الأحد، فبراير 28، 2010

تغيَّر العالم، فهل تغيَّر العرب؟

-->

تغيَّر العالم، فهل تغيَّر العرب؟(*)

13/ 9/ 2002 مقال لمجلة الوفاق العربي التونسية

إن للتغيير أوجه عديدة ومتفرعة، وعلى شتى المستويات ذات العلاقة الوثيقة بالمجتمع البشري. وما نقصده بمصطلح التغيير، هنا، هو ما له علاقة بتطوير أوضاع المجتمع البشري باتجاه الأفضل. وحيث إن كل أنواع التغيير يجب أن تصب في خدمة هذا المجتمع، فنحن سنلاحق النتائج التي ستحدثها التغييرات في تقدم المجتمعات أو تخلفها.
حين نريد أن نغيِّر ظاهرة ما أو عاملاً من العوامل في مجتمع من المجتمعات، فلا يمكن أن نفكر إلاَّ بتغيير تلك التي أثبت التاريخ والتجربة التاريخية قصورها عن أداء الوظائف المعدَّة لها. وإن ما يمكن أن نفكر في تغييره ليس إلاَّ لفشله في تأمين مصالح المجموعات أو المجتمعات أو الأفراد.
وإذا كنا نريد أن نرصد المتغيرات على صعيد العالم، فنعني، بمثل هذا الحكم، أن هناك متغيرات حصلت وقادته إلى مستويات متقدمة بمفهومها الإيجابي. وإذا تساءلنا هل طال التغيير الإيجابي العالم العربي، فلا يمكننا أن نرصد تلك المتغيرات إلاَّ من خلال مقارنة بين ما كان موجوداً وحاصلاً في فترة زمنية محددة، وبين ما هو كائن في اللحظة التي نعيشها الآن.
بما لاشك فيه أن العالم قد أصاب عدداً من المتغيرات على شتى الصعد. ومن تلك المتغيرات كانت الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة. وانحصرت تلك المتغيرات الثورية في العالم الغربي: أوروبا، وأميركا، واليابان، والاتحاد السوفياتي، وإلى حدٍّ ما الصين، أي باختصار دول العالم الصناعية. ونحن نقيس إيجابية تلك المتغيرات بما حققته لخير البشرية جمعاء من حيث أن أبواب العلوم التكنولوجية قد انفتحت على مصراعيها أمام شتى الشعوب، فأصاب منها الغرب والدول الصناعية الشيء الكثير من التقدم والازدهار وانعكس بشكل ملحوظ على مستوى حياتها المادية والاجتماعية، في الوقت الذي لم تحصل فيه الشعوب الأخرى على مثل تلك الإيجابيات.
لكن، على الرغم من أن الدول الصناعية قد استفادت من حدوث مسألتين أسهمتا في عملية التغيير، وهما: الثورة التكنولوجية والسياسية والاجتماعية من جهة، والهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على أسواق الدول المتخلفة وموادها الأولية من جهة أخرى، لا نستطيع أن نعدَّها العدو الوحيد للشعوب التي ترضخ لإرادتها، بل إن الشعوب المغلوبة، بدورها، تتحمل قسطاً من الوزر في صراع الغالبين والمغلوبين. لأن الغالب، في معظم الأحيان، لا يستند إلى قوَّته فقط، وإنما يعتمد على ضعف المغلوبين أيضاً.
من داخل هذا التصنيف نستطيع القول إن العالم الصناعي قد تغيَّر، استناداً إلى تفوقه في المجال التكنولوجي والعلمي فانعكس إيجاباً على مستوى معيشة مجتمعاته. فبهذا المعنى انتصر الغرب على حالة التخلف بتطوير الثورة العلمية والتكنولوجية، فانعكس إيجاباً على مستويات شعوبه المعيشية والاجتماعية.
ومن داخل هذا التصنيف، أيضاً، نستطيع القول إن العرب لم يتغيروا، لأنهم لم يصيبوا من التقدم التكنولوجي إلاَّ الشيء اليسير، الذي لا يغني فقراءهم ولا يطعم جائعيهم، بل ظلوا في موقع التابع للدول المتقدمة. وعلى العكس من ذلك، تكاثرت الثروات في أيدي قلّة منهم. وهذه القلّة لا تتجاوز الطبقات الرجعية الحاكمة وحاشيتهم من المستفيدين، بالإضافة إلى طبقة التجار والمتمولين. فتعاون، في مثل هذا الواقع، كل من الرأسمالية والأنظمة الحاكمة، وكل من يدور في فلكها، على إبقاء الأقطار العربية في دائرة التخلف.
لماذا لم يتغير العرب بينما التغيير قد أصاب العالم، سؤال لا بُدَّ من أن يكون محطة لاهتمام المثقفين العرب. ولا بُدَّ من التفتيش عن أجوبة له؟
كان ما أنتجته الثورة العلمية والتكنولوجية في العالم، مقياساً للتغيير الذي حصل في العالم. تلك الثورة التي كانت نتيجة للتقدم الفكري والثقافي والعلمي.
لكن ما هو أهم من المظاهر والظواهر، المتقدمة هناك، والمتخلفة هنا، هي الأسباب التي أدَّت إليها، وكانت الدافع من وراء صياغتها. ومن أهم تلك الأسباب، نرى التالية:
- مستوى الأداء الفكري والسياسي واتجاهاته عند مؤسسات السلطة في العالم الغربي، ومستوى الأداء الفكري واتجاهاته عند النخب الحاكمة في العالم العربي.
- مستوى النهوض الفكري والثقافي عند الشعوب: في العالمين الغربي والعربي.
- مستوى الأداء في التخطيط الداخلي والخارجي في الغرب، ومستوى الأداء في التخطيط القطري والقومي عند العرب.
نعني بالعالم، تلك البلدان الصناعية، وهذا يعني -إلى حد كبير- سلطة الرأسمال العالمي. ومن مصلحة تلك السلطة أن تعمل في اتجاهين: التنمية العلمية والصناعية والاجتماعية التي تصب في مصلحة شعوبها من جهة، والعمل في سبيل تأمين الموارد الأولية للصناعة والثورة العلمية من الدول المتخلفة من جهة أخرى، والتعامل معها على أساس أنها شعوب مستهلكة.
فما له علاقة بين الرأسمال العالمي والعالم العربي يتم على قاعدة اتجاهين استراتيجيين: القطرية والقومية. فالرأسمال العالمي يعمل على تكريس التجزئة القطرية لإبقاء صوت المتضررين مجزءًا من جهة، ولهذا يعمل في سبيل منع أية اتجاهات توحيدية، في العالم العربي وغيره من جهة أخرى. وفي تكريسه للواقعين تكريس لقوَّته أولاً، وسلب مواطن القوة من العمل التوحيدي ثانياً.
وإذا كان من وظيفة المتغيرات المطلوب إحداثها أن تصب في مصلحة الشعوب، فإن ما هو مطلوب للتغيير في العالم العربي يجب أن يصب في مصلحة الشعب العربي. وهذا يطال، بشكل أساسي، إعادة النظر في وظيفة السلطات الحاكمة ودورها في الأقطار العربيةً، وإعادة النظر في وظيفة الجماهير ذات المصلحة الأساسية ودورها في التغيير.
ولأن القطرية والقومية في المنظور الرأسمالي هي من الهموم الأساسية التي يعمل الرأسمال العالمي على منع تفاعلها، فعلى المستوى العربي يجب أن تكون من الهموم الأساسية التي على العرب أن يعملوا في سبيل وضعها في سلَّم الأولويات. لكن هذا لا يعني، على الإطلاق، أن نمنع التغيير على المستوى القطري بانتظار تحقيق الوحدة القومية، بل هنالك أساليب ووسائل أساسية تعمل للتمهيد لأية حالة توحيدية على المدى القريب والبعيد.
فعلى المستوى القطري، يخضع التلازم بين وظيفة السلطات الحاكمة ودورها، ووظيفة الجماهير ودورها إلى عملية ترابط وثيق وجدلي، لأنه بدون تلك العلاقة لا يمكن للتغيير أن يحصل. لماذا؟
بين حاكم ومحكوم علاقة وثيقة. فمن واجبات الحاكم أن يؤدي وظيفته في العمل لأجل تأمين مصلحة الشعب، ولكن إذا أخطأ الهدف، فلا بُدَّ من تصحيح انحرافاته، وهذا لن يتم إلاَّ بواسطة الطرف الآخر، الذي هو المحكوم. ولن يستطيع المحكوم تصحيح الخلل إلاَّ إذا كان الهدف واضحاً أمامه، وهذا من المستحيل وجوده في ظل سيطرة الجهل والأمية بمعناهما الثقافي والفكري النظري أولاً، وبمعنى ترجمتهما إلى واقع عملي ثانياً.
قد تبدو هذه المهمة عسيرة وبعيدة المنال.
لكن من الذي قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يتمُّ بواسطة عصا سحرية؟
ومن قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يطال الخلل من دون وعي لأسبابه؟
ومن قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يحصل من دون أن يلعب المتضرر من مظاهر الخلل وظواهره دوراً في تغييره؟
فالمتضرر هنا، ليس سوى جماهير الشعب الواسعة، لذلك نرى أنه لا يمكن للتغيير في العالم العربي أن يحصل من دون رفع مستوى الأداء الفكري والثقافي لأوسع طبقات المجتمع المتضررة.
فمن بوابة الوعي الشعبي الفكري والثقافي تنتظم المشاريع السياسية الواضحة التي تحدد العلاقة بين السلطة والشعب، وتتحدد أدوارهما بوضوح، ويصبح مطلوباً من السلطات تحديث أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تصب في مصلحة المجتمعات.
وعلى المستوى القومي: ولأن في التجزئة السياسية للعالم العربي دور في إضعاف حركة التفاعل الفكري والثقافي بين أبناء شتى الأقطار العربية على الصعيد النضالي، بحيث ينشغل أبناء كل قطر بهمومهم الخاصة، فإن في وعي عوامل القوة التي يعطيها الوعي الوحدوي، في النظر والعمل، أساساً استراتيجياً في مواجهة عوامل الضعف عند الإغراق في الهموم القطرية من جهة، وفي مواجهة مخططات الرأسمال العالمي من جهة أخرى.
وهنا نستطيع أن نركِّز على عاملين مهمين في استراتيجية تحديد مواطن الخلل التي تمنع عملية التغيير على الصعيد العربي، وهما:
- أن يحصل الوعي الفكري والثقافي على مستوى أوسع القواعد الشعبية لعوامل التخلف في مواجهة مهام العلاقة القطرية بين السلطة والشعب.
- وأن يتم وعي أهمية العمل الوحدوي العربي في مواجهة تجزئة النضال على الصعيدين النظري والعملي. وعلى صعيد التكامل الفكري والثقافي السياسي والاقتصادي.
ففي وعي أوسع القطاعات الشعبية الفكري والثقافي ، حافز لوعي المشكلة بين السلطة والشعب على المستوى القطري، والنضال من أجل وضع حلول لها. وفي وعي دور العامل الوحدوي العربي أهمية بالغة في وضع حلول نضالية من أجل توحيد الجهود القومية من جهة، ومحاربة أهم عائق وضعته الرأسمالية العالمية في وجه حركة التحرر العربية من جهة أخرى.
فعلى عاتق قوى التحرر يقع واجب الحفر في البُنى الفكرية والثقافية لجماهير الشعب الواسعة، وعلى عاتقها يقع واجب النضال جنباً إلى جنب الجماهير الشعبية الواعية لأهدافها ومهماتها على الصعيدين القطري والقومي.
ومن مهمات الوعي القومي على المستوى الشعبي لأهمية العمل الوحدوي تلك التي تعمِّق معرفة أهمية الزخم الذي تعطيه الوحدة النضالية الشعبية في تعجيل خطى التغيير الفكري والثقافي أولاً، وفي مواجهة واعية لاستراتيجية الرأسمالية العالمية التي تعمل في سبيل إبقاء المنطقة العربية مفتَّتة وممزقة ثانياً.
ويأتي تكامل الوعي القطري لوظيفة المحكوم وعلاقته مع الحاكم مع وعيه لأهمية النضال القومي وتوحيده لكي يعطي زخماً مهماً لحركة التغيير المطلوب أن تحصل على المستوى العربي الشامل.
إن تخلفنا هو فكري - ثقافي أولاً، وهو تخلف سياسي - اجتماعي - اقتصادي ثانياً. فالدعوة إلى إزالة الأمية الفكرية الثقافية على شتى الصعد، ويأتي على رأسها التغيير في بُنى المعرفة عندنا، هي نظرة استراتيجية لا بُدَّ منها لعملية تغيير جذرية لا تتعرض للاهتزاز. ولا يعني هذا أن نوقف كل أشكال التحرك على شتى الصعد إلى أن تتهيّأ البنى الشعبية الواسعة الواعية، بل على قوى التحرر العربية أن تتابع نضالاتها من دون أن تنسى أن من أهم واجباتها أن تحفر للتغيير في بُنى الثقافة الشعبية بكل جدية واهتمام.


* مقال نشرته مجلة الوفاق العربي التي تصدر في تونس: العدد الواحد والثلاثون من العام 2002م.
-->

ليست هناك تعليقات: