السبت، فبراير 27، 2010

تأسيس عمل جبهوي في لبنان

-->
تأسيس عمل جبهوي في لبنان
وجهة نظر في الثوابت والوسائل
تشرين الأول 2007
تعريف بالمرحلة الراهنة:
منذ الخروج السوري من لبنان، في نيسان من العام 2005، دخلت التيارات السياسية فيه مرحلة جديدة من الاصطفافات والتحالفات، التي وصلت إلى مراحل فرز حاد بينها، وانقسمت على قاعدة مشروعين متصارعين على قاعدة الهيمنة على القرار اللبناني كجزء من القرار العربي، وبما يحقق لكل منهما مصالحه ومن أهمها تقاسم النفوذ في الوطن العربي.
لقد وصلت الأمور إلى فرز واضح، بحيث استأثرت أميركا بأحد التيارين، أما الآخر فكان القرار السوري والإيراني هو المهيمن عليه.
لقد كانت من أهم وسائل المشروع الأول، أي المشروع الأميركي، التعويض على الساحة اللبنانية بمركز للتأثير لقاء ما خسره ويخسره في العراق من جهة، وللضغط على راعيي الطرف الثاني في لبنان للحصول منهما على دعم في العراق من جهة أخرى.
أما المشروع الثاني، ومن أهمه الإيراني، فيستخدم لبنان، وغيره من الساحات العربية، من أجل الحصول على سلة من المكتسبات لعلَّ من أهمها الحصول على موقع قوة على ساحة الوطن العربي من خلال تمكين عدد من التيارات الطائفية السياسية باحتلال مواقع ذات تأثير في سياسة بلدانها.
ولما لم يكن بالإمكان أن يوجد في لبنان تيار ثالث مستقل القرار عن الطرفين المذكورين، أو لديه من الإمكانيات التي تؤهله للحصول على موقع مؤثر، ولما كان الاتكاء على الخارج هو وسيلة الأقليات الطائفية أو العرقية في حماية مواقعها ومصالحها الضيقة، ولما كانت تلك الوسيلة لا تحقق استقلالية القرار الوطني، بل ترهنه لمصالح الخارج، ولما كانت تلك الأقليات بوسائلها الشاذة لا تحقق وحدة الوطن الصغير، فهي أبعد من أن تحقق وحدة الوطن العربي الكبير، أصبح من واجب القوى الرافضة للأمر السياسي الواقع في لبنان بناء مشروعها الجبهوي على أساس ثوابت لا يجوز النزول تحت سقفها، على أن تبادر هذه القوى لوضع أسس للمواجهة مهما كانت ضعيفة، لأنها عندما تبرهن على أنها جدية ومستمرة ستكتسب مشروعيتها عند قطاعات شعبية وحزبية في لبنان، وتزداد قوة عند قطاعات سياسية في العمق القومي العربي التي ستكون على استعداد لإسنادها ومساعدتها.
ولأن ساحة الوطن العربي تتعرَّض في هذه المرحلة إلى هجوم واسع، لتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، من خلال اقتلاع كل حصون المقاومة التي تقف في مواجهته، ابتداءً من العراق، البوابة الشرقية للأمة العربية، مروراً بفلسطين قلب القضية المركزية للعرب، وانتهاء بلبنان الذي يقف في مواجهةالغزو الصهيو أميركي.
ولما كان الالتباس حاصلاً في تحديد هوية التناقض الرئيسي في هذه المرحلة، الالتباس الذي تعيشه معظم أطراف حركة التحرر العربية ومنها قوى وحركات وأحزاب لبنانية، قد تكون أسبابه عملية خداع تمارسها أطراف إقليمية لتمويه أهدافها التي تتقاطع في كثير من جوانبها مع مشروع الشرق الأوسط الجديد.
على تلك الأسس نضع أمام الأحزاب والقوى والشخصيات المعنوية التي ستنخرط في أي جهد جبهوي بعض الأفكار الممكن أن تتضمنها اللائحة الجبهوية:
أولاً: على صعيد الثوابت القومية:
في هذه المرحلة، وقبلها بأجيال عديدة، تشهد الساحة العربية صراعات تشتد أحياناً وتضعف أحياناً أخرى، بين منهجين وإيديولوجيتين: المنهج القومي الذي يمثل مرحلة الحداثة في تاريخ الأمة العربية، والمنهج العابر للقوميات بوجهيه المدني والديني السياسي.
فإذا كان التيار العابر للقومية، بشقه المدني، قد أصيب سياسياً بانتكاسة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً من جهة، وبعد مراجعة نقدية قامت بها معظم الأحزاب الشيوعية العربية وأعادت للمسألة القومية اعتبارها وأهميتها، فإن التيارات السياسية الدينية العابرة للقوميات قد شهدت طفرة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، ولا تزال تحتل الموقع المؤثر في الثقافة الشعبية من جهة، وفي الحركة السياسية العربية من جهة أخرى. ولهذا السبب أخذت تلك التيارات تسلك سياسات غير مفهومة لا يجمعها رابط مشترك مع التيارات المدنية، سواءٌ أكانت على مستوى الأقطار العربية أم على المستوى القومي العربي الشامل، وهي تسوق مواجهة ضدها تكون مظاهرها مكشوفة أحياناً ومستورة أحياناً أخرى، وتنخرط في تحالفات غير مفهومة مع الخارج غالباً ما تكون على حساب المصالح الوطنية أو المصلحة القومية.
وفي فتح ملفات ذات علاقة بالقضايا القومية الساخنة ما يوضح هذا الأمر، ومنها ما هو سائد في لبنان في هذه المرحلة. وظهرت بأوضح مظاهرها في العراق بعد الاحتلال الأميركي، حيث تحالفت الأصوليات الدينية الإسلامية، من شتى المذاهب، مع الاحتلال بشكل مكشوف وسافر.
نتيجة لكل ذلك، يعتبر المتفقون على هذا البرنامج أن القضايا القومية هي كل واحد، في كل من العراق وفلسطين ولبنان وفي ساحات عربية أخرى. ومن بين أهم الأسباب هو أن مشروع أمركة العالم العربي وصهينته هو مشروع واحد، توظِّف الولايات المتحدة الأميركية بالتحالف والتنسيق مع الصهيونية العالمية كل إمكانياتهما من أجل توفير عوامل نجاحه وضمان حماية نتائجه.
ونتيجة لكل ذلك، يعتبر المتفقون على البرنامج الجبهوي في لبنان أن كل نجاح للمشروع المذكور على أي ساحة وطنية عربية فيه ما يوفر الحماية له في الساحات العربية الأخرى. ولهذا السبب ولأن قضية احتلال العراق هي قضية مركزية للمشروع المعادي، ولأنه يتعثَّر في العراق بفعل جهد المقاومة الوطنية العراقية، فإنه يسعى لتوظيف أية نجاحات له في لبنان أو في فلسطين من أجل حل مآزقه في العراق. وهذا ما يتم العمل من أجله في هذه المرحلة، بإغداق الوعود على المتعاونين معه، وإغداق التهديدات على كل الرافضين لذلك. وهذا ما يقودنا إلى ضرورة ربط نضالات المواجهة التي تجري في لبنان وفلسطين والعراق ووضعها في سلة واحدة لأنها تتبادل الخدمات والفوائد في إعاقة المشروع المعادي، وتأخير نفاذه، وخاصة في العراق لأن أية مكاسب يحققها النضال على الساحتين اللبنانية والفلسطينية ستتآكل إذا ما قُيِّض لذلك المشروع أن ينجح في العراق.
إن تلك الثوابت تعني، تنفيذاً وتنسيقاً ومساعدة، مدخلاً أساسياً لفهم طبيعة المواجهة التي تجري على الساحة اللبنانية وحقيقة تلك المواجهة.
ثانياً: على صعيد الثوابت الوطنية اللبنانية:
من الحقائق التي لا يمكن أن نتناساها أو نتنكر لها في هذه المرحلة أن الساحة اللبنانية بانقساماتها السياسية الحادة، تعبٍّر تمام التعبير عن الانقسام الحاصل بين المصالح الدولية والإقليمية، فهناك مشروعان دولي وإقليمي لهما امتدادات في لبنان. ولأن المواجهة الدولية والإقليمية حاصلة في العراق على قاعدة تقاسم الحصص فيه، فإن الواقع في لبنان مؤهل لمثل ذلك التقاسم. وهذا ما تدل عليه بوضوح كل التحليلات ذات العلاقة بالساحة اللبنانية، والتي يتم اختصارها بأن القوى السياسية المحلية ليست لديها قدرة على اتخاذ القرار بالحل، وإنما تنتظره من الخارج، والخارج لن يسمح بمروره، أو تمريره، إلاَّ في إحدى حالتين: الاتفاق على تقاسم الحصص على المستوى القومي العام، وإذا لم يحصل، وهذا من المحتمل حصوله، بسبب تناقض المشاريع الدولية مع المشاريع الإقليمية، والاختلاف ليس على الجوهر بمقدار ما يكون على توزيع الحصص، فسيكون الحل في لبنان مرحلياً يكمن في الاتفاق على إدارة الأزمة بشكل جديد كي لا تنفلت الأمور وتصل إلى مراحل تصعب السيطرة عليها.
ولهذا، يحدد المنضوون تحت خيمة هذا الإطار الجبهوي ثوابتهم القومية والوطنية على القواعد التالية:
1-على صعيد استقلالية القرار السياسي الوطني:
-إن تعميم وإجازة الاستقواء بالخارج ليست فيها أية مصلحة وطنية، بل من مصلحة الخارج أن يقوم باستغلال حاجة الأقليات للحماية لتمرير مصالحه على حساب مصالح لبنان، السبب الذي لأجله يجب أن يعلن الأطراف الجبهويون على أنهم يتفقون على رفض نظام الطائفية السياسية، الذي أثبت أنه من أهم العوامل الذي يعمم ثقافة مشروعية الاستعانة بالخارج واستسهال تطبيقها. وإلى أن يتحقق هذا الغرض يرون بأنه لا يجوز السكوت على كل تجاوز للقرار الوطني المستقل وربطه بعجلة الخارج. ويجوز اتهام كل من يرهن قراره للخارج بأنه يمارس ما يتناقض مع المصلحة الوطنية، وإنه من غير الجائز قانونياً أن يتم تشريع التعاون مع الخارج بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك مهمة ملحة يُعتبر السكوت عنها خطير خاصة إذا تجذَّرت في ثقافة الشعب اللبناني لأنه يتنافى مع النصوص القانونية التي تحيل إلى المحاكم المختصة كل من يتعاون مع الخارج لأي سبب كان.
-ولأن نظام الطائفية السياسية يهدف إلى ضمان مصالح النخب الطائفية، يعلنون أن الانتماء إلى الطائفة لا يجوز أن يكون بديلاً للانتماء إلى الوطن، وأن لا تكون مصالح النخب السياسية في الطوائف بديلاً لمصالح الأكثرية الساحقة من قواعد تلك الطوائف.
-كان إغداق المال السياسي على الأطراف المتصارعة في لبنان من آخر ابتكارات الاستقواء بالخارج، وكان لهذا العامل، وسيكون له نتائج غاية في الخطورة على مستقبل الحياة السياسية فيه، لأنه من العوامل التي تشوِّه الثقافة الشعبية، وبخاصة ثقافة الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، وهي الأكثر انشداداً لطائفيتها على حساب وطنيتها، والأكثر حاجة لتسد رمقها بإغراءات المال السياسي. وقد ظهرت تأثيراتها بشكل خاص في الانتخابات النيابية السابقة، كما ظهرت وتظهر بوضوح على رزمة التحركات الشعبية والتحركات الشعبية المضادة التي قادها التياران: ما يُسمى بالموالاة، وما يُسمى بالمعارضة، على الساحة اللبنانية طوال أكثر من سنتين، وهي تلك التي أطلق عليها منظموها مصطلح (التظاهرات المليونية). ولأن الإنفاق على مثلها يفوق قدرة الطرفين المتصارعين، لا يمكن أن تمر من دون وضع أكثر من علامة استفهام عن مصدرها وأغراضها وأهدافها.
2-على صعيد الاقتصاد الوطني:
-يعلن الأطراف الجبهويون رفضهم لكل أنواع التحول الاقتصادي الذي تعمل الولايات المتحدة الأميركية على تصديره إلى لبنان، كأنموذج لأمركة الاقتصاد العربي، لأن الاقتصاد بشكليه الوطني والقومي سيكون خاضعاً لنظام الشركات الرأسمالية ومصالحها. وقد أثبتت وقائع الأمور أن تلك السياسة تقود الاقتصاد اللبناني باتجاه خصخصة المرافق العامة، وقد نشأت بالفعل طبقة من السياسيين اللبنانيين يتم إعدادها لتكون واسطة العقد بين الدولة اللبنانية والشركات الأجنبية العملاقة. وهي الطبقة التي أصبحت بارزة وواضحة المعالم، وقد ربطت مصير مصالحها بتلك التحولات.
-يعلنون أنهم بصدد صياغة مشروع إصلاح اقتصادي وطني، على أن يأخذ بعين الاعتبار علاقته بالعمق الاقتصادي القومي العربي، وعلى أن تربطه اتفاقيات مع الدول غير العربية بما لا يتعارض مع ثابت تعميم الاقتصاد القومي.
3-ترابط بين الأمنين الوطني والقومي:
-يعلن الأطراف الجبهويون رفضهم لكل أنواع الأمن وأشكاله التي تعمل من أجل حماية وجود الكيان الصهيوني، وخاصة عندما يكون على حساب حماية الأمنين الوطني والقومي. وتلك المسألة أصبحت من معالم الخطة الأميركية والصهيونية المعلنة. وخشية من أن يرتبط الأمن الوطني اللبناني والأمن القومي العربي بعجلة أخرى وهي العجلة الإقليمية، أي أن على لبنان أن يحرص على الأمن الإقليمي ولا يجد حرصاً إقليمياً مماثلاً على أمنه، أصبح من واجب الأطراف الجبهويين أن يعوا تلك الحقيقة ويعملوا من أجل رفض أي مساومة بين الإقليم المجاور للوطن العربي وبين المشروع الأميركي والصهيوني على توظيف أمن لبنان والأمن القومي العربي لوضعهما في خدمة الأمنين الدولي والإقليمي. وفي هذا الإطار، ومع السعي لتوحيد الجهد الوطني اللبناني مع الجهد القومي العربي مع الجهد الإقليمي لمواجهة التناقض الرئيسي المتمثل بالمشروع الأميركي والصهيوني، أن يعمل الأطراف الجبهويون من أجل ضم الإقليم إلى منظومة لبنانية ذات عمق عربي، لتوحيد معركة المواجهة مع التناقض الرئيسي على كل الساحات العربية. ولا يتم استثناء أي ساحة منها.
ثالثاً: على صعيد الهيكلية التنظيمية:
تعتبر الأطراف المشاركة أن العمل الجبهوي يقوم على المبادئ التالية:
-التكافؤ في الأدوار والفرص والاحترام المتبادَل.
-الثوابت القومية والوطنية كلٌّ متكامل.
-بناء الخطط المرحلية على قاعدة عدم تناقضها مع الثوابت.
-التعاون والتنسيق المرحلي مع كل القوى والشخصيات المعنوية، بما لا يتناقض مع رؤاها الخاصة لكل مرحلة، أي بما تسمح لها إمكانياتها، ولوائحها الداخلية وخططها على الصعيد الوطني اللبناني، بممارسته. ولهذا لا تحول خططها على الصعيد الوطني اللبناني فقط دون مشاركة من لهم سقوف أعلى من المشاركة في خطط الجبهة المرحلية، ولكن على شرط أن لا تعلن رفضها لخطط السقف الأعلى للمشاركين الآخرين.
بناء على تلك الأرضية يعلن المجتمعون الهيكلية التنظيمية على الشكل التالي:
-قاعدة الطاولة المستديرة هي التي تعبر عن روحية تلك الهيكلية، لذلك يتم توزيع المسؤوليات: الرئاسة ونيابتها وأمانة السر ولجنة المتابعة المصغَّرة حسبما تقتضيه مصلحة استمرارية الجبهة وديموقراطية العمل فيها.
رابعاً: على صعيد البرنامج المرحلي القومي:
إنه مهما بلغت سقوف الاحتقان الشعبي في لبنان ضد المرحلة السابقة، بما حملت إليه من تجاوزات وأخطاء، يقع على عاتق الذين يعملون من أجل لبنان العربي، أن يجهدوا من أجل احتواء الاحتقان، لأنه تحول إلى مستوى ردود فعل خطيرة، يعمل الطرفان: الأميركي والإقليمي، على الاستفادة منها من أجل التحريض ضد كل ما هو عربي، وهذا ليس بالمستغرب، لأن أياً منهما لا يحمل الود لقضية الأمة العربية في الوحدة والتحرر.
لقاء ذلك، ولأننا لا نرى مصلحة لبنان خارج دائرة مصير الأمة العربية ومستقبلها، و على الرغم من التقصير واللامبالاة في أداء النظام العربي الرسمي، الذي وصل إلى حدود التآمر على القضايا العربية الأكثر سخونة: لبنان وفلسطين والعراق، نرى في المقابل أن أي جهد يُبذل من أجل إعادة تصحيح صورة المسألة القومية التي تم تشويهها نتيجة سلوكات كثيرة خاطئة، هو جهد ضروري، على كل من يعمل من أجل تأسيس إطار جبهوي قومياً ووطنياً أن يولوه العناية والاهتمام الكافي على صعيد الفكر والسياسة. على أن يتم ذلك بعيداً عن كل عوامل الانفعال والتشنج، ولذلك نرى ما يلي:
1-تنشيط الرؤية القومية العربية وتفعيلها بكل الوسائل المتاحة على قلتها. وعلى شتى الصعد الاستراتيجية، من تحررية واقتصادية وثقافية وإعلامية. على أن يكون التنشيط والتفعيل قائماً على رؤية استراتيجية غير محكومة بالعلاقات بين الأنظمة الرسمية، بقدر ما هي رؤية توحيدية شعبية تقوم على وحدة المصير العربي في مواجهة المخططات التي تعمل على تفتيت تلك الجهود من أجل أغراض تقسيمية سياسية وإيديولوجية.
2-الرد على خطاب الهزيمة الذي لا تزال أوساط سياسية، ومنها ممن هم من المحسوبين على حركة التحرر العربية، تروِّج له، بشكل مقصود أو غير مقصود، من أجل محاربة الفكر القومي وحركاته السياسية. والبديل عن ذلك، كما نرى، هو الانتقال إلى نقد موضوعي يساعد تلك الحركات على الاستفادة من أخطاء الماضي، وبما يساعدها على إعادة تفعيل دورها، وليس استخدام النقد أسلوباً من أجل زرع اليأس في نفوس الجماهير الشعبية.
3-إذا كانت مسؤولية الهزيمة تتحملها الأنظمة الرسمية العربية، فإن البديل الشعبي كان مستنداً إلى استراتيجية المقاومة الشعبية المسلحة، وهي الاستراتيجية التي ارتقت بها الحركات السياسية إلى مستوى النصر، وبها أزالت الجماهير العربية وصمة هزيمة لا تتحمل مسؤوليتها.
وإذا كانت مقاييس الأمور قد تبدَّّلت، بانتقال الفعل التحرري من أيدي الأنظمة إلى أيدي الجماهير، السبب الذي أدى إلى انتقال الشعب العربي إلى مستوى الانتصار على آخر مبتكرات التكنولوجيا الغربية، فمن المسائل الأكثر ضرورة أن تكون برامج المقاومة المسلحة بديلاً لخطاب الهزيمة، وعليها أن تشكل ثقافة العصر للجماهير العربية.
4-ولما كانت تلك المقاومة قد قلبت موازين القوى في الصراع وفي النضال التحرري، يصبح من الضروري أن تنتقل إلى ثقافة أساسية، تجري جنباً إلى جنب مع الجهد الذي على حركة التحرر العربية أن تبذله من أجل البدء في حالة حوارية بين المقاومات المعلنة في فلسطين ولبنان والعراق.
و على الرغم من أن هناك نقاط تلاقٍ عديدة بينها، فهناك أيضاً نقاط افتراق. ومن دون الخوض بتفاصيلها، وهو واجب القوى والحركات القومية أن تعالجه، أو تلك الحركات التي تؤمن باستراتيجية المقاومة، أن تعقد طاولات حوارية تدعو إليها الفصائل التي تمارس الفعل المقاوم، وإذا تعثَّر ذلك لسبب أو لآخر، ولم يكتمل حضور ممثلين عنها فيمكن أن تنعقد تلك الطاولات بمن حضر من المقاومين أو من الداعمين، وتعلن ما تتوصَّل إليه من نتائج.
إن الدعوة إلى التوحيد، تحول دونه صعوبات، يأتي في أولوياتها العامل الإيديولوجي، وعموده مدى القرب أو البعد عن الأرضية الوطنية والقومية. ونحن نرى أنه من دون تلك الأرضية سيكون الحوار من دون جدوى، إلاَّ أن ذلك لا يجوز أن يحول دون متابعة جادة، حتى لو اقتضى الأمر أن تكتفي نواة الحوار في مراحلها الأولى بمعالجتها على صعيد نظري، ونرى أن تلك البداية ستشكل النواة التي تكبر مع الزمن.
خامساً: على صعيد البرنامج المرحلي الوطني:
إذا كانت الثوابت القومية قاعدة استراتيجية لأي ثوابت قومية، خاصة بكل ما له علاقة بالأمن القومي في مواجهة المشاريع الدولية والإقليمية ذات الأهداف الخاصة، فإن ذلك لا يجوز أن يحول دون الاتفاق على كثير من القضايا ذات الخصوصية اللبنانية.
وعلى هذا الأساس، يحضرنا التذكير بأهم مفاصل البرنامج اللبناني الوطني، وهي بنية النظام السياسية، وبنيته الاقتصادية. وعن هذا الأمر نرى من المفيد وضع برنامج إصلاحي يراعي طبيعة البنية الثقافية الشعبية، ومن شروطه أن لا يصطدم مع تلك الثقافة، ولكن على أن لا يستسلم لها.
1-على صعيد بنية النظام السياسي:
إن إلغاء نظام الطائفية السياسية أصبح من بديهيات الأمور، التي ثبتتها أدبيات القوى والأحزاب والحركات اللبنانية وخطابها الوطني. كما لم تستطع القوى السياسية المستفيدة من واقع بنية النظام الراهن أن تتنكر لها. لكن تلك البنية لا يمكن الانقلاب عليها بسرعة، وبقدرة ساحر، بل هي مثل كل الظواهر الاجتماعية السياسية تخضع لقانون التطور التدريجي، ولا يمكن لوسائل عملية التغيير أن تكون سليمة إذا لم تبدأ في الحفر في أساسيات الثقافة الشعبية.
يتحمل مسؤولية تكوين نظام الطائفية السياسية، واستمراريته، عقد اجتماعي سياسي بين طرفين: زعماء الطوائف، سياسيين ودينيين، والقاعدة الشعبية التي ترى واهمة أنه في حماية حدود الطوائف حماية لها.
ولهذا فقد تجذَّرت تلك الثقافة في اللاوعي الشعبي، وقام بتعميقها وتجذيرها الزعماء لأنهم المستفيدين من استمراريتها، وغالباً ما تعفيهم تلك الثقافة من عامل الأهلية السياسية والأخلاقية والمهنية التي توجبها مسألة تمثيلهم للشعب في مؤسسات الدولة. وبها تتراكم أوراق ورثة الزعامات التقليدية أباً عن جد.
لكل هذا نرى ما يلي:
أ-تعميم الثقافة الوطنية كبديل للثقافة الطائفية. أي باعتبار الانتماء للطائفة خياراً روحياً له خصوصيات فردية، بينما الانتماء للوطن له خصوصيات اجتماعية وسياسية حقوقية، لا يمكن لأبناء الوطن الواحد، من كل التعدديات الطائفية، من أن يسلكوها. وهذا من الجوانب الجديرة بالعناية والمتابعة، ويستأهل أن تُوظَّف له وسائل إعلام الفصائل الجبهوية، من صحف ومجلات ونشرات داخلية، أو شعبية، وندوات ومحاضرات، وطاولات حوار، وغيرها...
ب-العمل من أجل تعميم ثقافة القوانين الانتخابية، ومدى أهميتها في فتح الأبواب أمام ممثلين للتعدديات السياسية في الوصول إلى البرلمان. لكن ذلك لا يجوز أن يكون هدفاً بحد ذاته، بل تكون أهدافه فتح نوافذ إعلامية جديدة أمام الصوت الوطني.
مع القناعة بأن وصول هذا الصوت إلى البرلمان تحول دونه صعوبات عديدة، من أهمها أن العمق الشعبي، في ظل القوانين الانتخابية الراهنة، يخضع لهيمنة كارتلات الطوائف وتجمعاتها وتبادل المصالح الانتخابية مع الكارتلات الطائفية الأخرى.
ج-من العسير أن توفر جهود مجموعة من القوى والحركات والأحزاب مستلزمات خوض معركة انتخابية، خاصة في مواجهة المال السياسي، فكيف يكون الأمر لو انفردت أية قوة أو حركة أو حزب بخوض تلك المعركة؟
لكن أرضية إرادة التغيير لم تكن مفروشة بالورود في يوم من الأيام.
2-على صعيد بنية النظام الاقتصادي:
تاريخياً، تحولت بنية النظام الاقتصادي في لبنان من بنية إقطاعية إلى بنية خدماتية استهلاكية، وتشهد اليوم بنية أشد خطورة وهي توظيف المال السياسي من أجل بناء طبقة سياسية في لبنان لخدمة اقتصاد الأمركة.
لقد ابتدأ بناء هذه الطبقة منذ أوائل الثمانينيات، ووصلت إلى السلطة في أوائل التسعينيات، وابتدأت بتنفيذ أجندة اقتصاد الأمركة منذ ذلك التاريخ ولا تزال.
إن من أهم ما يمكن أن تبتدئ به القوى المنضوية في أي تجمع وطني، هو أن تخوض تجربة النضال على خطين:
-الخط المرحلي الساخن: لأن أكثرية الشعب اللبناني التي تنحدر باتجاه دوائر الجوع والمرض والتجهيل، لا تنتظر طويلاً، لا بدَّ من أن تبتدئ هذه القوى بمتابعة كل مشاكل الشعب الاجتماعية والاقتصادية ورصدها، وإثارتها على شتى المستويات والصعد: إعلامياً، وحركات احتجاجية، وندوات شعبية...
-والخط الاستراتيجي: وهو الأهم، وحيث إن تحويل اقتصاد لبنان إلى اقتصاد مؤمرك يسير بخطى ثابتة من دون عوائق أو حواجز. ولأنه يتم بتنفيذ فعلي من قبل النخبة السياسية والاقتصادية ذات التأثير على صعيديْ الحكم والمؤسسات الاقتصادية، وبسكوت وصمت فعلي من قبل الأوساط المعارضة، يضع على عاتق القوى الجبهوية أن تعتني بهذا الجانب من عدة زوايا:
-القيام بدراسات اقتصادية تكشف خطورة هذا التحويل.
-عقد ندوات وطاولات حوار، يتم تعميم مضامينها ونشرها.
وأخيراً، نرجو أن يكون ما قمنا به، في هذا المقال، فاتحة ورشة حوارية على صفحات طليعة لبنان الواحد، وتستقبل (الطليعة) كل وجهات النظر التي تردها من أجل نشرها تباعاً.
-->

ليست هناك تعليقات: