في ظل تصريحات باول حول تغيير جذري في المنطقة العربية:
تتويجاً لمرحلة امتدت إلى أكثر من خمسين عاماً،يعيش العالم، اليوم، في ظل مرحلة النشاط الأميركي من أجل الاستفراد بالقرار العالمي العسكري، كوجه من أوجه استيلاء أميركا على مقدرات العالم الاقتصادية. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي في الربع الأخير من القرن الماضي، تظهر صورة العالم، وكأن شتى دوله، ومنها الدول العظمى قد استسلمت للمشيئة الأميركية تحت ضغط أكبر قوة اقتصادية تمتلكها، محمية بأكبر ترسانة عسكرية.
-->
النظام العربي إلى أين؟
مجلة الوفاق العربي – تونس 1/ 3/ 2003م
كمثل كل الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، تسعىميركا لتتوِّج نفسها، وتسجِّل اسمها في التاريخ وريثة لكل الإمبراطوريات التي سبقتها. وتستخدم من أجل بلوغ أهدافها قوة المال والسلاح التي تمتلكهما. فهل تبلغ تلك الأهداف أم لا؟ فهو السؤال الأكبر والأساس.
وفي محاولة للإجابة على السؤال، نرى أنه لا بُدَّ من معرفة الخط البياني لتاريخ بداية تأسيس تلك الإمبراطوريات ونهايتها. وفي هذا المجال نجد أن تاريخ الإمبراطوريات في العالم لم يعرف استمرارية بالمطلق، فخط صعودها البياني يصل إلى قمة الهرم، ومن بعده يبدأ بالانحدار.
قصة الصعود والهبوط في حركة تاريخ الإمبراطوريات ذات علاقة بأساسين اثنين: قوة الدول الطامحة لدخول سجل الإمبراطوريات الكبرى كأساس ثابت من جانب، وضعف القوى المقصودة بالاحتواء والهيمنة والاحتلال من جانب آخر.
ولكي تضمن استمرارها طويلاً، تقتضي مصالح الدول الإمبراطورية أن تعيد صياغة أوضاع الدول أو الشعوب القابلة للخضوع إلى إرادتها، على مقاييس مصالحها، بناء لإيديولوجية الاستغلال والسيطرة.
ليس من المستغرب أن تقوم أميركا بإعادة صياغة أوضاع الدول الخاضعة على أساس البناء الإيديولوجي الأميركي، فهي لا تعمل من أجل خدمة البشرية، بل تعمل من أجل سيادة إيديولوجيتها الخاصة بها.
أما النظام العربي، القائم في هذه المرحلة، فهو نتاج عصور متخلفة، فشلت الإيديولوجيات التي أنتجته في بنائه على قواعد سليمة. فالنظام العربي اليوم هو نتاج هجين تعاون فيه كل من عصور التخلف العثماني، سابقاً، مع ما استوردته النخب العربية من الثقافة الأوروبية، التي وإن أسهمت في تطور شعوبها إلاَّ أنها تحمل في طياتها الكثير من الزوايا التي تعبِّر عن المصالح الإمبراطورية الأوروبية الغربية.
لم ينتج العرب أسساً لنظام عربي يأخذ بعين الاهتمام مصالح أوسع المجتمعات، بل عبَّر عن مصالح شرائح نخبوية: كالبورجوازية التجارية والإقطاع ومصالح الشرائح المنتفعة من الإيديولوجيات الدينية. وبقي تابعاً لإيديولوجيا رأس المال، لأنها هي التي أنتجته منذ اتفاقية سايكس – بيكو.
نتيجة لوجود مثل هذين المستويين: النظام العالمي الذي عبَّر كولن باول عن طريقة إعادة تركيبه بشكل يُنتج فيه وضعاً دولياً يُديم استمرار تأمين مصالحه، و النظام العربي الهجين، الذي يعبِّر عن مصالح نخبوية.
تتضرر من هذا الستاتيكو أوسع شرائح المجتمع العربي. والضرر اللاحق بها هو من اهم أسباب رفضها له؛ لهذا تعمل طلائعها من أجل صياغة أفضل وسائل مقاومته، والعمل على إحباط أهدافه. ولكي تصيغ بعض أسس المقاومة المطلوبة، لا بُدَّ لها من النظر إلى موازين القوى مع التحالف المذكور، من خلال مجهرين: أولهما يتجَّه نحو الكشف بوضوح عن مخاطر سيادة النهج الإمبراطوري الأميركي. أما الآخر فهو العمل باتجاه صياغة جديدة لابتكار وسائل إدامة الصراع بين المشروعين الأميركي والنهضوي العربي.
وفي سبيل تحديد أسس المقاومة وقواعدها، ينقسم العرب إلى اتجاهين: أحدهما وهو النظام الرسمي العربي، أما الثاني فهو حركة التحرر العربية.
يدعو الأول إلى الاستسلام للنهج الأميركي تحت ذرائع الاختلال في موازين القوى. أما الثاني فيثير إشكالية تتلخص في أنه إذا اختلت موازين القوى لصالح الآخر، فلن يعني هذا أن على العرب أن يستسلموا ويسلِّموا بالتنازل عن حقوقهم لمنطق الهيمنة والسيطرة. كما لا يعني أن على الشعوب الضعيفة أن تتراجع عن حماية حقوقها.
أما في مراجعة لخيارات الاتجاه الثاني فيتوَّزع أعضاؤه بين دعوتين، تقول الأولى بوجوب العمل من أجل بناء نظام عربي يعبِّر عن مصالح شتى شرائح المجتمع، كخطوة أولى للانخراط في صراع مع قوى الإمبريالية والهيمنة. أما الثانية فتدعو إلى أن النظام الأميركي العالمي الجديد لن يتيح الفرصة من أجل بناء ذلك النظام لأنه يقع في مرمى أهدافه واستهدافاته. لذا تحذِّر الدعوة الثانية من مخاطر الوقوع في افتعال صراع بين أولوية التحرر الوطني من هيمنة الخارج وبناء نظام عربي جديد في الداخل.
إن وقائع التاريخ تدل على أن من أهم أهداف النظام الأميركي هو حماية النظام العربي الراهن، لأنه يتكئ إليه في تعبيد طريق الهيمنة. لذا لا يمكن لحركة التحرر العربية أن تفتح بوابة للصراع مع خصمين في آن واحد، وإنما عليها أن تعطي أولوية للصراع مع المشروع الأم، المشروع الأميركي الامبريالي. وبه تستطيع أن تضم إلى جانبها قطاعات واسعة ممن لا يمكنهم أن يؤيدوا مضامين أهداف تغيير جذري في بُنى النظام العربي الراهن. لكن هذا لا يعني أن على حركة التحرر العربية أن تجمِّد أية رؤية فكرية أو سياسية حول نقد النظام الراهن أو القيام بأي تغيير إذا سنحت الفرصة.
دلَّت وقائع التاريخ أن المشروع الإمبريالي هو حزمة متكاملة، لا يمكنه أن يتغاضى عن اختراق أي جزء منها. ومشروعه قائم على إبقاء نظام عربي يستند إلى إيديولوجية لا تسمح بقيام صراع بين قوى التحرر وقوى الهيمنة. وبهذا يعمل النظام العربي الراهن على المحافظة على الستاتيكو في بنيانه، بما يساعد قوى الهيمنة على الديمومة والاستمرار من دون أية منغصات تحررية.
لقد كان من الواضح أن المشروع الإمبريالي يعمل من أجل منع حصول متغييرين استراتيجيين:
المتغير الأول هو الصراع بين العرب والصهيونية، ومنعه من الوصول إلى التوازن في القوى بين العرب والكيان الصهيوني، ووظَّف قدرات النظام العربي الراهن من أجل إنجاز تسوية تُبقي للعدو الصهيوني على كل جهوزيته في التفوق والعدوان.
المتغير الثاني وهو منع قيام أية تجربة إنتاجية عربية، سواء على صعيد السلع الاستهلاكية الغذائية أو على صعيد إنتاج السلعة العسكرية، تلك السلعة –حتى وإن تم استيرادها- فلن يُسمَح أن يكون امتلاكها بالمستوى الذي يؤهلها لتحقيق حد أدنى من توازن القوى على صعيد المنطقة العربية، فكيف بالأحرى على الصعيد الدولي.
تأتي حالة الاستعصاء التي تمثلها قضيتا فلسطين والعراق، في هذه المرحلة من أشد المظاهر خطورة على منع أهداف الهيمنة الأميركية، فهما يقعان في مواقع الصراع المباشر ضد تلك الأهداف. تعني الأولى، أي حركة المقاومة الفلسطينية، أنها تعمل من أجل بناء أسس لنظام عربي يتمرد على قرارات الإمبريالية في تمكين الصهيونية من الاستقرار في منطقة من أهم مناطق استثارة شهيتها في السيطرة الاقتصادية: السيطرة على مصادر الطاقة، والسيطرة على أهم سوق استهلاكي في العالم. أما الثانية، أي صمود العراق ومقاومته، فقد أسَّسا لإنتاج نظام عربي يتمرد على موقعه المستهلك. وعمل من أجل بناء أساس لأنموذج نظام عربي جديد بمواصفات إنتاجية استهلاكية أولاً وبمواصفات تصنيع عسكري يؤهل العرب إلى تضييق هوة التوازن بالقوى العسكرية بينه وبين قوى العدوان الخارجية ثانياً.
استناداً إلى قضيتيْ العراق وفلسطين، تعمل الإمبريالية الأميركية، مستقوية بسلطات النظام العربي الرسمي، من أجل القضاء على أية طموحات عربية ثورية تُلحق الخلل بمعادلة أهداف الاستيلاء الإمبراطوري على المنطقة العربية.
فالنظام الرسمي العربي، السائر منه في ركاب الإمبريالية، ينتصر بانتصارها، وينهزم بانهزامها. وبين نصر الإمبريالية وهزيمتها، يأتي دور حركة التحرر العربية بكل فصائلها، على قاعدة اتفاقها على أولويات الصراع كحقيقة أولى، أما الثانية فهي التشديد على أن قوانين الصراع لا تخضع دائماً إلى معادلة التوازن في موازين القوى المادية.
ومن هنا لا يتوهمَّن أحد أنه يمكن إجبار النظام العربي الراهن على التقهقر من دون تغذية نيران الصراع ضد التحالف الأميركي الصهيوني، بشتى الأشكال والوسائل. ولا يمكن الوقوف على الحياد أو الكسل في الدفاع عن قضيتيْ العراق وفلسطين والمشاركة فيهما، أن يؤدي إلى إحداث متغيرات في بنى النظام العربي الرسمي. فبالقدر الذي توهن حركة المقاومة في جدران الإمبرياية تستطيع الحفر في أسس النظام العربي الرسمي الواهية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق