الأحد، فبراير 28، 2010

حزب البعث بعد صدام حسين

-->
حزب البعث بعد صدام حسين
نشر في مجلة الشراع قي 22/ 1/ 2007
أول ما يتبادر للذهن عند طرح هذه المسألة هو أن نقف عند حقيقة بديهية تُعرِّف مفهوم الحزب أولاً، ومن بعده تُعرِّف الأفراد الحزبيين وأدوارهم ثانياً.
إن الحزب أصل والأفراد فروع، أما الأصل فهو كالجذع الذي تتكاثر منه وفيه الأغصان، وأما الأفراد فهم كالأغصان بعضها، وبفرادة منه وفيه، يلتحم بالجذع ويضيف إليه صلابة وقوة واستمراراً، وأما الآخرون فيعطون الثمر الذي ينمو ويتكاثر.
كان حزب البعث العربي الاشتراكي فكرة انطلقت بمبادرة من ميشيل عفلق، ونشرها في دوائر ضيقة بين عدد من المثقفين، ونمت الفكرة واتسعت، فاستوعبت بعض طلائع الأمة ممن اقتنعوا بأن الفكر الذي ناقشوه لا يمكن انتشاره إلاَّ بطريقة منظَّمة، واستفادوا من مفهوم الأحزاب، كون التنظيم الحزبي اكتسب أهمية في نضالات الشعوب في العصر الحديث، فانعقد المؤتمر التأسيسي في السابع من نيسان من العام 1947.
وتلا المؤتمر التأسيسي مؤتمرات أخرى، وترسَّخ مفهوم البعث في ذاكرة الأمة، وبنموه فرض دوره في تاريخ الفكر العربي، كما فرض نفسه في تاريخ الأمة العربية السياسي.
خلاصة القول، كان حاملو الفكرة من المتميزين في تاريخ الحزب، قادوه ورعوه وناضلوا في صفوفه، وتركوا تأثيرات فكرية وسياسية ونضالية جمَّة، اغتنى بها فكر الحزب، وتركت بصمات عميقة، لا يمكن أن يتناساها البعثيون، وبها لا يمكن لتأريخ الأمة أن يكتمل إذا لم تكن تلك التأثيرات في القلب منها.
ومن بعدها رحلوا الواحد بعد الآخر، فحياة الإنسان قصيرة، بينما حياة المتميزين في تاريخ الحزب لا يمكن حسابها بمقاييس الزمن، بل يتم حسابها بمقاييس التأثير. وكما أن استمرارية الأحزاب لا ترتبط بحياة المتميزين فيه، لأن دورتها الحياتية لا تخضع للقانون البيولوجي في الحياة والموت الذي يرتبط بولادة الإنسان وموته. فإذا كانت حياة الأفراد، متميزين أم غيرهم، مرتبطة بالقانون البيولوجي، فإن حياة الأحزاب أو موتها مرتبط بقانون التغيير والتجديد، وهي دورة حياة مستمرة مرتبطة بمدى تجديد نفسها فكرياً وسياسياً وتواصل نضالاتها، وتجديد طاقاتها البشرية بالأفراد بحيث لا تترك فراغاً بين جيل وجيل. وهذا ما يدفعنا إلى تحديد عاملين، في حال توفرهما لا يمكن للأحزاب أن تموت، وهما:
-التجديد في الفكر والسياسة بما يتناسب مع متغيرات المراحل.
-والتجديد الدائم والمتواصل في كسب الأجيال الشابة.
هكذا نفهم نظرياً أسس المفاهيم الحزبية، وهكذا نفهم العلاقة بين الحزب كمؤسسة ومناضليه كأفراد.
أما التجديد في بنى الحزب الفكرية والسياسية والنضالية، فغالباً ما تكمن في إبداعات المتميزين في الحزب، وقيادتهم له. فهو بالقدر الذي يوفِّر لهم الإمكانيات البشرية، فهم يوفِّرون له خلاصات تجاربهم وقدراتهم الفكرية، وإبداعاتهم النضالية. واستناداً إلى ذلك نجد أن هناك علاقة جدلية بين الحزب كأسلوب في التنظيم والفعالية وبين الأفراد المبدعين الذين يناضلون في صفوفه ثم يرحلون، ونرى أن تلك العلاقة بطرفيها، لا تخرج عن قاعدة أساسية، يكون الحزب فيها الأصل فهو الأول، وغيره من الأفراد هم الفرع فهم الثاني.
يرحل الأفراد ويبقى الأصل، رحل القائد المؤسس واستمر الحزب، ورحل صدام حسين وسوف يستمر الحزب. وهل يرى آخرون أن القائد المؤسس كان يرغب في رحيل الحزب الذي أسس بعد أن يرحل هو؟ وهل يرون أن صدام حسين كان يرغب برحيل حزب البعث بعد رحيله؟
لم يكن هذا وذاك، فالمتميزون في حزبهم كانوا يستمدون العطاء من حزبهم ويستقوون به، وحزبهم يقوى بهم ويستمر، فعلاقتهم أخذ وعطاء، وهي علاقة جدلية متواصلة. ولأن الحزب ليس حالة تنمو من تلقاء نفسها، فهو مجموعات من أفراد منظمين، ينمو كلما ازدادت نسبة المتميزين بينهم من المنتسبين إليه، فلا استمرار له من دونهم، فهم يتحولون بحزبهم ومعه إلى كتلة واحدة تجمع بينهما علاقة تفاعل وتواصل.
فالذي جعل الحزب يستمر بعد رحيل مؤسسه ورفاقه، وكل الذين تركوا أثراً أو أكثر في تاريخه، هو أنهم أسهموا كل من موقعه، وفي موقعه، بضخ عوامل الاستمرار لحزبهم من أجل أن يبقى حياً ولا يموت. وعوامل الاستمرار إنما هي في العمل على تجديده وإغنائه بسبل الفكر والنضال.
فكما أضاف سابقوه إضافات نوعية في تاريخ حزبهم، أضاف صدام حسين إضافات أيضاً. أما إضافاته فقد تميزت ليس بتعميق فكر الحزب فحسب، بل بتعميق تجربته السياسية، والنضالية أيضاً. فكان الأكثر إبداعاً في تاريخ الحزب:
-خاض أولاً تجربة مرحلة النضال الإيجابي بعد ثورة السابع عشر الثلاثين من تموز، فقادها، واستفاد من أخطائها وصحَّح فيها. وأرسى أسس المشروع النهضوي العربي المعاصر، والكلام عنه كثير، ونتاجات ذلك المشروع هو أكثر مما يتصور العالم أنه قد حصل، وهو المشروع الذي استطاعت المؤسسات الاستعمارية أن ترصده بدقة، ولما اكتشفت مخاطره على مصالحها، خططت من أجل تدميره ونفذَّت مخططها في الاحتلال المباشر للعراق.
-كما خاض ثانياً تجربة النضال الميداني في مواجهة الاعتداءات ذات الألوان والمشارب المتعددة، بدءاً من مواجهة العدوان الإيراني في العام 1980، مروراً بمواجهة العدوان الصهيوني، والحد من سرعة انتشاره منذ بداية اتفاقيات كمب ديفيد، وانتهاء بتخطيطه وإعداده لمقاومة آخر عدوانات العصر باحتلال العراق، في العام 2003، التي لا تزال فصولها مستمرة حتى الآن.
إن الإضافات التي أبدعها صدام حسين وأصبحت تجربة رائدة إنما تركت في تاريخ الحزب وفكره وتجربته السياسية أثراً عميقاً، وستصبح تُراثاً لحزبه وأمته، مما لا يمكن إلاَّ اعتبارها من أهم عوامل الحياة التي ستُغنيهما معاً، كما أن التأثير نفسه سيُضاف إلى تاريخ التجربة الثورية في العالم، زاداً كبيراً، ودرساً ماثلاً في كل زوايا القضايا العربية على خصوصيتها، وإلى كل قضايا التحرر من الاستعمار على شموليتها.
ففي رحيل شهيدنا الكبير، مهما كانت الطريقة التي رحل بها، سواءٌ أكانت اغتيالاً في أسر الاحتلال الأميركي، أم استشهاداً في خندق المقاومة، أم موتاً عادياً على فراش الموت، ترك لحزبه وشعبه وأمته أسلوب فكر ونضال ما يساعدها على الحياة والاستمرار.
فبرحيل صدام حسين سيستمر الحزب، بكل تأكيد، من بعده. ولأن الحزب مؤسسة، وعلى الرغم من أنه يستمر بإبداعات المبدعين فيه، فهو مصنع للرجال والمبدعين أيضاً، فنحن البعثيون لن يفاجئنا أن يخرج صدام آخر، أو العشرات كأمثاله، كما أن حزب البعث العربي الاشتراكي سيفاجئ الآخرين، بأن قيادة الحزب في العراق مستمرة وموجودة. فليس هناك فراغ، والفراغ ممنوع في حزب أصبح مؤسسة، والدليل على ذلك يبرهن عليه واقع الأمر في العراق. لقد أسر العدو الأميركي كل القيادات المعلنة، ولم تحصل أية متغيرات سلبية على واقع المقاومة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن القيادات البديلة جاهزة، وستبقى جاهزة أيضاً بحيث يغيب أحدهم، لسبب أو لآخر، ليحل مكانه آخرون من مخزون هذا الحزب الذي لن تنضب ينابيعه. أما السر فليس سراً لأن حزباً كحزب البعث أصبح مؤسسة وليس تابعاً لأفراد ينتهي بنهاية حياتهم، فهو قادر على الإنتاج والتوليد حتى قبل أن يشعر بحاجة إلى تبديل أو تغيير أو ملء شواغر.
وإجمالاً، سيبقى الحزب وسيستمر بعد اغتيال أمينه العام، ولكن من المحال أن لا يكون البعثيون أوفياء للمبدعين في تاريخ مسيرتهم، وصدام حسين الشهيد سيبقى نقطة مشعة في هذا التاريخ، وسيبقى حياً في نفوس البعثيين وعقولهم، ماثلاً في تراث حزبهم الفكري والسياسي والحضاري والنضالي.
والأهم من كل ذلك، والأكثر إلحاحاً، هو أن المقاومة الوطنية العراقية، التي أسسها صدام حسين وقادها من الخندق ومن وراء القضبان، ستبقى الشعلة الملتهبة، ويقودها بعثيون أفذاذ، ولن تتوقف مسيرتها، ولن يخمد أوارها، ولن يخف وهجها وتأثيرها، إلاَّ بهزيمة آخر جندي محتل سواءٌ أتى من الغرب أم أتى من الشرق ليعود العراق واحداً موحداً، ليس ليستكمل مسيرة نهوضه الوطني فحسب، بل ليكون أيضاً الأنموذج الثوري في معركة التحرر القومي، وتحرير الأمة العربية من الاستعمار والصهيونية، وفي المقدمة منها أرض فلسطين المغتصبة.
-->

ليست هناك تعليقات: