الخميس، فبراير 25، 2010

دراسة حول الواقع السياسي الشيعي في العراق المحتل

-->
دراسة حول الواقع السياسي الشيعي في العراق المحتل
15/ 6/ 2004م

أولاً: تمهيد تاريخي في تأصيل الفكر الشيعي والمصالح الإيرانية في العراق

تعود بذور الخلاف السني الشيعي إلى اللحظة الأولى التي رافقت وفاة النبي محمد، فمن تحديد الأحقية في خلافته اندلعت الشرارة الأولى بين القبائل التي وحَّدها الإسلام. وتعود بداياتها إلى انقسام المسلمين إلى فريقين: يمثَّل الأول، علي بن أبي طالب (ابن عم الرسول) ويقول بأحقيته بالخلافة لأنه أقرب الناس إليه فهو ابن عمه وزوج ابنته. أما الفريق الثاني فضمَّ القبائل التي لا تمت بصلة نسب مباشرة إلى النبي، وترى أن الخلافة حق لكل مسلم.
لم يكن للمذهب الشيعي فكر مستقل عن الإسلام، وإنما التراكمات السياسية اللاحقة في الصراعات الإسلامية الإسلامية هي التي كان لها الدور الأول في تكوين المذاهب الدينية الإسلامية ومنها المذهب الشيعي. وارتبط التكوين الفكري بمضامين الخلافات السياسية، التي كانت تدور حول مسألة الخلافة، فكان كل مذهب ينهل من الأصول الإسلامية ما يدعم وجهة نظره.
يعود اكتمال التكوين الفقهي الديني الشيعي إلى جعفر الصادق (أحد أحفاد النبي من سلالة الحسين بن علي بن أبي طالب) والذي تميَّز بنبوغه الفقهي والذي كان معظم الذين أسسوا للمذاهب الفقهية السنية قد تتلمذوا على يديه. أما اكتمال التكوين الفكري السياسي فيعود إلى العام 260 هـ بعد أن غاب الإمام الثاني عشر وإليه تعود تسمية الشيعة الإثني عشرية.
وُلِد جعفر الصادق في العام 80 هـ، وتوفي في العام 148هـ، فتعود بهذا أصول تكوين المذاهب الفقهية الإسلامية إلى ما يقرب من قرن ونصف القرن بعد وفاة النبي محمد. ولما كانت الخلافات السياسية هي التي أسَّست لتشرذم المسلمين فقد اتَّكأت إلى النصوص الدينية لتدعيم مواقعها. ولذا كان الخليفة المسلم مُحاطاً بدائرة من الفقهاء الذين يصدرون شتى أنواع الفتاوى لتدعيم شرعية خلافته.
وبمرور الزمن، أي ما يعادل القرون من السنين، وبتراكم الخلافات السياسية حول موقع الخليفة تعمَّقت التناقضات بين المذاهب الإسلامية، فوصلت أقصى ذروتها في القرنين الرابع والخامس الهجريين. ومن بلوغ الذروة أصاب الخلافة الإسلامية التفسخ، فعرف التاريخ الإسلامي، في مرحلة من مراحله، وجود خلافتين: أحدهما سنية في بغداد، والثانية شيعية في القاهرة (297هـ 567هـ).
كان لبلاد فارس (إيران حالياً) دور مستمر ومترافق مع الصراعات المذهبية، وقد لعب الفرس دوراً كبيراً في الخلافات المذهبية المذهبية حيث كان الفرس ميالين إلى تأييد المذهب الشيعي منذ انتهاء الخلافة الأموية في العام 125هـ. وكان العهد الصفوي (أواخر القرن السادس عشر الميلادي) عصرهم الذهبي في بناء دولة تحكم باسم الشيعة، فاستولت على العراق من ضمن ما استولت عليه، لأنه من غير المفهوم أن تقوم دولة شيعية لا سيطرة لها على العتبات المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة (أكبر المدن الشيعية في العراق والتي تحتضن مدافن أئمة الشيعة: علي بن أبي طالب والحسين والعباس).
لم يستقر المقام للفرس في العراق، بل كان الكتف التركي الذي انتقلت إليه الخلافة الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي يمثل المذهب السني، وسرعان ما استعاد سيطرته على العراق.
وهكذا تبقى السيطرة الإيرانية على العراق هدفاً دائماً لن تكتسب أية دولة شيعية شرعية مذهبية من دون السيطرة المباشرة على العتبات الدينية الشيعية المقدسة في العراق.

ثانياً: مفهوم الدولة والسلطة السياسية في الفكر الشيعي الإثني عشري

منذ العام 260 هـ اختفى آخر أئمة الشيعة الذين يتحدرون من صلب الحسين بن علي بن أبي طالب- وهو الإمام الثاني عشر، وعمره خمس سنين، من دون أن يخلفه أحد. وبغيابه انقطعت سلسلة الأئمة، فتأسست من بعد غيابه نظرية »الانتظار« عند الشيعة الإثني عشرية. وتقوم نظرية الانتظار على أساس أنه لا يجوز أن يتولى السلطة السياسية للدولة الإسلامية الشيعية إمام غير معصوم عن الخطأ. فالإمامة بمحتواها الديني والسياسي عند الشيعة- تكليف إلهي لتطبيق الشرائع السماوية، فالله الذي أنزل تلك الشرائع لن يسمح لأحد أن يطبقها إلاَّ إذا كان معصوماً عن ارتكاب الأخطاء.
منذ تلك اللحظة آمن الشيعة الإثني عشرية بأن عليهم أن ينتظروا عودة الإمام الغائب ليعيد العدل والمساواة إلى العالم بعد أن يمتلئ ظلماً وجوراً. وهي شبيهة بنظرية »عودة المسيح المخلِّص« عند بعض الفرق المسيحية التي تؤمن بعودة المسيح منتصراً للخير بعد أن يستفحل الشر في العالم. فتكون أية دولة، في فترة الغيبة، غير شرعية. ولهذا توقَّف الشيعة عن الاعتراف بشرعية أية دولة، وامتنعوا عن المشاركة في العمل السياسي. فتكون نظرية المعرفة الدينية والسياسية عند الشيعة قد منعت المنتسبين إليها من المشاركة في أي نظام سياسي. ولهذا امتنعت المرجعيات الشيعية تاريخياً- عن الاهتمام بالسياسة لأن أي اهتمام بها هو مخالف للقواعد الشرعية الشيعية.

ثالثاً: التجديد في الفكر السياسي الشيعي الإثني عشري

تعود مسألة الانقلاب على الفكر السياسي عند الشيعة إلى عهد الدولة الصفوية في بلاد فارس عندما أجاز فقهاؤهم شرعية أن يتولى شيعي موقع »نائب الإمام الغائب« فتقاسم السلطة كل من الفقيه (وصلاحيته الفتوى الدينية) والشاه الصفوي (وصلاحيته حكم شؤون الدولة). وانتهى هذا الشكل من الحكم بانتهاء الحكم الصفوي الفارسي في إيران. وظل تجربة تاريخية نائمة حتى أواسط القرن العشرين الميلادي.
ففي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين نشأت في النجف في العراق ربما كردة فعل لنشأة حركة الإخوان المسلمين السنية في مصر- حركة دينية شيعية سياسية تؤسس لفكر شيعي سياسي جديد يجيز القفز فوق »نظرية الانتظار« لتفسح أمام الشيعة في لعب دور سياسي في بنية الدولة. ولهذا الغرض تأسس »حزب الدعوة الإسلامي« الشيعي (الذي ينتسب إليه إبراهيم الجعفري عضو مجلس الحكم سابقاً ونائب رئيس العراق المعيَّن من قبل الأميركيين) وهو السبب الذي دفع بالكثير من النخب الدينية الشيعية أو السياسية والاقتصادية إلى الانتساب إلى صفوفه خاصة وأنه حفَّزهم على أن يلعبوا دوراً سياسياً في أجهزة الدولة كانت محرَّمة عليهم استناداً إلى النظرية السياسية التقليدية التي كانت تحد من طموحاتهم ورغباتهم.
ترافق تأسيس حزب الدعوة الشيعي مع بدايات أول ثورة قامت بها الأحزاب العلمانية، البعثيون والشيوعيون، في العام 1958م. وكان بناء دولة علمانية تحكم على أسس تشريعات وطنية جامعة يتعارض مع أية دعوة تعمل من أجل بناء دولة دينية، فاصطدمت السلطة العراقية الجديدة بالحركات الدينية السياسية سنية وشيعية على حد سواء. فكان في واجهة الصراع كل من حركة الإخوان المسلمين السنية (وهي كانت ممثَّلَة في مجلس الحكم المعيَّن أميركياً) وتفريعاتها، وحزب الدعوة الإسلامي الشيعي.
في أواخر الستينيات من القرن العشرين، مترافقاً مع بدايات التململ الشعبي الإيراني ضد نظام الشاه، نُفي الخميني من إيران فلجأ إلى النجف في العراق. فكانت له تجربة الاحتكاك مع التيار الشيعي الجديد الذي أخذ يروِّج إلى إجازة العمل السياسي في فترة انتظار عودة الإمام الثاني عشر الغائب. وبرهنت الدلائل فيما بعد- أن الخميني قد اقتنع بأجواء التجديد شكلاً ومضموناً، وكانت لديه الوسائل الكفيلة لتعميق تلك المفاهيم ونشرها بين طلابه، فظهرت بشكل محاضرات ألقاها على طلابه في النجف، وقد صدرت فيما بعد- بكتاب »الحكومة الإسلامية«.
في الوقت الذي كان محظوراً نشاط الحركات الدينية السياسية العراقية كان الخميني يحتمي بصفته لاجئاً سياسياً ويمارس نشاطه السياسي من دون محاذير. وقد كانت أشرطة »الكاسيت« التي يسجِّلها، والتي تعمل الأوساط الإيرانية المعارضة للشاه على ترويجها في إيران، تحضَّر في العراق وتُرسل إلى الداخل الإيراني.
كان مضمون الخطاب التجديدي الذي عمَّقه الخميني في الفكر الشيعي قد تبنَّى نظرية »ولاية الفقيه« التي تُجيز للشيعة العمل السياسي في فترة »غيبة الإمام المنتظر«، وهي تجديد للنظرية التي حكم العهد الصفوي الشيعي في بلاد فارس (إيران) على أساسها.
رابعاً: التجديد في الفكر السياسي الشيعي بداية الأمل في إعادة الخلافة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية
وبنجاح الثورة الإيرانية بقيادة الخميني كان لا يمكن لرجال الدين الشيعة أن ينخرطوا في ورشة العمل السياسي بقيادة الدولة وتأسيس دولة إسلامية من دون نظرية »ولاية الفقيه«. وبهذا الانتصار، وبمثل تلك النظرية اندفعت الثورة الإيرانية إلى تصدير نفسها إلى خارج إيران، خاصة بعد أن أعلن الخميني مبدأ »تصدير الثورة«. فيكون الخميني بمثل هذا الإعلان- قد فتح الباب واسعاً أمام أمل إعادة الحياة للخلافة الإسلامية حسب التعاليم الشيعية الإثني عشرية.
لقد أنعش انتصار الثورة الدينية في إيران آمال الحركات الدينية السياسية السنية من جانب، وفتح الأبواب أمام الحركات الدينية السياسية الشيعية للعودة إلى الحياة السياسية من جديد. وبمثل تلك البيئة وقف العالم الإسلامي أمام مرحلة جديدة تراجعت فيه القوى العلمانية، وطنية وقومية وماركسية، إلى أكثر حدودها ضعفاً منذ أن تكوَّنت في مطالع القرن العشرين. وأسهمت في تراجعها عدة من العوامل منها دعم نظام الرئيس الراحل أنور السادات للحركات الإسلامية عامة كمقدمة لاستقطابها واحتوائها من أجل تمرير صفقة تسوية الصراع العربي الصهيوني. واحتضان بعضها من قبل الإدارات الأميركية لمحاربة الشيوعية، وكان أشدها بروزاً مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وتوّجت تلك العوامل انتصار الثورة في إيران بقيادة رجال الدين الشيعة.
تعاونت تلك العوامل مجتمعة لتؤسس لحركة إسلامية ناشطة تتبادل مواقع القوة التي طبعت جيل الثمانينات من القرن العشرين. وكانت فيها حرب الحركات السياسية الدينية في أوج نشاطها في كل من أفغانستان ضد الوجود السوفياتي، والحرب العراقية الإيرانية التي امتدَّت لثماني سنوات، والساحة اللبنانية خاصة بعد أن تعمَّق التناقض بين الحركات القومية والوطنية في لبنان لأكثر من عامل ومؤثِّر.
أطلَّت مرحلة التسعينيات من القرن العشرين وكانت الحرب العراقية الإيرانية قد انتهت بإنهاك العراق وإيران معاً، وانتعشت الحالة الأصولية في أفغانستان بعد انسحاب الجيش السوفياتي من أفغانستان، وبهما حقَّقت الإدارة الأميركية مكسباً رئيساً بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، فراحت تعد للتدخل المباشر في المنطقة بعد أن أضعفت كل خصومها، واعتبرت أن مناخاً جديداً مهَّد الطريق أمامها من أجل استكمال اكتساح العالم من دون منافس أو مقاومة.

خامساً: إحياء الخلافة الإسلامية عودة إلى أسس الخلاف التقليدية بين السنة والشيعة

ليس هدف إعادة إحياء الخلافة الإسلامية ذات مضامين مُتَّفَقٌ عليها بين المذاهب السنية والشيعية. وتعود جذور الخلاف إلى منابعها التاريخية التي أشرنا إليها أعلاه.
فللحركات السياسية السنية أهداف إعادة الخلافة كحق لكل مسلم، فهم بمثل هذه النظرية يتناقضون مع أهداف إعادة الخلافة على الطريقة الشيعية التي تحصرها في سلالة النبي محمد من ابنته فاطمة.
واستناداً إليه ستعود الحركات الدينية السياسية الإسلامية بتاريخ الصراع الشيعي السني إلى أيامه الخوالي. ففيه سيغرق المسلمون في صراعات دموية جديدة. ولأنه ليس لهذا الجانب مكان يتَّسع له في دراسة محددَّة الموضوع والحجم، نعتبر التفصيل فيه من اهتمام دراسات أخرى قمنا بنشرها سابقاً في أبحاث وكتب.

سادساً: المخطط الأميركي بداية في إعادة انتعاش الأمل الإيراني في غزو العراق

تحت دخان ذريعة دخول القوات العراقية إلى الكويت بدأت الإدارة الأميركية بتنفيذ مخططها في المنطقة، وراحت تنبش خططها الاستراتيجية الموضوعة في الأدراج تحت بند »قيد التنفيذ«، فكانت مسرحية العدوان الثلاثيني ضد العراق في العام 1991م. التي استخدمت فيها الإدارة الأميركية عامل العداء الإيراني للنظام العراقي وغضَّت النظر عن دخول قوات إيرانية إلى الجنوب العراقي من أجل استكمال مرحلة إخراج القوات العراقية من الكويت في إحداث الشغب والفوضى في المنطقة الشيعية من جنوب العراق كمدخل لإضعاف النظام فيه وبداية لتفتيت سياسي واجتماعي وجغرافي من الجنوب يتم استكماله من الشمال الذي تسكنه المعارضة الكردية، فيبقى الوسط العراقي معزولاً عن جنوبه وشماله، فيصبح مؤهلاً لغزو سهل تقوم به القوات الأميركية في أي وقت من الأوقات التي تراها مناسبة لتنفيذه.
أصبحت مرحلة التنفيذ مناسبة وأكثر قرباً من النجاح بعد إخضاع منطقة البلقان في أوائل القرن الحالي- للنفوذ الأميركي، واحتلال أفغانستان. ولما جاء دور العراق كانت العلاقات الأميركية الإيرانية في أعلى مستويات التناغم والتنسيق، خاصة وقد أثبتت وقائع احتلال أفغانستان مدى صدقيتها وثباتها.
على طريقة استغلال جهود الآخرين وإهمالهم من بعد استنفاد الأغراض من مساعدتهم، ولمدى التأثير الإيراني في الجنوب العراقي الشيعي، ومستغلة الأطماع والمصالح الإيرانية في العراق تعاونت الإدارة الأميركية مع النظام الإيراني، ورسمت له دوراً أساسياً في العدوان على العراق. وبذلك تكون قد أضعفت المناعة العراقية في شمال العراق وجنوبه، وهذا ما يفسِّر تسرَّعها في دخول الحرب ضد العراق من دون غطاء شرعي دولي أو مشاركة قوات دولية في الحرب. وبمراهناتها على الدور الإيراني في جنوب العراق من جهة والدور الكردي في الشمال من جهة أخرى ما يفسَّر الثقة الكبيرة التي استندت إليها الإدارة الأميركية في التخطيط لكسب الحرب بطريقة سهلة وسريعة.
من نقطة البداية تلك يمكننا أن نفهم طبيعة الجغرافية السياسية الشيعية في جنوب العراق، تلك الجغرافيا التي كان من الصعب فهمها من دون تلك المقدمات. ولنبدأ في محاولة تفسير ما هو غامض في فهم المفاتيح الداخلية للوضع الشيعي في العراق.

سابعاً: الجغرافيا الفكرية والسياسية لشيعة العراق تحت الاحتلال

بداية لا بُدَّ من توضيح مسألة فكرية دينية وسياسية لها ارتباط مع أسس الفكر الديني أو الرسالة الدينية كتعبير عن إرادة إلهية. وتستند تلك المسألة إلى أن الله عندما أنزل الشرائع السماوية لم ينزلها لقوم دون قوم، بل أنزلها لمصلحة الإنسانية جمعاء. فإبقاؤها من دون تصدير للبشرية يبدو وكأنه مخالف للتعاليم السماوية، لذا تحمل كل دعوة دينية سماوية أسسها الأممية السياسية. ولهذا فبناء دولة دينية عالمية يتناقض مع وجود حدود جغرافية كمفهوم حديث للدولة القومية. وبه يكون من واجب المنتسبين للحركات الدينية السياسية أن يثبتوا ولاءهم لأديانهم ومذاهبهم حتى ولو كان على حساب ولائهم لقومياتهم ودولهم السياسية القومية. فعند تلك الحركات يصبح المبدأ القومي حاجزاً يحول دون العمل من أجل قيام دولة دينية مفتوحة الحدود، ولهذا السبب أعلنت تلك الحركات الإسلامية أن القومية ما وُجِدت إلاَّ لمحاربة الإسلام. وبمثل تلك الأسس الفكرية الدينية لا تعني السيادة الوطنية عند المنتسبين إليها شيئاً. فيصبح مصطلح الخيانة للوطن خالٍ من أي مضمون سياسي أو أخلاقي.
على أرض الواقع العراقي، في أثناء الإعداد للعدوان وبعد الاحتلال، تساوت الحركات السياسية الإسلامية عند السنة والشيعة في مواقفها من العدوان والاحتلال، فانخرطت في الإعداد وشاركت في تدعيم الاحتلال على المستويات السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية.
استناداً إليه يمكننا أن نوزِّع التيارات الشيعية في جنوب العراق إلى الفئات التالية:
في مساحة الفضاء التي تفصل بين التيار العميل للاحتلال الأميركي والتيار المقاوم ضده يسبح تيار ثالث تتذبذب مواقفه ارتفاعاً أو انخفاضاً لصالح طرفي المعادلة تبعاً لمصلحة من هنا أو مصلحة من هناك.
الأول: التيار العميل للاحتلال الأميركي في مواجهة المقاومة الوطنية العراقية:
أ-حزب الدعوة الإسلامي. والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (فيلق بدر).
تعود بدايات تأسيس بعض الحركات والأحزاب الشيعية في العراق إلى العام 1958م، إذ أسَّس عدد من المراجع الشيعية ما يُعرَف اليوم بحزب الدعوة الإسلامي، وكان من أهم مؤسسيه محمد حسين فضل الله (الذي كانت تُنسَب إليه الأبوة الروحية لحزب الله اللبناني)، ومحمد باقر الصدر الذي ينتسب إلى عائلة الصدر (عائلة مقتدى الصدر الذي ينطق اليوم باسم تيار شيعي عراقي، ومؤسس جيش المهدي). وإلى حزب الدعوة تعود جذور إعادة الحياة إلى نظرية »ولاية الفقيه« الذي نقله الخميني في خلال فترة لجوئه السياسي إلى العراق في أواسط الستينيات من القرن العشرين. وبسبب من الخلاف السياسي المستديم بين شتى الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق وحزب الدعوة الإسلامي، وكان آخرها نظام حزب البعث السياسي منذ العام 1968م، اتَّخذ حزب الدعوة موقع المعارض الدائم لأي نظام علماني. ولما انتصرت الثورة الإيرانية في العام 1979م، انحاز الحزب المذكور إلى تأييد الثورة الإيرانية في حربها ضد العراق على قاعدة تصدير الثورة الشيعية إلى العراق وعلى رأس أهدافها السيطرة على العتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء. بل وراح حزب الدعوة يقدم على عمل كل ما يمس أمن العراق وتهديد سيادته الوطنية. ولكن لأن للحزب اتجاهات في إبقاء المذهب الشيعي تحت قيادة شيعية عربية شكَّلت أسباباً تحول دون احتضانه من قبل الإيرانيين الذين يريدون أن يقودوا المذهب الشيعي، لجأ الإيرانيون منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية إلى تكوين حصتهم الشيعية العراقية التي تدين بالولاء لهم ومن دون أن تربك خططهم، فاستطاعوا أن يؤسسوا تنظيماً أطلقوا عليه اسم »المجلس الأعلى للثورة الإسلامية« الذي يتزعمه أبناء محسن الحكيم أحد المرجعيات الشيعية المعروفة في التاريخ المرجعي للشيعة. وساعد أبناء الحكيم (محمد باقر الذي اغتيل في النجف في العام 2003م، وعبد العزيز الذي شارك في مجلس الحكم العراقي الذي أسسته قوات الاحتلال الأميركي) الأميركيين في احتلال العراق، وهم يقدمون لهم المساعدة في إدامته.
استفاد أبناء الحكيم، برعاية ومساعدة من الإيرانيين، من العراقيين ذوي الأصول الإيرانية الذين هربوا إلى إيران في أثناء اشتعال الحرب العراقية الإيرانية، كما استفادوا من الأسرى العراقيين الذين ضعفوا أمام التهديدات الإيرانية أو من الذين طمعوا بمكتسبات مادية وأمنية من خلال تعاونهم مع الإيرانيين، فشكَّلوا حركة سياسية »المجلس الأعلى« وجناحاً عسكرياً تابعاً لها أطلقوا عليه اسم »فيلق بدر« ضموا إليه كل تلك الشرائح التي قمنا بتعدادها قبل قليل.
لقد قطع كل من حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية كل حبال الود مع أي نظام علماني، وبشكل خاص نظام حزب البعث، واختاروا الوقوف في أي خندق معاد له، فارتكبوا الخطيئة الأولى في التعاون مع إيران في الحرب وساعدوها في اختراق الأمن العراقي والسيادة العراقية، وكان آخرها نشرهم الفوضى في جنوب العراق في العام 1991م تحت غطاء العدوان الأميركي، وفيها سقط عشرات آلاف الضحايا من العراقيين في جنوب العراق، اعترف بها محمد باقر الحكيم في وقتها. وللأسف حاولت الأجهزة الإعلامية الأميركية والإيرانية والشيعية العراقية المعادية لنظام حزب البعث في نسبة المقابر التي دُفنت بها الضحايا كمجازر ارتكبها نظام حزب البعث.
إن الخطوة الأولى في ارتكاب جريمة الخيانة مع الإيرانيين ضد أمن وسيادة العراق شجَّعت التنظيمين الشيعيين المذكورين إلى ارتكابها مرة أخرى مع الإعداد الأميركي للعدوان على العراق واحتلاله، وكان موقفهما المعادي من المقاومة العراقية تحصيل حاصل، فملاحقة المقاومين أو قتلهم أو اعتقالهم أو تشريدهم من الجنوب العراقي المحسوب كمناطق نفوذ أساسية لتلك التنظيمات كانت نتائج منطقية لسلوكية لا تردعها تهمة الخيانة العظمى فأنا »الغريق وما خوفي من البلل«.
ب-النخب الشيعية العلمانية العميلة للاحتلال:(أحمد الجلبي وأياد علاوي، وحميد مجيد).
ليس لهذا التيار باستثناء حميد مجيد- تنظيمات معروفة قبل الاحتلال الأميركي للعراق، بل كانوا أفراداً تركوا العراق لأسباب ملاحقات قانونية لا تمت بصلة إلى ما يبررون به هربهم بسبب ديكتاتورية النظام. فأحمد الجلبي هرب إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل وصول حزب البعث إلى السلطة بسنوات، وكان مُثقَلاً بملف قانوني كبير بتهمة سرقات البنوك في كل من الأردن ولبنان. وهناك وقع فريسة لأجهزة المخابرات الأميركية وقصته أصبحت منتشرة بالتفصيل. وقد أسس بعد العام 1992م حزباً دعاه »المؤتمر الوطني العراقي« ليكون رأس حربة للمعارضة العراقية التي تمَّ تجميعها بشكل مشبوه أو بآخر.
أما أياد علاوي، فقد ترك العراق في أواسط السبعينيات هرباً من تنفيذ حكم قضائي صادر بحقه، وفي الخارج وقع فريسة بين أيدي المخابرات الأمريكية واستخدمته في تنفيذ مخططاتها ضد العراق. وأصبحت قصته منتشرة بمعظم تفاصيلها في الصحافة ومواقع الأنترنت.
وتبقى معارضة حميد مجيد متميزة عن معارضة كل من أحمد الجلبي وأياد علاوي. فحميد مجيد شيعي وصل إلى موقع الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي. ولسبب أو لآخر ارتاح في أحضان المخابرات الأميركية بعد أن كان قد انحاز إلى جانب إيران في الحرب العراقية الإيرانية، واستكملها بعلاقاته مع أجهزة المخابرات الأجنبية للتجسس على أمن وطنه وسيادته. وكان مشاركاً في التخطيط والغزو وفي واجهاته الحاكمة. وقد كشف الشيوعيون العراقيون موقعه الحقيقي واتهموه بخيانة مبادئه ووطنه. وللحصول على معلومات وافية عنه، يمكن مراجعة مصادر »الكادر في الحزب الشيوعي العراقي«.
ج-تيار النخب الشيعية الدينية الاقتصادية: (عبد العزيز الخوئي، ومحمد بحر العلوم).
بسبب من ضبابية الموقف من مفاهيم العلاقة بين خيانة المذهب وخيانة الوطن. أو فلنقل في ضبابية العلاقة بين أولوية الانتماء إلى وطن والانتماء إلى الدين أو المذهب، أو ضبابية العلاقة بين مصلحة الوطن ومصلحة الدين والمذهب، وقع العديد من رجال الدين أسرى ضبابية العلاقة مع النظام العلماني الحاكم.
وإذا ما أضيفت لتلك الضبابية الفكرية السياسية الدينية وقوع البعض في دائرة مذاق حلاوة تجميع الثروات في أثناء لجوئهم إلى الخارج، أو أنهم لجأوا إلى الخارج أصلاً للمحافظة على ثروات استولوا عليها بطريقة غير شرعية أمام الدين والقانون، لاستطعنا أن نضع الأنموذجين: محمد بحر العلوم وعبد المجيد الخوئي كرجليْ دين شيعيين- في مصاف المتعاونين مع الاحتلال طمعاً إما بحماية استيلائهم على ثروات تعود للشعب العراقي عامة وللشيعة خاصة، أو استغلال الفرصة من أجل تكديس المزيد من الثروات في المشاركة بذبح الوطن لاحتلال موقع وسيط سياسي أو تجاري بين الشركات الكبرى التي ترعى الاحتلال ومصادر الثروات العراقية.
ومن الجدير بالاهتمام أن الصف المذكور في البند (ب)، والمذكور في البند (ج) هم من المحسوبين على الشيعة. و لا بُدَّ من أن يكونوا هم الأحصنة الذين تثق بهم قوات الاحتلال أكثر من غيرهم لأنهم من غير المحتَضَنين من قوى سياسية أخرى قد تتعارض مصالحها في يوم ما لعوامل أو متغيرات مع مصالح الاحتلال. ولهذا أحاط الصفان (ب) و (ج) أنفسهم بأغطية تنظيمية من المنتفعين والذي يظهرون بهم أنهم ذوو أغطية شعبية في المجتمع العراقي.
الثاني: التيار الذي يسبح في مساحة الفضاء بين الاحتلال والمقاومة:
أ-تيار النخب الاقتصادية والدينية ذات الجذور القومية العربية ويمثِّله مقتدى الصدر:
من مميزات هذا التيار أن من أهدافه المحافظة على الهوية العربية لاتجاهاته في مواجهة الاتجاهات الإيرانية التي تعمل على تنصيب نفسها وصية على الشيعة. ولم تكن هذه المظاهر خاصة بين هذا التيار من الشيعة العراقيين والنظام الإيراني، بل هي ظاهرة أساءت علاقة إيران مع بعض المرجعيات الشيعية العربية الأخرى.
وإن لم يكن هذا التيار حاسماً موقفه إلى جانب المقاومة العراقية فهو لم يقف موقف المهادن للاحتلال الأميركي، بل وصلت حالة الغليان بينهما إلى مواجهات عسكرية عديدة دامت أسابيع منع فيه مقاتلو جيش المهدي (الذي أسَّسه مقتدى الصدر كممثل لهذا التيار) قوات الاحتلال من الدخول إلى مدينة النجف.
فمن موقفه الوسط الذي لم يرتق إلى الموقف الاستراتيجي في اختيار المقاومة المسلحة إلاَّ أن تطور الأمور ستجعله يقترب من إعلان هذا الشعار خياراً وحيداً له في الموقف من الاحتلال. وإن كانت بعض القوى المؤثرة فيه مترددة باختيار المقاومة المسلحة فإن بعض العوامل كما نحسب- هي ما تشده إلى تأخير إعلانه تأييد المقاومة المسلحة وممارستها، ومن أهمها:
-ليس لهذا التيار عمق فكري استراتيجي، بل تتمثَّل فيه ضبابية الرؤية في الانشداد إلى المذهب أو الانشداد إلى الوطن. وإن كانت القاعدة الواسعة منه تنشد الدفاع عن الوطن بحكم العرف في تجربة العيش المشترك الطويلة إلاَّ أن البيئة الثقافية التي تُغرق الشيعي الأمي بآمال الخلاص في الآخرة عن طريق المذهب، تُحدِث الكثير من التشويش أمام الشيعي القليل الثقافة في حسم خياراته الصحيحة تجاه الدفاع عن الوطن.
-إن من يمسك بالوضع الأمني في المناطق الشيعية الآن هو الذي يستطيع التأثير أكثر على مواقف الكتلة الشعبية الأمية الطيبة وذلك بسبب امتلاكه قوة الحماية الأمنية، فيغطي بها من يشاء ويرفعها عمن يشاء. وفي ظل وضع أمني فالت يستقوي الكثيرون بمن يؤمن لهم الحماية الذاتية. هذا بالإضافة إلى أن من يملك الحماية الأمنية وُضعت في يده بعض وسائل لقمة العيش. ولأن الجدار الإيراني قد دخل بزخم أمني سياسي مادي إلى المناطق الشيعية فإنه يترك تأثيرات لا بأس بها في عقول الكثير من عامة الشيعة.
لكن الشيعي العراقي -من المحسوبين على تيار الوسط- ينشدُّ أكثر باتجاه وطنيته وقوميته إذا رُفعت عنه السيوف الأمنية أو المعيشية المسلطة على رقبته. والدليل على هذا وجدنا أنه عندما دعا مقتدى الصدر إلى مقاومة المحتل، وعندما قام بتشكيل تنظيم عسكري (جيش المهدي) استطاع أن يجذب إلى جانبه كتلة شيعية كبيرة شاركت في مقاومة الاحتلال وعملائه من التنظيمات الشيعية معاً. وقد دفعت الكثير من التضحيات في الأرواح والأرزاق.
ستقترب حسب تقديرنا- مواقف هذا التيار أكثر فأكثر من المقاومة المسلَّحة وممارستها، وبدأت فعلاً- بتأمين البيئة الصالحة لاحتضان من يقاتلون قوات الاحتلال. وستزداد المواقف اقتراباً من المقاومة كلما عجز الاحتلال عن تأمين الأمن والرغيف للملايين العاطلة عن العمل من جهة، وكلما اطمأنَّ إلى أن ساعد المقاومة أصبح أقوى وأكثر ثباتاً من جهة أخرى.
ب-السيستاني والحوزة العلمية الشيعية العربية:
لا يزال السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى، من المنتسبين إلى الفكر الشيعي التقليدي أي الفكر الذي لا يجيز للشيعة العمل على بناء دولة شيعية قبل ظهور المهدي المنتظر. وقد فاجأته المتغيرات التي فرضها الاحتلال بعد إسقاط السلطة السابقة. وكان السيستاني، كما المرجعيات الشيعية التي تتمسَّك بالأصول المعرفية الشيعية التقليدية، متأقلماً مع قوانين السلطات السابقة للاحتلال، بحيث أن المرجعية لم تكن بحاجة إلى اتخاذ مواقف سياسية، بل ظلَّت تمارس واجبها التقليدي في الفتوى بالشأن الديني للمذهب الشيعي. ولما دخل عامل الاحتلال كمتغير جديد جرَّ معه الكثير من التداعيات ومن أهمها أنه جعل المرجعية الشيعية في مواجهة مباشرة مع مرجعيات التجديد الإيرانية التي تدين لفكر »ولاية الفقيه« بالطاعة والاذعان وتنفيذ تكليفاتها الشرعية، خاصة وأنها دخلت الساحة العراقية بقوة الأمن والسلاح والمال بعد الاحتلال، بينما كان نشاطها محظوراً في السابق، ولم تكن تشكل عبئاً مباشراً على المرجعية الشيعية التقليدية.
منذ تلك اللحظة ظهرت للعيان، وبشكل خاص لدى السيستاني ، حجم التناقضات في الجسم المذهبي الشيعي. وبعد أن كان يلعب دور الحكم في حسم الفتوى ذات العلاقة بشؤون المذهب الداخلية أصبح عرضة للخصومة والتشكيك بمرجعيته من قبل هذا التيار أو ذاك. فكان يمر، وهو لا يزال يمر، بأكثر المواقف حرجاً. فهو يعاني من عدة من الإحراجات: الصراعات بين واقع التقليد والتجديد على الصعيد الفكري بين تحريم العمل السياسي أو تحريم الابتعاد عنه، والصراعات حول تسليم المرجعية للإيرانيين أو الدفاع عن موقعها العربي، والصراعات حول الولاء للمذهب والوقوف إلى جانب الاحتلال، أو الولاء للوطن الذي يترنَّح تحت ضغوط أكثر من عامل خارجي يعمل على استغلاله والاستفادة من تمزيقه.
كثيرة هي العوامل التي تضغط على موقع السيستاني كمرجعية دينية، وجدت نفسها في وسطها وهي لم تستعد لمواجهة هكذا مشاكل بالنوع والكمية. ونحن نرى أنه ليس بمقدور المرجعية أن تجد أجوبة واضحة وحاسمة لهذا الكم من المشاكل وذلك النوع من الانقسام العامودي في الصف الشيعي العراقي. بل ستظل المرجعية تمارس دور المجاملات والتوفيق بين شتى التيارات والمشاكل إلى أن يثبت وجه واضح لما سترسو عليه الحالة العامة للعراق.
وفي ظل غياب الحسم في وضع أسس معرفية شيعية متجددة تجيب على كل الإشكاليات التي تعيق انتقال الفكر الشيعي من التقليد إلى مواجهة متغيرات العصر، ومن أهمها دخول القومية كمفهوم فكري وسياسي، نرى أن مواقف المرجعية الشيعية ستظل تدور في دوامة الفعل ورد الفعل، أي ما تثيره التناقضات في التكوين الشيعي من خلافات حادة في هذا الجانب أو ذاك.
أما رؤيتنا حول الميناء الذي سترسو عليه سفن التناقضات الشيعية، وبشكل خاص المرجعية الشيعية التي يمثلها السيستاني اليوم، أو من يأتي من بعده، في ظل واقع العراق تحت الاحتلال فنتوقَّع ما يلي:
كلما ازدادت أخطاء الاحتلال، وهي ستزداد حتماً لأسباب عديدة، ستترافق مع ارتفاع موجات النقمة الشيعية ضده. وستقود حالة التراكم تلك إلى زيادة في حجم الشعور الوطني لدى القواعد الشيعية الواسعة، باستثناء تلك التي لن تتضرر من أخطاء الاحتلال بشكل مباشر. والزيادة في عوامل النقمة ستجعل الشيعي أكثر قرباً من المقاومة العراقية، أو على الأقل أكثر قرباً من الزعامة الشيعية التي تقف في موقع الأكثر رفضاً للاحتلال. وفي مثل تلك الحالة ستضعف مواقع المؤيدين للاحتلال وستكون المرجعية في الموقع الذي عليه أن ينحاز إلى الصف المقاوم، ويصبح الأقرب إلى إصدار الفتوى بالجهاد.
ومن هنا نحسب أن التجربة العراقية في ظل البيئة الفكرية التي لم تحسم لمن تكون أولوية الولاء (للمذهب أم للوطن)، ستبقى إشكالية ماثلة في ذهن المرجعيات الدينية الشيعية. فهي لن تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي تقف في موقع المحايد بين الوطن والمذهب، وسترى نفسها معنية ومسؤولة عن التفتيش عن حلول لها. وإلا ستكون النتيجة في أن التجديد في الفكر السياسي الشيعي الذي دخل بواسطة حصان »ولاية الفقيه« سيبقى معرَّضاً للقصور الشديد في معالجة طبيعة العلاقة بين المذهب والدين من جهة، والعلاقة بين الدين والقومية من جهة أخرى.
وإن كان من خلاصة نأمل التركيز عليها في المستقبل، فهي أن الكيان الشيعي في العراق سيتعرَّض لاحقاً إلى المزيد من التمزق إذا لم يجد الفكر الشيعي حلولاً لإشكاليات عديدة نبتت بذورها منذ عشرات السنين ولم تجد حلاً لها، ومن أهمها:
مشكلات التقليد، والمشكلات الإضافية التي أوجدها التجديد. وإن لم تكن تلك سمات خاصة تواجه الفكر الشيعي بمفرده بل هي إشكاليات موضوعة في وجه كل الحركات الدينية السياسية، بل وفي مواجهة الفكر الديني بشكل عام، خاصة وأنه يواجه متغيرات حديثة على صعيد التكوين السياسي للدولة بشكل عام. وذلك بعد أن انتهى عصر الدول المفتوحة الحدود، وانتقلت البشرية إلى عهد الدول ذات الحدود والمحمية بالقوانين والشرائع الدولية.

الثالث: التيار المقاوم للاحتلال

بداية لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الوسط الشيعي كان الأكثر قبولاً للفكر السياسي الحديث من أي وسط آخر. والسبب أن نظرية المعرفة الشيعية التقليدية كانت قد أغلقت أبواب العمل السياسي في وجه المنتسبين للمذهب الشيعي، وأساسها نظرية الانتظار. ولما جاءت نظرية »ولاية الفقيه« لتفتح تلك الأبواب، فإن السماح بدخولها كان مرتبطاً بالفقهاء دون غيرهم. وتقوم ولاية الفقيه على قاعدة أن الفقيه هو نائب للإمام الغائب. ولما كان من أهم صفات الإمام العصمة عن الوقوع في الأخطاء، كانت من شروط انتخاب الفقيه أن يكون عالماً وعادلاً ليستطيع تطبيق الشرائع الإلهية. ولما كان الفقيه نائباً للإمام المعصوم، أصبحت الفتوى أو الرأي الذي يصدر عنه بمثابة »تكليف شرعي« أي »تكليف إلهي«، فمن يعصى التكليف كأنه عاصٍ لأوامر الإمام، ومن يعصى الإمام فهو معصية للنبي، ومن يعصى النبي فكأنه يعلن العصيان على الله. لذا يحتل الفقيه كرسي النطق باسم الإمام والنبي والله. فأصبح التجديد يفرض قيوداً أكثر على المنتسبين للمذهب الشيعي.
من استحالة في فكر الانتظار إلى استحالة أخرى في نظرية ولاية الفقيه، لم يشعر الشيعي العادي أنه أمام مشكلة شديدة الخطورة على مجرى حياته اليومية. فمن مستقيل عن واجباته وحقوقه الدنيوية في حرية العمل السياسي إلى مصلوب على صليب الرأي الشديد المركزية عند الفقيه، يسترخي الشيعي المنقوص الثقافة ويتآكله الكسل الذهني والعقلي فيضع مصيره في الدنيا والآخرة في يد الفقهاء الذي يعدون الملايين من الناس بأن الخطأ الذي يرتكبونه لن يُحاسبوا عليه في الآخرة، بل هم (أي الفقهاء) من يتحمل مسؤولية الحساب عن الآخرين. وإذا ما أضفنا المميزات التي يكتسبها الفقيه من أصول الفقه، هو أنه لن تتمَّ محاسبته على الإطلاق عن خطئه في اجتهاده لأن »من اجتهد فأصاب، له أجران؛ ومن اجتهد فأخطأ، له أجر واحد«. فهو لن يخشى الوقوع في الخطأ لأنه مأجور في كل الأحوال. فالأمر في غاية السهولة لكل من الفقيه الوالي والشيعي الذي يقلِّده.
أ-التيار العلماني وليد للأحزاب القومية والماركسية المؤيد للمقاومة العراقية والمشارك فيها.
سواء كانت أسس المعرفة الشيعية تقليدية أم تجديدية فهي عرضة للثغرات والنقد من النخب الشيعية المثقفة، ممن تحمَّلت مهمة مسؤولية أفعالها الذاتية واجتهادها الذاتي. ولما كانت النخبة عددياً هي الأقل فإن سرعة التغيير سوف تكون بطيئة، والوسط الذي سيقود التغيير سيكون الأقل مساحة. وهكذا ابتدأت تجربة الأحزاب العلمانية في العراق في الوسط الديني عامة، ومنه الوسط الشيعي بشكل خاص. ولما تعددت الأحزاب العلمانية، ساد التنافس الفئوي بينها على حساب قضايا التغيير الكبرى. فتحكَّمت الفئوية بعلاقاتها التي كانت على الأغلب الأعم- علاقات توتر واحتراب. فكان المستفيد الأكبر هي التنظيمات الدينية السياسية لأنها كانت تغرف من بحر، في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الحديثة تنحت من صخر.
كانت حالة الاحتراب المتبادَل بين الأحزاب تتم على حساب رسالتها في حفر البنى الثقافية الشعبية السائدة ونقدها والتجديد فيها. وهذه مسألة من أهم مهمات أي نظام ديموقراطي مستقبلي ستفرزه المقاومة العراقية لتأخذه بعين الاهتمام القصوى من أجل المساعدة في بناء ثقافة قاعدية شعبية على أسس جديدة تتناسب مع مرحلة الدولة القومية الحديثة.
وبالإجمال، على قاعدة التمهيد أعلاه، فوجِئت الحركة اليسارية، قومية وماركسية، بما حصل في العراق وخاصة في البيئة الشيعية. ووجدت نفسها أمام تيار شعبي واسع واقع تحت الاحتلال مجرَّد من معرفة ثقافة وطنية معمَّقة. ولكن ما أسهم في مهمتها هو أن القاعدة الثقافية كانت قد اكتسبت بحكم تجربة التعايش المشترك بين الأديان والمذاهب الكثير من الأعراف الوطنية، وتعمَّق الشعور الوطني في وعيها.
وقد تجاوزت بعض التيارات العلمانية العراقية خصومات الماضي وانخرطت في ورشة المقاومة الوطنية العراقية، وتناسقت جهودها وتكاملت في معظم الحقول الداعمة لرفض الاحتلال ومقاومته.
لقد حصل فرز بين القواعد التي تدين بثقافتها للأسس الدينية العامة وتلك الحركات الدينية السياسية التي تواطأت مع الاحتلال وتعاونت معه، تخطيطاً وإعداداً وتنفيذاً. وكما أنه لم يكن للعمالة مع الاحتلال لون سياسي أو مذهب ديني، لم تكن المقاومة العراقية ذات لون واحد أو دين واحد. لذا نرى بين صفوفها البعثي والناصري والشيوعي أو القوى والشخصيات ذات الثقافة القومية والماركسية. كما نرى بينها الشيعي والسني والمسيحي، كما نرى العربي والكردي والتركماني والآشوري
فإذا كانت الحركات السياسية الدينية صافية بانتسابها لمذهب واحد أو دين واحد، كما أن الحركات السياسية العرقية صافية بانتسابها إلى عرق واحد، فإن الحركات القومية والوطنية العلمانية تضم إليها شتى الأطياف والألوان من الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي. ولهذا من الصعوبة بمكان أن ننسب البعثي أو الشيوعي أو الناصري إلى مذهب أو دين أو عرق. ولهذا السبب نرى من الصعب أيضاً أن نتكلم عن بعثي شيعي أو سني عربي أو كردي أو تركماني أو آشوري.
أما فيما له علاقة بدارسة عن الشيعة فإننا نرى أن التيار المقاوم في البيئة الشيعية، هو من الملاحَقين والمطاردين من قبل الاحتلال وعملاؤه، اغتيالاً واعتقالاً وتشريداً. أما تعدادهم فيصل إلى عشرات الآلاف بين عدة من الملايين. وإذا كان البعض منهم يقاومون فإنما تتم مقاومتهم بغير غطاء شعبي يستطيع تأمين سبل الحركة الآمنة، لكثافة انتشار الميليشيات المحلية العميلة التي تعفي مخابرات الاحتلال من القيام بعبء ملاحقتهم فهي وكيلة عنها لإلحاق شتى صنوف التضييق حولهم وحول عائلاتهم. وإذا كانت عمليات المقاومة قليلة في تلك البيئة، على الرغم من نوعيتها وتأثيرها، فلا يعني أن أعداد من يريدون أن يقاتلوا بالقليل،وسوف تتكاثر تلك العمليات كماً ونوعاً كلما باتت البيئة أكثر ملاءمة لحركة المقاتل، وتتوفَّر بفعل عاملين: الأول مدى الضعف المتوقَّع الذي سيلحق بالميليشيات العميلة التي تساعد احتلالاً لا يوفِّر الأمن والرغيف من جهة، ومدى تعميق مأزق الاحتلال ومأزق عملائه من جهة أخرى. وما سوف يساعد على تعميقهما هو أن تراكم حالة الاحتقان الشعبي في الشارع الشيعي في الجنوب سيزيد من مساحة احتضان المقاومين ومساعدتهم على إيجاد بيئة أمنية كفيلة بتكسير العوائق من أمامهم.
ب-مرجعيات دينية شيعية ومقلِّدوها: (الإمام الخالصي).
كما أن الصف العميل للاحتلال ضمَّ إليه صنوفاً من شتى الأطياف السياسية والدينية والمذهبية الدينية، ضمَّ صف المقاومين إليه تنوعات تنتمي إلى مذاهب دينية مختلفة. وهنا، ولكي لا ننخرط في تفاصيل التنوعات تلك، ولأن دراستنا ذات علاقة بالشيعة سنولي اهتمامنا ببعض نماذج الفقهاء الشيعة من المؤيدين للمقاومة العراقية والداعين إلى إسنادها ومشاركتها بشتى مستويات الدعم. ويأتي الإمام الخالصي من أولئك الفقهاء الشيعة الذين حسموا طريق المعرفة الشيعية باتجاه مواءمتها مع متغيرات العامل القومي والوطني. وهو ممن توصَّلوا إلى أن نصرة المذهب أو الدين لا تنفصل عن نصرة الوطن وحمايته، ففيه الملاذ الآمن لحرية ممارسة العقائد الدينية على قاعدة تكامل وتضافر عوامل العيش المشترك بين شتى الأطياف الدينية التي تسكن على أرض واحدة، ذات حدود واحدة، وقوانين واحدة تحمي حرية العيش المشترك الآمن والحر لشتى تلك الأطياف.

ليست هناك تعليقات: