتمعات البشرية بعد تمثُّل خصوصيات تلك المجتمعات التي تتفرد بها. أي أن دور الإيديولوجيا هو إنزال المعرفة التجريدية من برجها النظري النخبوي إلى واقعيتها التشكيلية المجتمعية.
وإذا كانت الأحزاب السياسية تمثل الجانب العامل في مصانع الإيديولوجيات، وإذا كانت هذه المصانع عاجزة عن الإنتاج من دون المادة الأولية التي تنتجها الفلسفة، فعليها أن تكون حريصة كل الحرص على إحداث التكامل بينها وبين الفلسفة، وإلاَّ فإن الأحزاب ستتحول إلى أحزاب عابرة في حياة المجتمعات لا تترك أكثر من بصمات شكلية على سطوحها لأنها سوف تسقط أمام أي عائق إشكالي تكون عاجزة فيه عن استنباط حلول له، وطبعاً ستكون عاجزة عن ذلك ما لم تكون مسلحة بإطار فكري نظري يصوِّب لها اتجاهاتها، ويساعدها على إيجاد حلول للإشكاليات التي سوف تواجهها.
ولما كان ياسين الحافظ يجمع بين ثقافة نظرية مجردة، وهي ثقافة الفلسفة الماركسية، وبين ثقافة نظرية قومية عامة تمثَّلت عنده في إيديولوجيا العروبة، اكتسب ميزة الجمع بين الفلسفة والإيديولوجيا، وراح يعمل على الاستفادة من التكامل بينهما.
ولأنه كان عضواً منظماً وقيادياً في حزب البعث العربي الاشتراكي، كحزب يمتلك الإيديولوجيا القومية العربية، وكان يجاهر بتأثره بثقافته الماركسية، وانعكس هذا التأثر في صياغة وثيقة نظرية أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب، يعني ذلك أن الحزب الإيديولوجي القومي العربي، في تلك المرحلة، كان يسير على طريق عقلاني لا يحول دون الاستفادة من نتائج الفلسفة الماركسية التي حوَّلتها الأحزاب الشيوعية العربية إلى ملكية خاصة، بعد أن حاولت إسقاطها من صفتها المعرفية العامة.
ونتيجة لكل ما تقدَّم يمكننا أن نقوم بتحديدات تساعدنا على فهم الفرضية التالية: هل يجوز أن تتعارض الفلسفة مع الإيديولوجيا عند الأحزاب العقيدية؟
1-دور ياسين الحافظ كمفكر إيديولوجي، وكمفكر عام:
انتسب ياسين الحافظ إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في أول تجربة حزبية له، وفي حزب حددَّ عقيدة له المسألة القومية بعد أن كان المفكرون القوميون الأوائل يتناولون جوانبها كعقيدة نظرية مجردة. كما حدَّد الحزب للمسألة القومية مفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية، ذات ثلاثة أبعاد وهي: وحدة النظام السياسي الذي يقودها، والحرية منهجاً يضبط حركة هذا النظام وينظم علاقته مع الشعب، والاشتراكية منهجاً يعمم العدالة الاقتصادية بين أبنائه.
ومن خلال تجربته الثقافية الخاصة، كما من ضمن الحركية التجديدية لشريحة واسعة داخل الحزب، احتل الحافظ موقعاً فكرياً أهَّله لكتابة المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس الذي انعقد في خريف العام 1963.
كان تميزه نتيجة حيويته الفكرية التي شقَّت طريقها من خلال تجربة الحوار مع بعض الماركسيين العرب الذين اكتشفوا، بدورهم، حالة العداء للمسألة القومية في الحركة الشيوعية العربية.
مترافقاً مع رغبة بعض الشيوعيين العرب، ممثلين بالياس مرقص، في إخراج التجربة الشيوعية العربية من قفص المركزية السوفياتية، أدَّى انفتاح الحافظ على الفكر الفلسفي أياً كان مصدره، ومن أهمه الفكر الماركسي، إلى إنتاج بُعدٍ ثالث في نضال الحركة الثورية العربية.
وتركت مساهمات المفكر ياسين الحافظ بصماتها على تطوير الفكر القومي وربطه بالديمقراطية، كما لعبت إنتاجات إلياس مرقص في نقد اليسار والنيل من (مقدساته) دوراً في فصم العلاقة بين المثقف المنفتح والسياسي ذي الأيديولوجية الضيقة، فاتسمت علاقة المثقفين بالأحزاب (عموماً) بالبرود والجفاء([4]).
2-دور ياسين الحافظ في إعادة الحوار بين الماركسيين والقوميين:
إذا كان من المعترف به تاريخياً أن الحركتين القومية والماركسية وظفتا نضالهما من أجل المسألة القومية العربية، وكان ميشيل عفلق، مؤسس البعث، أحد أقطاب تلك الحركة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، فإن السبل افترقت بأقطاب تلك الحركة عندما انحاز الشيوعيون العرب وارتبطوا بالمركزية السوفياتية على الصعيدين الحزبي والعقيدي، الأمر الذي قلَّل من أهمية المرجعية القومية العربية عندهم، واعتبروا بعد هذا الانفصال أن الفكر القومي هو فكر شوفيني. ويظهر أن هذا التحول قد انعكس سلباً في علاقات الماركسيين والقوميين العرب([5]).
واستكمالاً لحالة التنافر، وصلت العلاقات إلى حد القطيعة بينهما، تلك الحالة كانت تزداد عمقاً كلما تعمَّقت أسباب ابتعاد الحركة الشيوعية العربية عن هموم القضايا العربية، وخاصة في مسألتيْن: النظرة العدائية إلى الفكر القومي العربي، بأبعاده السياسية والاجتماعية، ووصمه بالشوفينية. والاعتراف بحق الصهيونية في احتلال الأرض الفلسطينية.
في هذه البيئة السياسية الخاصة، من المحتمل أن يكون لقاء ياسين الحافظ (المنتسب إلى حزب البعث) مع الياس مرقص (المنتسب إلى الحزب الشيوعي السوري) قد أعاد إلى الذاكرة حالة التقارب التاريخية، التي أشرنا إليها. ولعلَّ ذلك اللقاء عمل على تصحيح العلاقة التي انقطعت ومدَّ كل منهما حبال التلاقي والحوار من أجل إعادة المسألة القومية إلى دائرة الاهتمام، واعتبرا أنها تشكل نقطة التلاقي الرئيسية بين الماركسيين العرب والقوميين العرب، ويظهر أنهما اتفقا على أن تشكل المسألة القومية العربية المرجعية الفكرية والسياسية الأولى في النضال العربي.
ولهذا كله يدين كثيرون لياسين الحافظ، كما يقول ياسين الحاج صالح، بأنه حررهم من «سباتهم الدوغمائي» وفتح أعينهم على «الواقع». لقد أتاح لجيل من المنشقين الماركسيين أن يشقوا عصا الطاعة للمركز السوفييتي ووكالاته المحلية، وأن يبقوا ماركسيين في الوقت نفسه. وبذلك أسهم في إنقاذ قدر من الكرامة العقلية لليسار الشيوعي والماركسي، وكان بمثابة جسر نحو خيارات سياسية وفكرية أكثر ديمقراطية ونقدية([6]).
3-مفهوم ياسين الحافظ للحزب:
كان يُنظر لحزب العمال الثوري العربي، حين تأسيسه، بمعيار المعادلة التالية: الحزب = (الفكر + حَمَلَة الفكر)، أي الحزب الذي «يشكل رافعة لنهضة الأمة حين يكون حزباً حديثاً متجدداً بكل مقومات وجوده»، ويعتبر أن «قضية الجدل بين العقل والواقع إحدى المرتكزات الأساسية لمواكبة المتغيرات فكرياً وسياسياً وتنظيمياً». الحزب الذي يستطيع «الاندماج بواقع متغير»([7]).
من يقود الحزب؟
من خلال المعادلة أعلاه، خصوصيات الفكر وعقلانيته، زائداً حملة هذا الفكر، هما عامودان رئيسان في البنية الحزبية عند ياسين الحافظ. وإذا اتفقنا معه على أن الفكر يجب أن يحمل إمكانية التجديد والإغناء، وأن يكون متميزاً بعلاقته مع مصلحة المجتمع الذي صِيْغ لأجله، فإن حملة الفكر، الموكول إليهم مهمة خدمة هذا المجتمع، هم من سنعتني بتحديد مفهوم ياسين الحافظ لهم.
يرى ياسين الحافظ أن «الأحداث السياسية هي سطح»، و«الجوهري والأساسي هو الأيديولوجي والثقافي، الذي يفرز السياسي ويحكمه»، وخلافاً للمقولة الماركسية فلا يجد الحافظ علاقة لتخلفهما بالتخلف الاقتصادي لوحده، فالإيديولوجي والثقافي والسياسي يتمتعون باستقلال نسبي عن الاقتصاد أيضاً([8]). لذا يفهم الحافظ أن حملة الفكر هم طبقة الأنتليجنسيا من جهة، والوعي الشعبي من جهة أخرى. والأنتليجنسيا هي «كتلة المثقفين التي، باستقلالها النسبي، تلعب دوراً حاسماً في نقل الوعي الكوني إلى شعبها، وتُنضج بالتالي، المقدمات الثقافية للثورة السياسية. وفي حالات قد تلعب دوراً محافظاً»([9]).
وهنا يعطي الحافظ أهمية للنخبة، لكن على شرط التمييز بين النخبة الحديثة والتقدمية، والنخبة التقليدية التي تتأثر بالإيديولوجيا التقليدية([10]).
أما الوعي الشعبي فهو عامل ضروري ولازم، وفيه يرى الحافظ أن التجربة التاريخية لشعب، لا تتجلى على مستوى القادة السياسيين وحدهم، بل في الواقع على مستوى الناس البسطاء أيضاً، «تحدد قدرتهم على التدخل في شؤون البلد، وفي النهاية، تحدد نجاح أو إخفاق الاستراتيجيات السياسية المعدة من قبل الزعامة السياسية»([11]).
وهنا نتساءل، هل هناك تمييز بين المثقف والمفكر في الأحزاب العقيدية؟
وعلى ذلك نحاول أن نجيب:
1-لا تغيير من دون أحزاب عقائدية:
إذا لم تترابط أهداف الفكر الإنساني مع مصالح البشر فسوف يكون فكراً فوقياً لن يُكتب له الاستمرار، فأهمية الفكر إذن أن يحمل إمكانية التطبيق. ومن هنا تنتهي مهمة المُفكِّر لتبدأ مهمة المُفكَّر بهم، أي أصحاب المصلحة في تطبيق الفكر، وأصحاب المصلحة لا يمكنهم أن يصلوا إلى نتائج ملموسة وفعلية إذا لم يتعاونوا وينظموا صفوفهم في حركات جماعية، والحركات الجماعية هي ما تم الاصطلاح عليه بالأحزاب السياسية المنظمة.
فمن أولى بديهيات الحركة الحزبية المنظمة أن تمتلك عقيدة نظرية قابلة للتطبيق، التي هي بلا شك تمثل أهداف الجماعات، وهي تشكل البوصلة التي تساعد تلك الحركات على تصحيح اتجاهاتها كلما ازدادت ضبابية الرؤية أمامها لسبب أو لآخر.
فالعقيدة هي تلك البوصلة في الحزب العقيدي، والمنتسبون إلى الحزب هم الربان الذي يجيد استخدام البوصلة لتصحيح اتجاهات السفينة.
2-لا حزب منظم من دون جناحين، ربان وبحارة، تجمعهما مصلحة واحدة:
إذا كان الحزب سفينة، والعقيدة بوصلة، فوجود الربان والبحارة أمر لازم لا يكتمل وجود السفينة والبوصلة من دونه، فهما جناحان متكاملان، تغرق السفينة إذا فقدت أياً منهما. أما الأمر اللازم الآخر فأن يتوزَّع الجناحان المهمات على قاعدة أنه لا يمكن، واقعياً، أن يكون الجميع ربابنة وبحارة في الوقت عينه، لأن هذا إذا حصل من قبيل التمني النظري والمثالي، إلاَّ أنه لن يكون من قبيل الواقعي.
3-لا حزب عقيدي من دون مثقفين:
إن القاعدة الأساسية لبنية الحزب العقيدي أن يكون المنتسبون إليه من المثقفين، لأنه لا معنى لحزب عقيدي مستند إلى فكر يميزه من دون مثقفين يفقهون أهدافه المعلَّلة أولاً، ويكونوا قادرين على نقل تلك الأهداف بوضوح إلى الآخرين ثانياً.
4-لا حزب عقيدي من دون فكر قابل للتجديد:
كل عقيدة لا تكون قابلة للتجديد ستتحول إلى عقيدة مقدسة، وليست الأحزاب، التي جاءت رداً حديثاً على العقائد الدينية المقدسة، أو العقائد الشوفينية المنغلقة، إلاَّ مشروطة بتجديد عقائدها في عالم يتغير باستمرار.
فباستثناء الأهداف الثابتة للأحزاب، أي الأهداف التي تتوجه إلى مستوى المجتمع العام أو طبقاته، لا يجوز أن تتجمد وسائل الوصول إليها.
5-لا فكر من دون مفكرين، ولا فكراً تجديدياً من دون مفكرين مجددين:
أما الجهة الصالحة للعمل الفكري فهي نخبة من المنتسبين إلى الحزب التي تتميز بالمقدرة على الإنتاج الفكري. والإنتاج المجدد لا يمكن أن يتم:
أ-من دون مقدرة نقدية تتناول القديم وتثبت مدى صلاحيته، في ظرف معين ومكان معين، للاستمرار، فتعمل على إغنائه. أو تثبت تخلفه، كلياً أو جزئياً، عن المتغيرات فتعمل على التجديد في جوانب القصور والتخلف فيه.
ب-من دون مقدرة على وصف البديل الجديد الذي يتناسب مع المتغيرات التي فرضت عملية التجديد.
6-كيف يمكن المحافظة على معادلة التكامل بين مركزية الحزب الفكرية وحرية المفكر الفردية؟
من أجل معالجة هذه الإشكالية نرى أنه لا بدَّ من تحديد المفهوم الرئيسي لطرفيْ الإشكالية:
أ-مركزية الحزب الفكرية، أي المحافظة على الوحدة الفكرية: الوحدة الفكرية، تعني وحدة الأهداف التي يتعاقد عليها المنتمون لحزب واحد من أجل النضال لتحقيقها، وهي من الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر للأحزاب من أجل المحافظة على وحدتها التنظيمية.
بينما الوحدة الفكرية لا تعني عملية تجميد لها، بل تكون مرنة تستوعب التجديد، حتى لا تتحول إلى نصوص مقدسة في عالم متغير يتطلب نسقاً معرفياً يتجدد ليواكب متغيرات الزمان والمكان. بحيث يطرح هذا الجانب إشكالية كيفية المحافظة على الوحدة الفكرية وفي الوقت ذاته إخضاع فكر الحزب لعملية التجديد. وهل عملية التجديد تتناقض مع المحافظة على الوحدة الفكرية في داخل الحزب؟
ب-حرية التفكير نقيض لقدسية النص، أي تجميده. وهذا ينطلق من نسبية الحقيقة. ولأن مبدأ التفكير هو الركيزة الأساسية في التغيير، يصبح حاجة للأحزاب الحديثة. ومن آمن به عليه احترام حرية الفرد في التفكير. ولأن الحرية في التفكير والاعتقاد مبدأ إنساني عام، يصبح من البديهيات أن يكون مبدأً خاصاً تعتمده الأحزاب الحديثة.
ج-بين المركزية الفكرية للحزب، كمؤسسة جمعية، وحرية المفكر كفرد، مساحة من التناقض بين شخصية الجماعة وشخصية الفرد. وإذا سلَّمنا بأن شخصية الجماعة تكون في الغالب من إنتاج الأفراد المتميزين، يتم تكوينها عبر سلسلة من التمثلات والتحولات المتتالية، زمنياً ومكانياً، يمكن للحزب استيعاب ما تنتجه حرية الأفراد فيه من أفكار جديدة، والاستفادة منها. أما الوسيط بين الاثنين فتكون المؤسسة الفكرية، التي يجب أن تكون جاهزة في الوقت المناسب والمخطط له للدراسة والتدقيق، وإعطاء الحكم بالاستفادة من كل إنتاج جديد.
ليست المهمة باليسيرة، وقد لا تكون عسيرة أيضاً. إذ دلَّت التجربة العيانية التي خاضها ياسين الحافظ على ذلك. فكانت يسيرة عندما أقرَّ المؤتمر القومي السادس الاستفادة مما أتى به، ولكنها تحوَّلت إلى مهمة عسيرة عندما وجد حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه منقسماً على ذاته بعد أن خرج الحافظ مؤسساً حزباً جديداً على مقاييس ما أنتج. وظلَّت نتائج المؤتمر القومي السادس، في ثوب المنطلقات النظرية، مبهمة المصير والمآل.
وإلى أن تُتاح الفرصة للباحثين الذين قد يهتمون بهذا الجانب، للتعمق فيه ودراسة أسبابه الحقيقية أو ما هو الأقرب إليها، نضع بعض الاحتمالات التي حددت تطور العلاقة بين المفكر والحزب، وسنحسبها عوامل لعبت دوراً في تحديد علاقة ياسين الحافظ بحزب البعث، وهما: المؤسسة التنظيمية، والمؤسسة السياسية.
إننا نحسب بداية أن العوامل التي ترسم مصير العلاقة الإيجابية بين المفكر الملتزم وحزبه تكاد تنحصر بمؤسستين تحددان طبيعة العلاقة بين أعضاء الحزب الواحد بشكل عام، وبين الحزب والمفكرين الملتزمين بشكل خاص، وهما: المؤسسة التنظيمية وهي الأساس الأول، والمؤسسة السياسية إن وُجدت.
أما المؤسسة التنظيمية فهي عامل دائم لأنه لا وجود لحزب من دون مؤسسة تنظيمية تقوده. وأما المؤسسة السياسية فهي ليست شرطاً متحققاً دائماً في حياة الأحزاب، لكن وبحيث إن ياسين الحافظ عايش مرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سورية بعد ثورة الثامن من آذار من العام 1963، نحسب أن العامل السلطوي يكون قد شكل عاملاً في رسم علاقة المفكر الملتزم بالحزب.
أ-دور المؤسسة التنظيمية:
كما في مؤسسات المجتمع المدني توجد تراتبية هرمية تصنِّف البشر درجات درجات، فالمؤسسة الحزبية تعرف أيضاً تراتبية مماثلة بالشكل. وتلك التراتبية، هنا أو هناك، تُعتبر العامل الذي يشكل مركزاً للتجاذب والتنافس بين أعضاء المؤسسة الواحدة. ويلعب عامل المنافسة، في أحيان كثيرة، دوراً حاداً في مراحل الانتخابات. ومن النادر أن تكون معايير الكفاءة والأهلية القيادية حكماً موضوعياً بين المتنافسين، إنما العلاقات والمواقف الشخصية هي التي تتحكم بمعايير الانتخاب.
في زحمة عامل المنافسة على احتلال المواقع القيادية، غالباً ما يذهب المتميزون بثقافتهم وإنتاجهم الفكري ضحية هذا العامل. وبه تبدأ الخطوة الأولى في رحلة تراكم إشكاليات العلاقة السلبية بين المثقف والمفكر من جهة والمؤسسة الحزبية التي ينتمون إليها من جهة أخرى.
فإذا كانت شريحة المثقفين أوسع بكثير من شريحة المفكرين، وقد يعوِّض بعضهم عن البعض الآخر، فإنه من الصعوبة بمكان أن يتم تعويض الشريحة المفكرة، التي قد تكون محدودة جداً هذا إذا لم تقتصر على أفراد معدودين.
هذا الأمر يطرح جملة من الفرضيات العلاجية، ومن أهمها: طريقة وعينا للديموقراطية وفهمنا لجوانبها النظرية والتطبيقية. من حيث جانبها النظري نفهم أنها وسيلة تتساوى فيها حقوق كل أعضاء المؤسسة الحزبية. لكن على أساس التكافؤ في المميزات، وهذا الأمر يدفع إلى التساؤل: هل هناك تكافؤ بالمؤهلات بين أعضاء الحزب الواحد؟ وهذا ما يستدعي الجواب: واقعياً ليس التكافؤ موجوداً، إذن فالمبدأ الديموقراطي يتم تطبيقه شكلاً. ولكي تتم المقاربة بين النظرية والتطبيق لا بدَّ من تحقيق المساواة الجوهرية في الحق الديموقراطي. فهل من الممكن اقتحام هذه المغامرة؟
نقول مغامرة، وهي فعلاً كذلك، لأنه من الصعوبة بمكان، في الأحزاب العقيدية التي تستند إلى قاعدة واسعة من العمال والفلاحين وصغار الكسبة، أن يتم الاعتراف بطبقية تصنِّف ما بين مفكر ومثقف يمتلك ثقافة معمَّقة، ومثقف آخر أقل عمقاً، وحزبي لا يمتلك من الثقافة إلاَّ شدة إيمانه بشعارات حزبه ومبادئه. فهذا الاعتراف يثير حساسية بين أعضاء المؤسسة الحزبية الواحدة، وقد يذهب ضحيتها المتميزون بثقافتهم بما قد تُلحَق بهم من مواصفات الفوقية والنرجسية، وبها من سهولة التحريض وتأثيراته التي تنتشر بسرعة في وسط حزبي أكثريته من متوسطي الثقافة.
وبذلك لا يمكن القاعدة الواسعة من الشريحة التي لا تمتلك من الثقافة إلاَّ عامل الإيمان، أن تختار بوعي ونضج، فهي ستكون مزاجية بخياراتها حتى في الانتخابات الحزبية.
ولعلنا نبدأ بتحديد العوامل الأولية التي تؤسس لإشكالية العلاقة بين المثقَّف المتعمق، والمفكر المنتج، وبين المؤسسة الحزبية التي ينتميان إليها.
-من خلال النظرة السائدة إلى المثقفين في الأحزاب بعين الريبة، وإلى المفكرين أيضاً، ويتم ذلك بحجة أن ما يأتون به من نظريات التجديد، تكون مشبوهة إلى أن يثبت العكس، بينما الواجب أن يتم التعامل معها بإيجابية إلى أن يثبت العكس.
ولهذا علاقة بمدى عمق الوعي الديموقراطي أو سطحيته من جهة، أو عمق الوعي الثقافي أو سطحيته من جهة أخرى. وهذا الجانب يجد رواجاً في حالات غياب تداول المواقع القيادية بحيث يلعب المتمسكون بمواقعهم واحتكارها دوراً في التحريض والتعبئة ضد كل من يحاول التجديد سواءٌ أكان في مناهج التنظيم ووسائله، أم في مناهج الفكر ووسائله.
يلعب عمق الوعي الديموقراطي من جهة، والقناعة بتداول المواقع القيادية من جهة أخرى دوراً أساسياً في استيعاب رغبة المثقفين والمفكرين بدور لهم في حياة أحزابهم التنظيمية والفكرية. وما يحد من تلك الرغبات هو عمليات الإقصاء التي يمارسها المتسلطون على القيادة التنظيمية.
ب-دور المؤسسة السياسية:
نعني بالمؤسسة السياسية هنا، تلك المؤسسة التي يقودها حزب عقيدي يستطيع الوصول إلى الحكم. ومن هذا التحديد للمصطلح، نرى أنه قد تلعب المؤسسة السياسية دوراً سلبياً آخر على واقع علاقة الحزب مع المفكرين. وفي تغييب الديموقراطية قد تستدرج السلطة شريحة منهم، وتحولهم إلى موظفين للتفكير لحسابها، ينتجون ما يخدم مصالح الشريحة الحاكمة، ويتحولون إلى «مفكري السلطة»، ومن الذين لا يتميزون بحصانة مبدئية، سينحدرون إلى مستوى التملق؛ أو تستثير نقمة البعض الآخر بإبعادهم عن السلطة السياسية لسبب أو لآخر ومن أهمها أنهم يلتزمون الأمانة الفكرية. ومن هذا الواقع أو ذلك تتحول السلطة إلى ميدان آخر للتنافس بين النخب الأكثر ثقافة، الذي يكون في الأغلب الأعم تنافساً غير مشروع، يدفع فيه المثقفون، والمفكرون منهم بشكل خاص، ثمن أمانتهم لنتائج رؤاهم وأبحاثهم الفكرية الموضوعية. أما نتيجة النتائج فتكون خسارة للمفكرين الموضوعيين، سواءٌ أكانت بانحيازهم للسلطة انتهازاً وممالأة على حساب نتائج شروط البحث أو التفكير السليم، أم كان بإقصاء غيرهم، أم بخروج هذا الغير طائعاً، ولكنه حانقاً، فيتحولون إلى منشقين يناهضون أحزابهم الأم.
ج-هل يكون الحل في المؤسسة الفكرية، وكيف؟
المؤسسة الفكرية المعترف باستقلاليتها، هي المؤسسة التي تقوم على قاعدة مبدأ الاعتراف بالحق الديموقرطي واحترامه في حرية التفكير والقول والكتابة.
والمؤسسة الفكرية هي التي تجمع من يتم الاعتراف لهم بالكفاءة والموضوعية بالتفكير. ومن أجل ضمان حياديتهم، يُعطون امتياز البعد عن حالتين اثنتين: التنافس على مواقع القيادة التنظيمية، ومواقع قيادة السلطة.
تضم المؤسسة الفكرية في الحزب الذي لم يصل إلى السلطة، كل المتميزين بالمقدرة على الإنتاج الفكري، ومن النخب المثقفة تثقيفاً عالياً، أي من الذين تعالوا على سلبيات التنافس السلبي، وتوفير مراكز للأبحاث في العلوم الإنسانية لتكون في عهدتهم ورعايتهم.
أما في الحالة التي يصل فيها الحزب للسلطة، ويشكل مركز الثقل فيها، فتضم المؤسسة الفكرية كل من يتميز بالكفاءة الفكرية، والأهلية الموضوعية ليلعبوا الدور ذاته الذي يلعبه المثقفون والمفكرون الملتزمون، وتُخصص لهم الامتيازات والمميزات ذاتها.
ومن أهم مهمات المؤسسة الفكرية رصد الظواهر السلبية في الأداء الفكري والتنظيمي للحزب الذي يلتزمون بخطه، أو لسلطة الحزب، بالخصائص ذاتها المشار إليها أعلاه. فتتشكل منهم هيئات الرقابة والمساءلة والمحاسبة، تحال إليهم تلك الظواهر، سواءٌ أكانت على مستوى التنظيم الحزبي، أم على مستوى الأداء السياسي للسلطة، وتيسِّر أمامهم وسائل الوصول إلى تشخيص سليم لكل الجوانب السلبية التي يحتاج الحزب لعلاج لها، أم تلك التي تحتاجها السلطة السياسية. كما يشكلون هيئات للتحكيم تؤخذ نتائج أحكامهم بعين الاحترام والالتزام.
خاتمة
إن إظهار معالم اليأس وعلاماته أصبحت من سمات ثقافتنا السابقة، والراهنة، وهي التي دفعتنا، أو لا تزال تدفعنا، إلى توجيه الاتهام بالأفلاطونية لكل فكر تسوِّل له نفسه بالاتجاه نحو الأمل، وتعمل على إحباطه وتيئيس صاحبه. فهي سمات لا شك في أنها ترتبط بحالات الإحباط السابقة الناجمة عن سلسلة من الإخفاقات التي ميَّزت تاريخ النظام الرسمي، أو تاريخ الأحزاب العقيدية. وهي بحد ذاتها تحتاج إلى علاج قبل البدء بتقديم حلول لمشاكل الأنظمة الرسمية، والأحزاب العقيدية. والعلاج يبدأ بإعادة جذوة الأمل إلى نفوس المثقفين أولاً لأنهم يشكلون الحلقة الوسيطة بين الفكر والوسط الاجتماعي الذين يعيشون فيه، كما أنه يجب أن يعيشوا لأجله.
يبدأ العلاج في التمييز بين العبثية والإفلاطونية، فالعبثية صفة تلتصق بكل فكر مستحيل، أي كل فكر ناجم عن أحلام أو أضغاث أحلام، أي هي بعيدة عن التحقق جزئياً وكلياً. أما الإفلاطونية فترتبط بقيم إنسانية قد تكون صعبة التحقق،ولكنها ليست مستحيلة. إلاَّ أن تحققها جزئياً هو دليل على أنها ليست مستحيلة، أي ليست عبثية. وكل ما سقناه أعلاه، متحقق جزئياً على الأقل في سلوكات عدد من النماذج البشرية الواقعية المتمثلة في شريحة من المفكرين، وعند عدد من الأحزاب العقيدية. أما فشلها فكان نتيجة عدم الإصرار على إنجاحها وعدم الاستمرار في رعاية تلك التجارب التي حققت نجاحاً جزئياً، وإعطائها فرصاً أكثر لتتسع مساحة نجاحها.
وما تجربة ياسين الحافظ إلاَّ أنموذج يمكن البناء عليها لزيادة مساحة الأمل في إمكان حل إشكالية العلاقة بين المفكر الملتزم بحزب عقيدي، وبين حزبه، والسير بها إلى دائرة الضوء شيئاً فشيئاً، وإنقاذها من دائرة الظلام والتعتيم خطوة خطوة.
وهنا نرى أن معادلة تكوين الأحزاب قائمة على تكامل العلاقة بين الهدف الذي هو الفكر، وموضوع الهدف الذي هو المفكر، فإذا اختل توازن العلاقة بينهما، أي إذا ضعف أحد طرفيه فيؤدي إلى إضعاف الآخر. والمعادلة، كما نتصورها هي الشكل التالي:
إن الحزب هو (هدف وموضوع الهدف) أي (فكر + العامل لتطبيق الفكر)، أما العامل لتطبيق الفكر والسهر على هذا التطبيق فينقسم في تراتبية حزبية تتواصل وتتكامل بين منتج للفكر، ومثقف عميق الثقافة، ومثقف أقل ثقافة، ومؤمن بالفكر.
فالهدف مسألة فكرية نظرية، وموضوع الهدف مسألة نضالية مادية. فلا يمكن لموضوع الهدف أن يستمر من دون وضوح نظري، كما لا يمكن للهدف أن يتحول من موجود بالقوة إلى موجود بالفعل من دون موضوعه النضالي المادي. فثنائية النظر والعمل مسألة واجبة الحضور في خطة الحزب العقيدي. وهنا تلعب الوسيلة التنظيمية في الحزب دوراً أساسياً في مقاربة العلاقة السليمة بين الحزب الذي يعمل على تطبيق الفكر الذي آمن به وبين المفكر الذي التزم بصفوف هذا الحزب قناعة منه بفكره.
فالمسألة النظرية، بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثابتة في التلاقي والتكامل بين الهدف القومي العربي بمضمونه الاشتراكي، والمسألة العملية هو العامل والفلاح وغيرهم من الطبقات المسحوقة من العرب الاشتراكيين.
إن للطرف النظري حاضن والحاضن هو المثقف الواعي القومي العربي الاشتراكي الذي يستند إلى نتائج مهمة المفكر. أما الطرف العملي النضالي، فهو موضوع الهدف، من عمال وفلاحين عرب اشتراكيين. ولكي تضمن الأهداف نجاحها، فعليها أن تحقق وسيلة التكامل المستمر والمتواصل بين طرفيها. وعملية التكامل تقتضي وجوباً وجود من يكون أميناً نظرياً على الأهداف، ووجود من يعمل على ترجمتها على أرض الواقع.
فالتمييز بين طرفيْ المعادلة ليس هدفاً طبقياً داخل الحزب الواحد، وإنما هو تمييز واجب لمصلحة العقيدة التي ترفض أن تبقى في برج عاجي، كما ترفض أن تصل في أحد مراحلها العملية إلى نفق مظلم نتيجة بعدها عن الوضوح النظري.
ومن هنا، إذا كان الطرف العملي في التركيب الحزبي الداخلي، أي الطرف الأقل ثقافة، في طرفيْ معادلة التراتبية الحزبية يمكن توفيره بأسرع من توفير الطرف النظري، أي الطرف الأكثر ثقافة أو أعمقها، وبأعداد أكثر بكثير، فإنه يشكل سبباً يدفعنا إلى الحرص على المحافظة على الأكثر ثقافة أو أعمقها، حيثما يوجد، وتشكيل رؤية واضحة للمحافظة على حالة التوازن في التركيب التنظيمي الداخلي للحزب، بما يجعله متوازناً ومتكاملاً.
وهنا تلعب المؤسسات الحزبية الداخلية، أي المؤسسة التنظيمية، أو المؤسسات المرتبطة بتطبيق فكر الحزب، أي المؤسسات السياسية، دوراً مهماً في المحافظة على التراتبية الحزبية بواقعية، بما يحفظ التوازن الدقيق بين شتى المستويات لتترك كل مستوى تراتبي يقوم بدوره من دون خلق طبقية جديدة تشكل فجوة في العلاقة بينها، تجمعها أخلاقية ثورية تأنف تحويلها إلى درجات من الفوقية والاستعلاء أو ترك مجال للشعور بالدونية. وفي تقديرنا تشكل المؤسسة الفكرية الضامن الواعي الذي يجسر الهوة بين المستويات التراتبية من جهة، ويحفظ استمرار حرية القول والكتابة والبحث والتفكير والإغناء والتجديد للمتميزين من جهة أخرى.


([1]) محمد الحاج ابراهيم: (نقد حزب العمال الثوري العربي): الحوار المتمدن: العدد 1081: 17/ 1/ 2005.
([2]) حسن إسماعيل عبد العظيم: (التيار القومي الواقع والآفاق المستقبلية): 29/ 8/ 2007. (بحث منشور على الأنترنت).
([3]) راجع، محمد الحاج ابراهيم: (نقد حزب العمال الثوري العربي): م. س.
([4]) : (الحركات الاجتماعية في سوريا): . (بحث منشور على الأنترنت).
([5]) الخطيب، محمد كامل: »الانقسام الكبير« (111 - 120): مجلة الطريق: العدد الرابع، آب / أغسطس 1989: بيروت: ص 113 - 114. راجع، أيضاً، شهادة كل من كلوفيس مقصود، وأرتين مادويان: ص 114 - 116.
([6])ياسين الحاج صالح : (المطابقة المستحيلة: ياسين الحافظ ورهان الوعي): الحوار المتمدن - العدد: 705 - 2004 / 1 / 6 .
([7]) محمد الحاج ابراهيم: (نقد حزب العمال الثوري العربي): الحوار المتمدن: العدد 1081: 17/ 1/ 2005.
([8]) ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفييتنامية: دار الحصاد للتوزيع والنشر: دمشق: 1997: ط 3: ص 5.
([9]) ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفييتنامية: م. ن: ط 3: ص 15.
([10]) ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفييتنامية: م. س: ص 8.
([11]) ياسين الحافظ: التجربة التاريخية الفييتنامية: م. س: ص 8.

ليست هناك تعليقات: