-->
-->
مراجعة كتاب (فرص التغيير)
للأستاذ رياض صوما
من أجل تكوين صورة واضحة عن أوضاع أمتنا العربية في خارطة العالم، ومن أجل أن يضع أمامها رؤيته لدور لها عليها أن تلعبه في هذه المرحلة، ينطلق الباحث صوما من أن العالم (كقرية كونية) في القرن الراهن أصبح الوعاء الكبير الذي لا يمكن النظر إلى كياناتنا بكل تفاصيلها منفصلة عما يدور فيه، من سياسة واقتصاد واجتماع وأمن وعسكر.
وبالتالي منطلقاً من أن هذه المرحلة بالذات تحمل العديد من (فرص التغيير) ينجز بحثه مبرهناً على أن أمام أمتنا فرصاً لتغيير ما بنفسها فيدعوها إلى التقاطها، لأنها من دون ذلك ستجدد لنفسها لعب دور الطريدة التي لا تستطيع النجاة من شباك الصياد الأمبريالي كونها الهدف الأول منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى.
لكن الباحث صوما لا يرى أن الفرص المتاحة أمام الأمة يمكن أن تأتي من دون جهد وعناء ومقاومة، بل إن معرفة هذه الفرص، على قاعدة معرفة واضحة لما يدور الآن في العالم، يجب أن تتكامل مع إرادة ومقاومة لما يجري، وهو في هذا الميدان يضع مسؤولية كل ذلك على عاتق الحركة اليسارية العربية كونها الأمل والمرتجى.
لكل ذلك يبدأ في تشخيص الداء بمهارة وسلاسة وموضوعية بعيدة عن الانفعال، فيقول:
لأن البنيان المعرفي في القرن الراهن أصبح يشكل المولدة والحاضنة والكتلة الجاذبة للبشرية، وأمتنا تتواصل وتتفاعل معها، تؤثر فيه وتتأثر به. ووعاؤنا المعرفي، بكل تفاصيله التقنية والإنسانية، هو جزء منه.
ينطلق الباحث من تحديد القواعد المعرفية والسياسية والعسكرية التي تقود العالم وتتحكم بمصيره ومستقبله ليحدد مكاننا في ذلك التراكم الهرمي ومصيرنا ومستقبلنا. فماذا يجد؟
يجد تقدماً سريعاً وهائلاً هناك، وتخلفاً وانحطاطاً هنا.
وكي لا يجعلنا الباحث عرضة لليأس والقنوط، يعلن بالفم الملآن أن أمام العالم فرصاً للتغيير، ويتساءل: هل يمكننا نحن أيضاً التقاط هذه الفرص؟
وكي ينأى بدعوته عن الرومانسية يسير بنا طوال فصول بحثه خطوة فخطوة كي يعيد الأمل إلى نفوسنا معلناً أن النفق المظلم الذي نعيش فيه لن يبقى مظلماً إذا أخذنا بسبل العلم والمعرفة، والخطة السياسية المدروسة الهادفة إلى التقاط فرص التغيير المفتوحة أمام العالم كله، وفرصتنا نحن ستكون مضمونة إذا سعينا إليها. وأما إذا فاتنا القطار فلن تكون المؤامرة هي السبب وإنما تقصيرنا عن مواكبة المتغيرات العالمية سيكون من صنع أيدينا.
يبشرنا الباحث بأن أوهام الرأسمالية باقتصاد السوق والليبرالية المتطرفة قد بان فشلها بفشل مشروع استراتيجية جورج بوش والحزب الجمهوري، وبه ظهر فشل حكم العالم بقطبية واحدة، خاصة وأن أحد أكبر مفكريه (جوزيف ستينغلر) قد حذَّر منه، قبل وقوع الكارثة، ولم يستمع إليه أحد بسبب ما يتميز به أصحاب المشروع من (العمى الإيديولوجي، والعناد السياسي).
وقد نعاه أيضاً، حسب ما توصَّل إليه الباحث، عدد من المظاهر، التي شاركت فيه بعض أنظمة الغرب الرأسمالية نفسها، ومن أهمهم الرئيس الفرنسي. ولم تكن حركات الاحتجاج الشعبي العالمية إلاَّ في القلب من الذين نعوا المشروع.
تنامت مظاهر الرفض العالمي للمشروع المذكور، وراحت تدعو للخروج من (دوامة العنف المفتوحة، لأنها جعلت العالم اليوم أكثر اضطراباً وركوداً وتسلطاً، وأقل ديموقراطية وعدالة).
فقد قامت موجة الرفض عندما رأى صناع القرار في العالم، أن التوازن في إدارة العالم قد اختلَّ منذ أن سادت أوهام الرأسمالية الأميركية باقتصاد السوق والليبرالية المتطرفة، ووصل هؤلاء إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن التوازن سيستعيد مكانه بعد هزيمة الاستراتيجية الأميركية، ولجم السياسات الليبرالية الأميركية المتطرفة على الصعيد العالمي.
هذه النتيجة نصل إليها، كما يراها الباحث صوما، تبعاً للمعادلة التالية:
سقطت التجربة الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي، فاستفرد التحالف الأميركي – الأطلسي بحكم العالم، فساد الاضطراب وعمَّ أنحاء الكرة الأرضية، الأمر الذي أربك هذا التحالف، فانشغل العالم بالتفتيش عن مخارج لتجاوز المرحلة المضطربة، وتلك فرصة ثمينة للتغيير.
ولكن التغيير ليس سهلاً وميسوراً لأن المشروع الأميركي، الذي ظهر لنا وكأنه مات، لا يزال قادراً على إحباطنا لسببين: أولهما أنه لا يزال يمتلك عناصر قوة. وثانيهما أن خصومه لا يزالوا مشتتي القوى. ولأن أمتنا من خصومه بالدرجة الأولى يقف الباحث ليبشرنا بأن الشروط الموضوعية للتغيير تنضج تدريجياً، فيدعونا إلى التقاطها.
لماذا نحن، وما هو دورنا؟
سؤال يطرحه الباحث، ليجيب عليه:
في مرحلة الاستفراد بحكم العالم، وبعد أن قضى التحالف الرأسمالي على عدوه السابق المتمثل بالاتحاد السوفياتي، راح يعد للسيطرة على القارة الآسيوية، وفي المقدمة منها المنطقة العربية، فخلق عدواً جديداً تحت عنوان (الإسلام الفاشي) لبناء الشرق الأوسط الكبير، وموَّه معركته بعنوانيْ (الحرب على الإرهاب، ونشر الديموقراطية)، كعنوانيْن مضلليْن لإدخال منطقتنا في واقع استعماري جديد.
هذا الشبق الإمبراطوري الأميركي زرع الخوف في نفوس حلفائه، وأثار شعلة المقاومة العربية معاً، تلك المقاومة جعلت إفشال المشروع أمراً ممكناً (في المدى المنظور). وكان العدوان على العراق واحتلاله أبرز مظاهر (مخطط احتلال كامل الشرق الأوسط الكبير)، لكن المقاومة العراقية أسقطته، وأرغمت أصحابه على الانسحاب. وهنا يحذِّر الباحث من مناورات جديدة تقوم بها الإدارة الأميركية إذ تموَّه انسحابها بالاتفاقيات الأمنية التي وقَّعتها مع المتعاونين مع الاحتلال نفسه.
ولمزيد من التحصين الموضوعي يدعو الباحث إلى تجاوز حديْ التفاؤل المفرط بالحصول على نتائج سريعة، والتشاؤم المفرط الذي ينفي إمكانية الحصول على نتائج، وهنا يثبت الباحث ما توصل إليه، إذ يقول: (إن التراجع الأميركي والغربي تراجع حقيقي ولكنه بطيء ونسبي) ولا يمكن ضمان نتائج فرض انسحابه إلاَّ بضمان استمرار (خيار المقاومة).
من بعد أن يخيَّل إلينا أن الباحث أغرق في البحث النظري، فإذا به ينتقل من هدوء الباحث إلى حرارة السياسي المجرِّب الذي اكتوى بنار الهوة الفاصلة بين هدوء النظرية وحكمتها فيرفع الدعوة إلى إشعال النار تحت مراجل التطبيق، وفيها يضع إصبعه على جرح عميق أصاب دورنا فيدعو إلى مداواته من أجل إيقاف نزيفه، فيرفع صرخته في وجه اليسار العربي الذي تنازل عن دوره لكل (الإيديولوجيات الأخرى).
لم تكن صرخته، من خلال فقرات بحثه، دعوة رومانسية أو مبنية على خطاب تحريضي، بل بالإضافة إلى دعوته باستمرار (خيار المقاومة) العسكرية، يرى من المنظار المقاوم أن أحد أهم أوجه المقاومة يتمثل الآن في مواجهة (الحرب الإيديولوجية) التي تشنها الإدارة الأميركية لزرع اليأس في نفوس القانطين من محللين ومفكرين بعضهم يساريون سابقون نعوا مفاهيم التحرر الوطني.
لكل هذا يدعو الباحث إلى التحرر من عقدة الخوف من الحرب الإيديولوجية والأسلحة النارية المعادية، ويعتبر أن (النصر النهائي) هو لمن ( يعبِّر عن مصالح القوى الاجتماعية الصاعدة، بغض النظر عن النكسات المؤقتة لهذا الطرف، أو النجاحات العابرة للطرف المقابل).
لم تكن دعوة الباحث إلاَّ مترافقة مع جملة من المهام التي يرى أنه على حركة اليسار العربي أن تقوم بها في عملية إعادة تأهيل جديدة لكل أحزابها وقواها. وكلها من المهام المطلوب حملها لكي تستعيد الحركة وهج تأثيرها السابق، على أسس جديدة، ولكن هذه المرة على وقع خطاب جبهوي ناقد لسلبيات طالما عانت منها أحزاب حركة التحرر العربية.
ومن أهم تلك المهام، كما يحددها الباحث صوما، هي التالية:
الاستقلال الوطني، استعادة الوحدة القومية، بناء دولة المواطنة والرعاية، الاستقلال الاقتصادي والحد من التبعية، التنمية المستدامة، ثقافة المقاومة والتنوير، العدالة الاجتماعية، الحريات العامة والديموقراطية وحقوق الإنسان، النزوع الأممي، مقاومة الأفكار العنصرية ومنها الفكر الصهيوني، والدعوة إلى العلمنة...
ويدعو الباحث أخيراً إلى أن هذه المهام لن تتحقق (بالوعظ، بل عبر البرامج الملموسة، والنضال الميداني الطويل النفس، والبناء التنظيمي المناسب).
ونحن نضم صوتنا إلى جانب صوته، من أجل تخصيص صرخة نرفعها في وجه اليسار اللبناني، وندعوه إلى إيلاء العناية ببناء أسرة يسارية لبنانية تؤسس لدور لها يتكامل مع الأسرة اليسارية العربية التي عليها أن تستعيد مقعدها في مواكب التغيير على المستوى القومي العربي، وبه تفرض مقعداً لها في الأسرة اليسارية العالمية.
لن نترك قراءة هذا الكتاب القيم، الذي يتميز بشموليته، وتسلسله التاريخي والمنطقي، بأسلوب التكثيف الشديد والمعبِّر والواضح، من دون أن نقرأ ما خلف السطور.
إن قراءتنا لما خلف السطور لها علاقة وثيقة بإعادة تأهيل أحزاب حركة اليسار العربي التي من أهم عوامل إعادة تأهيلها هو سلوكها منهج الانتقال من أساليب الخطاب التعبوي إلى الاستفادة من نتائج الأبحاث العلمية، كمثل البحث الذي قدَّمه الأستاذ رياض صوما تحت عنوان (فرص التغيير)، خاصة وأنه يشغل موقع الانتماء الحزبي، وموقع الباحث الأكاديمي الرصين.
نقرأ ما خلف السطور، فندعو ما لم يدع إليه الباحث مباشرة، لنقول:
هناك حاجة للتجديد في استيعاب أحزاب اليسار لدور الباحث الموضوعي وتوظيف جهده في تصويب بوصلة مواقف الحركة الحزبية كلما زاغت بمواقفها المناهج الإيديولوجية المنفلتة تجاه التعصب. فندعو إلى التمييز بين الإيديولوجيا المنظمة المستندة إلى نتائج الأبحاث العلمية، والإيديولوجيا المنفلتة المستندة إلى الخطاب السياسي الجاذب للأهواء على حساب الجذب للعقول، وبين هذه وتلك نتجه بالحركة الفكرية الحزبية إلى علاقة تتصالح فيها الإيديولوجيا التعبوية، كعامل يشد الملتزم بعقيدة إلى عقيدته، والإيديولوجية المحمَّلة بالعقلنة كمرشد لاتخاذ الموقف السياسي الموضوعي، لتجعل إحداهما مكملة للأخرى. فتستمر العلاقة الحميمة بين العقيدة والعقائديين كطرف أول وبين العقيدة والعقل الراشد الذي يصوِّب الاتجاهات كلما زاد منسوب التعبئة نحو التعصب.
ومن هنا نطرح إشكالية أي موقع على الأحزاب العقائدية أن تفسحه للباحث الأكاديمي؟
إننا ندعو إلى تفريغ كرسي للرقابة الموضوعية وتلزيمه للباحثين. وبدعوتنا هذه لا يجوز أن نتهم بالتفتيش عن حزب أفلاطوني، بل المقصود منها دعوة إلى ترشيد وعقلنة الحركة السياسية والإيديولوجية في بنية الأحزاب التي تنطلق من ثوابت فكرية تلتزم بها تجاه الجماهير.
وأخيراً، وإذ نتوجه بالشكر إلى الرفيق الأستاذ رياض صوما، ندعوه إلى إعادة الكرَّة مرة أخرى لتزويد مكتبة اليسار العربي بإنتاجات جديدة وأبحاث جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق