السبت، فبراير 27، 2010

ذكرى ثورة 23 تموز

--> -->
ذكرى ثورة 23 تموز
23/ 7/ 2008
أن نقف في ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو، فإننا نحيي فيها ذاكرة العروبة عن واحدة من أهم التجارب الثورية التي عرفها عصر القومية العربية الذي رافق مرحلة الخلاص من الاستعمار الأجنبي.
وأن نحيي هذه الذكرى فإنما لنعيد إلقاء الضوء على مرحلة عدَّها البعض أنها كانت حلماً وانتهى إلى الأبد، فأماتوه وودعوه غير آسفين.
وبالفعل لم يبق من تلك الذكرى إلاَّ ما اختزنه القوميون العرب من شدة الرباط مع الأمة العربية ووحدتها، واعتبروا أنها واقع وحاجة لكل العرب، وإن كان الهدف بعيد التحقق فإنما هو غير مستحيل. وعلى الرغم من أن هؤلاء أصبحوا للأسف أقلية إلاَّ أنهم لا يخشون سلوك طريق قلَّ المارة فيه.
إن من أهم معالم الإصرار على سلوك هذا الطريق هو إصرار شباب عروبيين للاحتفال بهذه المناسبة، ولم يزرع الخوف في نفوسهم كثرة المتحالفين ضدها، من أولئك الذين يعملون على وأدها.
إن القومية العربية لا تزال حية، ولن تموت طالما هناك وراءها مكافح ومناضل ومنافح، وتشكل محطة ثورة يوليو أحد أهم هذه المعالم، التي بدلاً من وضعها في موقعها التاريخي والفكري والسياسي الصحيح بنقدها والاستفادة من جوانبها الإيجابية الشديدة التنوع، راحوا ينعون القومية العربية بعد أفول نجمها المضيء الماثل في أكثر من قطر ومحطة، كما أغرقوا أنفسهم، وأغرقوا الشارع العربي بتعداد الثغرات التي لا يمكن لأي عمل مهما علا شأن القائمين به ووعيهم ونباهتهم من الوقوع فيها.
إن التجربة القومية بشكل عام كانت قصيرة الزمن، تحالف ضدها مشاريع خارجية وإيديولوجيات داخلية. تلك التجربة التي ما إن ولدت حتى شكَّلت عامل تهديد لذاك الخارج ولهذا الداخل. فإذا كانت مشاريع الخارج واضحة المعالم والآفاق، بدءاً من مؤامرة سايكس بيكو وانتهاء بمشروع الإمبراطورية الأميركية ومشروع الدولة التلمودية الصهيونية، فإننا نقف بذهول أمام أهداف الإيديولوجيات الداخلية التي حسبت أن الفكرة القومية تشكل عائقاً وخطورة عليها.
لقد كان الفكر القومي، والتجربة القومية في السلطة، تحولاً نوعياً في حياة الأمة العربية، تشارك فيها كل من الناصرية والبعث رافعين ثلاثة أهداف استراتيجية شكلت مروحة ثلاثية الرؤوس أينما ابتدأت فيها ستمر برؤوسها الثلاث، وهي الوحدة والحرية والاشتراكية. وكان يكفي أن يشكل كل من رؤوس هذه المروحة تناقضاً رئيسياً مع تيار أو أكثر من التيارات والقوى التي رفعت راية العداء للقومية العربية.
إن الوحدة العربية تتناقض مع النزعة الإمبراطورية لكل التيارات التي تعمل لتصدير مشاريعها الأممية، ولا يمكن أن تتحقق إلاَّ باختراق الحدود القومية. فلذلك تعتبر الوحدة العربية عائقاً أساسياً أمام موجة تلك النزعات، ولذلك أعلنوا عداءهم السافر أحياناً والمضمر أحياناً أخرى.
والحرية، على الرغم من تركيز الاتهام على مثالب التجربة القومية في الحكم، لا تنتقص تلك المثالب من أهمية الشعار الاستراتيجي. ومآخذنا على نقد تلك التجربة من هذه الزاوية ليس لأنها غير صحيحة بل مآخذنا عليها أن ناقديها لا يتوحدون حول تعريف واحد للحرية أولاً، ومارسوا نقدهم لها بين مسكوت عنه وبين مشهَّر به ثانياً، وأخطأوا في أنهم أرادوا تطبيق مفاهيمهم في الحرية ثالثاً. ولم يأخذوا خصوصيات المجتمع العربي الذي لا تزال تعيق فيه الانتماءات الطائفية التعصبية تعميق مفهوم المواطنة رابعاً.
أما الاشتراكية، فلها أعداء كثر من كل الأصناف والاتجاهات والألوان، من الداخل ومن الخارج، من فوق ومن تحت، من يسار ومن يمين.
لم يقتصر دور تجربة الحركة القومية الناشئة حديثاً على تعميق الشعور القومي العربي فحسب، وإنما انخرطت في ميدان تأسيس مشروع عربي نهضوي أيضاً.
فثورة 23 يوليو نقلت السلطة من أيدي الملوك والاقطاع إلى أيدي الشعب وهذا من أهم إنجازات الثورة الجديدة، ونقلت قرار السلطة السابقة المرتهن لإرادة الخارج إلى إرادة وطنية مستقلة تصوغه على مقاييس مصالح الوطن، كما نقلت قرار التنمية الداخلية من أيدي الشركات الكبرى إلى أيدي القطاع العام، ونقلت قرار التسليح العسكري من هيمنة داعمي الكيان الصهيوني إلى جهات دولية أخرى لكي تحرر قرارها العسكري من الارتهان إلى من يرى في السلاح العربي عدواً للعدو الصهيوني.
تكفي الإشارة إلى تلك القرارات من زاويتها الاستراتيجية لكي نخضعها للمحاكمة من تلك الزاوية، بل رحنا بدلاً من ذلك نحاكمها على تفصيلات أين أخفقت لنصل إلى إسقاطها استراتيجياً، فكان خطأ التجربة خطأً في التفاصيل، وكان خطأ الناقدين خطأً استراتيجياً.
وهكذا حصل الأمر مع تجربة البعث في العراق، التي لن نتناول تفصيلاتها، فهي كثيرة، وتمت الإضاءة عليها في أكثر من موقع، ويكفي أن نقول: إن من أهم أسباب العدوان على العراق، واحتلاله، كان المشروع النهضوي القومي الذي أنجزه حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.
أما السبب في وجود هوة بين مستويات النقد المطلوب: الموضوعي والذاتي، لم يكن خلافاً في التفاصيل بل كان خلافاً في الأهداف الاستراتيجية. تجربة قومية مولودة حديثاً تشق طريقها بقفزات نوعية فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية وقعت بين فكي كماشة:
-فكها الأول خارجي يريد إسقاط أية تجربة قومية عربية لخطورتها على مخططاته.
-وفكها الثاني داخلي لن ترضىه أية تجربة وحدودية ذات أعماق قومية عربية حتى لو أصابت في التفاصيل والاستراتيجية، فإنما أهدافه ذات نزعات أممية استراتيجية غير معنية بنجاح الثورة القومية سواءٌ أكان استراتيجياً أم مرحلياً. بل ونزيد القول إن نجاح التجربة ستزيد العراقيل في وجهه. وهذا يعني أنه سيضعها في موقع الفاشل حتى ولو نجحت.
كان الحد الفاصل في إجهاض تلك التجربة متمثلاً في الخامس من حزيران من العام 1967. سقطت فيه التجربة الحديثة الولادة في الامتحان العسكري النظامي، وكانت النتيجة طبيعية لو قمنا بنقدها على هذا الأساس. واختلط حابل الناقدين المتألمين من الهزيمة بنابل الحاقدين المبتهجين بها. فأُحبِط المتألمون وأعلن الحاقدون موت التجربة القومية، واستفادوا من ثغرات السلطة في وجود الهوة بينها وبين مصالح الشعب، واستفادوا أيما استفادة من سقوط السلطة في أول تجربة عسكرية لها في مواجهة الترسانة العسكرية الإمبريالية.
رداً على الهزيمة النظامية، برزت ثلاثة معالم استراتيجية، وهي: ظاهرة المقاومة الشعبية الفلسطينية، ثورة 17 30 تموز في العراق، وحرب الاستنزاف عبر قناة السويس.
فاستفادت الأولى من حيوية الشعب الفلسطيني والعربي، وأرست قواعد استراتيجية بديلة للحرب النظامية. والثانية أحيت من جديد إمكانية الاستمرار في بناء المشروع النهضوي العربي. أما الثالثة فكانت تجربة جديدة مزجت بين إمكانيات الحرب العسكرية النظامية وإمكانيات إرادة المقاومة فكانت حرباً غير تقليدية تبغي الاستمرار في إدامة المعركة على قواعد وآليات أخرى.
وهكذا حرَّكت نتائج حرب حزيران، في العام 1967، فصائل حركة التحرر العربي وصوَّبت اتجاهاتها واستفادت من ثغراتها. كما حرَّكت استراتيجية الكفاح الشعبي المسلح الفلسطيني كوامن العقل العربي للتفتيش عن بدائل للحرب النظامية. فتعاون الحدثان التاريخيان في توفير بدائل للحرب النظامية، تلك البدائل كانت في ترسيخ بناء المقاومة، والإعداد لها واستخدامها.
فالعمل المقاوم في لبنان كان نتيجة طبيعية لتراكم التجربة الفلسطينية، وتراكم التجربة الوطنية اللبنانية، وكانت نهاية المطاف انتصاراً أنجزته المقاومة اللبنانية في العامين 2000، و2006. وفي هذه التجربة التي لا نزال نقطف نتائجها الإيجابية جمعت لأول مرة في تاريخنا بين إمكانيات السلطة المادية والإمكانيات الشعبية في البذل والعطاء، تلك تجربة جديرة بالبحث والاستفادة منها، بحيث أثبتت أنه يمكن تزويج إمكانيات النظام السياسي مع الإمكانيات الشعبية.
وأما العمل المقاوم الفلسطيني فقد احتل مكانه على أرض فلسطين بعد أن كان يُمارس من خارجها.
وأما العمل المقاوم في العراق فقد جمع في أول سابقة تاريخية إعداد السلطة السياسية فيه لموجبات العمل الشعبي المسلح في مواجهة الترسانة الأميركية.
إن العمل المقاوم في الساحات العربية الثلاث كان رداً على نقد هزيمة حزيران في العام 1967، وكان الرد المناسب الذي حقق انتصارات حقيقية في لبنان، ويحقق انتصارات فلسطينية، وينزل في العراق، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، أشد الضربات بالاحتلال الأميركي ويضعه على حافة الهاوية، وهو منزلق إليها لا محالة.
في الذكرى السابعة والخمسين لثورة تموز في مصر، نحصد النتائج الإيجابية الوفيرة عندما خرجنا من نفق (النق) عليها إلى رحاب نقدها. وهكذا يجب تعميم عامل الحوار الناقد والهادف إلى استخلاص العبر من أخطاء تجربة الأنظمة التي أسَّست لتجربة الدولة ذات الأهداف القومية، والاستفادة من تجربتها الإيجابية، لأنه بغير ذلك ستكون طاولات حوارنا خالية من أهداف التصحيح والتصويب، وستكون مليئة بأهداف الحقد والتشفي. وبدلاً من أن تكون مساراتنا تكاملية فستتحول إلى مسارات تنافسية، وستكون النتائج حينذاك قطف المزيد من التباعد وتسميك المتاريس.
فلنطلق النداء في هذه المناسبة إلى كل المقاومين العرب وندعوهم إلى تحرير المسافات التي لا تزال تفصلهم ليدخلوا من بوابة التكامل في مواجهتهم للتناقض الرئيسي، وليرفعوا شعار (قومية المواجهة وقومية المقاومة)، واعتبار أن كل انتصار للواحدة منها هو انتصار للأخرى، وأن يد العون التي تعضد الواحدة منها يجب أن لا تحجبها عن الأخرى، وإن مساعدة كل المقاومات في لبنان وفلسطين والعراق هو واجب قومي، وإن إعاقة أي منها أو منعها من تحقيق أهدافها هو موجه ضد المقاومة كلها وضد الأمة العربية كلها.

ليست هناك تعليقات: