-->
-->
أمام سلسلة الإخفاقات الدولية...
الإمبراطورية الأميركية في تراجع؟
أم باتت أكثر خطراً؟
14/ 3/ 2007 (مجلة الوفاق العربي – تونس)
بداية نرى أنه من المفيد أن نميِّز بين مفهومين للإمبراطورية الأميركية:
-المفهوم الشائع الذي يُطلق على أميركا، الدولة الاستعمارية بامتياز، مجازاً تعبير «الإمبراطورية»، من دون تحديد مميزاته الخاصة به.
-أما المفهوم الآخر، فهو الذي يميِّز، على أساسه، بعض المفكرين الأميركيين بين أميركا «الأمة» وأميركا «الإمبراطورية»:
فأميركا «الأمة»، كما يعرِّفونها، هي تلك الأمة التي تدافع عن حدودها الجغرافية، بغض النظر عن نظامها السياسي والاقتصادي، ولكنها تحترم حدود الدول الأخرى ومصالحها.
أما أميركا «الإمبراطورية» فهي تلك التي تعمل للاستيلاء على دول العالم، الرافضة لإملاءاتها، بوسائط مباشرة أو غير مباشرة، وتسليم مقاليد الأمور فيها إلى أنظمة سياسية عميلة. وقد ارتفع سقف طموحاتها في ظل إدارة الرئيس جورج بوش، وفي ظل انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى مستوى الاستيلاء العسكري المباشر على العالم، والتفرد بحكمه والسيطرة عليه.
إن مفهوم التوسع الرأسمالي التقليدي لأميركا هو ما تتعايش على أساسها أنظمة دول العالم الرأسمالية فيما بينها، تستخدم تلك الدول مواجهات تقليدية مع أميركا من أجل الحصول على حصصها، أو تحصيلها. وهي كانت قبل وصول أصحاب «القرن الأميركي الجديد» إلى السلطة، تتَّجه إلى بناء سدود تحمي مصالحها في مواجهة «أمركة العالم»، وازدادت رغبة في ذلك بعد الكشف عن وجههم الحقيقي في المرحلة الراهنة، خاصة بعد احتلال العراق.
إن المفهوم الإمبراطوري الأميركي المتطرف تأسس حديثاً، أي بعد هزيمة حرب فييتنام مباشرة، بالتعاون بين الطبقة الرأسمالية الأميركية الأكثر مغالاة، واليمين المسيحي الذي يؤمن بنظرية ظهور السيد المسيح، والصهيونية العالمية. وهو ما نتج عنه لاحقاً «اليمين الأميركي المتطرف» الذي يعمل من أجل «قرن أميركي جديد» تسود فيه «الديموقراطية الرأسمالية الأميركية» كأعلى مراحل تطور الفكر الإنساني، الذي به يعبِّر عنه فوكوياما بنظريته «نهاية التاريخ».
لقد أسهم في تكوين المنهج الإمبراطوري الأميركي عاملان أساسيان، وهما:
-العامل الأول، إيديولوجي غيبي: وهو سر التحالف بين الدعوات الثلاث، التي تؤمن كل منها بالنزعة الفوقية والشوفينية، وإيديولوجيته كونية تعمل من أجل تصدير نفسها إلى العالم: فاليمين الأميركي المتطرف يؤمن بتفوق «العرق الأبيض» وأعلاها درجة «الأبيض الأميركي». واليمين المسيحي المتطرف كـ«رسول للخير» يؤمن بالمعركة الأخيرة بين «الخير والشر» على أرض فلسطين. والصهيونية العالمية تؤمن بإيديولوجية «شعب الله المختار»، على قاعدة سيطرته على العالم.
-العامل الثاني، إيديولوجي سياسي اقتصادي: ويمثله انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، بما نتج عنه من هزيمة للمذهب الاشتراكي في صراعه مع المذهب الرأسمالي. وإسقاط المذهب الاشتراكي هو تعزيز للنزعة الرأسمالية الفوقية، وإسقاط كيانه السياسي العسكري الأمني كان تعزيزاً للكيان السياسي العسكري الأمني للولايات المتحدة الأميركية، بما عزَّز إيمان «التحالف الثلاثي» في الاستفراد بحكم العالم، وهي النزعة التي دفعت به لاستغلال القوة العسكرية الكبرى لأميركا التي انفلتت من عقالها في المرحلة المعاصرة.
وكأن التحالف الثلاثي كان ينتظر وصوله إلى حكم أميركا، بإيصال جورج بوش الإبن إلى سدة الرئاسة، فراح ينفِّذ خطته الكونية تحت شعارات القضاء على «محاور الشر». فابتدأ في يوغوسلافيا، ومرَّ بأفغانستان، وحطَّ رحاله في احتلال العراق. ومنذ تلك اللحظة انقلبت إدارة جورج بوش على كل الاستراتيجيات الأميركية التقليدية السابقة، وراحت تعمل على أسس إمبراطورية تجتاح العالم كله، بما فيه منظومة الأنظمة الرأسمالية.
تلك المقدمات كانت ضرورية لتحديد مصير، ليس أميركا الدولة الرأسمالية القوية، ذات النزعة في الاستيلاء على اقتصاد العالم بوسائلها التقليدية، بل لتحديد مرحلة تطبيق النهج الإمبراطوري على أسس عملية عسكرية مباشرة، وأسس إيديولوجية كونية تجتاح العالم لتطبيق «أوامر إلهية».
لقد تعثَّر المشروع الإمبراطوري الآن، وهو يعيش مراحل فشل تطبيقه الأخيرة، وسينعكس الفشل على وضع الرأسمالية العالمية كلها، كما ستنعكس على أسس المواجهة بين دول العالم الحر والنامي، وبين الرأسمالية الأميركية بشكل خاص والرأسمالية العالمية بشكل عام. لكننا لا يجوز على الإطلاق أن نمر حول هذا الموضوع مرور الكرام، أي أن نتجاهل التساؤل، الذي يحاول الجميع تقريباً تجهيله، ومفاده: ما هو العامل الأساسي والرئيسي الذي دفع بالجموح الإمبراطوري الأميركي إلى مهاوي الفشل؟
كانت التجربة العراقية مفصلاً أساسياً ورئيسياً، إذا لم يكن الوحيد، من مفاصل تطور منهجية المواجهة مع الاستعمار. وهي التجربة التي لولا وضعها الولايات المتحدة الأميركية في العراق أمام مأزق فعلي لجمت فيه «الحصان الإمبراطوري الأميركي الجامح» لكانت الإمبراطورية الأميركية قد عمَّت العالم من محيطه إلى محيطه. وبذلك، وكما أنها أحبطت الحلم الإمبراطوري الأميركي، وهي تقوده الآن من فشل إلى فشل، فإنها حدَّدت معالم جديدة وجدية لاستراتيجية جديدة في المواجهة بين العالم كله، وخصوصاً دول العالم النامية، وبين ليس الشبق الإمبراطوري الأميركي الذي يصل إلى نهاياته المحتومة فحسب، بل أمام توق الرأسمالية الأميركية التقليدي أيضاً، ووضعه أمام حقائق جديدة في المواجهة التي لن تستطيع أميركا تجاهلها في استراتيجياتها القادمة في الهيمنة على اقتصاد العالم.
لقد حمل المشروع الإمبراطوري الأميركي مخاوف شديدة التأثير على حلفائه قبل أعدائه، وهي ما دلَّت عليه مواقف كل من فرنسا وألمانيا وروسيا المعلنة، ومواقف الصين المضمرة، قبل احتلال العراق، بحيث حالت دون استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز لإدارة جورج بوش استخدام القوة العسكرية.
لكن تلك الدول وغيرها شعرت بالإحباط بعد احتلال بغداد مباشرة، وبعد إعلان الرئيس جورج بوش النصر، وتوجيه التهديدات للدول التي لم تشارك فيه، فتزاحمت تلك الدول على أعتاب البيت الأبيض لتصحيح مواقفها، طلباً للصفح خوفاً على مصالحها في العراق. ولكن..
ما إن أعلنت المقاومة الوطنية العراقية بيانها الأول، حتى لكأنَّ مفاجأة دعت جميع المتهافتين إلى التخفيف من سرعة التهافت، وكلما كان يكبر حجم تأثير المقاومة على قوات الاحتلال كانت تلك الدول ترفع من سقف ممانعتها للإمبراطور الأميركي.
لهذه الأسباب لم تقع إدارة الرئيس جورج بوش في إخفاقات دولية، كما أنها لم تقع في إخفاقات في احتلال العراق، لأن قرار العدوان والاحتلال كان قراراً يحمل كل الإخفاقات الأخلاقية والقانونية والشرعية الدولية، و على الرغم من ذلك كان الشارع الأميركي قابلاً به، ومن امتنع في البداية من الدول عن تأييده، تهافتوا على التأييد طوال أقل من شهر بعد احتلال بغداد. فليست إخفاقات إدارة الرئيس جورج بوش هي التي وضعت أميركا، سواءٌ أمام حالة تراجع أم حالة خطر، بل المقاومة العراقية هي التي كشفت عنها، ووضعت بقوة مواجهتها للاحتلال كل إخفاقات تلك الإدارة أمام الرأي العام الدولي والشعبي عارية مكشوفة، ودفعت القوة الأميركية العظمى إلى مآزق الفشل ومتاهاته.
بالإجمال، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية في أضعف حالاتها وأكثرها حرجاً، فما فعلته وما أنتجته، وما لاقته من مقاومة شعبية مسلَّحة في العراق، لم يرغمها على التراجع عن حلمها الإمبراطوري، الذي سيُدفن إلى عقود طويلة فحسب، وإنما وضعت النظام الرأسمالي برمته، وكذلك الصهيونية العالمية، وكيانها المغتصب في فلسطين، أمام حرج جديد أيضاً.
من نافل القول، إن ما يشهده الشارع الأميركي، شعباً ومؤسسات وأحزاب، من انقسامات حادة حول احتلال العراق، إنما هي دعوات لتقليل الخسائر المنظورة التي تدفعها أميركا في العراق، التي ستُرغمها على دفع خسائر غير منظورة في العالم، وبشكل خاص على صعيد الأمة العربية.
أما الخسائر غير المنظورة، فستكون متعددة الاتجاهات، وهي ستبدأ في استعادة تنشيط الدور السوفياتي والصيني في العالم، وتخفيض سقف المهابة الأميركية عند حلفائها من الأنظمة الرأسمالية، إلى ضعف تأثيرها على الأنظمة العربية الرسمية الصديقة لها بحيث لن تنطلي بعد الآن «أكذوبة التوازن العسكري النظامي» بين الأمة وأعدائها على الجماهير الشعبية العربية. وصولاً إلى استعادة حركة التحرر العربية حيويتها، حتى ولو تدريجياً، لأن تجارب المقاومة المسلحة في كل من فلسطين ولبنان، والأعلاها درجة ونوعاً في العراق لأنها ستسحق رأس الأفعى، ستكون جاهزة لمرحلة دراسة وتقييم واستخلاص نتائج سيكون سقفها الاستراتيجي وقاعدتها الأساسية هو أن القوى التسليحية النظامية، مهما بلغت من الشدة والفتك فإنها لن تستطيع أن تحتلَّ أرضاً، او تسهم في تركيع شعب يريد أن يتحرر.
فإذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي قد شكَّل نافذة وأملاً للرأسمالية العالمية في بسط سلطتها على العالم، فإن تجارب المقاومة الشعبية المسلَّحة في الأمة العربية، قد شكَّلت بداية وأملاً للشعوب التوَّاقة للتحرر.
ومن هنا تبدأ في تقديرنا معادلة ليس التراجع في أحلام أباطرة أميركا ووضع دولتهم أمام خطر فحسب، بل ستفرض على أحلام الرأسماليين في أميركا والعالم، وبالأخص منهم الحزب الديموقراطي في أميركا مراجعة استراتيجيتهم في الهيمنة على اقتصاد العالم أيضاً.
وأخيراً، تبقى الحقيقة الغائبة، أو التي يتم تجاهلها عن حسن نية أو سوئها، هي أن للعرب فضل يجب أن يعمَّ العالم، هو أنه على وقع طبول المقاومة الوطنية العراقية في مواجهة الإمبراطور الأميركي على أرض العراق، يُحضِّر العالم نفسه لدخول مرحلة جديدة من التداعيات ستعمل على تشكيل نظام عالمي جديد بعد أن أصبح «النمر الأميركي» من دون مخالب كان يرهب العالم بها. وسيؤرخ العالم لتلك البداية، أي تقليم تلك الأظافر، على رمال صحراء العراق وعلى جذوع نخيله، وكان ثمنها أرواح المقاومين العراقيين ومعاناتهم وبطولاتهم. أولئك الأبطال الذين وفروا البرهان لما قاله المفكر الأميركي إيمانويل تود: «أميركا ليست تلك القوة العظمى، ولا يمكنها في المرحلة الراهنة أن تُرهب سوى الدول الضعيفة، وإذا أصرَّت على أن تثبت قوَّتها الهائلة، فإنها لن تفلح أكثر من أن تكشف للعالم عن عجزها«. كما وفَّرت البرهان لما ينتظره يوهان غالتونغ، المفكر النرويجي حينما قال: « المركز هو الولايات المتحدة والأطراف هي أجزاء كبيرة من العالم. ومثل كل نظام فإن للإمبراطورية دورة حياة عضوية: تلقيح وحمل وميلاد وطفولة ومراهقة وبلوغ وشيخوخة وموت».
نخلص إلى هذه النتيجة لنشير إلى تداعيات فشل الإمبراطور الأميركي في العراق، التي تظهر تباعاً ابتداء بخطاب المواجهة الذي يتعالى في أميركا اللاتينية، والأمل الذي عاد إلى منظومة الدول الأوروبية، والوعي الذي عاد إلى ذاكرة الدول الاشتراكية سابقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق