-->
مراجعـة كتـاب حاكميـة الله وسلطان الفقيـه[1]*
-->
مراجعـة كتـاب حاكميـة الله وسلطان الفقيـه[1]*
حسن خليل غريب[2]**
لُبْنَةٌ فوق لُبْنة يرتفع بناء ثقافتنا الحديثة، ثقافتنا الهادفة إلى التحرُّر من الجمود، ومن إسار من يدَّعون امتلاك الحقيقة الإلهية.
يتحصَّن النص التراثي في محراب القداسة، فيتحوَّل الفقهاء إلى ممثِّلين لله على الأرض، هؤلاء الفقهاء الذين غالباً ما ينطقون بلسان أغراض سياسية، هم فقهاء حركات الإسلام السياسي...
يقومون، على الدوام، بتجريد النصوص من وقائعها التاريخية المُمَيَّزَة والمعيوشة، إذ يكفي أن يكون كاتبها أو قائلها أو مفتيها من أصحاب الثقافة الدينية الإسلامية ليشكِّل لهم المبرِّر ليقطعوا أقواله عن خصوصيات ظروفها، ويأسرونها في قماقم لا تستطيع سوى طلاسمهم أن تفك أسرها، ولكي تصبح أقوالاً مقدَّسَة صادرة عن الذي يتقدَّس سِرُّه...
رفضوا أن يربطوا النص الأساس بظروف ولادته الاجتماعية والسياسية، فحاكموا كل من يحاول الربط وكفَّروه وحكموا عليه بالرِدَّة... ولهذا تحوَّلت النصوص الفرعية / الاجتهادية، وهي التي تحمل إمكانية الصواب كما تحمل إمكانية الخطأ، إلى نصوص مقدَّسَة أخرى فتراكم التراث المقدَّس و لا يزال... أما كيف حصل ذلك؟
هذا ما يعالجه الدكتور عبد الغني عماد، في كتابه، فيقول: "إن الادِّعاء بأصالة المفهوم [أي إعادته إلى دائرة المقدَّس] تبقى غير كافية ما لم يتم إثبات هذه الأصالة بالعودة إلى جذور المفهوم…فتأصيل المفاهيم ورصد تطورها وتحليل سيرورتها يُفضي إلى كشف العناصر الدخيلة...". [راجع ص 7].
وهذا ما قام بالبحث عنه في سبيل محاكمة بعض المصطلحات التي تعدُّها بعض الحركات الأصولية الإسلامية قوانين إلهية، مثل مُصْطَلَحيْ: حاكمية الله، وسلطان الفقيه.
أما بالنسبة إلى مُصْطلح حاكميـة الله، ومن خلال بحثه، فيصل الدكتور عماد إلى النتيجة التالية، فيقول: إن ما يعدُّه الإسلاميون – اليوم – أصلاً إلهياً وقانوناً إلهياً، أي مصطلح حاكمية الله، ليس إلا مصطلحاً سياسياً حديثاً، أكسبه القائلون به صفة القداسة في الوقت الذي لم يكن له أي انتماء للأصل اللغوي، ولا أي انتماء للشريعة الإسلامية بركنيها القرآن والحديث النبوي.
على المستوى اللغــوي: "ولا شك أن مصطلح الحاكمية – المشتق من جذر حَكَمَ – لم يكن مألوف الاستعمال لغوياً…ولم يرد في المعاجم العربية المُعتَمَدَة ك لسان العرب مثلاً". [ ص ص 9-10].
أما على المستوى الديني: فلم يُستَخدَم مصطلح الحكم في القرآن، إطلاقاً، بمعنى تولِّي وممارسة السُلطة السياسية، بل: بمعنى البصيرة النافذة، التي تميز بين الحق والباطل، أو بمعنى الفصل في الخصومات بين الناس [ص 10].
ما هو أصل هذا الاصطلاح، إذاً؟ وهذا ما يتتبَّعه الباحث:
· إن أول من استخدمه الخوارج (في أثناء صراعهم مع علي بن أبي طالب، بعد معركة صفين بينه وبين معاوية بن أبي سفيان): لكن ما كان المقصود به؟ كان يعني رفض تحكيم الحَكَمين في أثناء معركة صفِّين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وبالتالي رفض النتيجة التي توصَّلا إليها. [ص 12].
· ثم استخدمه المفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي [وُلِد في العام 1903م]. وهو باكستاني [قبل أن تنفصل الباكستان عن الهند]. فلأي غرض استخدمه؟
في مواجهة حزب المؤتمر الهندي، الذي يمثِّل الهنود غير المسلمين، وهو الذي كان يدعو إلى الاستقلال عن بريطانيا على أساس الشعارات التالية: سيادة الأمة، و الأمة مصدر السلطات [ص 14]. وإذا نالت الهند استقلالها على أساس هذه الشعارات [كانت الهند والباكستان دولة واحدة]، في الوقت الذي يُشكِّل فيه الهندوس الأكثرية المُطْلَقَة، تكون النتيجة أن يبقى المسلمون أقليات تابعة…فالحل الذي وضعه المودودي لن يتم إلا بشعارات متميِّزة، وهذه الشعارات لن تكون مفهومة من الهنود المسلمين إلا إذا كانت ذات علاقة وثيقة بالشريعة الإسلامية [ص 23]:
ففي مواجهة المبادئ الديموقراطية والعلمانية، كمبادئ وضعية غربية، لا بُدَّ من أن يكون هناك شعار حكم الشريعة الإسلامية، التي هي – حسب ما يؤمن المسلمون – من صنع الله. فوضع المودودي شعار: "لا حاكمية للبشر، بل الحاكمية لله" [ص 15]. وهو يُبرِّر ما يعتقد به بأن كل المبادئ الوضعية هي مفاهيم جاهلية... وهو، بما يقول، يتخطَّى المفهوم التاريخي الذي استعمله العرب للدلالة بالجاهلية على حياة العرب قبل الإسلام [ص 16].
إستناداً إلى فكر المودودي، بشعاريه: حاكمية الله وجاهلية القرن العشرين، أخذت بعض الجماعات الإسلامية تجتزئ كتاباته، وتفصلها عن سياقاتها وملابساتها السياسية، وأخذوا يستشهدون بها – كمقولات ثابتة – وكأنهم يستشهدون بالآيات القرآنية [ص 22].
إستهدفت مقولة "الحاكمية لله" القضاء على تحكم البشر ببعضهم البعض من خلال عبودية الجميع لله؛ ولكنها أدَّت، عملياً، إلى أن يزعم البعض لأنفسهم حق احتكار تفسير ولتأويل كلام الله، و"أنهم وحدهم الناقلون عنه". وتكمن الخطورة في هذه المقولة أنها تُعطي للذين يمارسونها هالة من القدسية، التي إن حاول أحد أن يُشكِّك بها يُوصَم بالكفر والزندقة "بوصفه نضالاً ضد حكم الله". (ص80).
وهنا من بعد أن يُؤصِّل الباحث مقولة "الحاكمية لله"، فيجد أنها لا ترتبط بأي جذر لغوي عربي أو تشريعي إسلامي أو فقهي، يقول إن تبيان الشريعة: "وإقامتها من قِبَل بشر أمر قابل للخطأ والصواب. وليس لأحد أن يدَّعي لحكم قال به أنه حكم الله". (ص86).
فهل بعد هذا التأصيل لمقولة "حاكمية الله" علاقة بمبدأ سياسي آخر، هو "ولاية الفقيه"؟
يربط الباحث بين مبدأ "الإمامة" عند الشيعة بمبدأ "ولاية الفقيه"؛ ومنه يستعرض أصول الموقف الشيعي الإثني عشري من العلاقة بين السلطة وبين الشيعة([3])؛ يستند هذا الموقف إلى أن الشيعة ينظرون إلى أية سلطة سياسية، في مرحلة الغيبة الكبرى لإمامهم المنتظر، أنها سلطة غير شرعية، وتقوم علاقتهم بها على أساس حفظ النظام العام ووحدة الأمة، ودفع الضرر عن المؤمنين وإقامة العدل في الرعية. (ص 88). وعلى هذا الأساس يقول الفقهاء الشيعة بعدم "مشروعية السعي إلى إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة". (ص 91).
واستمرَّ هذا الموقف من العام 260هـ، تاريخ بدء الغيبة الصغرى، من دون أن يجرؤ الفقهاء الشيعة على القول إنه يجوز تفويض أحد، على الإطلاق، صلاحيات الإمام المعصوم.
ولكن كيف تأسَّست فكرة جواز أن يتولَّى الفقيه الجامع للشرائط السلطة السياسية في زمن الغيبة الكبرى؟
من بعد أن يأمر الإمام الغائب بمنع أي أحد من أن ينوب عنه قبل بدء الغيبة الكبرى (ص 89)، لم يجسر أي فقيه شيعي على ادِّعاء "نيابة الإمام" حتى قامت الدولة الصفوية في إيران في العام (905هـ/1501م). وقد جرى تنصيب الشاه اسماعيل وهو لما يزل في سن الثالثة عشرة، وقد قيل إن الإمام المهدي ألبسه، وهو في طريقه إلى مكة، التاج الأحمر قائلاً له: "إذهب فقد أذنت لك". (ص 93).
شاب الغموض موقف العلماء الشيعة من الحكم الصفوي: فإن كان قد أيَّده بعض منهم فلإقامته بُنية تحتية لدولة إسلامية شيعية. أما الشيء المؤكَّد أن عدداً كبيراً منهم لم يتَّخذ موقفاً مؤيداً. (ص94).
ولأن الدولة الصفوية كانت بحاجة إلى أعداد من الفقهاء الشيعة، إستدعى طهماسب الشيخ علي بن عبد العال الكركي فأجاز له الجلوس على كرسي العرش باسم الولاية العامة التي هي من صلاحيات الفقيه؛ ولذا فقد عدَّ الكركي نفسه نائباً عاماً عن المهدي، وأعلن الشاه نائباً للفقيه. (ص95). عُدَّ الشيخ الكركي، من قِبَل أخصامه، "بمخترع الشيعة"، ومن قِبَل أنصاره "بالمحقق الثاني". وقد أثارت "ولاية الفقيه" التي ادَّعاها الكركي جدلاً حاداً بين العلماء الشيعة أدَّى إلى انقسامهم إلى فريقين متنازعين. (ص 96). ومن هنا نشأت فكرة ولاية الفقيه على قاعدة الشراكة بين الدولة والفقيه، التي ما كان للسلطة القائمة أن تجد مبرِّراً فقهياً لها إلا بعملية "تكييف" للفقه الشيعي بما يتناسب مع مصلحة الدولة الصفوية الصاعدة. (ص 97).
وكان من أبرز الذين عارضوا فكرة "ولاية الفقيه"، هم: الشيخ إبراهيم القطيفي من أكبر علماء النجف، وابن المطهر الحلي ( ت في العام 726هـ). ويأخذ أغلب الفقهاء الذين ناقشوا هذه المسألة مآخذ عديدة، من أبرزها:
-لا دليل على ولاية غير الإمام المعصوم إلا في القضاء والإفتاء وبعض الأمور الصغيرة.
-إن اختصاص الإمام يتعلَّق بالتعزيرات والحدود والحكومات.
-لو كانت ولاية الفقيه عامة ومُطلَقة لتساوى الإمام والفقيه، وهذا شيء باطل.
-ولاية الفقيه تؤدِّي إلى أحد أمرين: إذا ظلم تفسد حكومته. وإذا عدل يُستغنى عن الإمام، وهذا باطل شرعاً.
-إن أية راية تظهر قبل الإمام، صاحب الزمان، هي راية ضلالة. (ص 99).
ولكن على الرغم من ذلك، فقد تحوَّلت الفكرة إلى خطاب وإلى توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وأمور الحكم. واستمرت المعارضة لولاية الفقيه. (ص 100).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق