الأحد، فبراير 28، 2010

مراجعة كتاب "جذور الميكيافيلية

-->
مراجعة كتاب "جذور الميكيافيلية في كليلة ودمنة"([1]).

محتويات الكتاب

يستهل المؤلف كتابه بتمهيد يقع في 17 صفحة. ويقسِّم بحثه إلى ثلاثة أبواب:
- الباب الأول: في المفاهيم الأساسية. ويندرج تحته عدد من المفاهيم مثل: الشر والفساد. الإساءة والإحسان. الاحتقار. الغرور. المنفعة والضرر. والموقف من الدين.
- الباب الثاني: السلطة، جدلية العلاقة بين أجزائها. ويندرج تحته عدد من العناوين ذات العلاقة، مثل: السلطان والسلطة. الوزراء وعلاقتهم مع السلاطين. المشورة. الأسرار. التشهير والاتهام. العقوبات والمكافآت. الثراء والفقر. النساء.
- الباب الثالث: الدبلوماسية والسياسة الخارجية، الحرب والسلم. ويندرج تحته عدد من العناوين ذات العلاقة، مثل: الدبلوماسية. التفاوض. الصديق والعدو. الحرب. الحيلة والخداع.

عرضٌ للكتاب

يستعرض الكاتب مصطفى سبيتي، في تمهيده لبحثه، الصعوبات المنهجية التي اعترضته حينما أراد أن يخوض البحث في كتاب كليلة ودمنة. وكان مصدر الصعوبات أن أثلام الكتاب مبعثرَة ومتنافرة. ولكنه يكتشف أن مقدمة الكتاب التي وضعها عبد الله بن المقفع لها أهميتها في تذليل الصعوبات التي واجهها، والتي يقول إنه لا يمكن فهم الكتاب من دونها (ص12). والدليل الذي يرسمه ابن المقفع للقارئ يقوم على ما يلي: عدم التلهّي بألوان اللهو والطرائف التي غُلِّفت بها المفاهيم السياسية للكتاب (ص13).
فأهداف كليلة ودمنة سياسية غُلِّفت بألوان من الطرائف لإصابة هدفين:
-الابتعاد عن الكلام المباشر في السياسة لخطورته على حياة الكتب.
-تشويق القارئ وجذبه إلى قراءة الكتاب بأسلوب قصصي شيِّق.
ويوضح الأستاذ سبيتي أن تحويل كليلة ودمنة من كتاب لم يُوضَع بطريقة منهجية -كالتي نعرفها اليوم- إلى كتاب ممنهج بطريقة واضحة، قد تطلَّب منه أن يضع له صيغة جديدة ومنهجية مختلفة، من تبويب لمواضيعه وتفصيل لها.
كشف له هذا المنهج أن هناك تشابهاً بين ما رمى إليه كتاب كليلة ودمنة وكتاب مطارحات ميكيافيلي (ص15). والكاتب، هنا، يفسِّر الصدفة التي دفعته لمقارنة المؤلَّفيْن، فقال إن سببها كان عائداً إلى ملاحظته صدفةً "التماثل بين أقوال الكتاب [كليلة ودمنة] وعناوين ميكيافيلي في مطارحاته. وهذا التماثل وصل أحياناً إلى حد الترجمة الحرفية"(ص16).
يقول الأستاذ سبيتي إن ما عمل جهده لأجْلِه هو تبيان أهمية الكتاب السياسية. فالذين سبقوه من الباحثين في (كليلة ودمنة) قد عالجوه من زوايا الأدب أو البلاغة أو الخرافة أو الأمثال والحكمة، أما هو فقد دلَّ على أهميته ووظيفته التي تتلخص في وضع أسس منهجية لسياسة الدولة (ص17).
أما الأهمية الثانية فتنبع من توجيه مؤلف (كليلة ودمنة) خطابه إلى الدولة تحت تسميات متنوعة: العاقل، ذي العقل... فيسجِّل حوارات ظاهرها بين أفراد عاديين، وباطنها تجسيد للشخص العام (الدولة والسلطان).
يرى الأستاذ سبيتي أن ميكيافيلي لم يخرج عن المنهج ذاته، باستثناء أنه كان واضحاً في مطارحاته، حينما يستحضر تسمية السلطة بشكل مباشر إذا أحسَّ أن الأمر قد يلتبس على القارئ (ص18).
يصل الأستاذ سبيتي إلى أن (كليلة ودمنة) هي التي أسست للواقعية السياسية وليست مطارحات ميكيافيلي، كما يحسب البعض.
يؤكد الكاتب سبيتي على نتيجة، ويبدو أنها ما يريد أن يبرزه، أن كتاب كليلة ودمنة "لم يفصِّل السياسة على قياس قِيَمه ومعاييره، بل استنتج تلك القِيَم من مجرى حركة السياسة التي تدفعها قوانينها الكامنة في ذاتها وليس خارجها". ويتابع قائلاً: "إننا نستنتج من قِدَم الواقعية السياسية، أن الملوك والسلطات على أنواعها لم تكن يوماً لتنتظر نصائح كليلة ودمنة، أو إرشادات ميكيافيلي، ولا مواعظ أي من المفكرين السياسيين، لتقرر سلوكها السياسي". ومنها يصل الباحث إلى أهم نتائجه في البحث إلى أن "غريزة السلطان واحدة في كل مكان وزمان، تختلف وسائلها مع تقدم الزمن، لكنها لا تختلف بحكمة استخدامها، وهي: تملُّك السلطة وصيانتها وتعزيزها"(ص19).
يرجَّح الكاتب، أخيراً، من خلال تمهيده أن يكون ميكيافيلي قد اطَّلع على ترجمة لكتاب كليلة ودمنة. ومن خلال عدد من الأمثلة، يحيل سبيتي القارئ إلى المقارنات التفصيلية في متن كتابه، والتي تدلَّل على تأثير (كليلة ودمنة) بفكر ميكيافيلي السياسي، والتي قد تكون قد ساعدته في كتابة مطارحاته.
وتبقى إشارة الباحث إلى أن هناك ما يميِّز الكتابين عن بعضهما البعض أن كلاً منهما قد استقى أمثلته من البيئة التي انطلق منها مؤلف كلٍّ منهما.
يُنهي سبيتي تمهيده باستنتاج أن هناك تشابهاً في حركة السلطة والسياسة على مرِّ التاريخ: من بيدبا إلى ابن المقفع إلى ميكيافيلي، فكانت سيرتهم جزءاً منها. فتفاعلوا معها، فتشابهت، إلى حدٍّ ما، صِيَغهم النظرية.
ويترك الباحث، أخيراً، للقارئ أن يخمِّن ما وراء قصده من البحث.
منذ أن نبدأ بقراءة الباب الأول يساورنا شعوران:
-الأول شعور مثالي يثير استنكارنا ضد حالة التشاؤم التي تسيطر على كل من كتاب كليلة ودمنة، ومطارحات ميكيافيلي.
-الثاني: شعور واقعي من خلال أننا نعي بأن ما حدا بكاتبيْ الكتابين ليس إلا نقلاً واستنكاراً لما كانت عليه السلطة والسلطان بالفعل في كل زمان ومكان. وإننا بدورنا، في العصر الحاضر، نحيا ونعيش، وإن بشكل مختلف، كثيراً من الصور التي يضعها الكاتبيْن أمام أعيننا.
لم تنطلق أهداف الباحث سبيتي من موقع الناقد لفلسفة سياسية معيَّنَة، وإنما كان يبذل جهداً أكاديمياً يبغي من ورائه أن يقارب بين كتابين أُنجِزا في وسطين اجتماعييْن وزمنين مختلفيْن. ورأى الباحث أن الكتابين توصَّلا إلى وجود وقائع متشابهة، فخلصا منها إلى توجهيات ونصائح ونتائج متشابهة. وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن هناك وحدة بالطبائع البشرية على صعيد السلطة والحكم والحاكمين.
وقد يكون من أهداف الباحث، أيضاً، أن يبرهن على أن تواصل الحضارات الإنسانية هو شيء واقعي وطبيعي وضروري. وإن مشروعية تفاعل تلك الحضارات هي مسألة مشروعة، بحيث تنقل حضارة ما عن حضارة أخرى بما يساعدها على بناء تراث فكري خاص بها. وإنه ليس هناك ما يُعيب إذا ما نقلت أمة عن أمة أخرى وسائل حضارتها إذا ما كانت بحاجة إليها. والدليل على ذلك أن ميكيافيلي الأوروبي المسيحي قد نقل عن عبد الله بن المقفع المسلم، وهذا الأخير قد نقل عن بيدبا الهندي. وقد أضاف كل منهم إلى حضارة أمته والحضارة الإنسانية فكراً إنسانياً نفيساً.
إن أهمية بحث مصطفى سبيتي لم تنطلق من موقع نقدي لأفكار الكتابين، بل في الجهد الكبير الذي بذله من أجل تبويبهما بما يجعلهما ذوي فائدة للقارئ المعاصر. واتَّبع في سبيل بلوغ أهدافه من البحث أسلوب التبويب العلمي، فجمع من كل رواية من روايات كليلة ودمنة أجزاء النصوص التي يصحُّ وضعها تحت عنوان موضوع واحد. وبهذا الجهد استطاع سبيتي أن يضع للمكتبة العربية بحثاً قيِّماً للقارئ العربي يوفِّر به الكثير من الوقت والجهد، ويكون قد قدَّم نتائج مشكورة في أنه توصَّل إلى أن مبادئ السياسة الواقعية هي من وضع كليلة ودمنة وليس من وضع ميكيافيلي كما يحسب بعض الباحثين.
بعد أن اطَّلع الباحث سبيتي على خفايا كليلة ودمنة وما وراءها من بلاوي في سياسة السلطة والسلطان في العصور الخالية، يبقى لنا أمل في أن يبذل جهداً ثانياً بأن يلقي أضواء على وضع سلطات العصور الحالية وسلاطينها، ليتحفنا به بأثر جديد حي لواقع نعيشه بويلاته وبلاويه.


([1]) مصطفى سبيتي: جذور الميكيافيلية في كليلة ودمنة: دار الفارابي: بيروت: 2000: طبعة أولى. يقع الكتاب في 384 صفحة من الحجم الكبير.
-->

ليست هناك تعليقات: