الأحد، فبراير 28، 2010

مراجعة كتاب الجهاد

-->
مراجعة كتاب الجهاد(*)
يقسِّم الباحث كتابه إلى مقدمة وأربعة أبواب.يدخل الباحث إلى واقع الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة، من بوابة الموقف السياسي والديني والشعبي والأدبي. وكي يدعم استنتاجاته يقدِّم في الباب الأول مواقف الفقهاء المسلمين، من القرنين الرابع والخامس، من السنة والشيعة وهم القاضي النعمان، وابن بابويه القمي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو حامد الغزالي.
يتناول الباحث في الباب الثاني مواقف المتكلمين، وفي الباب الثالث مواقف الصوفية. ويعود في الباب الرابع، بعد أن يدرس معاني الجهاد ودلالاته في القرنين الرابع والخامس للهجرة، إلى تأصيل تلك المعاني ودلالاتها ابتداءً بالهجرة وانتهاء بانتقال الدعوة إلى الدولة في العصر الأموي.
تبرز أهمية البحث، كما يحددها الباحث في تقديم كتابه، من خلال منهج اقتحام القضايا المتعلقة بالإسلام من منظور نقدي ولغاية معرفية جديدة، وليس لغايات معرفية تلقينية وتسليمية.
يعرض الباحث في تقديمه أهمية المنهج النقدي في تفسير الأفكار والوقائع الإسلامية، فيقول: لم تكن «كل معالم الثقافة العربية الإسلامية معطى إلهياً بل إنها تشكَّلت تاريخياً بتضافر عديد من العوامل المعرفية وإن الضمير الديني الجمعي هو الذي أضفى عليها، فيما بعد، هالة من القداسة والإطلاق» (ص 11).
وفي المدخل لتعريف الجهاد في المرحلة التي حددها لدراسته، يستعرض الباحث، من أجل الوصول إليه:
أولاً: الموقف السياسي: فيرى أنه في العهد العباسي، تراجع اهتمام الخلفاء بالجهاد، بحيث انتقل من أيديهم، وأصبح من مهمات العسكر المحيطين بالخليفة، ومن مهمات أمراء الثغور، الذين امتلكوا الإمكانيات. ولهذا السبب استأثرت الدولة الحمدانية، بقيادة سيف الدولة، بأهمية قصوى في ردِّ غزوات الروم (في أواسط القرن الرابع للهجرة). ولما انتقلت القوة إلى أيدي الفاطميين، بعد أن غزوا مصر، حاولوا القيام بعبء الجهاد ضد الدولة البيزنطية. لكن الفاطميين اصطدموا بمعارضة أهل الشام لاعتبارات تاريخية ومذهبية وسياسية (ص 26)؛ فاضطروا إلى التحالف مع البيزنطيين في مواجهة الحركة السلجوقية.
وفي أواسط القرن الخامس الهجري، وبقيام الدولة السلجوقية، كانت بلاد الشام عرضة للهجمات البيزنطية ومحاولات الفتح الفاطمي. عدَّ السلاجقة الفاطميين مارقين عن الدين يتحتَّم جهادهم(ص 27). فخاضوا جهاداً ضد البيزنطيين بمساعدة أهل الشام وانتصروا عليهم. وانقلب ظهر المجن عليهم، من بعد أن تفرّقوا -في نهاية القرن الخامس للهجرة- فتعرّضوا لغزو البيزنطيين وانهزموا أمامهم، إلى أن جاء دور الغزوات الصليبية التي تُوِّجت بسقوط القدس، بين أيديهم، في العام 492 هـ/ 1098م.
ثانيـاً: أما على الصعيد الديني، فقد انحصرت مواقف رجال الدين المسلمين، طيلة القرنين المذكورين، في الحض على مقاومة البيزنطيين ومرافقة الجيوش، وتقوية مشاعر العامة (ص 29).
عانت الشعوب الإسلامية من الأوضاع الاجتماعية المتردية، وانقسم المجتمع إلى: خاصة تستأثر بالسلطة، وعامة جاهلة جائعة ضعيفة (ص 30). دفع هذا السبب بالعامة إلى الدعوة بأن يبدأ الجهاد من الداخل (ص 31). وأصبح لهم نفوذ في المدن الشمالية في ظل غياب الأمراء وغيبوبة الخلافة (ص 32). فظهرت من خلال الاحتجاجات الشعبية ضد تقاعس الخليفة في صد هجمات الروم، وهذا ما كان يخلق حالة شعبية دائمة الهيجان، والاستمرار في الدعوة إلى الجهاد. وقد تمظهرت حالة الاستياء والهيجان الشعبي في الآثار الأدبية للقرنين الرابع والخامس للهجرة (ص 33).
وبالإجمال فقد خفَّت روح الجهاد، وظهر الشعور باللامبالاة، والتسليم بالأمر الواقع، وكان السبب يعود إلى ضعف الدولة العباسية من جهة، والخلافات السياسية والمذهبية من جهة أخرى. وانعكست بشكل مفجع على عامة الناس التي كانت عاجزة عن القيام بأي شيء، فأحتجَّت بعنف ضد السلطة (ص 40).
ثالثـاً: جهاد أهل البغي: لقد أصبحت ظاهرة جهاد أهل البغي السمة الأبرز في القرنين الرابع والخامس للهجرة. وهنا نقتطف بعض ما أورده الباحث في باب (مواقف الفقهاء من الجهاد):
1-يرى القاضي النعمان (فاطمي) أن أهل البغي أعظم جرماً من المشركين (ص 51).
2-يرى ابن بابويه (بويهي) ضرورة إرجاع الناس إلى الإيمان الحقيقي قبل محاربة الكفار (ص 57).
3-يرى الماوردي (سلجوقي) وجوب مقاتلة أهل البغي لأنهم يهددون الدولة والمجتمع (ص 67).
4-يرى الغزالي (سني) وجوب الدعوة إلى محاربة الباطنية بكل الوسائل الممكنة (ص 81).
وبالإجمال، يرى الباحث، أنه عندما وقع الخلط المتعمَّد بين مصالح رجال السياسة ومصالح الدين، شرَّع الفقهاء للحرب بين المسلمين أنفسهم. فأهل البغي، عند فقهاء الشيعة، هم أهل السنة. أما عند أهل السنة فهم الشيعة بكل فرقهم. وهكذا أصبح الجهاد ضد أهل البغي، لدى كثير من الفقهاء -خاصة في القرنين الرابع والخامس للهجرة-، «أهم وأولى من جهاد الكفار» (ص 97).
يتناول الباحث، في نهاية الباب الأول، مسألة على درجة من الخطورة، وفيها يلقي الضوء على الانفصام الحاصل بين بُنية الفقه الإسلامي النظرية، وبين بُنيته العملية، فيقول: عندما يكتب فقهاء القرنين الرابع والخامس للهجرة عن الجهاد «فإنهم لا يكتبون عن واقعهم، وإنما يكتبون عما يجب أن يكون. إنهم يقدمون قواعد للتطبيق مقتنعين بأنها النموذج الذي أراده الله، بقطع النظر عن تحقق ذلك في الواقع أم لا» (ص 102).
نحن نؤيد الباحث فيما ذهب إليه لأن الشريعة عند الفقهاء المسلمين أصبحت غاية وليست وسيلة. ولذلك تأتي أحكامهم الفقهية لكي تجامل النص وتتودّد إليه غير عابئة بمصالح الناس المرسلة.
وعن موقف المتكلمين، يرى الباحث، أن الجهاد هو من مشمولات الفقهاء بالدرجة الأولى. وهو مرتبط، أساساً، بمسألة التكفير، والتكفير مسألة فقهية بالأساس؛ والتمييز بين الكافر والمسلم هي مسألة شرعية. على الرغم من ذلك لم يكن مبحث الجهاد غائباً عن مصنفات المتكلمين، وانحصر ردهم أولاً على النصارى الذين عابوا على المسلمين استعمال السيف في الدعوة إلى الإسلام، بالقول إن الجهاد امتثال لأمر الله (ص 106).
ولأن أصحاب الفرق والبدع الضالة طعنوا بالإسلام، فإن طعنهم كفيل بإخراجهم من دائرته إلى دائرة الكفر، لذلك وجب جهادهم (ص 107). وهكذا استطاعت الدولة جرَّ المتكلمين إلى تدعيمها في مواجهة خصومها (ص 108).
ولأن الإمامة كانت أصل الخلاف بين السنة والشيعة، ساق فقهاء كل فرقة منهما أدلة لإثبات اعتقاده. ولما كان التباين شديداً بين الفرق الإسلامية حول مسألة الإمامة، دخلت المسألة في صلب موضوع التكفير المتبادل بينها، فكان الجهاد عند المتكلمين، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، جهاداً داخلياً يواجه فيه المسلمُ المسلمَ باسم الإسلام وباسم الجهاد في سبيل الله (ص 110).
أما الفرق الصوفية، فقد دعت إلى مجاهدة النفس أولاً في عصر طغى فيه الابتعاد عن العبادات واتباع الشهوات وتعاطي المحظورات، وساد فيه الجهل. فالجهاد يتمثل في طلب الحلال والعمل الصالح وطلب العلم، فدعوا إلى مقاومة الفرق الضالة والمارقة (ص 116)، وانخرطوا من خلالها في الجدل المذهبي، الذي هو في النهاية موقف سياسي، فانجرَّ المتصوفة -الداعمون لحركة الإحياء السني- إلى نصرة وجهة النظر السنية عامة. وتحولت الصوفية في القرنين الرابع والخامس للهجرة، عن الزهد والمرابطة في الثغور للتحريض على الجهاد، إلى صوفية تعمل للدعوة إلى الجهاد النظري ضد أهل البدع والأهواء (ص 119)، وإن خلاص الإسلام والمسلمين لا يتم -كما ترى الفرق الصوفية- إلاَّ عن طريق أولياء الله ودعواتهم (ص 120).
فالجهاد عند الصوفية لا يتعلَّق بمحاربة الكفار لنشر الإسلام بينهم، وإنما يتعلق، أساساً، بمحاربة أهواء النفس وشهواتها (ص 121).
أما موقف الفقهاء فكان ينصبُّ على تحديد الوضعية القانونية للجهاد، كمثل: هل هو ركن من أركان الإسلام، أم هو شعيرة من الشعائر؟ بينما اعتبر الصوفية أن مجاهدة النفس ركن أساسي في أية تجربة صوفية (ص 121).
فالجهاد عند الفقهاء هو في سبيل الله، وجهاد النفس عند الصوفية هو في سبيل خلاص الإنسان في الدنيا والآخرة (ص 124).
يقسِّم الباحث، الرحموني، تطور مفهوم الجهاد -استناداً إلى المفهوم التاريخي- إلى عدة مراحل:
1-من الهجرة إلى الدعوة: وكانت الهجرة فيها نوعاً من الجهاد لتدعيم الجماعة. وبعد فتح مكة، والسيطرة على معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، أصبح الجهاد هو الهجرة إلى الخارج لتوحيد العالم في أمة جامعة، فكثرت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين (ص 130).
2-من الدعوة إلى الدولة: بعد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، سالت دماء مسلمة كثيرة في معارك الصراع حول السلطة، فتحوّل جيش المسلمين إلى مرتزقة، وتفتت الدولة بين سيطرة البويهيين، ثم السلاجقة، وقُضيَ على الخلافة. وباستثناء بعض المعارك القليلة ساد الاستقرار النسبي في العلاقة بين الروم والمسلمين. واستفحلت الصراعات الداخلية، فأُهمِلت الثغور، وتخلّى المسلمون عن الحرب (ص 132). وانكبَّ الفقهاء المسلمون على تثبيت أسس الخلافة والخليفة بإزاء التسلط البويهي - الشيعي، فتحوَّلت جهودهم من تثبيت الدعوة إلى تثبيت الدولة (ص 133).
3-جدلية الدعوة والدولة: ليس هناك تاريخ يحدد بدء الصراع بين منطق الدعوة ومنطق الدولة. لكن بسبب ضعف الخلافة، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، وبسبب كثرة الخارجين عليها واستفحال الفتن، انبرى العلماء للدفاع عن وحدة الأمة، فقدموا تنازلات، من أهمها: التخلي عن الدعوة إلى جهاد الروم والصليبيين، وكانت الغاية من وراء ذلك تدعيم الدولة / السلطة حفاظاً على وحدة الجماعة (ص 136).
ومع نهاية القرن الأول للهجرة، أخذ المحدّثون يركزون على وحدة الجماعة والأمة، من خلال طاعة الأئمة: البِرُّ منهم والفاجر، والجهاد معهم. وتبلور هذا التوجه منذ اشتداد الصراع بين الدولة الأموية والخوارج. وبعد تزايد الخطر، وتتابع الانقسامات، منذ انفصال دولة الأغالبة في إفريقيا عن الخلافة، اختار العلماء التخلي عن بعض شروط الخلافة للاعتراف بشرعية الخليفة القاهر والقادر على توحيد الأمة (ص 136)؛ فأصبح هذا المبدأ ذا أولوية مطلقة عند الفقهاء، وفاق على غيره من شروط تنصيب الخليفة، فالوحدة نقيض للفتنة (ص 138). وقاد هذا السبب إلى الكلام عن الآداب السلطانية وهو مظهر من مظاهر غلبة منطق الدولة على حساب الدعوة. ولا تعني الأديب السلطاني مسألة مشروعية السلطة، بل يعنيه حضور النظام والأمن (ص 140). لقد استفاد الأديب السلطاني من قواعد الشريعة وتراث الحضارات الفكرية الأخرى، في تصنيف الآداب السلطانية، بحيث تنازلوا فيها عن الشروط الشرعية للخليفة، فحددوا بذلك، إلى حد كبير، مواقف العلماء من الجهاد (ص 143).
بعد قرنين من وفاة الرسول، وركود الفتوحات، وقيام علاقة هادئة مع الكفار، عرف الإسلام تهديده الأساسي من داخل المجتمع الإسلامي نفسه. فوحدة الأمة أصبحت مهددة بكثرة الفرق الخارجة عن إجماع الأمة. فوظّف الفقهاء هدف الجهاد من قتال الكفار إلى تقوية العقيدة ودفعها إلى الصمود أمام كل ما من شأنه أن يشق وحدة المسلمين، فأقنعوا المجاهدين بأن مهمتهم لم تعد تتعلق بالمجال الجغرافي وإنما في حماية العقيدة والدولة من أعدائها في الداخل. وبهذا نمت «دخلنة الجهاد» من خلال مظهرين: جهاد أهل البغي والأهواء والبدع من جهة، والجهاد النفسي والروحي من جهة أخرى (ص 143).
أما أهل البغي، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، فكانوا القرامطة والإسماعيليين والشيعة على شتى فرقهم (ص 144). فصنَّف فقهاء السنة كتباً ضمَّنوها ردوداً وفضائح ضد تلك الفرق (صص 144 - 157).
أما جهاد النفس والروح فهو الوجه الثاني للجهاد الداخلي؛ جهد من خلاله الصوفيون في سبيل العودة إلى صفاء العقيدة بنقدهم لواقع الحياة السياسية (ص 158). فالمؤمن لا يكتفي بإصلاح نفسه، بل هو مدعو إلى إرشاد الآخرين نحو طريق النجاة والخلاص (ص 159). ولأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ولأن مهماته إرشاد الآخرين، اكتسب مظهره الجماعي من خلال (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، الذي حوَّله المأمون إلى مؤسسة رسمية هي مؤسسة «الحسبة». وقد استغلَّت الفرق الإسلامية هذا المبدأ لمحاسبة بعضها البعض (ص 159). وتساوى في هذا المسار كل من الفرق السنية والشيعية.
وفي مقابل التيار الذي ضحّى بالديني في سبيل السياسي، الدعوة في سبيل الدولة، نشأ تيار مواز، قوامه عدد من العلماء، والعوام من الشعب.
أما عن العلماء، فقد اخترق عدد منهم صمت الخلافة وكشفوا تخاذلها، وعبّروا عن المرارة والخيبة لِما أصاب المسلمين (صص 167 - 173).
أما عن العوام فقد شكّلوا، طوال القرنين الرابع والخامس للهجرة، ضغطاً مستمراً على السلطات الرسمية للغرض نفسه، وعُرف هذا التيار بتسميات، منها: العيارون، والشطار، وأشباههم من المعدمين والفقراء والعاطلين عن العمل (صص 174 - 181).
لم يكن الهدف، في سبيل التمسك بالوحدة / الدولة، مظهراً وحيداً من مظاهر التخلي عن الجهاد، بل كانت التطورات الاقتصادية والاجتماعية، التي عرفتها الخلافة، مظهراً آخر.
لقد أدى التغلب البويهي، ثم السلجوقي، إلى متغيرات اقتصادية واجتماعية مهمة، بعضها اتخاذ الإقطاع صفة عسكرية لأول مرة في تاريخ الإسلام. وكانت من نتائجه تدهور الزراعة، وتفاقم هجرة الفلاحين إلى المدن، وخواء بيت المال، نتيجة تقلص المصادر المالية نتيجة بذخ الخلفاء وحاشياتهم. هذه الأسباب أدّت إلى احتجاجات وصدامات وانتفاضات أسهمت في ولادة طبقات فقيرة، كان عمادها اللصوص والعيّارون وكان الدور الذي لعبه البويهيون والسلاجقة بارزاً في توليد تلك التناقضات حين استقدموا قبائل، من قوميات أخرى، متعطشة إلى التوطن في بلاد الإسلام، وكانت من الكثرة بحيث غيَّرت التوازن في المجتمع (ص 182).
أسهم في تأزم الأوضاع الاقتصادية العوامل التالية: النزعات الانفصالية التي استولت على قسم كبير من موارد الدولة (ص 183). والإقطاع العسكري من جراء الهبات التي كان يقدمها الخليفة للأمراء وتوزيع الأرض على الجند (ص 184). وأدّت الحروب والفتن إلى خراب كثير من البنى الزراعية التحتية (ص 184). وأسهم في الأزمة طمع الولاة والأمراء والوزراء الذين ضمَّنهم الخليفة بعض الإقطاعات لقاء مبالغ يقدمونها للدولة (ص 185). وميل الخلفاء للترف (ص 186).
ومن العوامل التي أسهمت في التخلي عن الجهاد، يبرهن الباحث، على أن الأوضاع العسكرية لعبت دوراً مهماً في ذلك. ويعيد السبب إلى أن الجيش الإسلامي استند إلى تجنيد المرتزقة من الرقيق، الذي لا يرتبط بالخلافة فكرياً أو حضارياً. فانصرف اهتمام الجيش إلى تأمين أرزاقه (ص 189). وتدخله في الصراعات السياسية لحاجة الساسة إلى دعمه، فاستباحوا الخلافة وأموال الناس (ص 190). وتحالفوا مع اللصوص وقطّاع الطرق (ص 191). ولما تعددت المصالح، والتسابق على الوصول إلى الجاه والثروة بين أركان الدولة حصل الطلاق بين طاقات المجتمع والدولة (ص 191).
ينهي الباحث الباب الرابع بعدد من الاستنتاجات / الأسئلة، ومنها:
-لقد تصادم دعاة الدولة مع دعاة الدعوة. فرأى دعاة الدولة أن يوجهوا الجهاد إلى أعداء الأمة الداخليين، دفاعاً عن وحدة الأمة. أما دعاة الدعوة، فقد تمسكوا بتطبيق الشرع، أي الجهاد ضد الأعداء الخارجيين (ص 193).
كان لكل من الطرفين حججه. وهنا يتساءل الباحث عن الذي كان مصيباً في مواقفه وبراهينه؟ أهم دعاة الدولة أم دعاة الدعوة؟
يرى الباحث أنه لا بُدَّ من وجود جماعة تقوم بتحقيق الدين الإسلامي، وكان الجهاد هو أهم شعائر هذا الدين. وكان لا بُدَّ من وجود الدولة التي تقوم بمثل تلك المهمة، فقامت بها إلى أن أخذت الفتوحات تتراجع منذ القرن الثالث للهجرة. فما هو السبب الذي أدّى إلى حالة التراجع؟
كان الجهاد هو ما أخرج العرب من الهامشية التاريخية. لكن الباحث يتساءل عن أسباب الجهاد؟ فيرى أن الجهاد والفتوحات كان قراراً من الأمة بأكملها، فقرار الحرب كان جماعياً. ولما تراجعت روح الجهاد، ارتبط التراجع مع ضعف الدولة وقيام الدويلات. هنا، جدَّد «أهل الديني» شعارهم عن أهمية الجماعة ووحدتها (ص 196). وأخذوا يطالبون الدولة بتنفيذ مشروع الأمة التاريخي، ألا وهو نشر الدعوة. فكان خطاب الدولة واقعياً، وكان خطاب القوة الموازية، وعظياً وأخلاقياً، وهم لا يرون للأمة إلاَّ وظيفة واحدة وهي نشر الدعوة (ص 197).
تمسَّك الفريقان بالدولة، وبوظيفتها الجهادية، لكنهم اختلفوا حول وجهة الجهاد: هل هو ضد العدو الداخلي أم ضد العدو الخارجي؟ فانقسموا إلى داعٍ للجهاد ضد غزاة الدولة الإسلامية، وإلى داعٍ للجهاد ضد البغاة وأهل البدع والأهواء. ولما أسهمت أوضاع الدولة الإسلامية المتردية في تأمين متطلبات الجهاد الخارجي، ولما كانت الدولة مهدَّدة بكثرة طالبي يدها، تقاتل المسلمون تحت راية محاربة المرتدين عن الإسلام. فكانت كل فرقة هي المرتدة بنظر الفرق الأخرى. ولم تنج أية فرقة من تهمة الارتداد.
بعد قراءتنا كتاب الجهاد وجدنا عدداً من الملاحظات المنهجية، التي نحسب أنها كانت ضرورية، ما يلي:
أولاً: بما أن موضوع البحث يتعلق بمعرفة واقع الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة، ومنه ينطلق الباحث في فرضية أن مفاهيم الجهاد قد اكتسبت مفاهيم جديدة، فكان من الأولى المنهجي أن يبدأ الباحث، منذ الباب الأول، بتأصيل مفهوم الجهاد كما كان في أوائل الدعوة الإسلامية. لذا كان القسم الأول من الباب الرابع جديراً بأن يحتل مكانه في الباب الأول.
ونحن نستند في ملاحظتنا المنهجية تلك إلى أن اكتساب الجهاد، بعد أربعة أو خمسة قرون على استكمال الدعوة الإسلامية، مفاهيم جديدة فكان من المنطقي أن نبدأ بتحديد المفاهيم القديمة أولاً، والهدف من وراء ذلك أن نفهم بسرعة طبيعة المتغيرات التي اكتسبها الجهاد، وطبيعة العوامل التي أسهمت في صياغة تلك المفاهيم.
ثانيـاً: لقد أضاف الباحث الرحموني إلى المكتبة الإسلامية - العربية جهداً جديداً قيماً. وتأتي قيمته من خلال تناوله قضية الجهاد -كقضية إسلامية- من دائرتها المقدسة المزعومة إلى البرهان على أنه من خلال كونها مصطلحاً دينياً إسلامياً، يمكن أن تكون سيفاً ذو حدين: فبها تستطيع أن تجاهد ضد المشركين، وتستطيع أيضاً أن تجاهد فيها ضد المسلمين من الذين يمكن اتهامهم، بسهولة، بتهمة الردة عن الإسلام، فيصبح المشرك الذي لا يؤمن بالإسلام على الإطلاق أقل جرماً من أهل البغي من أبناء الإسلام.
وهذا، كما أحسب، يقودنا إلى وجوب النظر في موضوع الجهاد من خلال رؤية جديدة معاصرة، ننسخ فيها عن الجهاد صفة القدسية. وقد جاء في القرآن الكريم، ما يدل على أن الجهاد هو لمنفعة الناس أنفسهم. وليس لله مصلحة بذلك، فالجهاد ليس كما جاء في الفقه الإسلامي من أنه لنشر الدعوة الإسلامية فقط. بل )وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت:6).
ثالثـاً: فإذا كنت قد خرجت بنتيجة من قراءة ومراجعة هذا البحث القيّم، فهي تستند إلى ما يلي: ليس للجهاد مفهوم مقدس ثابت، والدليل هو ما طرأ عليه من مفاهيم مستحدثة بعد مرور عدة قرون من بدء الدعوة الإسلامية. ولأن الجهاد ليس مفهوماً جامداً، يقتضي منا أن نضع له، في هذه المرحلة المعاصرة التي تمر بها أمتنا العربية، تعريفات ومفاهيم جديدة تتناسب مع روح العصر.
لقد تطور مفهوم الدولة، فانتقلت من مهماتها الدينية وأصبحت دولة قومية. و يستدعي التحول الجديد، الذي أصابته الدولة الحديثة، النظر إلى أن الدفاع عن الدولة القومية أصبح في المقام الأول. ولما تحررت الدولة الحديثة من مهمة الدفاع عن الدعوة الدينية أو نشرها بالجهاد، وانحصرت مهمات الدولة في الدفاع عن سيادتها الوطنية، أصبح من الواجب أن يتم البحث عن مفاهيم ووظائف جديدة للجهاد، الذي انتقل، بدون أدنى شك، من مهام الدعوة إلى مهام الدفاع عن سيادة الدولة السياسية.
تبقى للدعوة إلى وضع مفاهيم معاصرة للجهاد أهمية قصوى، لأننا نرى عدداً من الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة، راحت، استناداً للنص، تعطي أولوية لجهاد أهل البغي، وكأننا بها تعمل من أجل إعادتنا إلى الوراء، أي إعادتنا إلى أن نعيش ظروف القرنين الرابع والخامس للهجرة.
رابعـاً: وإذا كان من الواجب أن يقوم المفكرون بدراسة إشكالية الجهاد في العصر الحديث، يبقى لنا أمنية نتوجَّه بها إلى الباحث الدكتور محمد الرحموني، وهو الذي أخرج مفاهيم الجهاد من دائرة المقدس إلى دائرة الدنيوي المتغير، أن يقوم بمثل هذا البحث، وهو الذي أصاب قسطاً وافياً ومتخصصاً في زوايا وخبايا بحثه عن الجهاد.


* صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الجهـاد»: لمؤلفه الدكتور محمد الرحموني: عن دار الطليعة: بيروت: في كانون الثاني/ يناير 2002م: في 334 صفحة من الحجم الكبير.
-->

ليست هناك تعليقات: