في عبثية المسرح السياسي في لبنان
تضيع مسؤولية الحاكم تجاه الشعب
من أولى الأسس الديموقراطية أن يكون مفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم عقداً اجتماعياً ملزماً يتنازل فيها المحكوم إلى ممثله في هيئات الدولة السياسية عن صوته لقاء أن يقوم النائب الحاكم بالدفاع عن حقوق المحكوم، وحمايتها، وضمان الحصول عليها.
وكأن الطبقة السياسية في لبنان فريدة من نوعها، في وعيها وفي حملها أعباء المسؤوليات، لها مفاهيم للديموقراطية غريبة عما هو معروف، وشاذ عما هو سائد في ديموقراطيات العالم. بحيث تحوَّل المحكوم إلى ضامن لحقوق الحاكم ومدافع عنه ويشكل له حماية وحصانة.
في الديموقراطيات الراقية لا تسقط في صناديق الاقتراع ورقة باختيار حاكم مرتين إذا ما انقلب الحاكم على مضمون العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بينه وبين حاكمه. أما في لبنان فإنها تسقط طوال العمر من دون أن يعرف المحكوم السبب ولا يستطيع تعليله.
إنها مصلحة الطائفة، هي العبارة التي ترددها حناجر المحكومين، ومصلحة الطائفة لا تحميها إلاَّ نخب توارثت وظيفتها أجيال النخب الطائفية عن أجيال. وإذا شغر موقع من مواقع حراس الطائفة لسبب أو لآخر، فلن تغمض عيون المحكومين قبل أن تتوِّج آخر ليملأ الفراغ.
تلك معضلة سكنت الوجدان الشعبي في لبنان، وتساوت الطوائف في اكتساب هذه النزعة، فتحوَّل العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم إلى عقد بين حارس مزعوم للطائفة وأبناء الطائفة التي يزعم أنه حارس لها، يكتفي فيه الأبناء بحماية حارسهم وتتويجه مدى الحياة.
لا تعرف الحركة السياسية في لبنان غير تلك المعادلة، وكل خروج عنها، هو شذوذ مدان ومستهان.
ترافق مع هذه الأعراف الشاذة في لبنان، عرف آخر أكثر شذوذاً كان في ابتكار التفتيش عن حماية خارجية للطوائف عبر حماية حراس الطوائف، وتساوت الطوائف في لبنان أيضاً في اعتناق هذا العرف ومارسته، وبه تحول لبنان إلى ساحة لصراع الآخرين وتصفية حساباتهم، صراع لم ينته منذ قرن ونصف القرن، ولا يزال مرشحاً للتفاعل والتعقيد في هذه المرحلة خاصة وأنها الأكثر تعقيداً في تاريخ البشرية مجتمعة، كما في تاريخ المنطقة، وتاريخ الوطن العربي، فتفاعلت تأثيراتها ولفَّت لبنان من أقصاه إلى أقصاه.
لذلك نعتبر أنه إذا عُرف السبب بطل العجب، وتعقيد الأزمة في لبنان ليس أسبابه تداخل العوامل الخارجية فيه، وإنما العوامل الداخلية هي التي تتحمل المسؤولية بشكل أساسي، يتحملها الحاكم والمحكوم على حد سواء.
ولأن عوامل استقواء الطوائف آتية من الخارج، ولأن حراس الطوائف هم الذين استقدموها، ولأن أبناء الطوائف تنازلوا عن الحق بالقرار لحراسهم المزعومين، تتضِّح حقيقة لا لبس فيها هو أن فريضة الثقافة الصحيحة غائبة، الأمر الذي لا يجوز أن يستمر إلى الأبد، خاصة وأن عمر الثقافة الشاذة بلغ القرن ونصف القرن، وقد يمر قرن آخر من دون أن يعرف لبنان حلاوة الاستقرار والأمن والسلم الأهلي.
يعيش لبنان مرحلة دائرة مفرغة، فهل يمكن اختراق هذه الدائرة؟
من يتحمل المسؤولية: الخارج، أم حراس الطوائف، أم أبناء الطوائف؟
وحتى لا نضيِّع الحقيقة مرة أخرى، ونأسر أنفسنا بتحديد جنس المسؤولية، بينما العدو يغزونا ويستبيح أرضنا وسيادتنا وكرامتنا، لا بدَّ من أن نبدأ الخطوة الصحيحة. والخطوة الصحيحة تبدأ في العمل الجاد من أجل إحداث متغيرات في الثقافة الشعبية، بالحفر فيها من دون رحمة، وبتواصل واستمرار، وكد وجد، ورفع شعار: إن الحارس الحقيقي هو من يكون حارساً للوطن وليس حارساً للطائفة، وإن الاستقواء لن يكون من الخارج، بل الاستقواء الثابت الجذور هو المبني على لحمة كل أبناء الطوائف في نسيج وطني خالص.
فلنخترق الدائرة المفرغة في الداخل، فمن دون اختراقها ستبقى حدودنا سائبة أمام كل طامع. فلنخترق الدائرة المفرغة، فالخارج ليس أرحم منا بأنفسنا.
المشهد السياسي في لبنان
لا تزال المسألة اللبنانية تراوح مكانها، فهي أشبه بطبخة الحصى، إذا لم نقل أنها طبخة صوان، بالكاد تسري الحرارة فيها، لأن سخونة السياسيين اللبنانيين عاجزة عن إنتاج ما يكفي منها، فحرارتهم مستوردة يتم تصديرها من الخارج بالقدر الذي يجعلها تواكب مصالح أطرافه.
ليس ما نقوله من قبيل الاستنتاج، ولا من قبيل التجني، فقد اعترف الأفرقاء المتصارعون بذلك، وافترقوا حول تعريف جنس التدخل الخارجي ونوعه وكميته، وأيهما الأصلح وأيهما الأخطر، وتبادلوا الاتهامات والانتماءات، وركبوا موجات الفضائيات، ومتون الطائرات، وقدم إلى لبنان قناصل الدول من هب ودب، ليبدي كل منهم حرصه الكاذب على لبنان، وغيرته على مصير الديموقراطية فيه، وتباروا مديحاً بمقدرة السياسيين فيه على اتخاذ القرار، وأعلنوا أن القرار يُصاغ في لبنان وليس في غيره، وعلى أيدي اللبنانيين وليس غيرهم. ولكنهم على من يقرأون مزاميرهم!؟
لقد حفلت المرحلة الأخيرة بسلسلة من التحركات والتصريحات والمؤتمرات والرحلات والمهرجانات واقتراحات الحلول، حتى بات اللبناني عاجزاً عن مواكبتها جميعها، وتحليل أهدافها ومراميها.
إلاَّ أن تلك الحركة لم تأت على لبنان واللبنانيين بأية بركة، وبلغ تعداد تأجيل الانتخابات الرئاسية التسعة عشر تأجيلاً، والحبل على الجرار. سبقته محاولات ومداولات واجتماعات استحضر فيها كل طرف كل أنواع الاجتهادات الدستورية وغير الدستورية، والقانونية منها وغير القانونية، المعروف منها والمجهول، المستغرب منها والأكثر استغراباً.
انتظر اللبنانيون الترياق من جولة عمرو موسى
كان اللبنانيون قد استقبلوا عمرو موسى بتفاؤل وأمل في أن يأتي بالمعجزة، حاور فيها جميع الأطراف لعلَّه يجد فيها ما يجمع، فخرج والأزمة ازدادت تعقيداً. وساح بين هذا البلد العربي وذاك، وكما أعلن أنه قد يجد الحل المطلوب في مواقع القرار الفعلي، ولكنه تاه بين أسباب هذا البلد أو ذلك، إذ راح كل منها يلقي باللوم على الآخر. وتباروا حول أي منهم أكثر تأثيراً في تسهيل الحل، فاعترفوا من دون أن يدروا بتأثير المحاور العربية وعمقه في الأزمة اللبنانية.
وانتظروه من زيارات الأفرقاء اللبنانيين المكوكية
كما جال أكثر من سياسي لبناني هنا وهناك، وكانت مسارات الجولات تسلك طرقات أميركا وإيران وأوروبا، فلم يأت أي منهم بالجواب الشافي، ولم يعودوا إلاَّ بما يؤكد حقيقة تأثير الخارج على الداخل. فلا زيارة جعجع إلى أميركا، ولا زيارة سعد الحريري إلى السعودية، ولا زيارة نبيه بري إلى الشرق والغرب، ولا مكوكية جولة السنيورة في أنحاء المعمورة، قد أتت بما يطمئن بأن سياسيي لبنان قادرون على صياغة حل، ولا بما يطمئن بأن تأثيرات الخارج قد وجدت هذا الحل، أو أقله تلميحاً يعيد الاطمئنان إلى نفوس الخائفين من الشعب اللبناني.
رئيس مجلس النواب يعود بالأزمة إلى نقطة الصفر
إن ما يجري في لبنان، خاصة بعد دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني إلى حوار بين الأفرقاء اللبنانيين، لن تكون أكثر من معلم يؤكد أنه أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. أما السبب فهو أنه ليس بحوارهم ما يجعل الحل أقرب، فقد جربوه وفشلوا، وسيجربونه وسيفشلون. فأسباب النجاح ليست معلقة بنواصي خيول "حراس الطوائف"، وإنما بنواصي خيول المستفيدين من خدماتهم. وإذا ما نجحت المبادرة القديمة الجديدة، فستعني أن الدخان الأبيض قد تصاعد من مداخن الخارج لإدارة الأزمة على نار هادئة. فهل لهذا الاحتمال نصيب من الصحة؟
ولم تأت القمة العربية بما يبشر بالأمل
ولما حان دور القمة العربية، كمحطة كان لا بدَّ من المراهنة على أنها ستنتج بداية حل في لبنان، أكَّدت الصراعات التي دارت حول إمكانية انعقادها من عدمه، وحول إمكانية نجاحها إذا انعقدت من فشلها، أن الأنظمة العربية ليست بوارد لملمة خلافاتها، أما السبب فشبيه بالسبب الذي يحول دون وصول اللبنانيين إلى حل لبناني – لبناني. وهو أن القرار العربي، كما القرار اللبناني، ممسوك بإرادة الخارج، ومُدار من قبله ومسيطَر عليه.
فتاه المؤتمرون في القمة واختلفوا في تقييم نتائجها. وهو لا علاقة له بما يعني اللبنانيين والعرب، إذ ليس الهدف مقصود في انعقاد مؤتمر هنا أو هناك، وتلك المؤتمرات ستكون من دون نتائج إلاَّ بالمقدار الذي تتوصل فيه إلى نتائج إيجابية تصب في مصلحة القضايا العربية الأكثر سخونة إلى أقلها سخونة.
من كثرة المتحركين، وكثرة الحركة، لم يستطع عقلنا أن يستوعب من نتائجهما إلاَّ أنها أكَّدت على حالة الافتراق العميق الذي يسيطر على علاقات الأنظمة الرسمية واستقالتها عن مهام تعريب الأزمات العربية، كما أكَّدت على الافتراق العميق الذي يسيطر على علاقات الأفرقاء السياسيين في لبنان، واستقالتهم عن مهام لبننة أزمتهم.
وهل الحل يأتي من الخارج ومتى؟
ولكثرة التناقضات التي تسود علاقات الأفرقاء الدوليين والإقليمين لتباين مصالحهم وتضاربها، وصعوبة التوفيق بين مصالحها وأهدافها، لم يبزغ ضوء خافت في آخر النفق يشير إلى أن هناك بداية لحلول تعيد الأمن النفسي للبنانيين، وتطمئنهم إلى أنهم سيهنأون بشراء لقمة عيش تتناسب مع مداخيلهم.
ليست صراعات الخارج ومحاولتهم نصب طاولات تسوية توفق بين مصالحهم وأهدافهم، سائرة باتجاه حل ما، وهم غير مستعجلين، ولم ينفد صبر أحدهم، فالمعركة دائرة على غير أرضهم وبعيداً عن أذى شعوبهم، فهم يمرون بمرحلة حروب بالواسطة. والأمر كذلك فليس هناك ما يضيرهم بأن يدفع لبنان من دمه وحياته والحرب النفسية التي أرهقت كاهل أبنائه. وهم لم ينفد صبرهم طالما أن السياسيين العرب والسياسيين اللبنانيين يقاتلون بآخر عربي أو آخر لبناني كسباً لرضا الخارج ومساعداته وأعطياته.
برزت في الشهر الماضي على سطح الأزمات العربية وعود وكأنها تبشر بالخير والفرج القريب، كمثل وعد جورج بوش بأن الدولة الفلسطينية ستشهد ولادة في عهده، متعهداً أنه لن يغادر البيت الأبيض إلاَّ بتحقيق حلم الفلسطينيين. وكمثل ما حمله أردوغان من وعود صهيونية بالانسحاب من الجولان، وعود لا تبدو أنها بعيدة عن تدبير إدارة جورج بوش، وألاعيبها. وراح يخال المرء، جراء تلك الوعود، وكأن المنطقة قادمة على حلول لقضايا استعصى حلها عشرات السنين. بينما واقع الأمر، أن عهد السحر قد ولَّى، وإنما الساحر الأميركي يستخرج من قبعته فنوناً تبرِّد من سخونة المسرح، ليوحي بأن أميركا لا تزال تمتلك أوراق التأثير، وأنها لا تزال قوية وقادرة، أما السبب الذي يكمن من وراء أكمة المبادرات والوعود، فلن يبتعد كثيراً عن كونها أدوات وإعلانات تخدم مصلحة الإدارة الأميركية في التجديد لنفسها في الانتخابات الرئاسية القادمة. وهو يعني إملاء مساحة الفراغ الفاصلة عن موسم الانتخابات القادم. وفيه ما نشتمُّ رائحة طريقة جديدة في إدارة الأزمات التي تواجه الإدارة الأميركية، فنقلها من المعالجة على نيران ساخنة إلى معالجتها على نار هادئة، خاصة وأن الرأي العام الأميركي قد اتهم رئيسه بالجنون والشغف بممارسة الحروب العبثية. فهل تلك الوعود إلاَّ استجابة مسرحية يمارسها جورج بوش أمام المتفرج الأميركي الناقم؟
الحل في لبنان جائزة ترضية للحل في العراق
ليس المشهد في لبنان فريداً من نوعه حتى الآن، بل هو أقل حدة بما لا يقاس بما هو حاصل في كل من العراق وفلسطين. وليست مقاصد الخارج وأهدافه في لبنان غير مقاصده وأهدافه في فلسطين والعراق. بل إن ما يجري فيهما يُعتبر في سلة واحدة وذات هوية واحدة.
ففي فلسطين، وعود خلَّبية وعرقوبية من أقل أهدافها إسكات أصوات فلسطينية وعربية عما يدور في غزة من حصار وتجويع وقتل واغتيال، بينما يلحس الساكتون المبرد.
وفي العراق، ميدان أمهات المصالح، تتلاقى جهود أكثر الطامعين به، وعلى مقاييس تقاسم المصالح فيه، سيكون لبنان وفلسطين جائزة ترضية يقدمها أحدهم للآخر.
المرحلة الحالية مساحة فارغة تنتظر نتائج المساومات الخارجية لتملأها
وعلى المتابعين للشأنين اللبناني والفلسطيني من أجل معرفة طبيعة الحلول القادمة إليهما، أن يعرفوا طبيعة الحلول في العراق. وعلى الذين يهتمون بمعرفة نتائج المساومات حول العراق عليهم أن يعرفوا ما هو مشروع المقاومة العراقية. وهذا المشروع بثوابته الاستراتيجية يؤكد أن كل ما يُعلن عن عقد مؤتمرات ونتائج تتمخض عنها لن تكون أكثر من مؤامرات يستهلك فيها الآخرون وقتاً ضائعاً. خاصة وأن النظام العربي الرسمي، كما السياسيون في لبنان المرتبطة مصالحهم بالخارج، أتقنوا فن الاستفادة من الوقت الضائع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق