الأحد، فبراير 28، 2010

مقابلة مع مجلة الوطن العربي

-->
مقابلة مع مجلة الوطن العربي
نُشرت بتاريخ 2/ 2/ 2007
تناول الباحث والكاتب حسن خليل غريب جملة من المواضيع الفكرية ذات العلاقة بالفكرين الديني والقومي وحاول استشراف مستقبل العلاقة بينهما على أسس موضوعية.
وقد أصدر عن تلك المسائل سبعة كتب من أهمها، كتابا «الردة في الإسلام» أضاء فيه على تكوين المذاهب الإسلامية، تحليلاً تاريخياً، ونقداً نصياً لعوامل الخلافات بينها. كما حاول أن يقرأ تكوين القومية العربية التاريخي، ودور الإسلام فيه، في كتابه (نحو علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، وفيه أطلَّ على المرحلة الحديثة والمعاصرة، وعمل على تحديد أسس الصراعات بين قوى ثلاث (الحركات الإسلامية، والماركسية، والقومية)، تلك الصراعات التي لا تزال تلعب دوراً سلبياً في تسريع التكوين الوحدوي السياسي للأمة العربية، ودوراً سلبياً في إعاقة حالة المواجهة مع القوى المعادية للأمة العربية. وكان آخر إصداراته كتاب «الجريمة الأميركية المنظمة في العراق»، بعد أن سبقه كتابا: «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة»، و«المقاومة الوطنية العراقية: الامبراطورية الأميركية بداية النهاية».
كان لمجلة الوطن العربي في بيروت لقاء معه، تركَّزت وقائعه عن رؤيته للواقع الفكري السائد الآن، وعن تطلعاته إلى آفاق المستقبل.
الوطن العربي: في أجواء الأمة العربية الساخنة تلاحظ بوضوح برودة زائدة في الحركة الفكرية القومية، إلى ماذا ترد السبب؟
-إن سخونة الأجواء السياسية في السماء القومية العربية يترافق مع سخونة ونشاط في الأجواء الفكرية المعادية لمصالح الأمة العربية التي تهب عليها من الخارج أو بتأثير منه وتشجيع، مترافقاً مع سخونة من حالات العداء الفكري الموجَّه من بعض الحركات السياسية والحزبية العربية إلى القومية العربية، محتوى فكرياً وسياسياً. أي أن حركة الفكر العربي التي تروِّج لـ«التغريب الثقافي» تتفق من دون تنسيق أو لقاء مباشر مع بعض حركات الفكر العربي التي تتجه به خارج الإطار القومي لتجعل منه فكراً أممياً، وهو الذي تمثله بعض الأصوليات الفكرية الدينية والعلمانية الأممية. أما الأصولية الأولى فاتخَّذت وجه الحركات الدينية السياسية، وأما الثانية فاتَّخذت وجه الأممية الماركسية.
إن حالة الافتراق الفكري بين تيارات عربية أساسية ثلاث، القومية والدينية السياسية والماركسية العلمانية، تجعل الأمة أقل حصانة في مواجهة موجة التغريب، كما تجعل منها أكثر ضعفاً في المواجهة مع الخارج، وفي هذه الحالة الكثير مما تستفيد منه القوى الراغبة في الهيمنة على الأمة والاستيلاء عليها عبر أكثر من وسيلة ومن أهمها اجتثاث الفكر القومي.
الوطن العربي: تبدو كأنك في واد وواقع الأمة في وادٍ آخر. تخوض الأمة مواجهة عسكرية وسياسية، تتطلب توفير إمكانيات عسكرية وسياسية، فهل الخوض في مسألة التوحيد الفكري توفر للأمة دبابات ومدافع؟
-إن العدوان القادم من الخارج له إستراتيجيته العسكرية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، ويستخدم لتحقيقها كل أسلحته العسكرية والإعلامية والثقافية والفكرية أيضاً، ولن يستطيع ذلك إلاَّ إذا قضى على توق الجماهير العربية إلى الوحدة السياسية، وهذا لن يتم إلاَّ بتبديل الثقافة الوحدوية بثقافة أخرى تناصبها العداء. وتتعاون كل تلك الوسائل من أجل تبديل الفكر الوحدوي ويكمِّل أحدها الآخر، ومن أهم البدائل التي يستخدمها تفتيتية المذاهب الدينية، وكل فكر عابر للقومية. إن التكامل بين وسائله يعني أن جوهر استراتيجيته الفكرية تعمل على أساس تعميق حالة التفتيت السائدة في الأمة من أجل إضعاف وحدتها إن لم يكن إلغاءها، خاصة وأن مظاهر التفتيت وواقعه يكمن في أكثر زاوية: تبتدئ بحالة التمزق المذهبي وثقافة المذاهب، وتمر بحالة التقسيم القطري وثقافة التجزئة السياسية، لتنتهي عند التصارع بين المذاهب الفكرية الكبرى بين قومي يدعو إلى تغليب المصلحة القومية بوحدتها في المواجهة، وأممي ديني وماركسي يقفز فوق الأطر القطرية والقومية ليتعامل مع قوى خارجية تتناقض مصالحها مع المصلحة القومية.
ألا ترى معي أن التفتيت الحاصل بين التيارات السياسية والفكرية الكبرى ينعكس على وحدة المواجهة؟
ألا ترى أن الثقافة القطرية تُبعد القطريين عن هموم وقضايا قطرية أخرى، هذا إذا لم تنتصب خنادق العداء أحياناً بين قطر عربي وقطر عربي آخر، بحيث ينشغل كل قطر بهموم الوطنية وحدها؟
ألا ترى أن الثقافة المذهبية، التي تغلِّب الدفاع عن المذهب على الدفاع عن الوطن، تدفع بالغارقين فيها إلى التعاون مع قوى خارجية ولمصلحتها على حساب مصالحهم وسيادة دولتهم الوطنية؟
إننا نرى بناء على ذلك أن مضمون الثقافة، المبنية على وحدة الفكر القومي والوطني، هي شرط أساسي من شروط المواجهة مع قوى العدوان القادمة من الخارج.
فإذا كانت هذه النتيجة تتوافق مع الفكر الموضوعي النظري، فإن الواقع السائد الآن، يبرهن على صحتها، ومن أهم مظاهرها أن الكثير من الحركات الدينية السياسية تقع في أخطاء التحالفات على حساب أوطانها. فتكون من أهم نتائج تلك الأخطاء أن التعدديات الفكرية تحول مسار المواجهة مع الخارج إلى مسارات المواجهة بينها في الداخل.
واستناداً إلى ذلك لا نرى خلاصاً من حالة التشرذم في المواجهة الدائرة الآن إلاَّ بالانتقال إلى وحدة الفكر، وليس هناك من خلاص إلاَّ بوحدة الفكر على الصعيد القومي.
الوطن العربي: ولماذا تدعو إلى التوحيد على قاعدة الفكر القومي وليس على قاعدة الفكر المذهبي أو الديني أو الأممي الماركسي؟
-من البديهيات أن نرى أن كل مجتمع تعددي يتطلب استراتيجية موحَّدَة تلبي مصالح قوى التعدد فيه، وليس مصلحة فئة واحدة. ولأن ثقافة كل فئة تتعارض، أو تتناقض أحياناً كثيرة، مع الثقافات الأخرى، ولأنه لا يمكن تجزئة المجتمعات الوطنية أو القومية إلى دويلات لكل منها قوانينها الخاصة، فلا يمكن إذاً أن يكون الحل إلاَّ بقوانين عامة تضمن مصالح الجميع، كما لا يمكن على المدى الطويل أن تنصهر تلك التعدديات في مجتمع واحد متماسك إلاَّ بوجود ثقافة واحدة. ومنطقياً لا يمكن أن تكون هذه الثقافة واحدة إلاَّ على قاعدة توحيد الفكر. ولأن ثقافة المذاهب الدينية تشد المذهبيين إلى مرجعياتهم المذهبية حتى لو كان على حساب الانشداد إلى وطنهم، وتشد الأمميين إلى مرجعياتهم الأممية حتى ولو كان على حساب أوطانهم، فهل بعد كل ذلك يجوز ألاَّ نحصر وحدة الفكر إلاَّ بالفكر الوطني أو القومي؟
الوطن العربي: وماذا يبقى للحركات الدينية، أو للطوائف الدينية، من تعاليمها؟ وهل تتنازل هي عنها؟ وأين موقع الدين في الدولة القومية أو الوطنية؟
-إن علاقة الدولة القومية بالدين هي من الإشكاليات الصعبة التي تعاني من البحث فيها تيارات الفكرين القومي والديني ممن يولون اهتمامهم بالتوفيق بينهما. وعلى ضوء النظر إلى حدود العلاقة بين الفكرين، بما يجعل المسافة بينهما أكثر قرباً، نرى وجوب ضمان وجود عاملين أساسيين، وهما:
1-الاعتراف المتبادَل بسلطة كاملة للدولة القومية على المجتمع القومي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
2-توفير ضمانات تطمئن المتدينين إلى أن عقائدهم لن تتعرَّض للانتقاص من حقوقها أو منعها من ممارسة طقوسها، بل احترامها وحمايتها.
الوطن العربي: كيف نظرت أنت، من خلال أبحاثك، إلى تلك الإشكالية؟
-من البديهيات التي على التيار الديني أن يعترف بها، هو أن عصر الدول الدينية قد انتهى بانتهاء مرحلة التوسع الإمبراطوري، وبدأ عصر جديد هو عصر الدولة القومية. فعصر الدولة القومية أصبح بديهياً لأن قوانين العالم أصبحت محكومة بمفاهيم العولمة. وعلى الرغم من رفضنا للشوائب التي ترافق تطبيق العولمة والنظر إليها، فإن المؤسسات الأممية والإنسانية تعمل على قوننة العلاقات بين الدول، وتُخضِع تلك العلاقات إلى تشريعات وقوانين موحَّدة تقوم هيئة الأمم المتحدة بضمان تطبيقها وحمايتها. ومن أهم أحكامها الاعتراف بسيادة الدول على أراضيها، بحيث يُعتَبر أي اختراق لها منافٍ للتشريعات الأممية، وتُلزم، مبدئياً، منظومة الدول بالدفاع عن أراضي الدولة التي تتعرَّض للعدوان.
ونتيجة لذلك يصبح من المحال أن تفكر أية حركة دينية، ممن يعتقدون بقيام دولة دينية عالمية، أن تبنى دولة دينية مكتملة الشروط الأممية. أما استراتيجيتها ببناء دولة دينية، داخل حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً، تحكم بفقه المذهب الحاكم، ففيه من الصعوبات الكثيرة التي يُعتبر عامل العدالة والمساواة مفقوداً بين التعدديات الدينية التي لا تخلو منها أية دولة.
أما عن كيفية العلاقة بين قوانين الدولة القومية وتشريعاتها، من وجهة نظرنا القومية، وبين تطبيق قوانين وتشريعات تحفظ للتعدديات الدينية حقوقها، فتنطلق من الاعتبارات التالية:
1-إن معرفة مصير الإنسان بعد الموت هو من أكثر الإشكاليات حدة، ومن أكثرها تأثيراً في التاريخ البشري. وقد لعب العامل الديني، ولا يزال يلعب، التأثير الكبير على ثقافة البشرية منذ وجود الإنسان على الكرة الأرضية حتى الآن. سواءٌ أكان الأمر يعود إلى التاريخ السحيق أم التاريخ المعاصر. ولهذا لا يمكن لأي فكر أن يلغي الدين كأكثر الحاجات الروحية الضرورية للبشر. فالدين، إضافة إلى ذلك، كان من أكثر القضايا الفلسفية انتشاراً واهتماماً به. فلهذا السبب يُعتبر إلغاء الظاهرة الدينية ضرب من ضروب المستحيل. وهذا ما أراه صالحاً ليشكل عامل التطمين الأول للمتدينين.
2-في عصر العولمة من ضمن ظاهرة انتشار مئات الأديان أيضاً، أصبح من المستحيل أن تفرض دولة ما نظاماً دينياً أحادي الجانب، فمن يريد أن يفعل ذلك، لا يمكنه أن يتجاهل القوانين والتشريعات الأممية التي تُلزم الحكومات أخلاقياً بالاعتراف بحقوق الأديان والمذاهب من غير الدين أو المذهب الحاكم.
3-في الدولة القومية، المتعددة الأديان والمذاهب، تعترف الدولة القومية بحرية الاعتقاد الديني وتحترمه وتحميه، لكنها لا تستند في أنظمتها وتشريعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فقه الأديان والمذاهب وتشريعاتها الخاصة، إلاَّ إلى كل ما هو مشترك ويتعلق بالقيم الإنسانية العليا، وتكافح كل ما فيه من تعاليم ومعتقدات تتسرب منها عوامل التفرقة بين أبناء المجتمع الوطني أو القومي الواحد.
الوطن العربي: لكن هل هناك حركات دينية لا تزال تعمل من أجل بناء أنظمة دينية سياسية؟
-إن الحركات الأصولية الدينية، تنتشر في شتى المجتمعات، وفي شتى الأديان. والكثير منها، سواءٌ أكان في الشرق أم في الغرب، تنشط من أجل إحياء مشاريعها مما تستند إلى تسميته بـ«الأوامر الإلهية» لخوض المعركة الأخيرة بين ما تسميه «قوى الخير، وقوى الشر»، وتلك مظاهر تبرز واضحة فيما يدور من صراعات دموية تشهدها أمتنا العربية بشكل خاص، وتشكل المسرح الأساسي لها.
الوطن العربي: ولكن هل يمكن الوصول إلى حلول لتلك الصراعات الدينية؟
-إن فكرة ما يعتبرونه مقدَّساً، المتغلغلة في دعوات تلك الحركات، هي السبب في ذلك. ولكل حركة منها مقدساتها التي تحقنها في عقول المنتمين إليها، ومن أهم مخاطرها أنها تحقن أتباعها بأنه لا خلاص لأنفسهم في مرحلة ما بعد الموت إلاَّ إذا قاتلوا من أجل تطبيق تلك التعاليم وماتوا من أجلها.
الوطن العربي: إذا كان الأمر كذلك، فهل ترى حلاً لمشكلة يبدو أنه يقترب من حدود المستحيل؟
-إن العقل البشري لم يُصب باليأس من معالجة أية مشكلة مهما بلغت درجة التوهم بأنها مستعصية على الحل. وإنني أرى حول هذه القضية أن من يُعقِّد البحث عن الحلول هم قادة الحركات الدينية السياسية أنفسهم. فمنهم من يستندون إلى تأويل النص الديني بما يخدم اتجاهاتهم الفكرية السلبية في تكفير الآخر، أي الحكم بحرمان روحه من النجاة بعد الموت على قاعدة «الفرقة الوحيدة الناجية»، ويهملون النصوص المُحكَمة أو التي يمكن تأويلها، والتي تفسح الطريق أمام الآخر بخلاص نفسه، واعتبار أن أي خيار روحي يمكنه أن يشكل خلاصاً للنفس في الآخرة. فمتى انتهت قواعد الحوار بين الأديان والمذاهب إلى نتيجة مشتركة يعترف فيها الدين الواحد للآخر، أو المذهب الواحد للآخر، بأن تعاليمه وخياره الروحي يشكلان طريقاً لخلاصه، تبدأ إشكالية المقدَّس خطوتها الأساسية نحو لجم جموح الحركات الدينية السياسية من التأثير على أتباعهم. ومن بعدها تبدأ الخطوات الأولى الأساسية في ترسيخ أسس لمرحلة تعايش فعلي بين أبناء المجتمع الوطني الواحد، أو المجتمع القومي الواحد، إذ أنهم ساعتذاك، بعد أن يطمئنوا إلى أن مصيرهم بعد الموت واحد، تبقى مسألة التعاون على إنتاج سعادة الجميع في حياة الدنيا سالكة وميسورة.
الوطن العربي: وهل ما يتم تسميته في هذه المرحلة «إرهاباً» عائد إلى ثقافة الحركات الأصولية؟
-إنني أعتقد أن الإرهاب ليس إنتاجاً أصولياً دينياً بقدر ما هو إنتاج سياسي، تستخدمه بعض الحركات الأصولية الدينية من أجل غرض سياسي، كما تستخدمه الحركات السياسية العلمانية أو بعض الأنظمة السياسية من أجل تحقيق أهداف لا علاقة لها بالدين، وتستخدمه مافيات سياسية أو اقتصادية بعيدة كل البعد عن الدين والأخلاق الإنسانية.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الرأسمالية أنتجت وشجَّعت واستخدمت بعض الحركات الدينية السياسية في تنفيذ مخططاتها، إلاَّ أنه بعد أن انقلب بعضها على أوامر تلك الدول تمَّ تعميم ذلك المصطلح، وألصقته بتلك التي انقلبت عليها، بينما الحركات التي لا تزال خاضعة لها لم تنل شرف شمولها به. كما أن الحركات المافيوية نجت أيضاً من إلصاق التهمة بها، لأنها على تنسيق دائم بين الحكومات التي تستفيد منها في كل ما تقترفه من جرائم.
بيروت : حوار وتصوير حسن جوني
-->

ليست هناك تعليقات: