-->
-->
عام 2003م بعد سقوط بغداد:
هل كان عام السقوط النهائي؟ أم بداية النهوض الفعلي؟
نشرته مجلة الوفاق العربي – تونس في تشرين الثاني من العام 2003م
إن المقصود من الإشكالية التي يطرحها عنوان الملف، ذو علاقة بحركة التغيير على مستوى الأمة العربية. هذه الأمة التي تخوض تجربة مهمة في أدقِّ مراحلها التاريخية، ومن أهم مظاهر تلك التجربة هو اعتبارها أن الصراع مع تحالف الاستعمار الجديد والصهيونية العالمية صراع استراتيجي.
بداية لا يمكن أن نحكم على أن سقوط الأرض تحت الاحتلال هو سقوط نهائي للأوطان، فالسقوط مسألة نسبية ذات علاقة بديمومة الحركة النضالية للشعوب أو جمودها. فما دامت تلك الحركة موجودة فالسقوط لم يحصل. ومن دلائل عدم وقوعه هو أن الصراع بين الأمة وأعدائها متحرك، وحركته الظاهرة مرئية وملموسة من خلال ما يبذله أبناؤها، أو جزء منهم، من فعاليات نضالية في شتى الحقول: الفكرية والسياسية والثقافية، وفي المقدمة منها فعاليات المقاومة المسلَّحة، التي تمارسها بعض تيارات الحركة العربية الثورية.
الساحة العربية متحركة، ولكنها بطيئة في حركتها. ولن يدفعنا بطؤها إلى حدود اليأس. ولأنه عائد فبطؤها عائد إلى عدد من العوامل السلبية: منها الفكري والثقافي والسياسي، يمكن بتسريع السيطرة على تلك العوامل أن نجعل الحركة النضالية أكثر دينامية وفعالية وتأثيراً.
من ضمن تلك العوامل، والتي هي من مسؤولية الحركة الفكرية العربية، تأتي صياغة عدد من المفاهيم ذات العلاقة بموازين الصراع بين الأمة وأعدائها، خاصة منها ذات العلاقة بالجانب العسكري النظامي. أما لماذا الجانب العسكري؟
لقد استندت مفاهيمنا في تقييم نتائج الصراع –حتى الآن- إلى هذا الجانب. ولأنه من الآليات السياسية التي نستند إليها في تعريف مفاهيمنا نعطيه الأولوية بالتقييم من بين العوامل الأخرى. فبالتركيز عليه إنما نقوم بإبراز الآليات الأكثر تأثيراً، في المهمات النضالية ضد الصهيونية والاستعمار، وليس الحصر.
كانت نتائج المعارك العسكرية النظامية، ولا تزال، المكيال التي نقيس –على أساسها- مفاهيم النصر والهزيمة. فمن خلال تجارب الحروب النظامية التي خاضتها الأنظمة العربية كانت نتائجها لغير صالحها، لذا أصبحت منطلقات خطاب الهزيمة هي الرائجة؛ ومنها تولَّد ما يُسمَّى بهاجس الهزيمة، الذي سكن خطاب شتى القوى والأحزاب السياسية والأوساط الفكرية، ومنه تراكم كمٌّ كبير من أدب الهزيمة وفكرها وثقافتها، وسيطر على مضامين الخطاب السياسي العربي، فتأثرت به ثقافة الجماهير الشعبية، وحوَّلتها إلى مجاميع من »الندَّابين« الذين فقدوا ثقتهم بكل شيء له علاقة بالخطاب، السياسي والثقافي، القومي العربي.
إن تجميد الحركة الفكرية والثقافية والسياسية عند آليات مفاهيم التقييم السائدة متأتٍّ من أنها تدور حول نقد الأداء العسكري النظامي، ونقد ما يُلحِق تقصير الأنظمة الرسمية بالأمة من هزائم. ولأن الأنظمة الرسمية لن تستطيع كسب معركة عسكرية نظامية واحدة، لعدة أسباب، فلنعلنها مرَّة واحدة: إن النظام الرسمي العربي كسيح وعاجز ولن يستطيع أن يُنتج الحركة النضالية والتغييرية المنشودة.
ولأن النظام العربي الرسمي ليس المقصِّر الوحيد فحسب، وإنما ميؤوس من تبديل اتجاهاته بشكل يواكب المخزون النضالي للشعوب أيضاً، نتساءل: ما هو البديل؟
ولكي نُسهم في صياغة الحلول، نرى في تقييم التجربة العراقية، بعد سقوط بغداد، ما يساعدنا على ذلك. وبداية نتساءل: هل سقطت بغداد فسقط العراقيون معها؟ وهل سقطت بغداد، فسقطت الحركة النضالية العربية ضد الصهيونية والاستعمار؟ وهل سقطت بغداد وحُسمت نتائج الصراع لصالح الصهيونية والاستعمار الأميركي الجديد؟
للإجابة على ذلك، نعود إلى استذكار بعض المخزون النضالي للأمة العربية؛ فماذا نجد؟
بالأمس سقطت حيفا ويافا والقدس؛ وسقطت الجزائر، وسقط الجولان وسيناء وقناة السويس؛ وسقطت بيروت وصيدا وصور ومرجعيون وبنت جبيل. ولكن على الرغم من ذلك السقوط، رأينا أن حركة الصراع مع التحالف الأميركي – الصهيوني لم تتوقَّف بل استمرَّت ولا تزال.
وإذا كنا قد أعلنَّا هزيمة النظام العربي الرسمي بعد كل تلك السلسلة من السقوط، وروَّجنا لأدب الهزيمة، فإن في استمرار الحركة النضالية القومية، على الرغم من ذلك الإعلان والترويج، ما يثير التساؤل، ويوجب البحث عن السر من وراء ذلك؟
إذا كان من المطلوب أن لا تتوقف قوى الثورة العربية عن نقد النظام العربي الرسمي، فالمطلوب –أيضاً- أن تفتش عن البديل الذي يتوافق مع إصرارها على متابعة النضال؛ و إلاَّ سوف تبقى في قمقم »النقد للنقد«، وسوف تبقى على هامش الحركة النضالية، فتتآكل ويصيبها الاهتراء، وتتجمَّد –كما هي الآن-عند آليات ومفاهيم تجاوزتها التجربة النضالية.
هنا، نستحضر عدداً من العوامل التي أبقت الحركة النضالية مستمرة على الرغم من اليأس من الأنظمة، و على الرغم من الإعلان عن هزيمتها الدائمة:
1-لقد شيَّعنا المراهنة على النظام العربي الرسمي إلى مثواها الأخير، وأعلنَّا هزيمته الدائمة في الحرب النظامية وغيرها من أشكال التقصير. وعرفنا أسباب تقصيره، ولا لزوم للمراهنة في المستقبل القريب على تغيير سحري في أدائه. وأصبح تكرار نقده، على قاعدة أنه المسؤول الوحيد عن الهزائم التي تلحق بالأمة، ليس إلاَّ من قبيل »النقد للندب«، فتصحيح أدائه –في ظل المعطيات الحالية- أصبح بحكم المستحيل.
2-أثبتت التجارب النضالية الشعبية –ومن أهمها المقاومة المسلَّحة- بقيادة تيارات وأحزاب وقوى الثورة العربية، أنها الطريق الوحيد المتاح لضمان استمرار حركة الصراع مع الصهيونية العالمية والاستعمار بوجهيه القديم والجديد، الذي تقوده –اليوم- الولايات المتحدة الأميركية بحلة جديدة ووسائل جديدة ووظائف جديدة.
3-لقد أعلنَّا في الماضي، ونعلن في الحاضر، ونعلنها للمستقبل، أنه لا يمكن أن نستسلم لنتائج الحروب النظامية، إنما البديل هو المقاومة الشعبية التي أثبتت جدارتها في كل معارك العرب ضد كل أنواع العدوان: صهيوني كان أم أمبريالي. ومن الواجب أن نعمِّم –على شتى المستويات الفكرية والثقافية والسياسية- أدب وثقافة وفكر وسياسة المقاومة الشعبية، ومن أهمها وأكثرها تأثيراً المقاومة المسلحة على قاعدة حرب العصابات.
فإذا أصبحت مكاييل نتائج الحروب النظامية لا تصلح لتحديد مفاهيم النصر والهزيمة، فإن مكاييل المقاومة الشعبية الطويلة الأمد هي المكيال الفعلي لتلك المفاهيم. .فيصبح لدينا فكر وأدب المقاومة الشعبية، وثقافتها، بديلاً لفكر وأدب هزيمة النظام العربي الرسمي وثقافته.
واستناداً إلى إثبات فعالية المقاومة الشعبية المسلَّحة، تستطيع تيارات الحركة العربية الثورية أن تؤسس لمفاهيم جديدة فاعلة للنضال، التي تجعلنا نخرج من أسر المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة؛ وعلى أساس تلك المفاهيم تتحمل تلك التيارات مسؤولية إدامة حركة النضالات الشعبية أو تجميدها. وبهذا لن يبقى جدار النظام العربي الرسمي الشمَّاعة الوحيدة التي نلقي عليها كل مفاهيم التقصير والهزيمة. وبمثل تلك المفاهيم تشعر الحركة الجماهيرية، وبكل فرد من أفرادها، أنها تتحمَّل مسؤولية ما، أو جزءاً من المسؤولية، في رفد الحركة النضالية على المستويات الوطنية والقومية.
آخذين بالاعتبار تلك المقدمات، لنتساءل: هل كان العام 2003م –بعد سقوط بغداد- هو بداية السقوط؟ أم بداية النهوض؟
سقوط بغداد، تحت ضغط الآلة العسكرية الأميركية، مترافقاً مع صعود المقاومة الوطنية العراقية يعني أنها لم تسقط، ولم تنهزم أيضاً.
كان سقوط بغداد يعني سقوطاً لنظام عربي آخر. وبصعود المقاومة العراقية، بقيادة الأمين العام للحزب الذي كان على رأس السلطة، ما أثار الحيرة والدهشة. وفي كل ذلك ما يدل على أن في التجربة العراقية شيء جديد ومثير. ففيها تلاحم السلطوي مع الثوري. وهذا مثال لم تعرفه كل التجارب العربية والعالمية أيضاً.
لقد توهَّم الكثيرون أن سقوط بغداد هو هزيمة جديدة للنظام العربي الرسمي، فكالوا الاتهامات –يميناً ويساراً- وكأنهم فقدوا الأمل واستسلموا إلى اليأس من تحقيق نصر، فنعوا –بسقوط بغداد- الفكر القومي، وبشَّروا بنهاية عصر القومية العربية. ولكن…
لم يمر أسبوعان على تاريخ السقوط حتى أخذت أخبار العمليات الفدائية في العراق تصل إلى المسامع، فأخذت بوصولها تتغير الأحكام، وعاد الأمل إلى النفوس، والتقط الكثيرون أنفاسهم، وعاد الأمل إلى نفوسهم. وكلما كانت وسائل الإعلام تكشح التعتيم عن أخبار المقاومة كلما كان الإعجاب يتراكم. فماذا حصل؟ ولماذا انقلب المزاج بالأحكام عند النخب المثقفة –كما عند الجماهير الشعبية- على حد سواء؟
ومن خلال تلك الفرادة نقول بأن سقوط بغداد، وصعود المقاومة الشعبية، هما بداية النهوض، ليس لأن في العراق انطلقت المقاومة الشعبية، فالمقاومة هي تراث قومي تاريخي، ومعاصر أيضاً؛ كانت بدايته –في تاريخنا الحديث والمعاصر- على أرض فلسطين وفي الجزائر، ومرَّت في لبنان، وهي تصل اليوم إلى بغداد.
أما الفرادة في التجربة العراقية فتتمثل بعلاقة السلطوي الرسمي مع الثوري الشعبي، وهي –بلا شك- تجربة جديدة. وقد انبنت تلك الفرادة على أن النظام السياسي في العراق –قبل احتلال بغداد- كان يرتبط بعمق استراتيجي فكري وسياسي، وهو فكر حزب البعث. كان البعض يتوهَّم أن حزب البعث انتهى بانتهاء السلطة، ونعوه ونعتوه، وحسبوا أن تجربة حزب البعث في السلطة شبيهة بغيرها من تجارب الأنظمة العربية الرسمية. فغابت –بمثل هذه الحالة- مساحة ما عن الرؤية. وإن سببه –كما نعتقد- التكاسل، أو التغارض، عن معرفة حقيقة الأمور حول تجربة النظام السياسي لحزب البعث في العراق.
لو قلنا ما سنقوله الآن –قبل ظهور المقاومة العراقية- لاعتبره البعض حكماً متحيِّزاً ومتعصباً. أما شهادتنا وقناعتنا فهي التالية:
حزب البعث حزب للثورة العربية، أما السلطة فهي إحدى أدواته التي يضعها في خدمة الثورة. فلو فقد الحزب السلطة لن ينتهي بانتهائها، لأن مبرر وجوده ليس مرتبطاً بها. وإنما سوف يستمر كحزب للثورة –كما هو حاصل في العراق الآن- لأن طريق الثورة هو طريقه. فهو عندما كان في السلطة استفاد من إمكانياتها وخبراتها ليضعها في خدمة الثورة، وهذا ما حصل –بالفعل- فهو بدأ الإعداد لمرحلة المقاومة الشعبية –قبل الاحتلال الأميركي للعراق- ووظَّفه بعد الاحتلال. فكيف حصل هذا الأمر؟
كانت سلطة الحزب في العراق على قناعة بصعوبة المواجهة النظامية مع الآلة العسكرية الأميركية؛ ولأنه يؤمن بمبدأية ومصيرية المواجهة مع المشروع الأمبريالي، أعدَّ خططاً بديلة للمواجهة العسكرية النظامية إذا ما فُرِضت الحرب عليه. أما البديل فكان الإعداد لحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، وهذا كان يتطلب القرار المسبق للخروج من المعارك النظامية في الوقت المناسب، والدخول إلى مرحلة التحرير الشعبية في الوقت المناسب أيضاً.
ولأن الكثيرون كانوا يجهلون هذه الآلية، كان سقوط بغداد السريع لغزاً زرع الحيرة في نفوسهم، وازدادت الحيرة أكثر عندما انطلقت العمليات الفدائية بمثل تلك السرعة التي لم تكن واردة في حساباتهم. فمن يعرف، بوضوح، الفكر الاستراتيجي لحزب البعث يستطيع أن يحل تلك الألغاز بسهولة ويسر، ومن لا يستطيع الإحاطة به، فسوف يبقى اللغز عنده لغزاً.
بمثل ذلك الانتقال، في الوقت المناسب، من وسيلة للصدام إلى وسيلة أخرى، كما فعل حزب البعث في العراق، تكتسب التجربة العراقية خصوصيتها غير المسبوقة في التاريخ العربي والعالمي؛ وهي بإيجاز: إمكانية التوفيق بين متطلبات الدولة ومنطق الثورة، وبتلك الإمكانية زاوج حزب البعث بينهما في تناغم منطقي جدير بالتأمل والدراسة الموضوعية.
وبهذا نخلص إلى الاستنتاج بأن سقوط بغداد يمثل بداية مميزة لتجربة مميزة في تاريخية المقاومة القومية. أما نتائجها فبارزة وهي أكثر من دليل على أهمية أن يكون البديل –في صراع الأمة العربية مع أعدائها- مقاومة شعبية طويلة الأمد. وهو برهان على أهمية أن تخرج الأمة من خطاب الهزيمة، وأن يجدد المفكرون العرب ومثقفوهم في آليات ومفاهيم النصر والهزيمة، وفي مفاهيم وآليات صعود الأمة وسقوطها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق