الأحد، فبراير 28، 2010

لبنان:

-->
لبنان:
التجاذب الدولي، والنفخ في رماد الحرب الأهلية.
نشرته مجلة الوفاق العربي - تونس
لأن لبنان يمثِّل حلقة وسيطة في جغرافية الصراع العربي –الصهيوني، بين سوريا والكيان الصهيوني، استقطب –منذ بدء الصراع- على اهتمامهما معاً. ولأن تحالفاً استراتيجياً بين الصهيونية والمشروع الاستعماري الأميركي يقتضي تبادل الخدمات، ومن أهمها حماية الوجود الصهيوني في فلسطين أمنياً وعسكرياً، دخل لبنان عنصراً مهماً في السياسة الأميركية على قاعدة إحاطة سوريا بسور من الأنظمة السياسية -الأمنية التي تلتزم تعليمات المشروع الأميركي في حماية الكيان الصهيوني. وهذا يعيدنا إلى مشروع كماشة «حلف بغداد» في العام 1958م، حينما كانت سوريا محاطة بنظام نوري السعيد في العراق (شرقاً) والنظام الهاشمي في الأردن (شرقاً وجنوباً)، والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة (جنوباً)، وتركيا عدنان مندريس في تركيا (شمالاً)، وكانت الإدارة الأميركية تعمل على استكمال مخطط تطويق سوريا من الغرب بواسطة عهد الرئيس الراحل كميل شمعون في لبنان (غرباً).
إن النظر إلى الأطماع الأميركية في لبنان من خارج هذه الزاوية سيصل بنا إلى نتائج خادعة. لذا نرى أن هناك أطماعاً أميركية – صهيونية تستخدم لبنان حجر شطرنج في لعبة الصراع العربي – الصهيوني، فتحركه أو تدعوه للهدوء حسبما تقتضيه اتجاهات الرياح في تلك القضية خاصة، واتجاهات الريح في الوطن العربي عموماً.
دخل العامل اللبناني، في مرحلة ما بعد احتلال العراق في العام 2003م، لعبة التجاذب بين سوريا والولايات المتحدة لمصلحة أميركية مباشرة خاصة بعد أن غرق جنودها في رمال العراق. ولما كانت اتجاهات الرياح في الصراع الأميركي ضد المقاومة العراقية على غير ما يشتهي الملاح الأميركي – الصهيوني، عمل على الاستفادة من لبنان في تغيير اتجاهات تلك الريح. ومن هنا تبدأ القصة الأميركية –مستعينة بفرنسا كغطاء دولي- مع لبنان في هذا الظرف بالذات.
على أصوات طبول النصر الأميركي الموهوم في العراق، تأبى عنجهية أصحاب «القرن الأميركي الجديد» الاعتراف بالهزيمة الواقعية لمشروعها الخبيث المبيَّت للعالم بأكمله. فهي تعمل على تغطية ضعفها بتصدير أزمتها إلى الساحة اللبنانية لعلَّها تأخذ منها ولو بمقدار درهم بعض الاستقواء على مأزقها في العراق.
إلاَّ أن لبنان لا يشكِّل مدخلاً جغرافياً للساحة العراقية. وهو لا يمثِّل ثقلاً سياسياً لتكسب منه إدارة بوش بعض الأرجحية في مأزقها في العراق، أي في مواجهة المقاومة العراقية. بل إن لبنان على الخريطة الأميركية هو حاجة أمنية قومية لسوريا في مواجهة العدو الصهيوني. ولأن لسوريا موقفاً سياسياً يميل بشكل واضح إلى جانب تأييد المقاومة العراقية، كما لها حدود جغرافية مشتركة مع العراق، فأميركا تعتبر سوريا لاعباً أساسياً فيه. وهي ذات موقف متميز بعد أن خضع كل دول الجوار –من دون استثناء- للتوجيهات الأميركية. لذا أصبح لبنان يمثِّل نقطة المساومة الأساسية للسياسة الأميركية مع سوريا، ولهذا فهي تعمل من أجل تسوية مقايضة بينها وبين سوريا، والثمن هو الساحة اللبنانية.
وكأن لبنان محمية أميركية تأتمر بأوامر سيدها راح الصلف الأميركي يتصرَّف –بحماية فرنسية كمفصل استقطاب تاريخي للبنان- من دون أن تأخذ القوتان المتغيرات التي طرأت على واقع الساحة السياسية فيه.
ولمثل تلك الأسباب، دخلت الإدارة الأميركية اللعبة في لبنان، على أساس مواجهة سورية – أميركية، من بوابة شديدة التضليل للرأي العام العالمي، ولكنها لا تنطلي على عقولنا، وهي: إكراه سوريا على تطبيق قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات العربية بشأن لبنان، وإبداء الحرص الكاذب على مصير الديموقراطية فيه.
تريد الإدارة الأميركية –من خلال أسبابها المعلَنَة- أن تستغفل عقولنا. فتبتز اللبنانيين بحرصها الكاذب على مصالحهم. ومن أكثر وسائل استغفال عقول اللبنانيين، لفتاً للنظر أن إدارة جورج بوش تتباكى على ضياع الحياة الديموقراطية في لبنان. أما الواقع فهو أن عنتريات إدارة بوش ودموع التماسيح التي تذرفها على الحياة الديموقراطية في لبنان، ليست من أجل لبنان ولا من أجل حرصها على تطبيق قرارات مجلس الأمن ولا على تصحيح الحياة الديموقراطية فيه. وإنما هي موجهة إلى سوريا. وتوجيهها لسوريا ليس حباً بإخضاعها إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية (التي أصبحت شرعية مصالح أميركا)، ولا إلى دفعها لتصحيح الحياة الديموقراطية في لبنان وإنما العين الأميركية متوجِّهة بشكل أساسي إلى أن تلعب سوريا دوراً في إعاقة المقاومة العرقية.
والدليل على أن العين الأميركية لا تريد من سوريا شيئاً في لبنان –أقلّه في المرحلة الراهنة-لأنه لو افترضنا أن سوريا قامت بانسحاب كامل من لبنان، وضغطت على تجريد حزب الله من السلاح، فهل هذا ما يرضي إدارة جورج بوش؟
بالطبع هذا لا يدع الإدارة الأميركية في حالة من الرضى، لأن قضية العراق لها الأولوية في المخطط الأميركي، لأنها لو فشلت في احتوائها فإن الفشل سيشمل كامل المشروع الأميركي المتوجِّه إلى الهيمنة على الوطن العربي، ومنه –بشكل أساسي-سوريا ولبنان لقربهما من ساحة الصراع العربي الصهيوني بالمصلحة وبالجغرافيا.
لهذا نرى أنه من البديهي أن يستمر الضغط الأميركي على وتر حاجة سوريا الأمنية لوجودها في لبنان، لأنه ليس من أولويات الإدارة الأميركية أن تنسحب سوريا من لبنان ولا أن يتم تطبيق الديموقراطية فيه. وليست أهداف الأميركيين أن يأتوا برئيس موالٍ لهم مئة بالمئة. وحتى لو حصلت الإدارة على المكسبين معاً فإنها لن تعتبر أن هدفها المرحلي قد تحقق.
فهدفها من القرار / العصا الذي صدَّرته بالتنسيق مع فرنسا، والذي يحمل الرقم (1559)، ليس سوى مقايضة لتجديد البقاء السوري في لبنان في مقابل القبول السوري لبقاء الاحتلال الأميركي في العراق أولاً، ومساعدته على البقاء من خلال التضييق على المقاومة العراقية ثانياً. وهذا هو سر إصدار القرار / العصا على قاعدة المساومات التي تجيدها إدارة جورج بوش.
فإذا عُرِف السبب بطل العجب.
لكن لن يفوتنا أن الإدارة الأميركية تضع بدائل –غير القرار العصا-لأي عصيان سوري للأوامر الأميركية. وأن تلك البدائل قد تكون في لعب دور المحرِّض للبنانيين في تسخين الساحة السياسية كنقطة انطلاق للتسخين الأمني، وبهما تعتقد الإدارة الأميركية أنها تبتز الحاجة السورية لجرها إلى تسوية / مقايضة بين مصالح الطرفين.
وكي لا نستهين بمدى تأثير الدور الأميركي على الداخل اللبناني علينا أن لا نغفل ما نفَّذته تلك الإدارة –بتنسيق ومشاركة كاملين من العدو الصهيوني- في لبنان منذ العام 1975م. وفي حينه أطلقتا شرارة الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، وقلبت موازين القوى في المنطقة رأساً على عقب. وهي اليوم غير بعيدة عن إعادة تكرار التهديد وتنفيذ مؤامرة جديدة وشبيهة بتلك التي نفَّذتها منذ ربع قرن.
ولكن، وكي لا نتحسَّب لمخاطر قد لا تكون بمثل الحجم الذي يحسبه البعض، يمكننا أن نلقي بعض الأضواء على تقدير الحسابات الحقيقية لتلك المخاطر. ومنها فلا نحسب أن مخاطر حرب أهلية –في المرحلة الراهنة- هي مخاطر حقيقية، ويعود تقديرنا إلى جملة من الأسباب، ومن أهمها:
أولاً: على صعيد الاستراتيجية السياسية في لبنان:
1-لقد كشف اللبنانيون، وعلى الأخص منهم أولئك الذين يُخشى من أنهم سيكونون رأس حرب أهلية في لبنان- أن ما يربط أميركا مع لبنان هي تأمين مصالح صهيونية – أميركية، حتى على حساب أكثر الأوساط اللبنانية إخلاصاً للمصالح الأميركية في المنطقة. لذا فنحن نرى أن تلك الأوساط ستبقى واقفة في دائرة الاعتراض على الواقع اللبناني الراهن، وتستقوي بظهير القرار الأميركي ولكن إلى الحدود التي لا ينحدرون فيها إلى حفرة المشاركة في حرب أهلية أو القناعة بأن تلك الحرب ستشكل جسر الخلاص.
2- كشف اللبنانيون الوارد ذكرهم أعلاه، حقيقة خبث الأغراض الصهيونية، التي لا تتورَّع عن إحراق لبنان من أجل الدفاع عن مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها المحافظة على وجودها الاستيطاني في فلسطين المحتلة. كما أنها تريد أن توظِّف كل صداقاتها بين العرب عامة، ومع اللبنانيين خاصة، من أجل حماية أمنها.
3-لم ينس اللبنانيون من معارضي الوجود السوري في لبنان أن أميركا قد باعت الديموقراطية أكثر من مرة لأجل تمرير مصلحة لها من هنا أو من هناك. وهي قد تبيع وجودهم كله إذا اقتضت مصلحتها بإخراجهم في البواخر إلى أرض الله الواسعة. وهذا غير بعيد عن مخططاتها في توطين الفلسطينيين في لبنان.
ثانياً: على الصعيد الاستراتيجي الدولي:
لم تعد مخططات الإدارة الأميركية خافية على أحد، وهي تريد أن تبتلع كل العالم، ومخططها في الاستيلاء على العالم -بشتى الطرق والوسائل-يخيف حتى حلفاءها وأصدقاءها. فإذا كان اللبنانيون المعارضون لسوريا في لبنان يصرون على مواقفهم فإنما –كما نحسب-يعملون على الاستقواء بالعامل الفرنسي. أما العامل الفرنسي، الذي تمَّ تجاوزه في معظم الأحيان من أن يكون له دور في المنطقة، فيعمل على أساس استعادة هذا الدور. ولهذا كانت له صلات وتنسيق مع الأميركيين. ونحسب أن الإدارة الفرنسية تسعى لكي تتسلَّل من جديد إلى المنطقة مستغلَّة مرحلة الضعف في الجسد الأميركي. وإن لفرنسا مطامح سياسية، وإن اختلفت عن المطامع الأميركية، فإنها تبقى –بلا شك-دون خطورة المشروع الأميركي، ولكنه لا يتخلى عن تقاطعات ذات علاقة بالنظام الرأسمالي من جهة، وبالصراع العربي – الصهيوني على قاعدة تثبيت الوجود الصهيوني من جهة أخرى.
ثالثاً: على صعيد النظر بحكمة إلى العلاقات الداخلية – الداخلية:
وإذا كان للبنانيين أمل في بناء كيان سياسي مستقل يطمئنون إلى ثباته بما يحقق المصلحة اللبنانية، فإننا نرى أن هذا الهدف يمر عبر بوابتين لا ثالث لهما، وهما:
البوابة الأولى: بوابة قومية لبنان وعروبته، عبر التزامه بالقضايا العربية خاصة منها التي تدخل في صراع مع التحالف الأميركي – الصهيوني، لأن هذا التحالف لا يرى شيئاً خارج ذاته. ويقيس كل علاقاته مع الآخرين على مكاييل مصالحه الاقتصادية. تلك المصالح التي أصبحت أكثر خطورة عندما تحوَّلت إلى أيديولوجيا دينية عند طرفيْ التحالف المذكور، بحيث يرفد أحدهما الآخر بأسباب البقاء والاستمرار.
البوابة الثانية: بوابة العالم الرأسمالي الذي تخلَّى عن أطماعه الاستعمارية، والذي يقف موقف الريبة والشك من التحالف الأميركي الصهيوني. ويعمل على تحجيم دوره في العالم ويكبح من سرعة اجتياحه كخطوة على طريق حصاره ومنعه والحؤول دون تحققه.
وعلى اللبنانيين أن يعملوا على قاعدة التكامل القومي في مواجهة تلك المشاريع، على أن يلعبوا دور الريادة في بناء أنموذج قومي على أن لا يستهينوا بالأمن القومي العربي، وأن يقووا جدار حصانتهم القومية بما لا يدفع العرب الآخرين إلى التفكير بهواجس الريبة والشك، ذلك النمط من التفكير الذي لعب دوراً أساسياً في حالة التمزق والتشتت القومي، والذي لا يزال يسم مساحة العلاقات العربية – العربية بالكثير من الظنون وأحياناً بالوقائع الدامغة ذات العلاقة بانحياز معظم الجدار العربي الرسمي إلى جانب المخططات الأميركية –الصهيونية.
فإذا كان هناك من خوف نشعر به من انحدار لبنان إلى أتون حرب أهلية جديدة، فإنما هذا الأتون لن يكون ممره إلاَّ عبر إعداد له يقوم التحالف الأميركي – الصهيوني بالتحضير له، ذلك التحالف الذي لا يتورَّع عن إحراق روما، إذا كان حريقها يحفظ مصالحه من الخسارة. أما العامل الذي يكبحه ولا يسمح له باختراق الساحة اللبنانية فهو بأيدي اللبنانيين وحدهم، وليس بأية يد أخرى. ونحسب أن اللبنانيين قد تعلَّموا من دروس الماضي ولما يلتئم جرح التجربة بشكل كامل.
ولأننا نخشى من أن يتم تفسير ما نقوله بأنه يركِّز على عامل الأمن القومي العربي بما يجعل لبنان يدفع فاتورة من حقه في العيش في ظل نظام سياسي يكفل حقوق اللبنانيين في القرار السياسي الداخلي المستقل، نرى أن لا نغفل ذلك الحق ونعمل على طمسه أمام ضرورة المحافظة على الأمن القومي العربي.
وهنا نرى أن الوجهين: الأمن القومي العربي، والقرار اللبناني الداخلي المستقل لا يتناقضان بل يتكاملان. وعلى أحدهما أن لا يأكل من جرف الآخر.
لأن التركيب السياسي الداخلي للبنان، خاصة تراكيب الطائفية السياسية، لا يجعل منظار اللبنانيين للعلاقة مع الخارج موحداً. بل للأسف لا يزال منظار الاستقواء بالخارج أساسياً في وضع استراتيجية سياسية لكل تعددية طائفية سياسية تختلف عن مناظير الآخرين. وإذا حلَّت رؤية الأمور بمناظير قومية عربية تكاملية لما كانت الهواجس والمخاوف هي سيدة الموقف في لبنان كما هي الآن في ظل موازين القوى الطائفية السياسية.
ولأن للاستعمار والصهيونية مصلحة في منع توحيد الرؤية السياسية في لبنان من مناظير قومية. ولأن من مصلحة الأمة، ومصلحة الأمن القومي العربي، أن تسود تلك المناظير، يدفع بنا إلى القول أن هناك إمكانية للحصول على الهدفين معاً على قاعدة الابتعاد عن منطق التخوين المتبادل بين الأطراف اللبنانيين أولاً، وثانياً القيام برعاية حوار داخلي يسمح للجميع في المشاركة في الحياة السياسية في لبنان من دون خوف أو تخويف من عوامل الاستقواء بكل ما هو خارج عن الدائرة القومية العربية.
وعلى الرغم من أن النهج الطائفي السياسي في لبنان لن يكون عادلاً في تأمين مصالح الجميع، وإنما في مرحلة الصراع الساخن بين الأمة وأعدائها لا يمكن الاقتراب من الحد الأدنى من وحدة الصفوف أو توحيدها، إلاَّ بالتقليل من مخاوف ابتلاع مصالح الآخر التي تشكو منها هذه الطائفة أو تلك. والتقليل من تلك المخاوف أو ضغطها إلى حدها الأدنى يسهم في إبطال مفاعيل الحقن التي يعمل المشروع الأميركي الصهيوني على تغذيتها في لبنان واستغلالها من أجل رفع وتيرة الافتراق بين اللبنانيين.
-->

ليست هناك تعليقات: