الأحد، فبراير 28، 2010

أحمد ياسين

-->
أحمد ياسين شيخ المقاومة وشيخ المقاومين:
معاني شهادته ودلالاتها
 

لما كنت أتابع ما قيل في شهادته سمعت كلاماً جميلاً وبليغاً، رأيت نفسي أنه مهما كتبت حولها سأكون عاجزاً عن الإتيان بمثله. وهذا ما يجعلني أقول بأن كل ما قيل فيه، وما سيقال لن يفي معاني شهادته، ودلالاتها، كل ما يرضي روح الثورة فينا.
كثيرة هي الأحيان التي يملُّ فيها القارئ من متابعة مقال أو بحث هادئ. فقد تعوَّدنا أن نتناول المعرفة كوجبة سريعة لا تستهلك من وقتنا إلاَّ بضعة من الدقائق. وعلى الرغم من ذلك الواقع سأكتب عن معاني شهادة الشيخ أحمد ياسين ودلالاتها بطريقتي الخاصة.
من أبي العباس إلى الشيخ أحمد ياسين قصة مع العدوان الأميركي الصهيوني واحدة، رسالة واحدة، عدوان واحد، أهداف واحدة، أداوات واحدة، شخص واحد بلباسين مختلفين باللون، للتمويه. إنها قصة سايكس بيكو التي رُسِمت بأقلام صهيونية استعمارية.
بالأمس اغتالوا أبا العباس في معتقلات الاحتلال الأميركي في بغداد، واليوم اغتالوا الشيخ أحمد ياسين في المعتقل الصهيوني الكبير في غزة. فكلاهما شهيدان بيد عدو واحد، ومن أجل مشروع واحد ضمَّ إليه اليمين الأمريكي المتطرف مع الصهيونية العالمية. ومن نقطة الحقيقة هذه كيف أرى معاني شهادة شيخ المقاومة ودلالاتها.
يؤاخذ الكثيرون من الصادقين في انتماءاتهم القومية كثرة تكرار المعزوفة، »سايكس - بيكو«، تحت حجة الخروج من المعروف في ثقافتنا العربية إلى جديدها. وكثيرون ممن لا مصداقية لهم ينتقدون تكرار معزوفة »سايكس بيكو« وأسبابهم مختلفة، ومقاصدهم واضحة، وهي محو ذاكرتنا من معرفة المخططات الاستراتيجية التي يعمل التحالف الأميركي الصهيوني على هديها. فهم لا يريدون من العرب أن يتذكروا المخططات الاستراتيجية كي تصبح طريقتهم في الكذب والتمويه سهلة في حرف الرأي العام العالمي عن طبيعة مؤامرتهم وحقيقتها.
وإذا كنا مع تجديد الثقافة وجديدها، ونحن معهما فعلاً، فعلى أساس أن لا ننسى الخط الاستراتيجي للمشاريع المتصارعة. أما على صعيد الخط الاستراتيجي المعادي الذي نقاومه اليوم، فلا ينفصل على الإطلاق عن المخطط الذي وضعه التحالف الاستعماري الصهيوني منذ أكثر من قرن. ولأن هذا المشروع لا يزال ثابتاً بما حصَّل من نجاحات، بينما الذي تغيَّر فيه هو أسماء منفذيه، فمن الواجب أن لا نقصيه عن ذاكرتنا -حتى لو كان من قبيل التكرار- ونتلهَّى بردح مواصفات المنفذين الجدد وما أكثرهم- فيضيع الاستراتيجي في المرحلي وهو الهدف الأساس من محو ذاكرتنا المعرفية حول المشروع الأب.
فما هو الذي تغيَّر في مضمون المشروع عند كل من طرفيه: الاستعماري والصهيوني؟
رعى المشروع الاستراتيجي كل من فرنسا وبريطانيا، ولما عجزتا بعد الحرب العالمية الثانية- عن متابعة تنفيذه بشكل مباشر- ورثته الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي كانت لا تزال فتية في تلك المرحلة، وتابعت تنفيذه لأنها وجدت فيه ما يفيد مصالحها. فالراسم هما سايكس وبيكو (الفرنسي البريطاني)، والرسم يترجم مصلحة استعمارية عامة. فلما رسما المشروع لم يرسماه لرؤوساء فرنسا وبريطانيا، ولكن رسماه لمصلحة المشروع الإيديولوجي الاستعماري العام، وعلى كل الذين يرون مصلحة في تطبيقه، بغض النظر عن الأسماء أو الهويات القومية. يتبناه كخط استراتيجي يعبَّر عن مصلحة طبقية لمنظومة الدول الرأسمالية.
أما الآن، فلن تدعو فرنسا القرن الواحد والعشرين مثلاً- إلى إزالة المشروع الاستراتيجي، وما تحقق من نجاحات في تنفيذ مراحله، وإنما تريد أن تنقلنا منه كاستهداف استراتيجي إلى معالجة بعض ذيوله. فهي لا تريد أن تعود فلسطين كاملة إلى الفلسطينيين، ولا هي تريد أن تقتلع جذور الصهيونية من المنطقة العربية (لأنها ستبقى حامية لمصالحها في وجه الإيديولوجيا التحررية). أما تميزها عن المتطرفين من أصحاب المصالح الأميركية فهو بالدرجة وليس بالنوع. فإذا كانت ترفض مظاهر الفظاظة الصهيونية لكنها لا تسمح باقتلاع وجوده. وما ينطبق على فرنسا ينسحب على الموقف البريطاني (الشريك التاريخي في رسم خرائط سايكس بيكو).
دالت قوة فرنسا وبريطانيا، وحلَّت مكانها قوة أميركا. تغيَّرت وجوه المنفذين، وبقيت إيديولوجيا المشروع ثابتة.
أما الأب السياسي الأميركي للمشروع الإيديولوجي (سايكس بيكو) فقد تبنَّى المشروع كإيديولوجيا ترتبط بمصلحة الرأسمالية الأميركية، فقد تبنَّاه كنظام وليس كأفراد. ذهب ترومان، وجاء أيزنهاور. ذهب كينيدي وجاء نيكسون. ذهب كارتر وجاء ريغان. ذهب بوش الأب وجاء كلينتون. ذهب كلينتون وجاء بوش الإبن وسيرحل. ذهب الجميع، ويذهبون -كمتغيرات تنفيذية- وبقي مشروع سايكس بيكو ثابتاً، وسيبقى.
لكل تلك الأسباب نرى أن ثبات مشروع إيديولوجيا (سايكس بيكو) هو ما علينا أن نجعله ثابتاً في رؤيتنا المعرفية، ومن الخطأ أن نحكم على الإشارة إليه كلما كتبنا في الفكر وفي السياسة وفي المواجهة النضالية بالتكرار المعرفي، فنكون كمن يحكم على من يرددون الدعوة إلى العدالة والمساواة والتحرر بالحكم ذاته، وهو ما لا يستقيم مع تراكم المعرفة وتعميقها وتجديدها.
وفي الشق الصهيوني، يعمل الإعلام، عن صدق نية أو عن سوئها، على تجاهل المخطط الصهيوني الأم، أو على الأقل وصفه بالتكرار المعرفي. وهنا نرى أننا كمن يؤخر الثابت لحساب المتحرك. وكثيراً ما تتجاهل الوسائل الإعلامية الإشارة إلى المشروع الإيديولوجي الصهيوني وتغرق في محاكمة متغيراته. لقد وضع ناحوم غولدمان أسس الإيديولوجيا الصهيونية، مستنداً بالطبع إلى الإيديولوجيا التوراتية. ولم تتغيَّر أهداف المشروع الاستراتيجية، بل ظلَّت ثابتة تصوِّب لكل الصهاينة وعلى الرأس منهم الإدارات المتعاقبة على الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة- كلَّما خافوا من أن تنحرف تكيكاتهم عن الخط الإيديولوجي العام.
مات غولدمان وورثه بن غوريون. مات بن غوريون وورثته غولدا مائير، والتي ماتت وورثها مناحيم بيغن، والذي رحل وورثه من ماتوا من بعده، وورثهم من ينتظرون الموت كإسحق شامير وشيمون بيريز ونتنياهو وشارون. كلهم ممن ماتوا أو من سيلحق بهم، فكلهم كانوا جنوداً للإيديولوجيا الصهيونية، ولأخطر مظاهرها السياسية في الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين، بينما ظلَّت الإيديولوجية الفكرية ثابتة، وظلَّت الإيديولوجيا السياسية (كيان الاغتصاب في فلسطين) ثابتة.
غرقنا في محاكمة الأشخاص، من خلال تصنيفهم حمائم وصقور. وغرقنا في بؤرة الوهم: من يعطي مساحة أكثر من الأرض الفلسطينية للفلسطينيين. وتناسينا أن المشروع الاستراتيجي هو ما يجب علينا أن نبقيه ماثلاً في أية خطة للمواجهة مع المشروع الاستراتيجي الصهيوني الأم.
ومن ناحية أخرى، وهي الأخطر، غرقنا في التمييز بين اليمين الأميركي (كأب يرعى التحالف الاستعماري الصهيوني) واليمين الصهيوني أو اليساري منه (فهم من نوع واحد وفصيلة واحدة يعملان على تنفيذ المشروع الصهيوني).
والخطورة في التمييز آتية من نسيان المشروع الأم والأب الواحد (إيديولوجيا سايكس بيكو) أولاً، والنظر إلى الطرف الأقوى في التحالف وكأنه الراعي الصالح لحل تناقضاتنا مع توأمه الصهيوني ثانياً.
كثيرة هي الأنظمة والقوى والحركات التي استغفلت نفسها، أو حاولت أن تستغفلنا. استغفلت نفسها لأنها كانت مرهوبة من القوة الأميركية، واستغفلتنا لأنها حاولت إقناعنا بأننا لا نملك قوة الرد على كل من يريد أن يمارس الاغتصاب علينا، فدعتنا إلى الاستسلام إلى إرادة الغاصب: الصهيوني في فلسطين، والأميركي في العراق.
سواء صدر التوجيه، عن حسن نية فيقع الموجِّهون في دائرة المغفَّلين الاغبياء، أو عن سوئها فيكون من الجهل أن نركن إلى القناعة بتوجيه من مغتصبينا.
خارجاً عن مألوف حكمة الحكماء، وغباوة الاغبياء، وسذاجة الجبناء، وتآمر بعض الفرقاء، وحسابات الربح في التجارة، ومخاوف التجار من الخسارة، وتخويف أصحاب المشروع الأميركي الصهيوني لإلحاقنا في مشروعهم، أو وعودهم للتجار بأن أفضلهم هو كل من يتميز بالشطارة.
خارجاً عن مألوفهم وسذاجاتهم وحكمتهم وأحكامهم، كان الشيخ أحمد ياسين شعلة جديدة ومعلماً من معالمنا المعرفية والسياسية والنضالية. خرج عن مألوف ما نعرفه من فقهاء السلاطين، وتلطيهم بجزء من النص الإسلامي لتبرير حكمة حاكميهم، وأخطاء جاهليهم، وتنفيس أحقادهم الإيديولوجية، والترويج لأوهامهم السياسية.
خارجاً عن مألوف بعض الحركات السياسية التي تغلِّف تراخيها عن مقاومة المغتصب إلاَّ بالكلمة الحسنة والحكمة السياسية!!!
خارجاً عن المألوف، اتَّخذ الشيخ الشهيد مساراً خاصاً برؤيته في الصراع مع حالة الاغتصاب العامة، سواء كانت في الشرق أو في الغرب، وأعلن أن الاغتصاب الذي قام بفعلته بالقوة لا يمكن أن ترشقه بالحكمة والموعظة الحسنة، بل من الخطأ أن تفعل ذلك
لقد وعى، وقبل كل شيء، الترابط الوثيق بين طرفي التحالف الاستعماري الصهيوني، ودفعه وعيه لثبات مشروع الهيمنة والاغتصاب (سايكس بيكو) إلى الابتعاد عن المراهنة على الحوار السياسي، وهو إذا كان لا يرفضه، لكن على أن لا يكون البديل عن المقاومة المسلَّحة بل على أن تصب نتائجه في تعزيز روح المقاومة والعمل على توسيعها وانتشارها، بالمال والأرواح والأنفس، حتى تحقق نجاح أهدافها في تحرير الأرض كاملة.
لقد أعلنها بوضوح، وهو في المسجد، والمعتقل، وعلى الكرسي، أن الجهاد فرض عين على كل فلسطيني لأن أرضه خاضعة لاحتلال. وإن تنوَّعت درجات الجهاد كان أفضلها عند الشيخ الشهيد- وأكثرها ضرورة وواجباً وجه المقاومة المسلَّحة. وإنه قد أفتى ومارس أيضاً لأنه كان في قلب معركة الجهاد حتى التحرير، وآمن بأن الأرض لن يحررها إلاَّ المؤمنون الطليعيون الشجعان.
أعلنها مقاومة بالسلاح أولاً وقبل كل شيء، وأهلاً وسهلاً بما توفِّره المقاومة السياسية والحوار السياسي والمقاومة السلمية من نتائج تصب في أهداف المقاومة المسلَّحة. ولكن بشرط أن لا يسترخي كل الداعين للمنطق الأسهل والأكثر تبريراً لخوفهم ورعبهم من الشهادة على طريق اختيار قتال العدو بالسلاح. ومن يخشى على روحه عليه أن يكفي المقاومة المسلَّحة شرَّه، وأن لا يروِّج، لا للحكمة ولا للكلمة الحسنة إذا لم يكونا في موقعهما الصحيح والشرعي. وإذا أراد أن يقوم بدور فليس من أجل الحد من زخم المقاومة بل من أجل أن يدعمها ويقويِّها.
فإلى روحك يا شيخنا، يا شيخ المقاومة بالفكر والفتوى، ويا شيخ المقاومين بالنضال على أرض المعركة، نقف بالإجلال والاحترام. فبسيرتك ونظرتك، فبسلوكك ونضالك، ستبقى لنا القدوة. وسوف تستمر مقاومة الشعبين الفلسطيني والعراقي شعلة تستلهم، في فلسطين والعراق، من معالمها النضالية ورموزها الأكثر إشعاعاً في تاريخنا.
وأنتم يا سيدي الشيخ الشهيد، وصدام حسين الثائر الأسير، مع كل الأخوة الذين يقدمون أرواحهم وحريتهم مهراً لتحرر هذه الأمة واستقلالها،ستبقون لنا التُراث الذي سننهل منه ونقتدي به.
-->

ليست هناك تعليقات: