-->
-->
في ذكرى هزيمة حزيران
مقال نشرته جريدة القدس العربي
يمكننا بعد مرور أربعين عاماً على العدوان الصهيوني على بعض أقطار الأمة العربية، في حزيران من العام 1967، أن نقيِّم التجربة بآليات جديدة أسهمت في صياغتها مراجعتنا النقدية للآليات التي كانت حركة التحرر العربية تخضعها للنقد والتقييم.
على الرغم من أن أحزاب حركة التحرر العربي وقواها أسهمت في نقد الهزيمة التي أصابت الأمة، والنقد مطلوب في كل الحالات، إلاَّ أن آليات الستينيات النقدية كانت تخضع لمواصفات مُفصَّلة على مقاييس المواقف السياسية لأحزاب حركة التحرر العربي وإيديولوجياتها، وكانت في معظمها لا تقف الموقف النقدي النزيه، لأنها كانت تُخضع نقدها لعصبيات حزبية وإيديولوجية فئوية.
أولاً: كانت محاكمة تجربة الخامس من حزيران من العام 1967، محاكمة للفكر القومي العربي وأنظمة المرحلة القومية، المتمثلة بالحركة الناصرية، و حزب البعث العربي الاشتراكي. وكونهما يمثلان الحركة القومية أولاً، وأسسا نظامين سياسيين في مصر وسورية ثانياً، وانهزما عسكرياً في حرب حزيران أمام العدو الصهيوني في خلال أسبوع ثالثاً، فقد ُحِّملا وزر الهزيمة بطريقة أقرب منها للشماتة وليس للنقد.
ثانياً: كان النظامان السياسيان وليدان حديثان، لفكر قومي لم تتبلور كل حيثياته الفكرية والسياسية بعد، لذا كانت وسائل التجربة والخطأ تشكل البوصلة التي توجِّه تجربتهما في الحكم.
ثالثاً: على الرغم من أن أحزاب وقوى حركة التحرر العربية كانت واسعة الانتشار، إلاَّ أنها لم تكن متجانسة في الأهداف والوسائل:
1-فمن حيث الأهداف كانت تلك الحركة منقسمة إلى تيارين: أممي وقومي. فالأممي كان أمميتين:
-ماركسية، تضم الأحزاب الشيوعية على اختلاف مللها واتجاهاتها.
-وإسلامية كانت تقتصر بداية على حركة الأخوان المسلمين بشكل أساسي.
أما التيار القومي فكان متشابهاً بالأهداف التي كانت معلنة بثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية.
2-أما من حيث الوسائل، فيصح أن نصف الأهداف الأممية بأنها تقف في صف العداء للفكر القومي وأهدافه السياسية: فالتيار الماركسي يرى في الفكر القومي عائقاً يحول دون القفز نحو الأممية التي كانت مركزيتها في الاتحاد السوفياتي سابقاً وفي حكم الحزب الشيوعي في الصين، لذا كانت من أهداف الأممية الماركسية التنافس مع الفكر القومي وكل إفرازاته ومحاربتهما تحت هدف محاربة الشوفينية القومية. أما الأممية الدينية فكانت تنظر إلى الفكر القومي نظرة العداء من زاويتين: لأنه يشكل عائقاً أمام استعادة مراحل أممية الخلافة كما كانت في العصر العثماني، أولاً، وثانياً لأن تيارات الأممية الدينية يؤمنون بأنه لا حاكمية إلاَّ لله، إي للتشريع الإسلامي بكل تفاصيله، بينما الفكر القومي يعمل من أجل تشريع مدني حتى ولو كان التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً من مصادره.
تساوى التياران الأمميان بعدائيتهما للفكر القومي، وهذا يعني بشكل غير مباشر تلاقيهما، وإن لنتائج متناقضة، مع أهداف اتفاقية سايكس بيكو، بركنيها الأساسيين: محاربة الفكر القومي العربي من جهة، ومنع قيام وحدة عربية من جهة أخرى.
هذه المقدمات جزء لا يتجزَّأ عن إعادة تقييمنا لتجربة الخامس من حزيران في العام 1967. وتلك آليات لا يمكن القفز فوقها في إعادة تصويب أهداف نقد تجربة مرَّ عليها أربعون عاماً من عمر الأمة شهدت فيه تطورات ومتغيرات، كان لبعضها شأن كبير في القفز فوق خطاب الهزيمة والدخول إلى خطاب النصر.
من أولى أسبابنا لإعادة النظر في الآليات التقليدية هي أنها كانت تعتمد مقاييس أنموذجية، أي وصفات جاهزة لمواصفات حكم سياسي أنموذجي أولاً، ولإمكانيات عسكرية أنموذجية ثانياً.
لما كان الفكر القومي، في مرحلته الوليدة، أي أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد تأسس في العام 1947، أي قبل نكبة فلسطيني بعام واحد. وكانت الناصرية ردة فعل، من منطلق قومي، ضد النظام الملكي في مصر الذي قصَّر في واجباته القومية تجاه فلسطين، وتأسست بعد ثورة 23 تموز/ يوليو من العام 1952.
وإذا كانت الناصرية سابقة البعث بعدة سنوات في تجربة الحكم، فقد ابتدأت تجربة البعث في الثامن من آذار من العام 1963. ولما أتاح وجودهما في الحكم للحركة القومية أن تنمو وأخذت تفرض عدداً من المتغيرات على الصعيدين الرسمي والشعبي، شكلت مركزاً جاذباً استقطب كل الشرائح العربية المعادية للاستعمار والصهيونية معاً، وهذا ما أثار عدائية الاستعمار والصهيونية اللذين خططا من أجل وأد هذه التجربة القومية في مهدها قبل أن تستفحل وتستشري، والغريب في الأمر أن تلك التجربة أيضاً تواجهت مع عدائية الأمميتين الماركسية والإسلامية معاً.
فإذا كانت عدائية الصهيونية والاستعمار ترجمت نفسها بعملين عسكريين: عدوان العام 1956 على مصر، بعد تأميم قنال السويس، والعام 1967 من أجل إحباط سرعة انتشار الحركة القومية واحتوائها، فإن الأمميتين الماركسية والدينية لم تكونا منزعجتين من تلك النتائج. فقد شكلت هزيمة العام 1967 ذريعة أتاحت لهما فرصة للتشهير بفشل الفكر القومي، وصلا بها إلى حدود إعلان موته.
وإذا كان نقد الحركة الماركسية لهزيمة حزيران من العام 1967، كما تزعم الأحزاب الشيوعية العربية، من منطلق الحرص على الانتصار العربي، فنحن نرى العكس لأن الأحزاب الشيوعية العربية كانت حريصة على انتصار «إسرائيل» كرافعة للديموقراطية في الوطن العربي. إلاَّ أن هذه الحقيقة تؤكدها المراجعة النقدية لمواقفها من الصراع العربي – الصهيوني، التي أجرتها الأحزاب الشيوعية العربية منذ العام 1968، وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي اللبناني.
وهذا ينطبق على حركة الإخوان المسلمين، حيث إن بعض تياراتهم، كما تؤكد مصادرهم الموثَّقة لدينا، لا ترى في مواجهة العدو الصهيوني أكثر من دفاع عن أنظمة كافرة، وهي غير معنية بالانخراط في الدفاع عنها حتى ولو احتلت «إسرائيل» أرض مصر مثلاً. إلاَّ أن تلك التيارات لم تقم بمراجعة نقدية لمواقفها وإنما فرَّخت، كردة فعل، تيارات دينية سياسية شيعية تنهج الطريق ذاته في مستوى العداء للقومية العربية والعمل على اجتثاث كل تياراتها وأحزابها وقواها.
ولكي نستطرد في البرهان نرى أن موقف الأمميتين معاً، في هذه المرحلة، باستثناءات طفيفة، لا تخرج عن السياق العام لمرحلة الستينيات والسبعينيات، حيث الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق المتعاطف أحياناً والغائم الملتبس أحياناً أخرى، والموقف الصامت من المقاومة الوطنية العراقية والمتجاهل أحياناً والمهاجم أحياناً أخرى ، واستطراداً الموقف الإيجابي مما يُسمى «العملية السياسية» برهان ساطع لم تمحه الأحداث حتى الآن.
كانت هزيمة العام 1967 تجربة سلبية في مرحلة صعود الحركة القومية العربية بلا شك، وكان يجب تقييمها والحكم عليها بمقاييس قومية سليمة وليس من موقع الشماتة والندب.
فهل كانت هزيمة؟
نقولها نعم.
ولكن هل يمكن أن تشكل بداية وسبباً لوأد التجربة القومية؟
نقول كلا.
وهل إذا كانت الحركة الشيوعية هي التي تحكم في تلك المرحلة، بكل واقع المرحلة الموضوعي، كانت ستفلح في درء الهزيمة؟
وهل إذا كانت الأممية الإسلامية هي التي تحكم كانت ستحقق أسباب النصر؟
نقول: كلا.
لقد جلدنا أنفسنا بكثير من التعسف وصل إلى حد التشفي.
ماذا كان علينا أن نفعل؟ طبعاً كقوميين، وليس كأمميين، ونحن نحصر مسؤولية التقييم والحكم الموضوعي بالتيار القومي فلأن الإيديولوجيا الأممية، الماركسية والدينية، كانت ستواجه العدوان تبعاً لمواقفهما الإيديولوجيا التي أشرنا إليها أعلاه.
في تلك المرحلة، ولعلاقة الاستراتيجيا التي سلكها الرمز العربي جمال عبد الناصر هي حرب الاستنزاف كأحد أوجه حرب التحرير الشعبية.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي فلم يكن يثق بأن الحرب النظامية، بقيادة النظام العربي الرسمي الذي أسس قواعده الاستعمار، هي وسيلة التحرير، وإنما أعلن، منذ العام 1948، أن حرب التحرير الشعبية هي الوسيلة الوحيدة، وكان يستند إلى جملة من الأسباب يأتي على رأسها أن الجماهير الشعبية هي صاحبة المصلحة في التحرر من الصهيونية والاستعمار، وأما السبب الآخر فيعتبر الحزب أن مصدر سلاح الجيوش النظامية هي مصانع الاستعمار، والاستعمار لن يزود أياً كان بسلاح، نوعياً وكمياً، لمحاربة الصهيونية.
فكان على حركة التحرر العربية، وأعني بذلك التيارات القومية ومن حصلت عنده تحولات من الأمميين على الصعيد الإيديولوجي، ممن اقتنعوا بأهمية الكفاح الشعبي المسلح، بدلاً من ممارسة الردح والندب، أن يحفروا لتعميق مبادئ حرب التحرير الشعبية، تلك تجربة استفاد منها حزب البعث العربي الاشتراكي عندما أعد للكفاح المسلح مستلزماته في العراق، وهي الاستراتيجية التي انتشرت بداية في فلسطين، وأسس الفلسطينيون لتلك الاستراتيجية منذ العام 1965، واستفادت منها الحركة الوطنية اللبنانية، وتطورت على يد المقاومة الإسلامية في لبنان، وبلغت ذروتها في العراق.
إننا في هذه المناسبة، كما علينا أن نستذكر الدرس السلبي في حزيران من العام 1967، علينا أن نخرج من نفق الهزيمة والندب، ونفخر أن عندنا من التجربة الجديدة ما نفخر به، ونعتمده استراتيجيتنا في المستقبل، تلك الاستراتيجية التي دفعت الشعب الأميركي لإعلان طلاق تصدير الديموقراطية بالقوة العسكرية بالثلاث، بعد أن تكسِّرت عنجهية المغامرين منهم على رمال صحراء العراق وعلى أمواج دجلة والفرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق