الخميس، فبراير 25، 2010

عوامل القوة والضعف في الاستراتيجية الأميركية باحتلالها العراق

-->
عوامل القوة والضعف في الاستراتيجية الأميركية باحتلالها العراق
 

إذا كنا ننظر إلى عوامل القوة من زاوية الإمكانيات المادية والعسكرية فمن السذاجة أن نحسب بأن هناك قوة تضاهي قوة الولايات المتحدة الأميركية أو تقترب من حدودها أو التفكير بامتلاك ما يوازيها في المدى المنظور. لذلك نرى أن الانخراط في مشاريع الإعداد للحصول على ذلك التوازن لهو ضرب من الوهم. خاصة وأن أمامنا مثال لم يمض عليه حين من الزمن لكي ننساه أو لا نأخذه بعين الاعتبار. وليس هناك أوضح من مثال مرحلة التنافس الاستراتيجي التي انخرطت فيها منظومة الدول الاشتراكية المعروفة بالاتحاد السوفياتي سابقاً في سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلغت أوجها في أواخر الستينيات من القرن الماضي. فلم تكن نتائج التنافس إلاَّ إغراق الاتحاد السوفياتي بالكثير من الأعباء المادية التي عجز عن تحملها وبانت مظاهر عجزه منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي مما أجبر الاتحاد –في تلك المرحلة- إلى الخضوع لمنطق الحرب الباردة، أي إدارة الصراع بين القوتين الأعظم على طريقة الحروب بالواسطة، إلى أن بلغت مرحلة حرب النجوم مداياتها القصوى، مما اضطر الاتحاد السوفياتي إلى التراجعات المنظمة فبلغت مدياتها القصوى في أوائل التسعينيات حين انهارت منظومة الدول الاشتراكية وتفسَّخت وانفتحت أبواب دولة «الستار الحديدي» أمام الغزو الرأسمالي الأميركي كما انفتحت أسواقه أمام زحف «اقتصاديات السوق» الأميركية.
إن استخدام مقاييس القوى العسكرية كآليات نكيل بها نتائج الصراع ضد أقوى قوة رأسمالية في العالم يشكل عائقاً مأساوياً وسودادوياً أمام الشعوب التي ترمي إلى التحرر والاستقلالية، تلك الشعوب التي تريد أن تسهم في بناء عالم تعيش فيه بأمان واطمئنان. تطمئن فيها إلى حماية سيادتها على قرارها السياسي المستقل كما تطمئن على سيادتها الوطنية، أرضاً وثروات طبيعية. وعلى حماية حدودها الوطنية من الغزو والعدوان.
فهل ما طرحه أرباب الإيديولوجيا الإمبراطورية الأميركية حول نهاية التاريخ المتمثل بسيادة «ديموقراطية رأس المال» يشكل الحقيقة النهائية التي على الشعوب أن تخضع لها وتلتزم بها؟
وهل تشكل تلك الدعوات نهاية لصراع الشعوب المضطهدة ضد مضطهديها والمهيمنين على قراراها وسيادتها وثرواتها؟
وهل تلك الدعوات إلاَّ لزرع الإحباط في نفوس تلك الشعب في حماية حقوقها فتستسلم إلى منطق «الحق للأقوى»؟
وهل تلك الدعوات إلاَّ انتصار لمرحلة إلغاء القيم الإنسانية من قاموس المعرفة الإنساني، ومن خلالها تتحول كل نظريات السعادة والمجتمع السعيد إلى استسلام للضعفاء أمام إرادة الأقوياء؟
تلك أسئلة لن تلقى جواباً يحمل اليقين والتفاؤل أمام مليارات البشر الطامحة إلى نيل حقوقها في مجتمع عالمي إذا ظلت آليات التفكير السابقة سائدة. فما هو الحل؟
ليست آليات قياس صراع التناقضات التقليدية إلاَّ مثاراً للمزيد من التشاؤم واليأس. والحل يكمن في تغيير تلك الآليات. وحول ذلك سنحاول –من خلال دراسة الأنموذج العراقي في الصراع كآخر تجربة تخوضها قوى التحرر في العالم- أن نلقي الضوء حول ما نراه تجديداً في تلك الآليات.
أولى النتائج التي نستخلصها، في محاولة لتحديد عوامل القوة في الاستراتيجية الأميركية، لا ينعزل عن أن أميركا قد بنت أسس التفوق المادية والعسكرية بما يجعلها أهم العوامل التي من غير الممكن توفيرها لأية دولة في العالم. وإذا كانت تلك البنى قد أمنَّت لها وسائل القوة المطلقة فلا يعني هذا اعتزالاً عن مواجهتها، وتجميد قوانين صراع المتناقضات، لأن في الاستسلام لها إنهاء لحركة التاريخ، وهو استجابة لأوهام الإيديولوجيا الأميركية التي تعمل لإنهائها عند حدود إيديولوجيتها.
بداية، نرى أن الآلة العسكرية النظامية لن تحكم الحجر والبشر إلاَّ من خلال بناء أنظمة سياسية وأمنية تساعدها على الإمساك بإرادة الشعوب. فالآلة العسكرية القوية تحمل عوامل ضعفها أيضاً. فالآلة العسكرية المتطورة –في مقاييس الحروب النظامية- تنتصر على آلة أخرى أقل تطوراً على شرط أن تكون ظاهرة للعيان. أما الآلة العسكرية مهما بلغت من التطور، فلن تصمد في مواجهة غير مباشرة يقوم بها بشري يظهر فجأة مع آلة خفيفة تخترق دفاعات الآلة المتطورة ثم يختفي.
لا نقصد بالآلة الأقل تطوراً الجزء المادي فيها فحسب، وإنما التكامل بينه وبين الجزء الثقافي هو ما نقصده. فالبنية الثقافية تشمل الإعداد الفكري والإيديولوجي والنفسي للإنسان حول قيم إنسانية ووطنية على قاعدة أن الحياة بغياب تلك القيم لن تكون مجدية في جانبيها المادي والروحي معاً. ومن جملة تلك القيم «رفض الاحتلال» و«مقاومته» لأنه يتناقض مع حرية الشعوب وإرادتها في العيش بكرامة. ولأن آليات الدفاع عن تلك القيم لا يخضع لعوامل الصراع المادية، بل يخضع أولاً إلى مدى اندماج الثقافة التحررية في نفس الإنسان، وقناعته بإمكانياته، مما يدفعه إلى ابتكار الكثير من الوسائل الهادفة للدفاع عن قيمه. فالحافز للدفاع، قبل أي شيء آخر، هو ثقافي نفسي لا بدَّ من أن يتصِّف بدرجة عالية من الإيمان بقضيته. وبإعطاء عامل التكوين الثقافي أهميته، تبدأ عوامل القوة التي تتميز بها الآلة العسكرية، كعامل قوة للجيش المحتل، بالانحدار نحو نقاط الضعف.
إن إرادة المقاوم «الشبح»، مستخدماً السلاح الشخصي (وقد يكون أقل الأسلحة نوعية تكنولوجية)، هي آلية جديدة تستخدمها الشعوب الضعيفة في مواجهة عوامل القوة الإمبريالية. وحيث إنها أثبتت نجاحها في الكثير من ثورات العالم، ومنها ثورة كوبا وفييتنام والجزائر ولبنان وفلسطين، وأخيراً –وليس آخراً-العراق، فهي تمثل تلك الآليات الجديدة التي يمكن إدخالها في إعادة التوازن العسكري الاستراتيجي بين القوي والضعيف. وهذا العامل بدوره يمكن دراسته من خلال آخر تجربة في الصراع بين الشعوب القوية بآلتها العسكرية والشعوب التي لا تمتلكها والتي لا تستطيع أن تمتلكها إلاَّ إذا كانت لها إمكانيات الولايات المتحدة الأميركية.
إن التجربة الماثلة أمامنا، هي تلك التي يخوضها العراقيون الآن في مواجهة الاحتلال الأميركي منذ نيسان من العام 2003م. وتلك التجربة تتميز بما لم تمتاز به الثورات التي سبقتها، ومن أهمها: التطور الهائل الذي أحرزته القوات العسكرية الأميركية والذي كان غائباً في التجارب الأخرى ومنها الحرب في فييتنام من جهة، والحصار الملفت للنظر الذي تواجهه المقاومة العراقية من جهة أخرى. أما تلك المميزات والعوامل فلم تلعب أي دور مؤثر في فعالية تلك المقاومة التي أعطت نتائج سريعة وكبيرة وملموسة في إيقاع عوامل القوة الأميركية في مأزق لم تستطع إخفاءه.
إذا كان مأزق الولايات المتحدة الأميركية قد ظهر في أوضح صورة له في العراق إلاَّ أنه لا ينفصل على الإطلاق عن مضمون المشروع الإمبراطوري الأميركي وروحه، باتجاهاته وأهدافه، بوسائله وأساليبه.
ولهذا نرى أن نطل على عوامل الضعف فيه كمشروع نظري إيديولوجي أولاً، وبالتالي على تلك العوامل التطبيقية ثانياً. كما نرى أن أفضل إطلالة وأوضحها هو النظر إليها من زاوية العدوان على العراق واحتلاله.
طبيعة المشروع الأميركي الراهن واتجاهاته:
لا خلاف حول أن الإيديولوجيا الأميركية هي إيديولوجيا الرأسمالية، فقد لعبت في تكوين تلك الإيديولوجيا عوامل «إيديولوجيا الغزو الاستيطاني» الذي نفَّذته النخب الاقتصادية الأوروبية منذ القرن الخامس عشر عندما قامت بغزو القارة الأميركية. ولأن تلك الطبقة احتكرت المؤسسة السياسية منذ تلك الفترة، فقد طبعت إيديولوجيا السلطة السياسية بطابعها وحكمت أميركا على منوالها، وتلك الإيديولوجيا –بحكم التطور التاريخي- ظلَّت محكومة بإيديولوجيا رأس المال من جهة، ومطبوعة بإيديولوجيا الغزو لتوسيع مساحة أكبر لاحتكارات الشركات من جهة أخرى. فالبناء السياسي والاقتصادي الراهن هو وليد إيديولوجيا تجربة غزو الرجل الأبيض الأوروبي للقارة الأميركية. فإيديولوجيا الغزو –طمعاً بالاستيلاء على أرض جديدة ذات ثروات طبيعية- وجدت ضالتها في تجربة تكوين الولايات المتحدة الأميركية. وعلى طريقة احتلال الأرض وبناء مؤسساتها السياسية والاقتصادية كانت الإيديولوجيا الأميركية أعلى قمم الرأسمالية في العالم. ومن بناء تلك القوة أخذت الولايات المتحدة الأميركية تحتل مركز الصدارة في قيادة العالم الرأسمالي منذ الحرب العالمية الأولى. وبفعل تراكم عوامل الضعف في بنى الرأسمالية الأوروبية –التي هي أكثر عراقة وأعمق تاريخية- ازدادت عوامل تأثير القرار الأميركي في نسج وتكوين الإيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة. لذا أخذت، شيئاً فشيئاً وخطوة خطوة تمد شباكها في العالم وتصطاد كل القوى الكبرى وتضعها في سلتها، لذا –ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- أصبحت الولايات المتحدة الأميركية تمثل رائدة للرأسمالية العالمية.
وهنا، يجب أن لا تخدعنا طبيعة الديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركية من خلال وجود حزبين. فالحزبان لا ينتميان إلى إيديولوجيات متناقضة بالجوهر، بل تجمعهما إيديولوجيا الرأسمالية، وإذا أنتجت تغييراً فلن يبتعد عن التناوب في رئاسة الإدارة السياسية وليس في المضمون الإيديولوجي. إذن، لا خلاف حول أن الحزبين الرئيسيين –الديموقراطي والجمهوري- هما المعبران عن الإيديولوجيا الرأسمالية الأميركية، فكل منهما يهدف إلى احتواء العالم وتوظيفه لخدمة الرأسمال الأميركي، وما تناوب السلطة بينهما إلاَّ مظهر من مظاهر التناقض بين تيارات الرأسمال العالمي. كما أننا نرى في داخل الإيديولوجيا الرأسمالية تناقضاتها الخاصة. فالدول الرأسمالية تعزز عوامل قوتها الذاتية من أجل التسابق على الأسواق الاقتصادية، ثروات طبيعية ومستهلكين للسلع. وتلك هي التناقضات التي يُعوَّل عليها في اختراق الجدار الرأسمالي فتشكل عوامل الضعف الأولى أمام الخارج. ويبدو أن تنازل دول نادي المنظومة الرأسمالية لقائدها الأميركي عائد إلى موازين القوى العسكرية الاستراتيجية، ففي ميدان التسابق بينها لا يمكن لأحد في تلك الدول من يستطيع المزاحمة والانتصار في الصراع بين مصالح تلك الدول.
وهنا يمكننا أن نرصد مظهرين من مظاهر التناقض في داخل التحالفات الرأسمالية، ونحن نتطرق إليها لأنها تخدمنا في تحديد أكثر وضوحاً لمظاهر الضعف في المشروع الأميركي:
المظهر الأول: واقع التناقض بين تحالف أصحاب الشركات الأميركية، ويظهر من خلال الجدل الواسع بين إيديولوجيا الأمة الأميركية القوية والإمبراطورية الأميركية القوية.
في داخل كل تجمع رأسمالي، على القاعدة الوطنية أو تشكلات الدولة الرأسمالية المحصورة الحدود الدولية، تناقضات بين أصحاب المصالح الرأسماليين، ففي داخل الكارتلات الرأسمالية الوطنية الأميركية حالات من التناقض ذات السمات الخاصة تعمل فيها المؤسسات الكبرى على احتواء المؤسسات الصغرى والهيمنة عليها. تلك الحالة برزت في أوضح صورها في العقود الأخيرة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. والمتابع لطبيعة الجدل الدائر في داخل البيت الثقافي والمعرفي الأميركي يرى أن هناك بذوراً من التناقضات حول استراتيجيتين:
الأولى وتتمحور حول بناء الأمة الأميركية القوية التي عليها أن تعمل على احتواء العالم ومصادر ثرواته من خلال اللعبة التقليدية في لعبة التنافس الحر بين الشركات الأميركية نفسها، أو التنافس بين تلك الشركات من جهة والشركات في دول العالم غير الأميركية من جهة أخرى.
أما الثانية، وهي التي تمثلها إيديولوجيا أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، فتتجه نحو تأسيس الإمبراطورية الأميركية حسب قواعد الغزو العسكري والاحتواء القسري. تلك الاستراتيجية التي أخذت تعد نفسها وتحضِّر الأجواء لتنفيذ إيديولوجيتها منذ هزيمة الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الفييتنامية في العام 1973م. وهي تلك الطبقة نفسها التي كانت وراء غزو فييتنام، وحمَّلت فشلها إلى الحركة اليسارية العالمية بالتعاون مع حركة يسارية أميركية كانت ناشطة في تلك المرحلة، لذا تضمَّنت إيديولوجيا أصحاب الحلم الإمبراطوري حقداً خاصاً على حركة التحرر العالمية من جهة واستخدمت كل الوسائل من أجل اجتثاثها من المجتمع الأميركي من جهة أخرى.
لم تكن معركة الانتخابات بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في العام 2000م إلاَّ أحد مظاهر الشبق اليميني الأميركي للوصول إلى رئاسة الإدارة الأميركية لأنها اعتبرت أن مرحلة التمهيد لمشروعها الإمبراطوري قد اكتملت، ولم يبق أمامها إلاَّ أن تبدأ بالتنفيذ. فكانت إدارة جورج بوش هي تلك الفرصة المتاحة لتصدير أميركا إمبراطورة على العالم بقوة الآلة العسكرية وقوة الإيديولوجيا التي اكتمل نضجها واكتملت عوامل إنجاحها.
المظهر الثاني: خارجي وهو حالة التفسخ الواضح بين منظومة دول النادي الرأسمالي:
وما حالة الافتراق الواضح في المواقف حول غزو العراق بين بعض دول أوروبا والإدارة الأميركية إلاَّ أكثر الأسباب وضوحاً. فإذا كان تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية يعمل على احتواء الشركات الأميركية الأقل حجماً من الشركات التي تدعمه وتؤيده، فكم يكون الأمر واضحاً أمامنا في تشخيص طبيعة العلاقة بين تلك الشركات مع شركات دول العالم الرأسمالي الأخرى؟
ولما لم يكن في مشروع المحافظين الأميركيين الجد ما يمكن إخفاؤه، شعرت منظومة الدول الرأسمالية بالمخاوف على مصالحها. وكان من أكثرها انتباهاً واهتماماً ومتابعة وممانعة هي فرنسا وألمانيا. ولذلك كانت أهم مظاهر ممانعتها وضوحاً في القضية العراقية. لكن إدارة المحافظين الأميركيين الجدد لم تأخذ عوائق الممانعة الأوروبية على محمل الجد، بل كانت عازمة على تنفيذ مشروعها معتمدة على إمكانياتها الذاتية. لكن محاولتها –قبل احتلال العراق- كانت تهدف إلى الحصول على غطاء شرعي أممي فقط، فأما الإمكانيات العسكرية والمادية فلم تكن مما يعيقها فهي تمتلكها بما يحقق لها النجاح في مراحل الاحتلال الأولى، أما بعدها فقد خدعت نفسها وخدعت العالم بأن الاحتلال لن يكون إلاَّ نزهة من بعدها تعود إلى محاسبة الذين امتنعوا عن تغطية عدوانها ومساءلتهم. كما أن الثروة النفطية في العراق ستكون ملك يديها وتعوض من عائداتها ما دفعته من نفقات الغزو الأولى ومن بعدها لا يمكنها تعداد الفوائد التي ستجنيها على شتى الصعد، وهي وإن كانت الفوائد الاقتصادية الأكثر جذباً لشهية الرأسمالية الأميركية إلاَّ أن لها فوائد سياسية وعسكرية وأمنية كثيرة، ليس أقلها تحقيقاً لإمبراطورية أميركية تحكم العالم مباشرة وليس بشكل غير مباشر.
لقد راهنت إدارة «القرن الأميركي الجديد»، أو إدارة المحافظين اليمينيين الأميركيين الجدد على عامل السرعة في احتلال العراق لوضع الخصمين الداخلي والدولي أمام حقائق الأمر الواقع. لذا استعجلت تنفيذ المشروع الموضوع منذ ما قبل العدوان والاحتلال بأعوام عديدة ضاربة بعرض الحائط كل النصائح والتحذيرات التي تواجهت بها. لكن عامل السرعة في احتلال سريع حقق نجاحات سريعة بالفعل. أما تركيز أسس الاحتلال وتأمين موجبات ترسيخه، أمن القوات العسكرية وبناء مؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية، فمُنيت بالفشل الذريع. ولم يكن السبب إلاَّ العامل التي طالما تمَّ إغفاله من المخطط الأميركي الذي استند إلى آليات تقليدية في موازين القوى، وهو ليس إلاَّ استخدام مقاييس الحرب النظامية التي تعتمد على تفوق الآلة العسكرية, وإن عامل الإعاقة للمشروع الكبير لم يكن أكثر من إيمان بقيم السيادة والكرامة الوطنية مستنداً إلى أضعف الأدوات العسكرية وهو السلاح الذي يقع حمله تحت طاقة الفرد الواحد أو المجموعة المحدودة العدد من الرجال. ومنها أخذت عوامل الضعف في المشروع الأميركي تتوالى وتصبح أكثر وضوحاً. وسنعمل على تحديد بعضها، ولعلَّ يقوم آخرون بتحديد ما فاتنا منها.
أولاً:على صعيد بنية أعضاء التحالف العدواني:
تحمل تلك البنية عامل استثارة العداء من أطراف ودول وأحزاب وأديان متعددة المشارب والإيديولوجيات. ويكفي أن نستعرض تياراته ليكون واضحاً كم يجمع ضده من المخاوف والعداوات. وتلك النتيجة التي نسجلها الآن لم يكن أطرافه ينظرون إلى تحالفهم إلاَّ أنه من عوامل قوته، لكن الأمر الواقع يدل على أن استقطابه لحجم العداوات هو من عوامل ضعفه وليس من عوامل قوته. فأطراف التحالف هي:
-اليمين الأميركي المتطرف المعبأ بإيديولوجيا العرق والنخب الاقتصادية الأكثر قوة في رأسماله.
-اليمين المسيحي المتطرف الذي يقود انقلاباً على الأسس العلمانية كبديل للدول الدينية التي تعيد عقارب الساعة إلى البدايات الأولى للتاريخ. وهو العودة إلى أكثر عوامل الصراع بين الإثنيات الدينية التي تؤمن بأن إيديولوجيتها تشق طريق الخلاص للبشر في الآخرة.
-الصهيونية العالمية التي طُردت من العالم إلى المنطقة العربية للتخلص من هيمنة أخطبوطها الاقتصادي.
-هيمنة وتأثير المافيات العالمية التي تؤمن بقيمة واحدة وهو تحقيق الأرباح السريعة بمعزل عن نتائج الحروب التي تباركها وتعمل على تفجيرها.
ثانياً: عوامل الضعف الظاهرة في القوى العراقية الداخلية المشاركة في العدوان على العراق واحتلاله، وهي تلك القوى نفسها التي كانت تطلق على نفسها سابقاً اسم «المعارضة العراقية»:
من سمات تلك القوى أن التباعد في رؤيتها ومصالحها وأطماعها أقوى من التلاقي بين أهدافها. وكان من أكبر خطاياها أنها استقوت بأجهزة المخابرات الرأسمالية، فسقطت شرعيتها في تمثيل الشعب العراقي لأنها أسقطت -في تعاملها مع مخابرات أجنبية- نفسها بتهمة الخيانة العظمى، كما أنها أسقطت قيمة «السيادة الوطنية». فهي مُدانة بتهمتين: قانونية حول تهمة الخيانة العظمى، وهو جرم تعاقب عليه كل القوانين وبكل المقاييس. وأخلاقية – قانونية من خلال إسهمامها في إسقاط السيادة الوطنية العراقية بين أيدي الاحتلال الأجنبي.
لم يسفر الاحتلال عن محو الدولة الوطنية العراقية فقط، وعن انهيار العقد الاجتماعي القديم، الذي قام عليه مجتمعها. فالتخريب لم يتوقف عند حدود انهيار ومحو الدولة كناظم للعلاقات الداخلية، ولا في تحطيم أجهزتها الرقابية وأنماط وأدوات سيطرتها، وإنما تجاوزت ذلك كله إلى إحداث تخلخل بنيوي في أسس التعايش التاريخي بين الطوائف والمذاهب والجماعات والإثنيات. وشقّ الاحتلال فجوة إدارية ووجدانية وسياسيّة، أخذت تفصل شيئاً فشيئاً بين مكوّنات المجتمع نفسه، وعزلته حتى عن الإدارة المُنّصبة من قوات الاحتلال ومجلس الحكم المؤقت وحكومته ذات التركيبة العرقية والطائفية، التي تم تلفيقها كبديل رمزي عن الدولة القديمة. جماهيرية ممزقة، من حيت تنوع وربما تناقض مرجعياتها السياسية والدينية، ومن حيث مستوى ودرجة التنافسات المحمومة بين قادتها. كما تفتقد البلاد إلى السلطة المركزية وتتوزعها ولاءات شخصية ومذهبية وسياسية ومصالح يصعب إلى حد بعيد التوفيق بينها.
لذلك، ولأسباب تتعلق بتسهيل مهمة السيطرة على العراق من خلال تفتيت أي عقد وطني جامع بين شتى الإثنيات، تقوم قوات الاحتلال بتأجيج بذور الفتنة الطائفية بين المذاهب والأعراق في البلاد باعتمادها لمبدأ المحاصصة الطائفية في المواقع السياسية والوظائف العامة، وسماحها بانتشار الميليشيات المسلحة في غياب القانون والنظام. وعملت على زرع عوامل الاحتقان العرقي والطائفي من خلال إصدار «القانون المؤقت»، الذي وقَّع عليه «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق، في 8 آذار 2004م.
مع تقادم الزمن، تستعجل إدارة الاحتلال –بتسهيل واستسلام من قبل «دمى الاحتلال»- تحقيق مكاسب سياسية من خلال تشريع قوانين وقرارات وتعاميم مفصَّلة على قياس مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية؛ إلاَّ أن تلك التدابير لن تحقق الأمن للشعب العراقي. وبدورها، سوف تساعد على تراكم النقمة الشعبية في وجه الاحتلال، وخاصة على صعيد القوى السياسية والدينية والشعبية التي تدعم بشكل أو بآخر- أو التي تعطي فرصة من المراهنة على ممثليها في مجلس الحكم ليستنفذوا كما يدَّعون- وسائلهم السلمية مع سلطات الاحتلال.
ولما لم يكن قد مرَّ زمن طويل إلاَّ وأخذت تلك العوامل تتفجَّر في وجه الاحتلال، حتى ولو كانت تلك الاعتراضات ذات استهدافات مذهبية أو عرقية، إلاَّ أنها تشكل بؤراً موضوعية لتعميق الشرخ بين عملاء الاحتلال. وسيرون أنفسهم في مأزق شبيه بمأزق الاحتلال ذاته، لأن القاعدة التي شُكِّلت على أساسها التركيبة الحاكمة ]المحكومة[ تحمل تناقضاتها الحادة في ذاتها.
ومن جانب آخر، بالإضافة إلى عجز عملاء الاحتلال عن إعادة الأمن والحياة الطبيعية إلى الشعب العراقي، لم يستطع عملاء الاحتلال أن يؤمنوا الحماية لها فهم أعجز من أن يحموا أنفسهم.
ثالثاً: عوامل الضعف في آليات تنفيذ مشروع الاحتلال ميدانياً:
1-التضليل والخداع: فلسفة إعلامية في خدمة المخطط السياسي العسكري.
يقوم الإعلام المساند لقوات الاحتلال على قاعدة من الكذب، بتشويه الحقائق على قاعدة بث أكاذيب صغيرة، فيؤدي تراكمها إلى تكبير الكذبة فتبدو وكأنها حقيقة موضوعية. ومن جملة الأساليب أن ينسب الإعلام كل السلبيات ويحمِّلها للخصم الذي يريد الإيقاع به. وقد كشفت بعض وسائل الإعلام الأجنبية تلك الأكاذيب الصغيرة.. وبالإضافة إلى ذلك اتَّخذت الإدارة قرارات وقوانين تحدد فيها الممنوعات على وسائل الإعلام:
أ-قرار منع وسائل الإعلام من استخدام تعبير «مقاومة» لأنها تُعَدُّ تحريضاً على الإرهاب: ويذكر أن مجلس الحكم أنشأ لجنة وطنية لوسائل الإعلام مهمتها وضع ضوابط لعملها في العراق لتكبيلها فيما يخص عمليات المقاومة ضد الاحتلال. ووُزِّعت عليهم ما أسمته «مدونة سلوك للعمل في وسائل الأعلام»، وطلب منهم توقيعها طوعاً، وحثت المدونة وسائل الإعلام على عدم استخدام عبارات، من نوع (الجهاد) و(المقاومة).
وفرضت على وسائل الإعلام رقابة صارمة، فهي قد زرعت رقيباً أمريكياً في مكتب كل فضائية في بغداد، وأن الفضائيات لا تجرؤ على بث أي خبر لا يوافق عليه الرقيب، مع أن عاملين فيها يؤكدون أن عشرات الأخبار، وخاصة المتعلقة منها بالمقاومة، يتم منعها، مع وجود تهديدات واضحة لإدارات تلك الفضائيات، أو ممثليها في العراق.
ب-التعتيم على خسائرها، خوفاً من إثارة الرأي العام الأميركي: يلعب الإعلام دوراً مؤثراً في الشارع. وما حصل في فييتنام أعطى درساً، للذين يخططون ويشرفون على إعلام الإدارة الأميركية، أن يفرضوا حصاراً شديداً على وسائل الإعلام العاملة في العراق لمنع تسريب الصور التي تؤثر في تكوين الرأي العام أكثر من الخبر.
اتَّخذت الإدارة قرارات تمنع فيها وسائل الإعلام من نقل صور القتلى أو إعلان أعدادهم. كما تمنعها من الدخول إلى الأماكن التي تستقبل جثثهم قبل تسليمهم لأهلهم تحت حجة أخلاقية توجب على السلطات الأميركية أن تبلِّغ هي بنفسها نبأ وفاة الجندي لأهله.
ولهذا السبب خبَّأ جورج بوش رأسه في الرمال، كمثل النعامة، وتعامى عن رؤية أو سماع أخبار القتلى الأميركيين أو رؤية نعوشهم. ويبدو أن إدارته هي التي أرادت ذلك، ماحية تأثير صور الجنود الأميركيين القتلى وأخبارهم على الرأي العام الأميركي. فرسمت خطة إعلامية جديدة لمنع تناقل الأخبار ذات العلاقة بالمعركة الدائرة في العراق.
ومارس كل من جورج بوش، وواليه على العراق بول بريمر تلك الأساليب، وادّعى الأول أن وسائل الإعلام لا تنقل إلاَّ الصورة السلبية عن العراق، أما الثاني فهو يردد أن التقدم هناك -على شتى الصُعُد- يسير بصورة طبيعية إن لم تكن بصورة فذَّة تستأهل التقدير والامتنان.
كما حذت إدارة البتاغون حذو رئيس الولايات المتحدة ولجأت إلى التزوير من أجل تصوير الوضع الأمني في العراق بأنه آمن، والحياة الهانئة فيه مزدهرة.
ج-التعتيم على عدد العمليات ونتائجها، والتركيز على كل ما له علاقة بالخسائر البشرية بين العراقيين من جراء بعض العمليات الفدائية، للتحريض ضد المقاومة.
د-تضليل الرأي العام الأميركي، والكونغرس، ومجلس الشيوخ بمعلومات كاذبة عن الواقع الفعلي في العراق: ذكرت صحيفة (فيلادلفيا انكوايرر) الأميركية أن سياسيين بارزين من صناع السياسة الأميركية أعربوا عن ضيقهم وتبرمهم من عدم إيصال صورة أكثر واقعية للرئيس الأميركي مقارنة بالصورة المتفائلة التي يرسمونها، مثل ديك تشيني ورامسفيلد وغيرهم ممن يعتبرون من الصقور المتشددين في واشنطن.
ولكي تتخلَّص من مضايقات الإعلام، قدَّمت وزارة الدفاع الأمريكية خدمة إخبارية تركز على قواتها في العراق وأفغانستان، وتنفرد بتصوير الغارات على معاقل المقاومة، وجهود إعادة الإعمار فيهما. وأرجعت صحف أمريكية تلك الخطوة إلى أن المسئولين الأمريكيين يشتكون من أن وسائل الإعلام التي تبث أخباراً عن العراق تركز على الأحداث الكارثية فيه مثل تفجيرات السيارات المفخخة ومقتل الجنود، بينما لا تبدي كثيراً من الاهتمام بجهود الولايات المتحدة لإعادة البناء.
ومن أجل حجب الحقائق عن الرأي العام: عراقياً وعربياً ودولياً وأميركياً، عادت القوات الأميركية إلى ممارسة عملية رقابة صارمة على وسائل الإعلام العاملة في العراق. وهي من أجل توصيل الصورة الوردية في العراق، اتَّخذت جملة من الإجراءات، ومن أهمها:
أولها: عودة المتحدثين العسكريين للظهور على أجهزة الأعلام بعد أن كانت قد أوقفتها عندما خُيِّل لها أن الحرب قد انتهت في الأول من أيار من العام 2003م، للإدلاء ببيانات حول العمليات، وبضرورة ممارسة حرب نفسية مباشرة ضد المتلقين للأخبار. ولحجب حقائق أعداد القتلى الأميركيين، وضرورة توفير مادة إعلامية، تنقل إلى الداخل الأمريكي.
وثانيها :تصاعد الهجوم الرسمي الأمريكي على القنوات الفضائية العربية، وكثرة عمليات القبض على الصحفيين، ومنع المصورين من التصوير –وبعض الأحيان قتلهم- ونزع الأشرطة من كاميراتهم بعد التصوير .. إلخ.
وثالثها : بدء الولايات المتحدة إبرام تعاقدات لتوريد مواد إعلامية مجانية يومية للقنوات الفضائية والصحف، تتناول أوجه الحياة العادية في العراق، من تشكيل أجهزة شرطة وتوصيل الكهرباء والمياه ....ومباريات كرة القدم ، وأوضاع التعليم ونوادي الإنترنت وانتشار استخدام الهاتف المحمول من أجل تصوير الوضع على أنه يسير نحو الأحسن، والهدف هو التقليل من شأن ما يجري في العراق من مقاومة وعمليات وقتلى وجرحى أمريكان وتدمير لآليات...
ورابعها: وكتدبير استراتيجي للإمساك بالإعلام وتوجيهه بما يخدم المشروع الأميركي اتَّخذت الإدارة الأميركية قراراً بتأسيس وسائل تلفزيونية وإذاعية تشرف عليها بشكل مباشر، ومن خلال تلزيمها إلى القطاع الأميركي الخاص، لكي تستطيع منافسة وسائل الإعلام العربية التي تتعاطف بشكل أو بآخر- مع المقاومة العراقية.
هـ-فإذا كان التعتيم الإعلامي يعالج مشكلة الرأي العام الأميركي، فإن ما يجري حقيقة على أرض الواقع في ميدان النزاع بين المقاومة وجنود الاحتلال مباشرة لا يمكن معالجته بالتعتيم، بل تصل تأثيراته مباشرة إلى الجندي. ومن جراء معاناته المباشرة، تنامت ظاهرة امتناع الجنود عن تجديد عقودهم، وهذا ما لم تستطع قيادة الاحتلال أن تخفيه. وقد كشفت إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية عن وجود ارتفاع ملحوظ في أعداد الجنود الأمريكيين الذين يتركون الخدمة العسكرية. ولهذا السبب طالب جون أبو زيد قائد القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، من الجنود المغادرين عدم الهروب من الجيش، وقال لهم: رجاءً لا تتركوا الجيش نحن في حاجة لكم ولتجربتكم القتالية في الحرب على الإرهاب. زاعماً أنه لم يدل بهذه التصريحات خوفاً من حالة نزوح جماعي ولكن من أجل توجيه الشكر لهم والاستفادة من تجربتهم على حد قوله.
إلاَّ أن أساليب الكذب قصيرة، فكانت تلك الوسائل عرضة للكشف من أوساط سياسية في داخل الإدارة ذاتها، فتواتر الأنباء عن عمليات المقاومة العراقية ونتائجها في إيقاع خسائر بين القوات الأميركية، جعل بعض أعضاء الإدارة الأميركية يضعون أيديهم على وسائل التعتيم والتضليل، وطالبوا إدارتهم بتقديم تقارير غير مضللة.
لكن من المشكوك فيه أن تنجح تلك الخطة للأسباب التالية:
-إن عمليات المقاومة العراقية تجري وسط أماكن مزدحمة بالسكان الأمر الذي يعني ضعف القدرة على إنكارها أو إخفاء الخسائر الناتجة عنها.
-إن الصراع الأمريكي الأوروبي على العراق، ليس صراعاً داخل أروقة مجلس الأمن، وإنما هو صراع على الأرض في العراق في مجال الإعلام.
-أن الولايات المتحدة، يصعب عليها التمادي في عمليات منع وكالات الأنباء والصحف والفضائيات من نقل الأحداث سواء لأسباب فنية أو لأسباب سياسية.
-تتعمَّد قوات الاحتلال قتل المراسلين الصحفيين إذا حصلوا على صور وتقارير من مكان الأحداث، أو تقوم بتحطيم الكاميرات أو بإتلاف الأفلام.
على الرغم من كل التعتيم الذي تمارسه الإدارة الأميركية، لا يرى الإعلام الأميركي أن الصورة وردية، وأخذ يكشف حقيقة الوضع ومأساويته بالنسبة للجنود الأميركيين. ‏وبعد مرور عام على الاحتلال، يرى أن قوات الاحتلال الأمريكية ما زالت غارقة في بحر من الدماء وفي صراع غير محسوم.
وتبقى هناك معلومات لا تستطيع حذاقة الإعلام الأميركي أن تخفيها، ويكون تسريبها محرجاً للإدارة الأميركية، ومصدراً لتكوين رأي عام أميركي رافض للحرب، وتتعالى دعوات أهالي الجنود إلى إظهار الغضب ضد الإدارة، والطلب منها إعادة أبنائهم إلى أرض الوطن.

2-الجندي الأميركي -آلة النصر الأساسية- بدون قضية طبقية أو وطنية

إن التصنيع الآلي لمشروع أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، لم يلحظ دوراً للجندي الأميركي أكثر من أنه عامل يتقاضى أجراً من رب عمله. وأن هذا الأجر مغر بما لا يقاس مع الأجر الذي كان يمكنه أن يحصل عليه من المصنع الذي يعمل فيه.
وإذا كانت مقاييس الأمور عند الجندي، بمثل ذلك، فهو قد وُعِد بأنه سيؤدي مهمته بأشهر قليلة ثم يعود إلى بلاده بطلاً وطنياً يروي قصصه في الحرب. ولكن لما رأى أن الأجر العالي هو الثمن لحياته، أو على الأقل ثمن عين أو رجل أو يد اقتنع بأن الواقع هو غير الوهم الذي زُرع في نفسه. وبهذا شعر أنه يقاتل من أجل قضية هي ليست قضيته. فهو لا يقاتل غازٍ قام باحتلال جزء من الولايات المتحدة الأميركية، وهو لا يقاتل عدواً سطا على ثروته الوطنية، وهو لا يقاتل من أجل الإنسانية عدواً يقتل الطفل والمرأة والعجوز. لقد وجد الجندي الأميركي نفسه قاتلاً يمارس قتل الأطفال والنساء والعجزة، ويهدم بيوتاً على رؤوس ساكنيها.
لم يجد أن الحرب ضد العراق نزهة، أو عمل وطني أو إنساني، ولكن وجد أن مافيات الإدارة الأميركية تهتم بحماية آبار النفط أكثر من حماية المؤسسات الإنسانية، وجد أن رجال الأعمال الأميركيين يعقدون الصفقات، ويمارسون النهب المنظم، ويعتنون بأمنهم الخاص وأمن شركاتهم، كما يتسابقون على الحظوة بعقد من هنا وعقد من هناك، وتدور بينهم صراعات وانتقادات، ويتهم بعضهم قيادة قوات الاحتلال بانحيازها إلى شركة من دون أخرى، لذا يطالبون القيادة بأن تشملهم برعايتها من أجل الحصول على عقد أو التزام، ولا يخشون من انعدام الأمن في العراق إلاَّ من زاوية أمن استثماراتهم أكثر مما يهمهم أمن جنودهم.
وكثيراً ما وجَّه أصحاب المصالح انتقاداً صريحاً لقوات الاحتلال بعجزهم عن فرض الأمن الذي يسمح لرساميلهم بالتدفق إلى العراق. ووجد أن سماسرة عراقيين لا يهمهم أكثر من أن يمهدوا للصفقات أمام المافيات، ولا يهمهم إلاَّ أن يطول بقاؤهم إلى أقصى حد لينالوا حصصهم من السرقات على شتى المستويات.
وبالإجمال وجد الجندي الأميركي نفسه من دون قضية وطنية أو طبقية أو إنسانية أو أخلاقية أو قانونية، وهو مكشوف بدون أي غطاء دولي أو ديني. فلهذا لما وجد نفسه غارقاً في متاهة غير واضح باب الخروج منها، إلاَّ ما قيل له بأن بوابة العودة إلى الوطن تمر من بغداد. وهذا هو في بغداد باقٍ معرَّض للقتل أو التشويه الجسدي أو اللوثة النفسية. وللخروج من هذا الجحيم ما عليه إلاَّ أن يبذل كل ما عنده من قوة لإنجاز مهمة أخذ يشعر أخيراً- أنها قذرة. ومن أجل ذلك تحوَّلت كل طاقته إلى التعامى عن ممارسة الرعب والقتل العشوائي، واستخدام الشدة المفرطة، لأنه يتوهَّم أنه ينجز مهمته بسرعة في القضاء على المقاومة العراقية، لأن التعليمات السابقة «طريق العودة إلى الوطن والعائلة» تمر من بغداد، إلى تعليمات أخرى تقول: «إن طريق العودة إلى الوطن تمر من بوابة القضاء على المقاومة العراقية».
لم يدفع الجندي الأميركي بعد إعلان جورج بوش انتهاء الأعمال الحربية في العراق في أول أيار/ مايو من العام 2003م- من حياته وإنما أخذ يدفع الثمن من أخلاقه وإنسانيته ومعنوياته وأعصابه. وإن الثمن النفسي عنده هو أثمن ما يمكنه أن يحافظ عليه، وتمظهر في أكثر سلوكاته على الأرض: بشراً وحجراً، السبب الذي دفع ببعض المؤسسات الإنسانية الأميركي إلى إدانته في تقاريرها عن واقع جنود قوات الاحتلال في العراق وسلوكاتهم اللا أخلاقية.
نتيجة الضيق بشتى مظاهره وأسبابه- اندفع الجندي الأميركي في العراق إلى إظهار رفضه للعمل الذي يقوم به في عدة وسائل وأساليب، ومنها: الهروب من ساحة الميدان إلى الدول المجاورة للعراق، أو رفض عودته بعد قضاء بعضهم إجازته في بلاده، أو اللجوء إلى الانتحار كأحد أقصى وسائل الضيق. مع العلم أنه بمقارنة نتائج حرب فييتنام مع نتائج الحرب في العراق، وجد بعض المطلعين الأميركيين أن «الشيء المميز في حرب العراق والذي لا يتشابه مع حرب فيتنام البتة، هو النسبة العالية لحالات الانتحار بين الجنود في العراق، وهذا بالتأكيد يتنافى مع التقارير التي تدعى ارتفاع الروح المعنوية في العراق».
3-بين نفط العراق ودم الجنود الأميركيين.
يستفرد أعضاء إدارة المحافظين الجدد بعقود الإعمار بحصر تلزيمها إلى الشركات التي هم أعضاء مؤسسيين أو إداريين أو مستفيدين منها لمنافع شخصية وليست لأهداف وطنية أميركية. وبها غرق أكثر المسؤولين في الصفقات التجارية المشبوهة التي تأتي على حساب شركات تجارية وصناعية أميركية أخرى أولاً، وعلى حساب المكلَّف الأميركي ثانياً.
ويبدو أن السياسة الخارجية لإدارة بوش تملى من قبل الشركات. فإصدار الأمر التنفيذي رقم 13303 الذي يعطي حصانة قانونية لشركات النفط الأمريكية التي تعمل في العراق، وفي الوقت الذي يفترض فيه أن الجنود الأمريكيين ذهبوا إلى العراق لفرض القانون والنظام، يضع بوش شركات النفط الأمريكية فوق القانون.
تقول الوثائق التي تجمعت لدى عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي أنَّ كلاً من ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وجورج بوش الأب وغيرهم قد قاموا بتنظيم عملية سرقة ونهب منظمة لبترول العراق عن طريق شركاتهم العاملة في هذا المجال. وإنَّ بول بريمر الحاكم الأمريكي يشرف بنفسه على الصفقات وإجراءات نقل البترول العراقي في سرِّية مطلقة. وإنَّ الأهداف والمصالح الشـخصية كانت الدافع الوحيد وراء اِتخاذ إدارة بوش قرار شَــنَّ الحرب ضد العراق على حسب التقرير الذي نشرت جريدة (الأسبوع) المصرية جانباً منه- فإنَّ تحالف النهب والسرقة المكون من ديك تشيني ورامسفيلد وجورج بوش الأب وبول بريمر وآخرين كان قد بدأَ بالفعل يسرق وينهب ويهرب البترول بعد اليوم الثالث لسقوط بغداد، وإنَّ ديك تشيني قد أنهى ترتيبات السيطرة على البترول العراقي قيل بدء العدوان، وإنَّ ثلاث شركات أمريكية للبترول تحتكر البترول العراقي، وتقوم بنقله إلى مختلف دول العالم. والذي يقود هذه العملية هي هاليبيرتون الأمريكية للخدمات النفطية التي تخضع لإشراف ديك تشيني الذي دخل في إطار اِتحاد مع شركة جديدة أسَسَّها جورج بوش الأب أطلق عليها اِسم (الخدمات الأمريكية المتحدة للنفط)، وإنَّ هناك عمولات دُفِعَت لوزير الدفاع رامسفيلد الذي يساهم مساهمة كبيرة في شركة البترول الصافية التي دخلت بدورها طرفاً في عملية النهب.
رابعاً: عوامل الضعف في استراتيجية مشروع الاحتلال:
1-مظاهر الفشل في اتخاذ القرار السياسي
إن حجم المخاطرة السياسية كان هائلاً وواضحاً، كما جاء في أحد التقارير الأميركية، ومسؤولو الإدارة لا بدّ وأن صدّقوا، ليس فقط بأنّ الحرب كانت ضرورية لكن أيضاً، بأن الاحتلال الناجح لن يتطلّب تدبيراً أكثر مما أعدوه. وستمضي سنوات قبل أن يفهم الأميركيون، بالكامل، كيف أقنع أناس يدَّعون أنهم أذكياء- أنفسهم بما حدث. ويعيد التقرير الأسباب إلى ثلاثة عوامل ستكون أجزاء مهمة من التفسير:
الأول: غطرسة وخيلاء دونالد رامسفيلد. فقد كان في قمة تأثيره خلال التخطيط للحرب.
الثاني: انتصار الإدارة في الانتخابات الرئاسية: ففي السنوات الخمس والعشرون الماضية ومنذ تتويج رونالد ريغان، غيّر المحافظون من مواقفهم بشكل كامل ولكنهم لا يعترفون بذلك. فوصول ريغان للحكم أنهى نصف قرن من هيمنة الديموقراطيين في واشنطن. كان هناك رئيس ديمقراطي واحد منذ ريغان، وطبيعي سيكون هناك آخرون. لكن هذا هو الاستثناء عند الجمهوريين، أما القاعدة فهي تواجدهم الآن في القيادة. ولهذا أعمتهم عودتهم إليها وهم من الحرس القديم من الجمهوريين، من الذين ترعرعوا في الستّينيات والسبعينيات، والذين هم الآن في قيادة الإدارة- عن استيعاب وصولهم. ولهذا ظلوا يتصرفون وكأنّ الليبراليين ما زالوا في مقعد القيادة. وتسكنهم مهمتهم الأساسية في «مقاومة الأفكار التحرّرية الحمقاء».
الثالث: طبيعة الرئيس نفسها: فالقيادة توازن بين القيام بالاختيارات الكبيرة وإدراك للتفاصيل. وجورج دبليو بوش عنده تفضيل واضح للاختيارات الكبيرة فقط. «لكن قلة اهتمامه بالتفاصيل المهمّة قد تكون نقطة ضعفه القاتلة».
كانت فرق العمل في وزارة الخارجية التي تعد خطة ما بعد الحرب في العراق تشكك في جدواها. وبسبب إهمال التحذيرات، أضاعت الإدارة السمعة الأمريكية والثروة والأرواح.
ومن جملة مظاهر فشل التخطيط السياسي للإدارة الأميركية كانت حالة الفوضى والفلتان الأمني التي ظهرت بعد الاستيلاء على بغداد مباشرة. ومنها قادت الأصوات الأميركية، سواء من أوساط المعارضة أم من أعضاء الإدارة ذاتها، حملة تشهير بعجز الإدارة التي خططت للحرب عن رؤية الأمور التفصيلية التي قد لا تجعلها تحقق الأهداف السياسية.
اعترف (دوغلاس فايث)Douglas Feith، يشغل منصب سكرتير بمكتب السياسة بوزارة الدفاع، أي في المرتبة الثانية مباشرة بعد وزير الدفاع الأمريكي «دونالد رامسفيلد» ونائبه «بول وولفوويتز»، بإخفاق الإدارة الأمريكية للتخطيط الملائم لما بعد سقوط بغداد، ويؤمن بأن ما حصل كان خطأ، للأسباب التالية: محدودية قراءة المستقبل بالنسبة لرامسفيلد، الذي يكره منطق التخمينات كراهيته للموت، فأهم إستراتيجية يتبعها هي «الغموض أو اللا مؤكد» وهذه الإستراتيجية تعني أننا لابد أن نكون مستعدين للتعامل مع أي وضعية تنجم عقب انتهاء الحرب من دون التخطيط لها مسبقاً.
إن المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، مثل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه بول ووليفووتز، وريشارد بيرل العضو السابق في المجلس الأعلى لسياسات البنتاجون، لم يكونوا يملكون تصوراً دقيقاً وواضحاً لفترة ما بعد سقوط النظام في العراق، بحيث بدت تصوراتهم السابقة عن أوضاع ما بعد انتهاء الحرب داخل العراق، مجرد أوهام، وإن «النقص في التحضيرات السياسية من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، بدت واضحة للعيان حال وصول القوات الأمريكية مشارف العاصمة العراقية أو تطويقها».
2-مظاهر الفشل العسكري
مستخدماً أسلوب المراوغة والكذب والتحدي الفارغ، صوَّر بوش أن أهداف أميركا من الحرب على العراق تمثِّل المبادئ الإنسانية بنشر الديموقراطية- أولاً، ومستعيناً بتاريخ الولايات المتحدة الوطني بتحرير العالم من أنظمة يعتبرها ديكتاتورية ثانياً، وإصرار أميركا على تحقيق تلك الأهداف في العراق يمنعها من الهرب لأنها ستنتصر في النهاية ثالثاً.
تبدَّدت أوهام الإدارة الأميركية بمقدرتها العسكرية المطلقة، لأنه لم يمض وقت طويل بين إعلانها النصر في الحرب وبين بروز أعمال المقاومة العراقية بقوة قلبت الطاولة في وجه القوة العسكرية رأساً على عقب، اضطُرَّ معها الرئيس الأميركي إلى الاعتراف بأن ما يدور على أرض العراق ليست إلاَّ حرباً حقيقية. وقد أكَّدت تصريحات الجنود الأميركيين في العراق على مصداقية تصريح رئيسهم. ولا يتركه ديك تشيني، نائبه، وحيداً في ممارسة الكذب، فيأتي بمبررات على قاعدة أن الحرب الوقائية في العراق ليست إلاَّ لتوفير أرواح أكثر داخل أميركا.
نتيجة لذلك فقد تدنَّى أداء الجندي الأميركي إلى أقل مستوياته بعد اكتشافه أن الحرب لم تكن خاطفة وسهلة، وكان يحلم بأن العراقيين سوف يستقبلونه بعد انتهائها السريع بالورود والقبلات. فلما استفاق من حلمه وجد نفسه مرفوضاً شعبياً وأن الحرب لم تنته، وأصبح موعد عودته إلى بلاده في موقع المجهول أو المؤجل إلى ما لا نهاية. ذلك السبب أجبر البنتاغون إلى ابتكار العديد من الصيغ، وكان من أهمها ضبط التأفف والاعتراض الذي أخذ يتنامى بين الجنود باتخاذ تدابير جديدة من خلال تقديم إغراءات بعد أن فشل تهديد القائد الأعلى جون أبي زيد بإنزال أشد العقوبات بحق الجنود المتأففين. أما آخر ابتكارات وزير الدفاع الأميركي فقد تمحورت حول تقديم بعض الإغراءات للجنود، ومنها الوسائل المادية والحوافز المعنوية لمواجهة احتمالات الهروب الجماعي من الجيش بعد انتهاء مدد العقود معهم.
و على الرغم من ذلك، فقد ظهرت بعض حالات رفض الجنود الذين يذهبون بإجازات من العودة إلى العراق: على الرغم من نفي الإدارة الأميركية حصول انهيارات معنوية بين صفوف الجنود الأميركيين في العراق، وأنهم لن يجددوا عقودهم من أجل السبب ذاته، أكَّد الجنود أنهم «لا يريدون العودة إلى المهمة الطويلة والصعبة في العراق».

3-استمرار الاحتلال الأميركي للعراق: حالة استنزاف بشرية ومادية داخلية:

تعاني الولايات المتحدة داخلياً -بعد مرور أقل من سنة على احتلالها للعراق- من أزمتين:
الأولى: بدأت أعباء احتلال العراق في استنزاف قدرة الجيش الأمريكي والحد من قدرته على نشر قوات قتالية مدربة في مختلف أنحاء العالم.
الثانية: تدهور صناعة النفط العراقية بما لا يمكن التعويل عليه كثيراً في «إعادة الإعمار».
لذا وجدت الإدارة الأميركية نفسها مُلْزَمَةً بأن تقدِّم إجابات واضحة للرأي العام الأميركي حول الأزمتين، وهما: أعداد القتلى وتكاليف الحرب المالية الباهظة.
أ-الأعباء البشرية:
إن احتلال العراق سيربك -على المدى الطويل- حياة الآلاف من أسر العسكريين؛ وسيتعرض نظام الاحتياط المعمول به في الجيش لخطر شديد، إضافة إلى أن ذلك سيحد من النزعة العالمية في السياسة الخارجية الأمريكية. لذا فإن هذه المعادلة الصعبة تعد إحدى العواقب الوخيمة لخوض الولايات المتحدة للحرب على العراق بطريقة منفردة، وذلك إضافة إلى القتلى والجرحى الذين يتساقطون يومياً هناك، وتردد دول أخرى بشأن المساعدة في المجهودات الأمريكية، ناهيك عما لحق من إضرار بسمعة الولايات المتحدة كزعامة مسئولة .لا يمكن مع استمرار المقاومة- توقع إمكانية تخفيض حجم القوات الأمريكية العاملة في العراق إلى أقل من 100 ألف جندي. وإذا لم يتم تغيير نظام إحلال وتبديل القوات وتكليف قوات من وحدات أخرى، فإن الجيش الأميركي سيعانى من مشاكل في حشد القوات اللازمة.
أما حول أعداد القتلى، فإنه يثير حفيظة الأميركيين؛ وهو إن كان يقلق الرأي العام الأميركي في هذه المرحلة- يصبح تقديم جواب عنه أكثر صعوبة في المستقبل أمام تطور أعمال المقاومة العراقية بالشكل النوعي الذي يعني إيقاع خسائر أكبر في أرواح الجنود الأميركيين.
على الرغم من تجاهل تقوم به الإدارة الحالية أو تجهيل (لأهداف تكتيكية)، نرى أن المقاومة العراقية قد تجاوزت مرحلة الخطر في القضاء عليها. وهذا يضع الاستراتيجية الأميركية أمام مأزق اختيار صعب بين البقاء في العراق ودفع أثمان لا يعرف أحد متى تنتهي، وهي ستفرض الانسحاب من العراق، وهو حل أسوأ من البقاء، لكنه يوفِّر الخسائر المؤكدة.
ب-الأعباء المالية:
في الأول من أغسطس من العام 2002م، استمعت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ لرأي الخبراء حول مرحلة «ما بعد الحرب في العراق». وقد قال بايدن (ديموقراطي ورئيس اللجنة) بأنّ التهديد من أسلحة الدمار الشامل قد يجبره على التصويت لصالح الحرب. لكنّه كان قلقاً من الغزو دون دعم كامل من الحلفاء، فأميركا قد نتحمل لوحدها- فاتورة حرب بـ 70 مليار أو 80 مليار دولار، وقد تضطر إلى إبقاء القوات الأمريكية لفترة زمنية طويلة.
أما في 27 مارس، وبعد ثمانية أيام من المعركة، سأل أعضاء لجنة الاعتمادات التابعة لمجلس النّواب بول ولفويتز عن رقم تكاليف الحرب، فأجاب: مهما كانت هذه التكاليف، فإن نفط العراق سيبقيها دوماً في أدنى مستوى. هناك الكثير من المال لدفع تلك التكاليف. وليس من الضروري أن يكون دافع الضرائب الأمريكي ممول هذه الحملة، فنحن نتعامل مع بلاد تستطيع تمويل إعمار نفسها حقاً، وبشكل سريع نسبياً.
لم تكن حسابات ولفويتز صحيحة، ففي أيلول/ سبتمبر 2003م، بدأ الرّئيس بوش العمل على طلب اعتماد إضافي بـ 87 مليار دولار للعمليات في العراق .وبالفعل كان الكونغرس قد أقرَّ مبلغ 87 مليار دولار لتمويل عاجل لنفقات الحرب في العراق وأفغانستان، وإن القسم الأكبر منها سيذهب إلى أوجه الأنفاق على الوجود العسكري الأمريكي في البلدين.
أما حول تقليص النفقات المالية التي يدفعها المكلَّف الأميركي وتشكل لديه عامل إثارة آخر، فلا يظهر في الأفق القريب ما يدل على أنها سوف تجد حلاً مع تركيز المقاومة العراقية على استهداف أنابيب النفط لمنع الاحتلال من الاستفادة من ريع تصديره. هذا مع العلم أن الحرب على العراق كانت مكلِفَةً جداً، وهي مرشَّحة لتزايد أعبائها الاقتصادية بمئات المليارات من الدولارات التي ستدفعها الخزانة الأمريكية.
وحول ذلك، كشف مسئولون حكوميون أمريكيون، أن التقديرات المتفائلة التي أصدرتها إدارة الرئيس بوش، في أوائل العام 2003م، (بأنه سيتم تمويل الجانب الأكبر من عمليات إعادة البناء في العراق من خلال الثروة البترولية لتلك الدولة، وليس من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين)، تناقضت -إلى حد بعيد- مع التقييم المتشائم الذي صدر في خريف العام 2003م- من قبل فريق حكومي جرى تشكيله سراً لدراسة أوضاع صناعة البترول العراقية.
4-مظاهر الفشل في تجميع الرأي العام الأميركي لتأييد مغامرتها في العراق:
يزداد الضغط على الرئيس الأمريكي كلما ازداد عدد الأمريكيين الذين يطالبون بانسحاب القوات الأمريكية من العراق. وعلى الرغم من أن الأقلية منهم يتظاهرون في الشوارع وينددون بالحرب، إلا أن عددهم يزداد مع كل يوم يسقط فيه جنود أميركيون على أرض العراق.
لن تخدع تصريحات أعضاء إدارة جورج بوش الأميركيين، من أن الوضع في العراق وردي، وأن الجنود الأميركيين لن يتركوا العراق تحت ضغط المقاومة، ولأن تلك التصريحات لن تخدع الرأي العام الأميركي، يجد بعض الأميركيين اليوم- مناسبة للمقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق، بالقول: هناك وجود تشابه كبير في مضمون تصريحات (روبرت ماكنمارا) وزير الدفاع الأمريكي، خلال حرب فيتنام، وتصريحات وزير الدفاع الحالي (دونالد رامسفلد).
فهل الوضع في العراق أشد خطورة عما كان عليه في فيتنام؟
نعم بل أسوأ بكثير من حرب فيتنام التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة لكنه كان نصراً متوقعاً في نهاية مشوار دامٍ طويل؛ لكن الولايات المتحدة خرجت مثقلة بالجراح من تلك الحرب على الرغم من أن الجنود الأمريكيين لم يخسروا معركة واحدة لكن معظمهم عاد بأعصاب محطمة إلى بلده وهذا ما سيواجهه الجنود الأمريكيون في العراق. هناك فارق في المقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق. لأول مرة منذ انفرادها بلقب القوة العظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم تظهر الولايات المتحدة قوة عظمى في حرب العراق وإنما قوة كبيرة على عكازين.
مع ظهور شبح الحرب الطويلة الأمد في العراق، ظهرت مؤشرات عديدة حول رفض الحرب من قبل قطاعات أمريكية رسمية وشعبية واسعة، ومن أهم مظاهرها:
-التظاهرات التي خرجت بالآلاف في واشنطن ولوس أنجلوس للمطالبة بالانسحاب ولتوجيه تهمة الكذب والتلاعب لبوش وفريقه الحاكم.
-الجدل المتصاعد داخل الطبقة السياسية الأمريكية حول أسلحة الدمار الشامل، وحول التقارير المزورة التي استخدمتها الإدارة في تضليل الرأي العام لكسبه إلى جانب الحرب.
يعيد ويسلي كلارك، القائد السابق لحلف شمال الأطلسي، أسباب فشل الإدارة الأميركية في احتواء العراق بعد انتهاء الحرب النظامية إلى جملة من العوامل، ومن أهمها: أن الإدارة أعدَّت بشكل جيد للحرب العسكرية ولكنها قصَّرت في إعداد رؤية واضحة لمرحلة ما بعد انتهائها، أي كل ما له علاقة بموجبات الاحتلال من مهام أمنية واجتماعية واقتصادية. ولأنها لم تهتم بها استناداً إلى منهج بوش وإدارته في التفكير- أخذت تعاني من المأزق الذي وقعت فيه نتيجة غياب التخطيط الدقيق. وإذا كان كلارك يحصر تلك الأسباب بعوامل محض مادية، إلاَّ أنه تناسى أن للشعور الوطني تأثيراً كبيراً كان على إدارة بوش أن تأخذه على محمل الجد.
إن استطلاعات الرأي العام الأميركي، تبيَّن تراجع نسب التأييد لرئيس الإدارة، وتدل على أن الأميركيين، الذين انبهروا بإعلان انتصار أميركا في الأول من أيار من العام 2003م، اكتشفوا مدى الكذب في الخطاب الرسمي بعد ظهور المقاومة العراقية. وكان الأميركيون من الممكن أن يتناسوا أخطاء الإدارة فيما لو ثبت أن النصر كان حقيقياً، وكان من الممكن أن ترتفع نسبة تأييده. ولكن هذا يدل، أيضاً، على أزمة أخلاقية تعاني منها أكثرية الأميركيين، فهم اعترضوا على بوش لأنه لم ينتصر، ولتكن تلك الحرب ظالمة، فهم لم يعترضوا على مبادئ العدوان ولكن اعترضوا على نتائجه. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد حققت المقاومة العراقية إنجازاً كبيراً عندما حرمت إدارة جورج بوش من تثبيت نتائج الانتصار العسكري النظامي وحوَّلتها إلى هزيمة سياسية. وأياً تكن الأسباب والنتائج فقد حوَّلت المقاومة وقائع الأمور إلى مأزق أمام تلك الإدارة، ولعبت، ولا تزال تلعب، دور الناخب في صناديق الاقتراع الأميركي بامتياز. ولهذا فإن أزمة مماثلة للتجربة الفييتنامية قد تقلب كل المقاييس عند الرأي العام الأميركي، فهو وإن كان في الموقع الذي يبرر فيه للإدارة أخطاءها، إلاَّ أنه عندما يدفع دماً ومالاً من دون أن ينال ما يعوِّضها، تبدأ أزمة الثقة مع الإدارة السياسية.
كانت البداية في أن الرأي العام الأميركي، على المستويين: الشعبي والسياسي، أخذ يكتشف أساليب الخداع والكذب، فتضاءلت نسبة تأييد الأميركيين للحرب إلى أدنى مستوى في تاريخ استطلاعات الرأي حول هذا الموضوع، فبلغت نسبة، الذين لا يؤيدون الحرب، لأنه لا يوجد ما يبررها، 53%. وهذا انحدار كبير عن نسبة 89% من الذين كانوا يؤيدون بوش.
5-على الإدارة أن تدفع ثمناً لممارساتها اللا أخلاقية:
ومن الجرائم اللاأخلاقية التي أخذت تدفع ببعض الأميركيين إلى الإشارة إليها هي ارتكاب جرائم حرب، على الأقل في جانب استخدام الأسلحة التي تحمل إشعاعات نووية، وهي لا تشكل خطراً على العراق وحده، بل ستنتقل تأثيراته السلبية إلى الولايات المتحدة نفسها:
جميع الرصاص الأمريكي تقريباً- من قذائف الدبابات والقنابل الغبية والقنابل الذكية إلى صواريخ كروز، وكل شئ آخر تمت هندسته، تحتوي على الكثير من اليورانيوم. لقد استعمل الجيش الأميركي ما مقداره أربعة ملايين رطل من اليورانيوم في العراق. وعندما يضرب رصاص اليورانيوم أو الصواريخ أو القنابل شيئاً ما فإنه ينفجر مولداً في الحال ذرات دقيقة جداُ بحيث لا يمكن رؤيتها. وعندما يستنشق شخص هذه الذرات حتى ولو بكميات قليلة جداً فإن ذلك يعني كما لو أنه يتعرض للأشعة في كل ساعة. ولا يمكن إزالة اليورانيوم من الجسم فإنه ليس له أي علاج وسيبقى عملياً في الجسم إلى الأبد.
فكم قنبلة نووية بحجم القنبلة النووية التي ألقيت على ناجازاكي يمكن أن تنشر أربعة ملايين رطل من اليورانيوم ؟ الجواب هو 250,000 قنبلة نووية. الوحيدون في تأريخ هذا العالم الذين شنوا حرباً نووية بهذا الشكل هم الأمريكان. والجيش الأمريكي يعلم تمام العلم ما هي أعراض التسمم بالإشعاع. تبدأ الأعراض بالتهاب الحلق المزعج جداً وتنتهي بالموت المؤلم لكون المصاب يطبخ من داخله. ويتساءل الكاتب الأميركي ساخراً: لماذا يكرهوننا ويزدروننا هكذا!
إن تأثير القتل غير المميز بأسلحة. سيكون غبار اليورانيوم في أجساد القوات الأميركية نفسها، وهي التي ستعود إلى بلادها، مع مصادر إشعاعهم الداخلي كحطب للحروب، الحروب النووية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.
وإذا كانت الجرائم البشعة التي ارتكبتها إدارة الاحتلال في سجن أبي غريب من أكبر جرائم الاحتلال وحشية، بحق الأسرى العراقيين والأسيرات العراقيات، فهي من أكثر الجرائم اللا أخلاقية بشاعة التي هزَّت ضمير قطاع واسع من الأميركيين. وسيكون لها تداعيات شديدة الـتأثير على مستقبل الاحتلال. وستزيد في كشف خطورة المشروع الأميركي ليس على العالم فحسب، بل على وحدة نسيج المجتمع الأميركي أيضاً.
بداية تعالت الأصوات الأميركية مطالبة باستقالة إدارة الرئيس جورج بوش، وعدم حل الأمور بتقديم كبش فداء عنها. فالإدارة كلها ضالعة في الخطأ. فهذا جورج بوش «ضلل الشعب الأميركي وخدعه»، ونائبه ديك تشيني يمارس ضغوطاً على المخابرات المركزية، ويصر على «أن العراق كان يملك أسلحة دمار شامل»، وأن جورج تينيت، المحمي من جورج بوش شخصياً، قد «انتهت صلاحيته»، فيجب إقالته، وإقالة وزير العدل (جون اشكروفت) الذي هو الأب الروحي لقوانين محاربة الإرهاب والحد من الحريات المدنية.
وبعد انكشاف الستار عن الجرائم بحق الأسرى العراقيين، ازدادت لائحة المسؤولين الأميركيين المطلوب استقالتهم، وهي سوف تزداد يوماً عن يوم، لأن الإدارة الحالية تعمل بكل الوسائل لضرب المقاومة العراقية، وتشديد الحصار حول أية ظاهرة عراقية ترفض الاحتلال، تقديراً منها أن عليها أن تصل إلى أبواب الانتخابات مرتاحة لنيل الأصوات الكافية لإعادة التجديد لمشروع الأميركيين المتطرفين الجدد. إن هذا الهدف والإلحاح كافيان لأن يغرقا قيادة الاحتلال بأخطاء أخرى، قد لا تكون أقل بشاعة مما سبقها، وهذا ما سيضاعف عدد المطلوب إقالتهم من المسؤولية.
شنت الإدارة حربها بطريقة تفتقر إلى الأمانة كما يقول إدوارد كينيدي- أفقدتها حلفاءها الأساسيين، وأجَّجت غضب الرأي العام العالمي، وصبت علينا براكين إضافية من الكراهية وجعلت الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة والنصر فيها أبعد مما كان.
إضافة إلى اتهام الإدارة بالكذب، وهو تشكيك أخلاقي بنزاهتها، تتالت الأسئلة عند الأميركيين حول جدوى البقاء في العراق، ففي نهاية العام 2003م يتساءل الأميركي: هل تستحق نتائج الحرب دماء جنودنا المحاربين؟ وهل أصبحنا أكثر أمناً بعد غزو الأراضي العراقية؟
تشير الإثباتات إلى أن إدارة بوش لم تستطع إثبات ذرائعها التي على أساسها غزت العراق. فطالب الكونجرس كلاً من رامسفيلد وباول وولفويتز وتومي فرانكس بتشكيل لجنة تقصي حقائق تقوم ببحث عملية غزو العراق. وهل تم التخطيط لها جيداً؟
وفي إشارة إلى اتهام الإدارة بأخلاقيتها، اشترطت بعض المطالبات الأميركية على أية لجنة يتم تكليفها أن تعمل بعيداً عن الأكاذيب.
وبالإجمال فقد راح المشروع الأميركي يفتِّش عن سلاح عراقي غير موجود فدفع الغرب إلى اتخاذ عقوبات ضد العراق أودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين، وراح يمطرهم بقنابل المدفعية ذات الرؤوس المحتوية على اليورانيوم المنضب، مما ضاعف من انتشار مرض السرطان بنسبة مخزية. ولا شك أن بوش وبلير يقول أحد الصحفيين البريطانيين- يستحقان أن يسقطا في الانتخابات بسب حربهما الاحتيالية والمخالفة للقانون.

6-المقاومة العراقية تدق أبواب الولايات المتحدة الأميركية

فيما تواجه الولايات المتحدة المزيد من الصعوبات في العراق، تزداد شراسة الصقور الأميركيين في مهاجمة المشككين. فهم يتهمون المشككين بفقدان الصلة بما يجري. ويقولون إن هذا هو سبب الصعوبة التي تعاني منها الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، ليس العراقيون، بل رسل التشكيك، هم الذين يقال إنهم يؤذون مصالح الولايات المتحدة.
ما يحصل على الساحة السياسية الأميركية، بعد تنامي تأثير المقاومة العراقية، هو حرب ثانية تواجهها إدارة صقور «القرن الأميركي الجديد». والسبب أن الفشل الذي لحق بقوات الغزو الأميركي من خلال عجزها عن الإمساك بالساحة العراقية عسكرياً فتح الأبواب واسعة أمام حالة الاعتراض بين صفوف الحزب الديموقراطي، الذين، وإن كانت أهدافهم انتخابية، فإنهم يخوضون بلا شك- حرب استنزاف سياسية ضد إدارة جورج بوش. وقد نقلت الصحافة الأميركية خاصة والصحافة الغربية عامة كثيراً من وجوه تلك الحرب. وقد شارك العديد من الكُتَّاب الأميركيين في خوض حرب هدفها كشف أكاذيب الرئيس بوش بالذات، ومن أهم معالمها ما يلي:
-الكذب الذي مارسته الإدارة بكل ما له علاقة بذرائع الحرب.
-الكذب في نقل صورة الواقع الميداني، خاصة بكل ما له علاقة بحجم الخسائر بين الجنود الأميركيين.
-ليست معارضة السياسيين الأميركيين هي التي تمارس حرب استنزاف داخلية ضد الإدارة الحالية، بل دخلت المعارضة الشعبية ميدان الاستنزاف بمشاركة فاعلة من أهالي الجنود.
-دخول بعض الأوساط الدينية في أميركا (كمثل القس جيسي جاكسون) في معركة الاستنزاف الداخلي للإدارة الأميركية، على خلفية الحرب ضد العراق. وترى أن المأزق الحقيقي يكمن في اتخاذ قرار الحرب من جانب واحد من دون موافقة دولية، ولم تكن بطلب من العراقيين أنفسهم، وهي وضعت الإدارة الأميركية في مأزق التفاضل بين البقاء في حالة استنزاف دائم، أو الخروج والانسحاب وإن الأمرين أحلاهما مر.
وبهذا يكون الاحتلال الأميركي قد انقلب «من دور الغازي الانتصاري إلى موقع المتهم، ومن قبل مؤسسات دولته بالذات».
وصلت الولايات المتحدة ، بعد تنامي المقاومة العراقية، إلى مأزق مزدوج: فمن جهة، لن يعني بقاء الاحتلال غير استمرار وتكاثر الأيام الرهيبة التي تحدث عنها رامسفيلد، وما ينجم عن ذلك من انحسار شعبية الإدارة الحاكمة وصولاً إلى خسارة الانتخابات. ومن جهة أخرى، سيفضي الانسحاب إلى النتيجة نفسها. وفي الحالتين ستكون تداعيات ذلك وخيمة جداً على الداخل الأمريكي وعلى مواقع الولايات المتحدة في التركيبة الدولية.
تدور حرب الاستنزاف في الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية في إدارة المحافظين الجدد، وفي أوساط الحزب الجمهوري الحاكم، حول مسألتين من خلالهما يتقرر مصير الاحتلال الأميركي للعراق، وهما:
الأولى: مكابرة الرئيس بوش في توصيف الوضع في العراق «نصمد في العراق... سننهي عملنا ولن ننسحب» على أنه انتصار لأميركا ولحماية أمنها الوطني. وفي المقابل يصف المعترضون، المقرَّبون من الإدارة، ذلك الوصف بأنه كذب وخداع وشعوذة.
الثانية: إن الهم الأساسي لإدارة بوش هو تجميد الوضع في العراق، على قاعدة أن لا تنتشر رائحة الهزيمة فتزكم أنوف الرأي العام الأميركي، لأن فيه خسارة إدارته في الانتخابات. وفي المقابل يفتِّش المعترضون عن أقصر طريق وأفضله لإخراج أميركا من نفق الهزيمة.
7- احتلال العراق والانقسام العامودي في المجتمع الأميركي
بين مؤيد لبقاء الولايات المتحدة الأميركية جمهورية قوية في علاقاتها مع حلفائها وبنيتها الاقتصادية الداخلية، وجانح نحو استكمال الحلم الإمبراطوري حتى ولو بتصدير القتل والغزو الثقافي للإيديولوجيا الإمبراطورية، بدأت مظاهر الاحتراب الداخلي الأميركي تشق طريقها إلى العلن، وبها انتقلت من حالة الاحتراب مع الخارج على قاعدة «الحلقة المفرغة من العنف والعنف المضاد»، لكي « تمتد إلى الصراعات العديدة التي تتشكل داخل بنية الإمبراطورية الأمريكية ولا تجد لها حلولاً».
إن جملة المتغيرات التي فرضتها الصدمة العراقية، من خلال ولادة المقاومة العراقية بشكل فاجأ المعترضين الأميركيين على الحرب قبل أن يفاجئ إدارة المتطرفين الجدد، سوف تفرض معادلة جديدة على العلاقات الداخلية بين شتى القوى السياسية الأميركية، بحيث يقف المكلَّف الأميركي بضرائب الدم والمال إلى جانب الخروج من سلسلة الحروب المتواصلة التي تشنها إداراته السياسية، الديموقراطية والجمهورية، ضد الخارج. وستفرض القاعدة الشعبية الأساسية في دفع التضحيات بالمال والروح، بعد أن تتراجع صورة «رامبو» الأميركي من مخيلتها، «رامبو» الذي يخرج من كل المعارك التي يخوضها من دون أن تسيل منه قطرة دم، أو من دون أن يلحق بثوبه لوثة من الغبار. وعندما ستظهر صورة «رامبو» الملوَّث بالدماء، أو المنقول إلى بلاده في نعش مغطى بالعلم الأميركي، أو القائلين عنه «رامبو الذي انتحر على أرض العراق من خوف أو من عقدة ذنب أو يأساً من عودته إلى وطنه»، أو الذي يسير على عكازين، أو تجرُّه زوجته بعربة المشلولين، أو الذي يزوره أولاده في مستشفى للأمراض العصبية أو العقلية، عندها فقط ستغيب صورة الفرد الأميركي الذي يتحمس إلى الذهاب خارج الولايات المتحدة الأميركية ليقاتل شبح الإرهاب، قبل أن يتسلَّل إلى غرفة نومه كما يكذب عليه رئيس إدارة بلاده وجميع أعضاء تلك الإدارة. لكنه لن يجده لأنه وهم اخترعته براعة إعلام إدارة المتطرفين الأميركيين الجدد
خامساً: عوامل الضعف في بناء علاقات دولية قائمة على الخداع:
1-الكذب والتمويه منهج الإدارة الأميركية مع حلفائها
أثار مضمون المشروع الأميركي وأهدافه مخاوف حلفاء أميركا، من أعضاء نادي الدول الرأسمالية. فهو بما تميَّز به من رعونة واستعجال مسبوكين بعنجهية وغرور لا مثيل لهما: سطوة القوة وسطوة المضمون الإلهي للرسالة، جعله يتعاطى باستخفاف بأعضاء النادي، وهذا ما أثار حفيظتهم وأصروا على التفتيش عن عالم متعدد الأقطاب، فوجدوا ضالتهم من دون إعلان- في نتائج أعمال المقاومة العراقية. فهم بعد أن اهتزوا من نتائج الحرب النظامية، وراحوا يتوسلون إعادة العلاقات مع أميركا خوفاً من استثناء شركاتهم من عقود ما سُمِّي «إعمار العراق» إذا بهم -وبعد أقل من شهر من إعلان بوش انتهاء العمليات العسكرية في العراق- يتماسكون ويستعيدون خطاب ممانعتهم للحرب ضد العراق من بعد أن ثبت لديهم مدى تأثير تلك المقاومة على منع الاحتلال الأميركي من تحقيق أهدافه. وبدورها راحت الإدارة الأميركية، مكتشفة تسرعها وحماقتها بمعاداة حلفائها، تتوسَّل مساعدتهم المادية والعسكرية.
2-كشف أكاذيب الإدارة في الذرائع التي مهَّدت للحرب:
ما إن وطأت قدما بوش أرض البيت الأبيض حتى كان مطلوباً منه أن ينفِّذ مخططاً كان أصحاب «القرن الأميركي الجديد» قد أعدوا له قبل سنوات، ووضعوا تفاصيله انتظاراً لوصول رئيس يبصم على تنفيذه. فكان جورج بوش هو المنقذ المخلِّص. ولما كان المخططون مستعجلين على تنفيذ المشروع، في عهد رئيس مطواع ومخدَّر نفسياً ومعبَّأ دينياً إلى حدود اللوثة، والسبب هو أنهم قد لا يحصلون على فرصة أخرى، كان الرئيس الجديد منذ أول خطواته في البيت الأبيض حريصاً على تنفيذه استناداً إلى اختلاق أكاذيب وذرائع كانت معدَّة سلفاً ليفتتح بها عهده.
ففي 26 آب أغسطس 2002، قال نائب الرئيس ديك تشيني «ليس هنالك شك في أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، ويحضّر لاستخدامها ضد الولايات المتحدة».
-دور أجهزة المخابرات الصهيونية: أكد تقرير نشر في مركز جافي «الإسرائيلي» للأبحاث التابع لجامعة تل أبيب أن إسرائيل كانت شريكا كاملاًً مع نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير في اختراع صورة استخباراتية كاذبة لأسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. وقال التقرير الذي نشرته صحيفة «EIR» الأمريكية إن حملة تشويه المعلومات قامت بها الحكومات الثلاث بتنسيق تام لتبرير غزو العراق. وقال كاتب التقرير الجنرال الاحتياط شلومر برون لـ«BBC» في 4 ديسمبر إن إسرائيل لم تكن فقط شريكاً كاملا... في تطوير صورة مزيفة، ولكنها أيضا عززت في قناعة الأمريكيين والبريطانيين بأن الأسلحة كانت موجودة. لو أن الاستخبارات الإسرائيلية قالت إن العراق لم يكن يملك تلك الإمكانات وأنه لم تكن هناك تهديدات حقيقية، فإن ذلك كان سيكون له بعض الأثر.
وعلى هذا السبيل سارت الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش، الذي كان منقاداً لها بدوره، وأمسكت باسطوانة وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وشارك في تقديم المعلومات بعض أوساط ما كان يُسمّى بالمعارضة العراقية، وقدَّم معلومات للمخابرات الأميركية كل من: أحمد الجلبي، وأياد علاوي، وعبد العزيز الحكيم.
حمَّل بوش (جماعة المؤتمر الوطني) المسئولية عن أي التباس في هذه الرؤية، والمثير أن احمد الجلبي لم يجد حرجاً في الاعتراف بجريمته بل قال إنه غير مهتم بأية اتهامات توجه إليه طالما أن الهدف من هذه المعلومات قد تحقق مبدياً استعداده ليكون كبش فداء للرئيس!! والأكثر إثارة أن المخابرات الأمريكية مازالت إلى اليوم تتعامل مع الجلبي بهدف تزويدها بمعلومات عن المقاومة العراقية . أما المقابل المعلن فهو 340 ألف دولاراً شهرياً. وقد أكَّدت أكثر من جهة أجنبية تلك الواقعة. وأهم الشهادات تسرَّبت من داخل البيت الأميركي، بل ومن داخل بيت إدارة المحافظين الأميركيين المتطرفين الجدد.
تعلم إدارة بوش أن ذرائعها لشن العدوان على العراق كانت واهية من الأساس. ولأنها كانت تعتمد على أن النصر العسكري يغفر لها كذبها. ولما منعت المقاومة العراقية تحقيقه، دبَّ الإرباك بين الصقور، فراحوا يهربون إلى الأمام بإصرارهم على خلق التبريرات. ومن وسائل الكذب الجديدة أن رأسها تراجع عن تصريحات سابقة تقول بأن أسلحة الدمار الشامل العراقية تهدد أمن العالم خلال خمسة وأربعين دقيقة، إلى القول بأن صدام حسين كان لديه «الطموح والقدرة لاستخدام أسلحة دمار شامل، حتى لو لم يُعثر على أسلحة».
وأخيراً، وبعد تكليف فريق أميركي للتفتيش قدَّم رئيسه (دايفيد كاي) استقالته بعد أن أكَّد أنه لم يحصل على أية إثباتات تدل على أن العراق يمتلك تلك الأسلحة. وكان لتصريحات كاي حول الأسلحة وقع الصاعقة على البيت الأبيض، فشكَّلت له إحراجات واسعة قد يدفع بعض أهم أعضائها الثمن.
ولم تمر أساليب الخداع إلاَّ وقد وجدت من يكتشفها من الأميركيين من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وهناك نماذج كثيرة من تصريحات ومواقف كاشفي تلك الأساليب. وقد أثار الكذب استنكاراً واسعاً في أوساط الشعب الأميركي، فاندفع الديموقراطيون (المنافسون للجمهوريين في الانتخابات الأميركية) إلى المزيد من التحريض ضد إدارة صقور «القرن الأميركي الجديد».
بعد أشهر قليلة اندفعت وكالات الأنباء الأمريكية لكشف أخطاء إدارة بوش التي وقع فيها قبل الحرب على العراق، وكانت التحليلات والمعلومات تنتشر على صفحات الكثير من الصحف تحت عناوين تتهم بوش وإدارته بالخداع. والإشارة إلى تلك العناوين ما يغني عن التفصيل في قضية أصبحت أكثر من واضحة لدى الجميع: «لم تكن ترسانة العراق موجودة إلا على الورق». و«تصاعد الضغط للتحقيق في عمل الاستخبارات في فترة ما قبل الحرب»، و«ما هو الخطأ الذي وقع؟»، وكشفت المعلومات عن إنشاء البنتاغون وحدة استخبارات خاصة به، للبحث عن معلومات تدعم ادعاءات الإدارة بشأن الحرب على العراق.
3- إستمرار الاحتلال الأميركي للعراق استنزاف لعلاقات أميركا الدولية
على الرغم من أن البعض قد يحسب أن أصحاب مشروع «القرن الأميركي الجديد» يضربون عرض الحائط بكل آراء حلفائهم في المنظومة الرأسمالية وبكل مظاهر الغضب في الرأي العام العالمي، وهم لا ينتظرون أن يستمعوا إلى نصيحة أو احتجاج، نقول: إن هذا صحيح فيما لو لم تتعرَّض الإدارة إلى مشاكل ومآزق تعجز عن إيجاد حلول لها تضطرها لطلب المعونة منهم، ولكن أن تتعرَّض إلى تلك المآزق فإنها ستفتح أذنيها لتصغي صاغرة.
ولأن الإدارة وضعت نفسها أمام العديد من المآزق في «الرمال العراقية»، وأثبتت الوقائع السابقة أنها تشعر بحاجة إلى مساعدة أصدقائها من الدول الكبرى في المنظومة الرأسمالية وطلبت منهم علناً تلك المساعدة. وهي لا تستطيع أن تعتمد على مجموعة من الدول الضعيفة من الذين تأمرهم فيطيعوا، لأنهم أصلاً- لا يملكون الإمكانيات المطلوبة. ولأن الدول الكبرى تعرف موقع إمكانياتها الحقيقية أصبحت كمثل من عرف الحاجة إليه «فتدلَّلاَ».
ولأن تلك الدول لا تريد على المدى الاستراتيجي- أن ينجح مشروع المتطرفين الأميركيين لخطورته الاستراتيجية على مصالحهم السياسية والاقتصادية في العالم، بل يرفضون أصلاً وفصلاً- ذلك المشروع، ويعملون من أجل ترسيخ مشروع بديل يقوم على قاعدة حماية النظام الرأسمالي لكن من دون هيمنة أحادية القطبية العالمية، بل أن تضمن حمايته بواسطة تعددية قطبية تسمح ببقاء توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
بعد أن تجاوزت الإدارة الأميركية، بكثير من الصلف والغرور، دور المجتمع الدولي. ولما شعرت أنها أصبحت شبه معزولة في حربها ضد العراق. ولما شعرت بثقل المأزق الذي وقعت فيه أمام شدة نشاط المقاومة العراقية، تراجعت عن صلفها السابق، وراحت تتوسَّل إلى دول العالم لكي تساندها. وكانت وسائلها تسير على خطين: خط العودة إلى هيئة الأمم المتحدة، وخط الضغط على بعض الدول الضعيفة، أو تلك المرتبطة مع المشروع الأميركي بمصالح اقتصادية.
أما حول الخط الأول، فهو التمويه على أهدافها، لأنها لا تريد من الأمم المتحدة إلاَّ أن تكون ستاراً سياسياً واقياً لأهدافها الحقيقية لأنها لا تريدها أكثر من صورة شكلية. فتاريخياً، وعملياً، كانت الأمم المتحدة، ولا تزال، وفي كل سلوكها السابق وخصوصاً خلال الحصار متساوقة مع الموقف الإنجلو صهيوني تجاه العراق، حتى وصلت الحال إلى تسليم الأمم المتحدة لكل ما لديها من أسرار عن العراق إلى أمريكا. وهي تريد أن تتدخل لتوفير تغطية له، وتريد أن تنقذ أمريكا. ففي العراق سيكون دور الأمم لا أكثر من مشرف على لجان ستدرس إمكانية حدوث انتخابات أم لا. أما الاحتلال، وبشكله الواقعي أو السيادي، فسيبقى لقوات الاحتلال. وستلعب دوراً مخدراً من شأنه أن يطيل أمده.
ولهذا السبب أعلنت قيادة المقاومة موقفها الواضح في كشف التواطؤ الذي تمارسه المنظمة الدولية بأوامر من الولايات المتحدة الأميركية. ورفضت أن يكون لها دور في العراق، لأن أي وجه من وجوه المساعدة التي قد تقوم بها الهيئة الأممية لن يكون إلاَّ تواطؤاً، فهي لم تتمتع «بالمصداقية والحياد على الإطلاق طيلة تواجدها وعملها التفتيشي على أرض العراق بحثاً عن أسلحة التدمير الشامل». وكان موظفوها «غير محصنين من التعامل أو الخدمة التجسسية لصالح الولايات المتحدة وغيرها».
ومما يذكر أن فضيحة التجسس على الأمين العام قد فتحت الباب أمام فضيحة ثانية تتعلق بتعرض هواتف مفتشي الأمم المتحدة في العراق لرقابة دائمة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أعلن ريتشارد باتلر رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية السابق أنه كان هدفاً لشبكة تجسس خلال قيامه بمهماته فيما بين العامين 1997 و1999 وقال:إن هواتفه كانت مراقبة على الدوام خلال مهمته في رئاسة وفد التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية موضحاً أن المراقبة كانت تتم من قبل جواسيس دول كبري، وأضاف على الأقل هنالك أربع دول كبري أعضاء في مجلس الأمن كانت تتنصت على كل محادثاتي.
من جهته اكتفي الأمين العام للأمم المتحدة بالقول إن المعلومات المخابراتية الخاطئة قد تسببت في أضرار يحتاج إصلاحها إلى وقت طويل دون أن يشير إلى حق المجتمع الدولي في معاقبة الذين خدعوه بتلك المعلومات، وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقفه من الفضيحة التي كشفتها الوزيرة البريطانية السابقة المستقيلة كلير شورت حين قالت: إن حكومة بلادها كانت تتجسس عليه بشكل منتظم، إذ اكتفي عنان بمطالبة لندن بالكف عن هذه الأساليب !!.
وابتدأت تداعيات خداع المجتمع الدولي تظهر تباعاً. فقد أعلن ثاباتيرو، رئيس الحكومة الإسبانية الجديد، تحديه لـجورج بوش حيث قال: إنه لن ينصاع لمطالب الرئيس الأمريكي بأن تقف القوات الإسبانية جنبًا إلى جنب مع قوات الاحتلال الأمريكي في العراق. وقال إنه سيعلن عن استدعاء 1300 عسكري أسباني منتشرين في العراق منذ صيف 2003، بعد تسلم مجلس النواب الجديد مهامه ، وقال: إن حرب العراق كانت كارثة، والاحتلال كارثة. وهذا ما نفَّذه بالفعل ابتداءً من 20/ 4/ 2004م.
ولحق به وزير الدفاع في دولة هندوراس الذي صرَّح بأن حكومة بلاده قررت سحب قواتها العسكرية الموجودة بالعراق والبالغ قوامها370 جنديًا يعملون تحت القيادة الأسبانية التي تعمل بدورها تحت القيادة البولندية في محافظات العراق الجنوبية والوسطى.
كما صرَّح وزير الخارجية الكرواتي أن بلاده تراجعت عن إرسال قوات إلى العراق والتوقيع على اتفاق مع واشنطن يعفي الجنود الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وعلى الصعيد نفسه أعلنت كوريا الجنوبية أنها ستؤخر إرسال قواتها إلى العراق إلى آخر حزيران/ يونيو بدلاً من نيسان/ أبريل. وإلى أنها تفضل إرسالها إلى أحد المناطق الجنوبية بعد اتضاح استمرار تدهور الموقف الأمني بمدينة كركوك الشمالية وهو ما كانت الولايات المتحدة تصر على استخدام القوات الكورية في العمليات الأمنية هناك.
وفى استراليا، حدد زعيم حزب العمل الأسترالي، إذا ما فاز الحزب في الانتخابات الاتحادية العامة ،أنه سوف يعيد تلك القوات إلى الوطن بحلول أعياد الميلاد.
بعض الغربيين، ومنهم من مواطني التحالف الأميركي البريطاني، لم يجدوا أي سبب يبرر الاحتلال، كمثل الاتهام الذي وجَّهه عضو بارز في مجلس اللوردات البريطاني للمدعي العام غولد سميث بأنه قام بالبحث عن تفسير قانوني بأي ثمن لتبرير الحرب علي العراق أو بعبارة اللورد »قحط قاع البرميل القانوني بحثاً عن تفسير». ولأن قرار الحرب على العراق واحتلاله كان من دون غطاء قانوني أو شرعي، خاص أو عام، وُصِف العمل الذي تشاركت فيه بريطانيا وأميركا بأنه «سطو مسلَّح».
لكل تلك الأسباب، ستتعرض تحالفات الولايات المتحدة الأميركية الدولية والإقليمية إلى شروخ و تصدعات و انهيارات يصعب على أي محلل تصورها و تقديرها من الآن؛ ولكنها بلا شك ستكون فادحة. ولم تتردد بعض الأصوات الداخلية الأميركية عن الكشف عن مصير أميركا من دون تحالفات دولية، أو عن مصيرها وهي تتفرَّد في قيادة العالم بعيداً عن أية مساندة دولية، السبب الذي يساعد على الدعوة إلى التعددية القطبية:
تلك هي مادلين أولبرايت، وزيرة سابقة للخارجية الأميركية، وممن لا مكان في قلبها حباً بنظام حزب البعث في العراق، وممن لهم علاقات وثيقة مع العدو الصهيوني، تتوجَّه بالنقد المشوب بالخوف- من مستوى الأداء السيئ التي هي عليه إدارة المحافظين الأميركيين المتطرفين الجدد. وهي تستند في مخاوفها إلى أن الشعب الأميركي لن يستطيع أن يتحمَّل مشاهد التوابيت الجديدة التي تصل إلى أميركا كل يوم، والخوف الأشد هو أن تلك التوابيت تصل من دون أي أفق منظور للحد من وصولها من جهة، ولأن أميركا لا تقبض ثمنها «سنتاً واحداً» من جهة أخرى. وإذا كان على أميركا أمبراطورية الرأسمالية في العالم- أن تقوم بمغامرات حربية مجزية ومن دون ثمن، عليها أن تحصِّن حروبها بدائرة من القطبية الرأسمالية المتعددة.
فإذا كان المشروع الإمبراطوري الأميركي يقوم على (عقيدة الولايات المتحدة بلاد الرب المختارة)، فهذا لا يترك مكاناً لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية في تلك العقيدة لأنهم ليسوا أميركيين، ولن يترك مكاناً أيضاً لبقية دول العالم الممثلة في الهيئة العامة للأمم المتحدة. تلك الإيديولوجيا جامحة بلا شك، وهي لن تتعايش مع غيرها من الإيديولوجيات الأخرى، حتى تلك التي يأتي تصنيفها في نادي الدول الرأسمالية، فكيف يكون الأمر في مثل تلك الحال- مع الدول الأخرى المفترَض أن تكون هدفاً لابتزاز الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها؟
فإذا كانت الولايات المتحدة تضغط على الدول الفقيرة، أو التي تحتاج إلى إعادة جدولة ديونها، فإن تشكل حلف دولي تقوده أوروبا أصبح أمراً ميسوراً أكثر من أي وقت مضى، وهو بدوره يشكل تهديداً يكبح جموح الحلم الإمبراطوري. وبهذا «يمكن لاتحاد أوروبي عملاق أن يجني ثمار تجنب محاكاة الإمبراطورية الأمريكية ويدعم منظمة الأمم المتحدة».
فإذا كان جموح المتطرفين الأميركيين الجدد لا يرى ولا يسمع أي شيء خارج ذاته، لأنه لم ييأس من إمكانية نجاح مشروعه، وهو يتابع ما يعتبره لعبة النجاح حتى آخر أشواطها في العراق، فإنما يحدوه أمل بتحقيق نصر ما حتى لو كان محدوداً- ليجدد انتعاش الحالة الأميركية الداخلية، إلاَّ أن عوامل الصراع الداخلي الأميركي ستدفع بالطرف المعارض إلى تلقف الرسائل الأوروبية بجدية واهتمام. وبالتالي إن العامل الأوروبي، بما يمكن أن يولِّد من متغيرات على صعيد العلاقات الدولية خاصة على صعيد المنظمة الدولية- سيكون لاعباً داخلياً مؤثراً في السياسة الداخلية الأميركية، بمعنى أن يكون معانداً ضد مشروع الأميركيين المتطرفين، ومسانداً للمعتدلين من الحركات والأحزاب والقوى الأميركية، أو بتشبيه أقرب للواقع من الممانعين للمشروع الذي تنقاد إليه إدارة الرئيس جورج بوش الإبن.
أما الحقيقة فهي أن غرق الأميركيين في العراق سيؤدي إلى حصول أزمة في الطاقات المالية للإدارة الأميركية. إن «إصلاح العراق سوف يستهلك أغلب الطاقات المتاحة للإدارة الأمريكية على مدى العام 2004م، والذي سيكون التركيز خلاله منصباً على احتواء الأزمات الأخرى وبناء إجماع دولي أكثر صلابة بشأن الردود الصحيحة على الكثير من التحديات الأمنية».
وبالإجمال، شنت أميركا حربها بطريقة تفتقر إلى الأمانة أفقدتها حلفاءها الأساسيين، وأجّجت غضب الرأي العام العالمي، وصبت براكين من الكراهية وجعلت الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة والنصر فيها أبعد مما كان.
4-مظاهر الفشل في علاقاتها الدولية
تبيَّن عمق الإشكالية التي تفصل بين دول النادي الرأسمالي، بحيث أوصلت السلوكات الأميركية، حبل الود مع حلفائها إلى حافة القطيعة. وتعمل تلك الدول على استنفاد وسائل اللعبة الديبلوماسية مع أميركا. ولم تتوقَّف ممانعة الدول الصديقة لأميركا عند حدود روسيا وألمانيا وفرنسا، بل أخذت هواجس الخوف من الابتلاع الأميركي تراود حليفتها بريطانيا. وكي لا تقطع بريطانيا حبال العلاقات الأوروبية فتظهر معزولة، ابتدأت تميز نفسها عن أميركا حتى ولو بالشكل. وهذا مصدر قلق للإدارة الأميركية، التي وإن استطاعت أن تجر بالقوة البعض إلى متاهات مشاريعها المتفردة، فقد أصرَّ أصدقاؤها التقليديون على منعها، حتى ولو بالوسائل الديبلوماسية، عن الاستمرار في الانفراد والتفرد بحكم العالم.
لم تنج الإدارة الأميركية من حلفائها الذين أسعفوها بالجنود بل راح بعضهم يشكك في صدق ذرائعها التي ضللتهم بها لخوض الحرب، ويشكك بمصداقية إعلامها الذي يصوِّر الاحتلال إعماراً. وسارعت أكثر من دولة إلى اتخاذ قرار بسحب قواتها من العراق، بل ودعت الأميركيين والبريطانيين إلى القيام بذلك، كمثل ما حصل في أسبانيا. أما بعض الدول الأخرى فأعلنت استياءها من تضليل الإدارة الأميركية، وقد تكون تلك التصريحات مقدمة لانسحاب أو مقدمة للامتناع عن المشاركة، كمثل الموقف البولندي، والإيطالي، والكوري الجنوبي.
فمعظم قوات تحالف الدول الأربعين الذي تحدث عنه وزير الدفاع الأمريكي، إما قررت الخروج من المدن الواقعة تحت سيطرتها. أو التمترس في قواعدها بعيداً عن المدن. وبدون غطاء دولي للغزو فأمريكا لا تستطيع حشد قوات دول أخرى ربطت مشاركتها للقوات الأميركية في العراق بقرار من مجلس الأمن، مثل تركيا والباكستان وفرنسا وألمانيا.
إن أي فشل تمنى به السياسة الأمريكية ، سوف لن يقتصر أثره على إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وإنما سيدفع ثمنه، أيضاً، جميع حلفاء الولايات المتحدة.

ليست هناك تعليقات: