الخميس، فبراير 25، 2010

استمرار المقاومـة العراقيـة يردم المسافـة

-->
استمرار المقاومـة العراقيـة
يردم المسافـة الفاصلـة بين مفهوميْ النصر والهزيمـة«.
نشرته جريدة الكفاح العربي في عددها الرقم (3539) تاريخ 28/ 7/ 2003م
 
يدخل إلى حلبة الصراع، دائماً، طرفان. لكل طرف أهدافه، بحيث يُضفي على مشروعية قيامه بالقتال ضد الآخر، حججاً تبرهن وتثبت حقه في وجه خصمه. ويتم الصراع، عادة، بين الطرفين بوسائل عديدة، منها الصراع الإيديولوجي والفكري والسياسي، ومن أهمها الصراع العسكري الذي يعد له الخصمان كل الإمكانيات المتاحة له، وتشمل الرجال والآلة، وهي الموازين المادية. وتلك الموازين المادية، هي،عادة، العنصر الحاسم في الصراع العسكري.
ولأن الأسلوب العسكري هو الوجه الآخر للحرب السياسية والإيديولوجية والفكرية والثقافية، لن تكون نتائج الحرب العسكرية حاسمة إلاَّ إذا طالت النتائج تغييراً في الاتجاهات السياسية والفكرية والإيديولوجية للخصم المهزوم عسكرياً.
لا بُدَّ، هنا، من أن نحسب أن قوة الحق هي من القيم الإنسانية التي لا يمكن إغفالها من موازين القوى، بل هي من الموازين القيمية الإنسانية التي تحصِّن صاحب الحق من أن لا يتنازل عن حقه.
بناءً عليه يمكننا أن نسهم في صياغة مفاهيم النصر والهزيمة.
من علامات النصر أن يحقق أحد طرفيْ الصراع الفوز على خصمه عندما يرغمه على الاعتراف له بمشروعية أهدافه. ولكن حتى ولو أرغم خصم خصمه، عسكرياً، على الاستسلام من دون الاعتراف له بمشروعية أهدافه- يبقى النصر مبتوراً.
وعندما تفشل قوة الحق عن تحقيق النصر العسكري، لغياب التكافؤ بموازين العوامل المادية، ولكنها تتشبَّث بحقوقها المشروعة، وتدافع عنها بشتى وسائل الممانعة المتاحة، يعني أن النصر لم يكتمل للخصم القوي، والهزيمة تبقى ناقصة الشروط بالنسبة للطرف الضعيف.
كمثال على ذلك: إنتصرت الصهيونية، عسكرياً، على الشعب الفلسطيني منذ بداية تأسيس كيانها على أرض فلسطين- وعملت جاهدة على انتزاع اعتراف الشعب الفلسطيني بمشروعية كيانها، لكن الشعب الفلسطيني، على الرغم من هزائمه العسكرية التي تمظهرت في أكثر من منازلة أو معركة، لم يعترف للصهيونية بمشروعية أهدافها. وظهر ذلك عندما انخرط الشعب الفلسطيني بسلسلة من وسائل المقاومة الفكرية والسياسية والعسكرية ضد الخصم الصهيوني. ولما لم يتوقَّف الصراع، بل هو قائم ومتجدد منذ أكثر من خمسين عاماً- نجد ما يدفعنا إلى القول بأنه لهذا السبب وحده، نحسب أن الصهيونية لم تسجل نصراً كاملاً فحسب، بل إن الشعب الفلسطيني لم ينهزم أيضاً.
في العام 1973م، حققت القوات المصرية نصراً عسكرياً على القوات الصهيونية، وكان عليها لكي تسجِّل نصراً كاملاً أن تمنع الصهيونية من تثبيت ما سرقته من حقوق عربية. لكن، على الرغم من تحقيق النصر العسكري المصري، دخلت مصر في سلسلة من المفاوضات كان من نتائجها الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيوني، فتكون بذلك قد شطبت نتائج حرب العام 1973م، وجرَّدتها من شروط الانتصار، وحوَّلت تلك النتائج إلى هزيمة عندما رضخت أمام العدو الصهيوني للتنازل عن حقوق قومية خاصة وحقوق قيمية إنسانية عامة.
ليست، إذاً، نتائج العوامل العسكرية هي التي تحدد مفاهيم النصر والهزيمة، بل الرضوخ إلى التنازل عن الحقوق أو الممانعة في التنازل عنها هي التي تحدد تلك المفاهيم.
بناء عليه نقول للكل من يحلو له أن يهلل للنصر الأميركي، أو يعلن سخطه على الهزيمة العراقية، نرى أن تحديد موقع المقاومة الشعبية بشتى أشكالها ووسائلها، ومنها المقاومة الشعبية المسلَّحة- يأتي في قلب العوامل التي على الشعوب التي لا تمتلك وسائل الانتصار العسكري أن توليها الاهتمام الكافي.
أن تتمظهر بعض معالم المقاومة الشعبية لقوى الاحتلال بشكل عام- لهو دليل على الممانعة والرفض، أي دليل على أن تلك القوى لم تتنازل للمحتل عن حقوقها ولم تعترف بمشروعية أهدافه، وإذا كانت مظاهر استخدام الدفاع السياسي والفكري عن عدد من القيم الوطنية التي يعمل المحتل على انتهاكها، فإن مظاهر رفض التعاون السلبي مع الاحتلال هي من القيم الأخرى. وتكون المقاومة المسلَّحة التي تعتمد أسلوب حرب العصابات هي من أهم عوامل الرفض الوطني الذي يجرد العدوان من تحقيق نصر كامل، ويستبعد الهزيمة الكاملة للشعب المقاوم.
في التاسع من نيسان من العام 2003م، وُضعت تيجان النصر على هامات الأميركيين، ونال العرب هذه المرة- هزيمة أخرى في العراق. وكثير من الذين اقتنعوا بأن نتائج الإعلان كانت نهائية، وبعد أن تواترت أخبار الأعمال الفدائية ضد قوات الاحتلال، انشدَّت أنظارهم من جديد وبشيء من التعجب- باتجاه الفعل المقاوم على أرض العراق ضد قوات الاحتلال الأميركي البريطاني.
هنا نتساءل ما هي أسباب تغيير المزاج الشعبي، سواء على مستوى الجماهير الشعبية أو مستوى المنظمات الحزبية أو الثقافية أو الفكرية؟
هذا المزاج هو من انعكاسات منهج التفكير الذي يشكل خصوصية في العقل العربي الراهن. هذا العقل الذي لم يرتق، أو لم تستطع المؤسسات الفكرية والسياسية أن ترتقي به إلى المستوى الناضج الواعي والموضوعي.
بين أسابيع وأخرى تتبدَّل أحكام حول ظاهرة محددة من إلصاق كل السلبيات، في نتائجها، إلى أحكام تتسم بالإيجابية والإعجاب.
إنه المزاج وليس غير ذلك.
حان الوقت لأن ترتقي الحركات الحزبية والثقافية والفكرية من مستوى المزاج إلى المستوى الفكري الاستراتيجي. وعلينا أن نعيد النظر في تقصير المفاهيم الفكرية العامة، أو المفاهيم الفكرية السياسية الخاصة، التي نستعين بها في إطلاق الأحكام على هذه الظاهرة أو تلك.
لقد حسب الكثيرون أن النصر كان من نصيب قوى العدوان، والهزيمة هي من نصيب نظام الحزب الحاكم في العراق. وأخذت الأكثرية من القوى المعادية وبعض القوى المخلصة تعمل على تقييم نتائج الحرب بناءً على مكاييل غير صالحة للاستخدام في مثل تلك الحالات.
وأصبح الحديث عن الهزيمة وكأنها حقيقة رديفة لكل نضالات تيارات حركة التحرر العربية. وتوجُّه الخطاب العربي إلى الترويج لمثل هذا الخطاب، سواء كان صادراً عن سلامة الطوية أو سوئها، يسهم بشكل غير مباشر في تأسيس حالة انهزام نفسية تنعكس آثارها على ثقافة الجماهير التي لا تمتلك رؤية التخلص من آثارها السلبية على المدى البعيد، فتكون تيارات حركة التحرر العربية كمن تضع في مواجهة نضالاتها الكثير من العوائق ومن أهمها زرع روح الانهزام واليأس في نفوس الجماهير التي تشكل المعين الرئيس في رفد كل تياراتها بالبُنى البشرية الأساسية لمتابعة طرق النضال ووسائله.
وحيث إن تيارات حركة التحرر العربية، لم تعلن يأسها من العمل الثوري كمجموعات، على الرغم من بروز ظاهرة اليائسين كأفراد، عليها أن لا تزرع منطق الهزيمة من خلال خطب الهزيمة السياسية والفكرية التي تمارسها على تجاربها الخاصة أو تجارب الآخرين.
لماذا نقف ضد منطق الترويج للهزيمة؟ وإلى ماذا نستند في اتخاذ هذا الموقف، والتأسيس لمفهوم جديد له؟
لا شك في أن تأسيسنا لمفهوم جديد لمعاني النصر والهزيمة سوف يثير استغراب الأكثرية المطلقة من حركة الناقدين لشتى تجارب الأمة العربية.
لقد انتهج الخطاب السياسي المرحلي، وحتى الفكري الثابت، خطاً مسكوناً بهاجس الهزيمة. ويتَّسم هذا الخط بمنهجية الإلغاء لكل نتائج التجارب السابقة، السلبي منها والإيجابي، وأصمَّ الجميع آذانهم عن القول الذي ينحو باتجاه تفسير الأمور على واقعيتها من دون مبالغة في تسقيط التجارب بالكامل أو في تثبيتها بالكامل.
يقيم الخطاب السائد حدَّيْ المعادلة على أساس إما هزيمة كاملة أو نصراً كاملاً، وألغوا المسافة بين المفهومين، تلك المسافة الملغاة هي التي سنحاول أن نملأها على الشكل التالي:
إذا كانت موازين الصراع تقاس بمقاييس القدرات والإمكانيات العسكرية، وإذا كانت القوى الكبرى، التي تمتلك الإمكانيات العسكرية الكبيرة لن تسمح لأية قوة أخرى بامتلاكها، وبشكل خاص دول العالم الثالث، ويأتي على رأس دول العالم الثالث دول المنطقة العربية،
يعني ذلك أننا لن نمتلك قوة موازية لقدرات الدول الكبرى، ويعني هذا، أيضاً، أننا سنكون في حالة من الصراع الدائم مع تلك القوى، وإذا استمرت حالة الصراع، في ظل حالة اللاتوازن في القوى العسكرية، يعني كل ذلك أننا سوف نكون مهزومين دائمين.
استناداً إلى كل ذلك نرى أن على تيارات حركة التحرر العربية إذا كانت مصرَّة على تعريف مفاهيم النصر والهزيمة على قاعدة نتائج العمليات العسكرية- أن تعلن الهزيمة الدائمة مرة واحدة، وهذا أفضل من أن تعلنها بالتقسيط، لأنها تحوِّل تيارات الحركة إلى جوقة من الندَّابين تحت ذريعة أنها تمارس النقد لتكون ثورية وجريئة على نفسها، لأن عوامل تحقيق نصر عسكري في أوضاع الانحياز الإمبريالي لمصالحه- لن يسمح للعرب بأن يصلوا إلى أية حالة من التوازن العسكري مع القوى الرأسمالية والصهيونية العالميتين.
ولأن واقع الحال على تلك الحال، فمن المهم أن تعمل تيارات حركة التحرر العربية في سبيل ابتكار صيغ وأساليب توفر فيها على نفسها الوقت الذي تصرفه على وسائل »الندب« تحت ذريعة ممارسة النقد الشجاع. وهي توفِّر على جماهيرها عبء الشعور بالذنب الدائم، الشعور الذي يضعها في دائرة الشعور بالهزيمة الدائمة.
والأجدر بتلك التيارات، إذا أصرَّت على منهجها التقليدي في الندب / النقد، أن تعلن تأجيل صراعاتها مع قوى الاستعمار والاستعباد والاستغلال إلى أجل غير مسمى ترتبط حدوده الزمنية مع المرحلة التي تصل فيها الأنظمة العربية وهي لن تصل- إلى امتلاك قدرات عسكرية مادية تسمح لها بإحداث توازن في القوى بينها وبين الاخصام الذين تقارع.
وحيث إن منطق التأجيل هذا، هو اللامنطق بعينه، على حركات التحرر أن تضع في موازين القوى في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية العالمية حسابات أخرى، من أهمها تلك التي يحلو للبعض أن يصفوها بالرومانسية أو السوريالية، هي حسابات القيم الإنسانية (الوطنية والقومية والسيادة على الأرض وعلى القرار، والتصدي إلى منطق الظلم والاستعباد والاستغلال) وموجبات كل ذلك الحالة النضالية والتضحية والشهادة بالنفس... وتترجم كل نضالاتها في أسلوب المقاومة الشعبية، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة الطويلة الأمد. وإن المقاومة الشعبية المسلَّحة كما أثبتت كل وقائعها التاريخية أنها الأسلوب الذي يسهم في تعديل موازين القوى المادية العسكرية في الصراع بين الشعوب التي تنشد التحرر من الاحتلال الأجنبي.

ليست هناك تعليقات: