السبت، فبراير 27، 2010

مقالات حوارية مع الدكتور موسى الحسيني

مقالات حوارية مع الدكتور موسى الحسيني

جانب رئيس تحرير جريدة القدس العربي الأستاذ عبد الباري عطوان المحترم

تحية طيبة

يكون مقدار العتب على مقدار الثقة، فعتبنا على جريدة القدس العربي على مقدار ثقتنا بها.

لقد انطبعت في ذاكرتنا أهمية الدور الإعلامي الذي لعبته جريدتكم الغراء في مساندة القضايا القومية، وعلى رأسها القضيتين الفلسطينية والعراقية. ولم ننس أن القدس العربي نشرت أول بيان صادر عن قيادة المقاومة والتحرير في العراق، بتاريخ 24/ 4/ 2003م، البيان الذي أعاد الثقة والفرح إلى قلوبنا وكان نافذة النور التي تراكمت فأصبحت شمساً ساطعة في هذه المرحلة.

كانت أهمية النشر والتعميم على صفحات جريدتكم، في ظل تطبيق الأكثرية الساحقة من وسائل الإعلام كل تعليمات أصحاب المشروع الأميركي الخبيث في الحصار الإعلامي على العراق. فأصبحت الجريدة محطاً لأنظارنا من أجل متابعة أعمال المقاومة العراقية.

لم تكن صفحات الجريدة مفتوحة للقضية العراقية، بما تعنيه كقضية يقاوم أبناؤها قوات الاحتلال الأميركي، بل كان ضمير عبد الباري عطوان وقلمه منفتحان بحرارة لاحتضانها.

سيدي العزيز

لقد أنعشت رسالة الجريدة الأمل في قلوب القوميين الصادقين الذي انغلقت في وجه أقلامهم كل وسائل الإعلام العربية، ولم يبق إلاَّ القليل القليل ممن يستعدون لتطبيق حرية الرأي، فانغلقت كل صحيفة على نفسها لتمارس حريتها وحدها في الكتابة، وأقفلت أبوابها على الآخرين.

جميل استئثاركم بفضل الدفاع عن الحق، والأجمل منه أن تفسح للآخرين دوراً في الدفاع أيضاً. ولقد مارست جريدة القدس العربي هذا الاستئثار، ولسنا ندري لماذا يستأثر الأستاذ عبد الباري عطوان، صوت الشرفاء الذين لا منبر لهم، بفضيلة احتكار الدفاع عن الحق، وأقفل في وجهنا بوابته ولم يدعنا نسانده ونساعده في مهمته الشريفة.

سيدي العزيز

لقد وعدتني، منذ أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2003م، بتعريف عن كتاب قمت بتأليفه ونشره تحت عنوان »المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة«، كما وعدتني بنشر مقال أرسلته إليكم. وانتظرت لكل لم يحصل شيء. وحاولت أن أرسل بعض المقالات الأخرى، وكانت النتيجة واحدة.

تساءلت مع بعض الأصدقاء الذين كانوا ينتظرون نجاح مهمتي في النشر على صفحات جريدتكم، ونحن ننتظر حتى الآن. لقد فسَّر أحد الذين يشدهم خط الجريدة القومي بإحجامكم عن نشر مقالات لأسماء محددة لأسباب الضغوط الشديدة التي تتعرَّضون لها، حيث إن بعض الأسماء تشكل إحراجاً لكم أنتم بغنى عنه. إن التفسير يبدو منطقياً لو أن عبد الباري عطوان أعلن تقاعده عن مساندة المقاومة العراقية، أو لكان قد نزل تحت سقف موقفه المبدأي السابق، لكننا لم نر لا هذا ولا ذاك. فثبات عبد الباري عطوان على سقف موقفه السابق هو دليل على أنه لا يشعر بالإحراج في الإعلان عن موقفه ولا تعنيه أصوات النعيب والنعي بكثير أو قليل.

سيدي العزيز

لأن ثقتنا بخط جريدتكم، وجرأة مواقفكم، لم تضعف، ستجدنا أننا لن نعلن اليأس من مطالبتكم في حق الصادقين على الصادقين في مواقفهم القومية بالإسهام في الدفاع عن تلك القضايا، خاصة وأننا لم نجد خيارات أخرى في مساندة المقاومة العراقية والفلسطينية أو مشاركتهما غير قلمنا وموقفنا.

لقد نشرت القدس العربي، منذ 24/ 4/ 2004م، دراسة للدكتور موسى الحسيني. ولأننا وجدنا فيها ما يوجب التوضيح والنقد، قمنا بإعداد رد عليها. ونرى من حقنا بالثقة بكم أن تنشروا الرد حول تلك الدراسة.

ولن نتوقف بمطالبتكم عند هذا الحد فحسب، بل لدينا كل الثقة بأن تفسحوا في المجال أمام إسهامات قومية في الكتابة حول القضايا التي تقفون في موقع الدفاع الثابت عنها.

مع الاحترام والتقدير

حسن خليل غريب (باحث وكاتب من لبنان) في 13/ 5/ 2004م

وهذا نص للرد: ردٌّ على دراسة الدكتور موسى الحسيني

10/ 5/ 2004م حسن خليل غريب - لبنان

نشر الدكتور موسى الحسيني (من مواليد الناصرية في العراق في العام 1950م)، في جريدة القدس العربي، دراسة تحت عنوان »المقاومة العراقية والإرهاب الأمريكي المضاد «. توزَّعت الدراسة على أربع حلقات متتالية نُشرت الأولى بتاريخ 24/ 4/ 2004م.

جاءت الحلقة الأولى كمدخل للدراسة، وعادة يعبِّر مدخل البيت إلى حد كبير- عن محتوياته في الداخل، ولكن ما وجدناه بالمنهج العام للدراسة مخالف للقاعدة العامة. ففيها ما لا ينبئ عن محتوياته. وكذلك وجدنا في الخاتمة أيضاً- ما ليس له علاقة ترابط مع المحتويات. فأتت المقدمات والخاتمة في واد ومحتويات الدراسة في واد آخر. ففي الوقت الذي أرى فيه نفسي نافراً من المدخل والمخرج، أجدها منجذبة بحماس- للمحتويات. إن مجرد هذا الانطباع النافر والمنجذب معاً أوقفني أمام تساؤل حول تلك الإشكالية وقادني إلى رد نقدي من خلال زوايا غير تلك التي كان من الممكن أن أبدأ بها كالعادة في مناقشة قضايا محددة تترابط فيها المقدمات مع المحتويات مع النتائج. ولنبدأ في مناقشة الدراسة من مدخلها.

كان العنوان مما يلفت النظر إليه ويدل على اهتمامٍ مشكور بالمقاومة الوطنية العراقية من قبل عربي، وبالأخص إذا كان مواطناً عراقياً. والشكر آتٍ في زمن القحل العربي- من أن التشتت الفكري والضياع السياسي وهلامية الموقف لها السيادة المطلقة على ذهنية ومنهجية ومزاجية أكثرية المثقفين العرب الليبراليين. ولا يفوتنا هنا أيضاً- أن نخص بالذكر الذين يتحصنون وراء شعارات إسلامية سياسية تستقطب إليها عواطف الجماهير الطيبة. وبتعاون التشتت: الليبرالي والإسلامي في التبشير بمواقف هلامية حول المقاومة الوطنية العراقية والقضية العراقية، يزيد الرؤية الجماهيرية ضياعاً وتشتتاً. ولأن بعض الخطاب الديني، خاصة وأنه مبني، كما تسميها الحركات السياسية الإسلامية، على »التكليف الشرعي«، ولأن التكليف الشرعي هو الحكم القائم على ادِّعاء النطق باسم الله والرسول، تزيد أزمة الجماهير الوجدانية تعمقاً في الضياع.

يتعاون »التكليف الديموقراطي« الذي تدَّعي أوساط المثقفين العلمانيين أنها رائدته وقائدته، مع »التكليف الشرعي« الذي تدَّعي أوساط الحركات السياسية الإسلامية أنها ماسكة مفاتيحه، على تشتيت ثقافة الجماهير الطيبة فترميها لقمة سائغة للحيرة والارتباك في الموقف، فيتمزقها الغضب من رؤية حالة الضعف والاستكانة وقلة المناعة في جسد الأمة، ولا ترى في الخطاب ما يعيد الثقة إلى نفسها. وبهذا يرزح الموقف الغائب المرتبك في زوايا الثقافة الشعبية تحت مطرقة من يحملون أوسمة الثقافة على صدورهم وسندانها. فيسهم »أمراء الديكتاتورية الثقافية« بقصد أو عن غير قصد- في تفريغ الكثير من الخواء الثقافي الموضوعي على أكتاف الجماهير الطيبة الصادقة.

لم تكن المقدمة المدخل في ردنا- إلاَّ ضرورة وتحصيناً للكاشفين على محتويات بيوت يجهلون محتوياتها، وليس المقصود بالتحصين المناعي الثقافي إلاَّ اتقاءً للإصابة بفيروس ثقافي من هنا أو هناك.

وإذا عدنا إلى مناقشة المدخل الذي قدَّم فيه الدكتور الحسيني لدراسته عن المقاومة العراقية لوجدنا أن البداية تبدأ بمغالطات فاقعة عندما يضيف إلى »اللاعبين« في العراق كما يحلو له أن يسميهم- لاعباً »هلامياً غير واضح الهوية والملامح«، وكأن العراق ملعب وليس ساحة حرب تنفرز فيه القوى إلى معسكرين لا ثالث لهما: الاحتلال وعملاؤه من جهة، والمقاومين للاحتلال من جهة أخرى.

وهو بتقديمه يحاول أن يقوم -لأسباب منهجية في الكتابة - بتجهيل الإرهابي الذي يقوم بأعمال تخريبية »تحصد الأبرياء بالمئات «، وعن غير قصد يبدو الكاتب كأنه يضيِّع حقيقة الإرهاب التي يجب نسبتها من دون تردد إلى الاحتلال وعملائه- بين »اللاعبين«: الاحتلال والمقاومة. والنتيجة هنا ثابتة لأن الاحتلال بحكم تعريفه وواقعه ونتائجه- هو إرهاب بحد ذاته، وكل ما يفرز عنه وما ينتج من مآسٍ اجتماعية وقانونية وصحية وضحايا في الأرواح هو إرهاب ببرهان ومن دون برهان.

يبدأ الكاتب مقدمته ببث المزيد من الإيحاءات المسبقة لتيار سياسي يبدو أن الحسيني كان على علاقة سابقة معه، ويظهر من دراسته أنه انفصل عنه لأسباب تتناقض مع رؤية الحسيني النظرية والمبدأية، من أجل تثبيت القاسم السياسي الذي كان يجمعه مع ذلك التيار، ويتلخص بالموقف المعادي » لنظام حزب البعث وصدام حسين«.

لا تنفصل تلك الإيحاءات عما يسميها البعض ترددات »الاسطوانة المشروخة«، وهي ليست بعيدة على الإطلاق عن إعداد علماء النفس والاجتماع التابعين للمؤسسات الفكرية والسياسية والإعلامية للشركات الأميركية الكبرى. وهنا نحيل القارئ إلى المصطلحات التالية التي زيَّن بها الحسيني مدخله:

1-ينسب الجرائم التي كانت تقوم بها كما يدَّعي- أجهزة المخابرات السابقة إلى سلوك لا أهداف له إلاَّ »كجزء من عمليات الأمن الوقائي، وإرهاب العراقيين، ليمتنعوا عن معارضتهم للنظام

2-الإيحاء بأن رأس النظام السابق مجرد مريض نفسي يمارس سادية لا لشيء إلاَّ للترويح عن تلك العقد، وكأنه لم يكن لديه أي هم آخر يقع على كتفيه إلاَّ ممارسة ساديته النفسية على الآخرين من البشر من دون أي سبب.

وأراد الكاتب أن يفهمنا بأن صدام حسين كان مجرد مريض نفسي يستأثر بالمواصفات التالية:

-»انفراده بالسلطة، وتولي منصب رئاسة الجمهورية، بمجزرة ضد قيادات الحزب«، »سادية النظام ورغبته في القتل لغرض القتل«، و»يفتعل المؤامرات الوهمية«، و»يضع صدام نفسه في موقف المتمرد على التوجهات الأمريكية في المنطقة«، و»إمكانات العراق التي لو صادف وقوعها بأيدي وطنية حريصة على المصلحة الوطنية للعراق، ستتهيأ لها فرصاً للعب أدوار سياسية مميزة في الوطن العربي لخدمة المصالح القومية العربية«، و»عنجهية صدام حسين«، و»الطريقة التي مورست بها الحرب (الأميركية) تشير إلى حقد دفين على الدولة العراقية ومواطنيها، وليس على النظام أو رموزه«.

هكذا كان صدام حسين و»رموز نظامه« عند الكاتب مجرد مرضى نفسيين متعطشين للدم، وكأنهم أنموذج ل»دراكولا« عربي. فبمقدمته يكون قد أراح القارئ من عبء انتظار نتائج بحثه. ومنها كنت أود أن لا أتابع قراءة الدراسة لأنها أنموذج ل »الإسطوانة المشروخة« التي تعودنا سماعها من كل وسائل الإعلام التي تسيطر عليها أجهزة المخابرات الأميركية بقصد القيام ب»غسل دماغ« المواطن العربي، وإقناع المواطن الغربي بأن ما قاموا به ليس احتلالاً بل هي مهمة إنسانية أنجزتها الإدارة الأميركية عندما خلَّصت الشعب العراقي المسكين من سلالة ال»دراكولا« »البعثية« التي يقودها مهووس نفسي يُدعى »صدام حسين«، وتكون الإدارة الاستعمارية بترسيخ مثل تلك الصورة، والتي يساعدها للأسف- على ترويجها بقصد أو بدون قصد ممن ينتسبون إلى سلالة المثقفين والديموقراطيين من بعض المثقفين العراقيين والعرب الذين راحوا ضحية بعض من سمتهم أجهزة الإعلام المعادية ب»المعارضة العراقية«، فإذا ببعض أولئك المثقفين المخلصين والصادقين لوطنيتهم، كمثل الدكتور موسى الحسيني (كاتب الدراسة)، يُحبَطون عندما تفاجأوا بأن أولئك الدعاة من »المعارضة« يمتطون الدبابة الأميركية ويقبضون بالدولار الأميركي ويأتمرون بأوامر بول بريمر، ويبيعون كل المبادئ والقيم التي كانوا يغشون بها كثيراً من الوطنيين الصادقين من العراقيين بشكل خاص. وربما هذا التمزق الذي يعاني منه الدكتور الحسيني في منهجه الذي سلكه في كتابة دراسته تعود أسبابه إلى العامل الذي قمنا بالإضاءة عليه أعلاه.

وتظهر أولى ملامح التمزق بين السياسي العملي والنظري المبدأي عند الكاتب في نهاية مقدمته عندما يقوم بتذكيرنا بأهداف الاحتلال، والتي هي التالية:

-»نية أمريكا لإعادة العراق إلى العصر الحجري«. وهذا يعني كما هو الواقع- أن في العراق ما يمكن تخريبه وتهديمه، مما هو ليس موجوداً في أي بلد عربي آخر. فما هو موجود في العراق جرى تهديمه لأنه يشكل خطورة على مصالح القائم بالتهديم. وهنا لا نستطع إلاَّ أن نحكم بأن شيئاً جديداً في العراق تأكَّدت الإدارة الأميركية أنه يشكل خطراً على أمنها ومصالحها. ونحن نترك لنباهة الشرائح المثقفة، والتي لا تريد أن تجادل إلاَّ على قاعدة منطق »عنزة ولو طارت«، أن يقولوا لنا ما هو ذلك الشيء الجديد.

إن هذا الشيء الجديد، هو قبل كل شيء لا علاقة له بديموقراطية يتميز بها صدام حسين و»رموز نظامه« أو بديكتاتورية يذبح بها من يشاء، فهذا أبعد الهموم عن مخططات أصحاب »القرن الأميركي الجديد«، لأنهم يحمون أكثر الديكتاتوريات في العالم، واللبيب من الكتَّاب والقراء من الإشارة يعرفون.

فالشيء المطلوب تدميره في العراق هو العامل أو العوامل التي تقف حجر عثرة في وجه المصالح الأميركية، وأسباب توليد تلك العوامل ليست الشعب العراقي (مع الاعتذار من وطنية وبطولة وتضحيات الشعب العظيم في العراق) بل الإيديولوجية التي اعتنقها شعبنا العظيم في العراق ذات المضامين التحررية من الاستعمار، ثقافية واقتصادية وصناعية وعسكرية. أما تلك الإيديولوجيا فهي تلك التي اعتنق مبادئها صدام حسين و»رموز نظامه« وراح يطبقها في العراق طوال خمسة وثلاثين عاماً، بدءًا من العام 1968م، في الوقت الذي كان ما زال فيه الدكتور الحسيني يافعاً على مقاعد الدراسة الثانوية. وهل استطاع بريمر أن يخفي مخطط »اجتثاث البعث من المجتمع العراقي«؟

فإذا كان سادي ورجل يهوى »القتل للقتل« قد أخاف المشروع الإمبريالي بهكذا إيديولوجيا فأهلاً به وسهلاً. أو يعلم المثقفون الليبراليون الجدد أن المشروع الأميركي عمل ويعمل على إعادة عقارب التاريخ الحضاري الفكري إلى ما قبل التاريخ، وقد بدأ بمؤامرة تحطيم الاتحاد السوفياتي ومحاربة الشيوعية كخصم أساسي للرأسمالية، وبعد أن نجح فيه وانكشف غطاء حماية حركات التحرر في العالم بدأ الاستعمار في تحطيمها وتدميرها وإعادة الإيديولوجيات التحررية إلى عصر ما قبل التاريخ. ويأتي على رأسها في هذه المرحلة- العراق بسبب من امتلاكه تلك الإيديولوجيا. وإن الكلام عن ذلك يطول ويعرض.

-»الدعوة لحروب أهلية، وتقسيم العراق لدويلات صغيرة«: وهل اكتشف الكاتب هذه المسألة قبل »خراب البصرة« أم بعده؟ فإذا كان قبل خرابها فهو مُدان بدون أدنى شك، لأنه كان يعلم أهداف الإدارة الأميركية الخبيثة ولم يرفع صوته، ولأنه لم يدع العراقيين المعارضين للعودة إلى العراق كما رجعت بعض القوى العراقية الشريفة المعارضة- إلى وطنها قبل العدوان لتدرأ التقسيم عن العراق وتفتيته. وإذا كان قد عرف ذلك »بعد خرابها« يعني ذلك أيضاً- أن للنظام السابق حسنة واحدة على الأقل (على الرغم من ساديته!!) هو أن العراق كان موحَّداً، وأن تلك السادية كانت تحافظ على وحدة العراق، فجاء الآن من يهددها، ويعمل على تفتيتها ليس على الورق بل على الأرض.

-»إن إثارة النعرات الطائفية مشروع صهيوني قديم «: حسناً أن الكاتب يعي تلك الحقيقة. وهنا نسأله: وهل كان في موقف النظام من الصهيونية ما يجافي الحقيقة؟ وهل إنتاج السلاح العراقي العربي الاستراتيجي، ومنه مفاعل تموز الذي قصفته الطائرات الصهيونية في العام 1980م، ما يستدعي اتهام النظام العراقي بالسادية؟ وهل مساعدة العراق بسخاء- للقوى الوطنية اللبنانية في العام 1975م لمنع تقسيم لبنان، له علاقة بسادية النظام؟ وهنا نسأل: هل إعدام الذي يتعامل مع العدو الصهيوني (الذي يريد أن يبقينا ضعافاً ومفتتين) هو عمل أخلاقي أم عمل سادي؟ وهل كل من كان يتعاون مع أي نظام آخر يريد تفتيت العراق إلاَّ خائن لوحدة العراق؟

لن نعود إلى أزمنة تاريخية بعيدة بل إلى الواقع الراهن في العراق، ونسأل: كم ممن كانوا يطلقون على أنفسهم تسمية المعارضة، وهم من القابعين الآن على كراسي »مجلس الحكم العميل« تحت إمرة بريمر، كم واحد منهم (ممن كان يدَّعي أنه هارب من نظام صدام حسين »الذي يهوى القتل للقتل«) له علاقة بالموساد »الإسرائيلي« ؟

وكم من واحد قابع على كراسي »مجلس الحكم العميل« تحت إمرة بريمر كان يتعاون مع النظام الإيراني الذي كان ولا يزال- يريد العراق مفتتاً وليس موحداً. بل يريد أن يحصل على حصته المذهبية من الشعب العراقي؟

فهل لم يكن عدد من الذين أعدمهم النظام السابق إلاَّ متورطاً في مؤامرة لتفتيت العراق؟ وهل لم يكن الكثيرون منهم إلاَّ هارباً من أجل تلك التهمة: المؤامرة على وحدة العراق أرضاً وشعباً؟

إذا كان هذا هو حال بعض المذهبيين والقوميين والشيوعيين والعلمانيين، فهل بعض العراقيين من الأكراد الانفصاليين أفضل حالاً؟ ألا يستأهل أحد منهم الإعدام على ما تقترفه يداه الآن؟ وهل لا يعلم أحد ما هو تاريخهم وعلاقتهم السابقة مع الصهيونية والاستعمار ونظام الشاه في السابق، ومع النظام الإيراني اللاحق؟

أحسب أنك قرأت تصريحات جلال الطالباني الذي أقرَّ فيها أنه هو الذي احتلَّ حلبجة وسلَّمها بعد خمسة أيام للجيش الإيراني؟ والباقي يمكنك من العودة للاطلاع عليه إلى مصادرها وهي كثيرة.

فإذا كان تفتيت العراق مشروعاً صهيونياً، فهو مشروع أميركي أيضاً، وهو مشروع إيراني سابق ولاحق أيضاً.

-»إن وحدة المصلحة الأمريكية ـ الاسرائيلية، في واحد من أهم مفاصلها، تأتي من الرغبة المشتركة بمنع ظهور أية قوة عربية يمكن أن تشكل محور استقطاب عربي والعراق من أهمها«: أو لا تدري يا عزيزي أن أهم الخطوط الاستراتيجية الأميركية مرسومة قبل احتلال العراق أي منذ أمَّم النظام في العراق الثروة النفطية في العام 1972م- وازداد الحضور العراقي في المخطط الأميركي الخبيث كلما تراكمت خطوات رفض النظام للمصالح الأميركية؟

طبعاً كان العراق، تحت قيادة حزب البعث وصدام حسين، على رأس الاستهدافات الأميركية الصهيونية لمنعه من أن يكون محور استقطاب عربي. ولكن للاستقطابية عوامل وشروط، ومن أهمها أنه يدعو إلى مقاومة الاستعمار والصهيونية والعمل على تحديث البُنية العربية الحضارية والسير بها إلى مصاف الدول المتقدمة صناعياً وعسكرياً وسياسياً، وتلك العوامل والشروط كانت متوفرة في صدام حسين »ورموز نظامه«. وهنا نسأل لماذا لم تتوفَّر تلك العوامل والشروط في غير نظام حزب البعث؟ ففي نظامه ما يخيف المشروع الأميركي الصهيوني. وهل هذا نابع عن سادية وصلف ودموية ورغبة في القتل للقتل؟

ويتابع الكاتب سرد ثوابته الفكرية والسياسية، وهي ليست أقل من ديكتاتورية مقنَّعة، ليرشدنا ويفهمنا أن المقاومة العراقية، منسلخة عن أية مقدمات وإعداد سابقين، وكأنها انطلقت بفعل عصا سحرية، وكأن قانون »العلة والمعلول«، و»قانون السببية« قد فاتهما قطار المعرفة الزمني. وإذا كانت المقاومة عند الكاتب- قد برزت عند العراقيين »ونشأت كرد فعل طبيعي ضد الاحتلال، كتوجه وطني يعبر عن قوة الرغبة في الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية«، فإن صدام حسين ورموز نظامه كما نستنتج من مبررات الموسوي- مفطورون على السادية النفسية فهم كانوا من غير طينة العراقيين.

طبعاً إن الرغبة عند العراقيين طبيعية في الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية. لكن المثير للتساؤل هو التالي: عندما رفض صدام حسين الإملاءات الأميركية قبل الحرب وبعد الاحتلال- هل كان رفضه عبارة عن سادية نفسية؟ وهل كان الرفض إلاَّ نابعاً عن إيمان »صدام حسين ورموز نظامه« بقدسية الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية؟ وهل كانت بعيدة عن الارتباط في قدسية الدفاع عن المصلحة القومية العربية؟

وهل كان المشروع الأميركي مؤسساً بهدف محاربة سادية »صدام حسين ورموز نظامه«؟ ألم يُلفت موقف صدام حسين و»رموز نظامه« -الرافض والمقاوم للحرب والاحتلال- أفهام المصرِّين على تفريغ بعض إزعاجاتهم الذاتية المرتبطة بالتعصب الإيديولوجي السابقة التي يصعب عليهم نفسياً- التخلص منها؟

وكأن الكاتب أنهى مرافعته وأوصلنا إلى النتيجة التي يريد أن يوصلنا إليها من خلال إيحاءاته من دون أن نتابع قراءة الحلقات الثلاث الباقية. فماذا يا تُرى سنجد في محتويات تلك الحلقات. فلنتابع ونرى.

يقسم الموسوي دراسته موقفه من القضيتين الفكريتين التاليتين: »المقاومة العراقية.. الخصائص والمميزات«. و»الشرعية والعدالة.. بين الاحتلال والمقاومة«.

أما بالنسبة للموضوع الأول، فلا نستطيع إلاَّ أن نرفع تحية تقدير للدكتور الحسيني للجهد النظري السليم الذي بذله من أجل تحديد تعريف المقاومة وأهدافها بشكل عام، وهو مما يدخل في فكر المقاومة الشعبية كقيمة نضالية عليا. وينطبق تقديرنا الإيجابي على تحديد الحسيني لخصائص المقاومة العراقية، ونرى من المفيد أن نختصر بعض تلك الجوانب لتعميم الفائدة على من فاتته قراءة دراسة الدكتور الحسيني:

-»فالحرب التي قيل عنها إنها حرب تحرير العراق، ما هي في حقيقتها إلا حرب تحرير إسرائيل من الهم العراقي الذي يشكل تهديداً دائماً لها على اختلاف أنظمة الحكم المختلفة التي تناوبت على السلطة في العراق«. وهنا لا يستثني الحسيني كما هو واضح من العبارة- »صدام حسين ورموز نظامه«، وهذا بلا شك- حكم موضوعي مشكور. وهي شهادة لهما بأنهما لم يكونا سادييْن بالمطلق.

-»إن العراق يمتلك الحق الكامل مثله مثل الولايات المتحدة لامتلاك مثل هذه الأسلحة«، أي أسلحة الدفاع الاستراتيجي. وهنا يقف الحسيني وقفة موضوعية أخرى بتأييده حق امتلاك العراق أسلحة الدفاع الشامل. ولكن العراق في ظل نظام صدام حسين- لم يدافع عن حقه هذا فحسب، بل راح يعمل بالفعل على امتلاكها. (من مفاعل تموز، إلى الصواريخ البعيدة المدى إلى). أما الذي آمن بهذا الحق وراح يضعه على سكة التنفيذ، ومن أجلهما أثار حفيظة الاستعمار والصهيونية، فهو »صدام حسين ورموز نظامه«. وهنا ليس التفصيل بذي فائدة لأن العدو والصديق يعرف تلك الحقائق، ولا يستطيع أن ينكرها.

-إن المقاومة العراقية في مواجهة العدوان قبل احتلال العراق وبعده- كما يرى الكاتب »هي شكل من أشكال الحرب العادلة«. وهي فضيلة موضوعية ثالثة نسجلها للدكتور الحسيني. وهذا ما آمن به »صدام حسين ورموز نظامه« منذ أن انطلقت إشارة التهديد الأولى من المخطط الأميركي الصهيوني. فعدالة الحقوق العراقية والعربية في مواجهة مخطط العدوان كان المحور المركزي لاستراتيجية صدام حسين ورموز نظامه، منذ تأميم النفط والمشاركة الفاعلة في حرب تشرين 1973م، ورفض اتفاقية كامب ديفيد، واستراتيجية الدعوة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر هي التي كانت أهم أشكال الحرب العادلة التي لم يكن يقودها »رئيس سادي، يهوى القتل للقتل« بل »رئيس ونظام يعيان تماماً أهدافهما الاستراتيجية« في العدالة الوطنية والقومية والإنسانية.

أما إذا كان الكاتب يقصد ما له علاقة بالمقاومة الشعبية المسلحة الدائرة بمقدرة وفعالية مميزين، فسيأتي توضيح دور »صدام حسين ورموز نظامه« لاحقاً في هذا الرد.

-إن تعريف المقاوم عند الدكتور الحسيني- جاء بصيغة أجمل ما يمكن التعبير عنه. كما جاء تعريفه لعملاء الاحتلال بالعمق والوعي الذي لا يسعنا إلاَّ أن ننظر إليه بتقدير عالٍ: »تلك المصالح التي يدافع عنها المقاومون بحياتهم، وهي أغلي ما يمكن أن يقدمه الإنسان من تضحيات في سبيلها، مقابل بعض العراقيين الذي باعوا هذه المصالح الوطنية مقابل بعض الامتيازات المادية والوظيفية«. وهو يبدي أساه الشديد من رؤية »القوى السياسية الرئيسية التي كانت تشكل الإطار الأساسي للمعارضة العراقية (المجلس الاسلامي، حزب الدعوة، الحزب الإسلامي العراقي،الحزب الشيوعي)، وهي تغمض عيونها عن هذا القمع والاستهتار بقيم العدل والحرية والديمقراطية، وكيف ترتضي لنفسها ومبادئها أن تتحول إلى مجرد غطاء محلي لتنفيذ سياسة ومخططات الشيطان الأكبر، والإمبريالية«. وهنا لا بُدَّ من أن نلوم نباهة الدكتور الحسيني، وهو العميق الثقافة ويقرأ بشكل جيد الخفايا النفسية، كيف لم يكتشف طوال تجربته مع أولئك »المعارضين« من أنهم غاطسون في العمالة، وإن ما كانوا يظهرونه له ليس إلاَّ الوجه الخادع الذي درَّبتهم على الظهور به، بشكل جيد، أجهزة المخابرات. ويبدو أنه لم يكن قد اكتسب خبرة سياسية إلاَّ ما أظهره له أولئك وغشُّوه بالشعارات الوطنية مستغلين قلة خبرته وهذا السبب الذي يؤكد فيه على أن ما دفعهم للمعارضة لم يكن أكثر من مواجهة نظام قمعي، لم يستطع الكاتب أن يعبر عنه بأكثر من العناوين العامة التي صاغتها أجهزة المخابرات الأميركية وراح الجميع يقومون بتردادها على طريقة »إكذب ثم إكذب حتى تصدق نفسك«.

قال صدام حسين، ومارس على أرض الواقع، وكان يعد نفسه شهيداً بالفعل، ونعى فلذتيْ كبده بعد استشهادهما في معركة ضارية مع قوات الاحتلال الأميركي-كما يمكن أن ينعى أي عراقي آخر وطلَّق حياة الرئاسة والقصور في الوقت الذي كان يمكنه أن يحتفظ بها كلها كما يفعل كثير من الأمراء والملوك- لو رضخ للإملاءات الأميركية والصهيونية. فهو باع كل متاع الدنيا بالاشتراك مع رموز نظامه- من أجل المحافظة على استقلالية القرار الوطني والقومي، وفضلوا على كل المتاع خندق المقاومة والثورة، وحياة الأسر وتكاليفه الشخصية الباهظة الثمن، من أجل أن تبقى مصالح الوطن بأيدٍ وطنية وللمصلحة الوطنية. فهل تلك الصفات تصب في دائرة السادية وحب القتل للقتل؟؟!!

نحن لن نردح بالذين خانوا وطنهم مقابل بعض الامتيازات الوظيفية (وليس أكثر من ذلك) لأن الدكتور الحسيني بوعيه السليم لواقع أولئك، قد أعفانا من التوضيح، فهو يصف أقذر تلك التجارب: »كما حصل في تجارب السماسرة الذين حاولوا أو استفادوا فعلياً من تجربة المعارضة العراقية للنظام السابق«.

ويصب في دائرة وعي دور المقاومة وشرعيتها، والانتصار للمقاومين من دون تردد ما جاء عند الدكتور الحسيني، وحوله يقول: »إن كون المقاومة تمثل السلطة الشرعية الوحيدة في العراق اليوم، حقيقة لا نطلقها جزافاً ولا نقولها خضوعاً لنزعات عاطفية تدفعنا لاشعورياً للوقوف مع أو ضد هذا الطرف أو ذاك. بل هي حقيقة موضوعية أقرها جميع دارسي المفاهيم والقيم الأخلاقية، ومعنى الثورة والثوريين«.

-يجيد الدكتور الحسيني في تحديد خصائص المقاومة العراقية بما يلي: »تقدم المقاومة العراقية نموذجاً فريداً في تاريخ حروب التحرير الشعبية والمقاومات الوطنية، ما يجعلها خالدة على مر العصور بمفرداتها وميزاتها التالية: بسرعة وقوة انطلاقها. بدأت أولى عملياتها بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط بغداد، وهي فترة قياسية مقارنة بانطلاقة أية تجربة مقاومة أخرى«. بالإضافة إلى أنها تبدو يتيمة مجرَّدة من أي دعم، و »التي تنكر لها وتبرأ منها حتى الأشقاء العرب والمسلمين«. بينما توفَّر لكل ثورات العالم »وجود دولة أو مجموعة دول أجنبية لدعم حركة المقاومة، ومدها بالسلاح، والعون المادي، وضمان قواعد خلفية، وأماكن ملاذ آمن، كشرط أساسي من شروط ظهور واستمرار المقاومة«.

يبدأ الحسيني في الرد على مقدماته بنفسه. فحول ما سمَّاه »افتعال صدام حسين للمؤامرات«، ومحبة القتل للقتل، ومع معرفة الدكتور الحسيني أن الإعدامات التي حصلت، علناً وليس سراً (لأن نظام البعث كان يعلنها في وقتها)، بحق هذا أو ذاك، إنما كان سببها كثرة المؤامرات والمتآمرين، بدءًا من شاه إيران مروراً بنظام الثورة الإسلامية وانتهاء بالمخابرات الأميركية والصهيونية، وقد دلَّت أوضاع العديد ممن كانوا ينسبون أنفسهم للمعارضة العراقية أنهم عملاء وجواسيس للخارج، وقد أصدر الحسيني حكمه عليهم -من دون أن يدري- وذلك استناداً إلى ما جاء في مرافعته النظرية (وهي بلا شك مبدأية وقانونية وشرعية) عندما قال: إن »الالتزام بالاستقلال وسيادة الدولة كأساس لكل الالتزامات الوطنية للأفراد أو الجماعات لا تقبل أي التواءات على المفهوم يمكن أن يمارسها هذا الطرف أو ذاك لتبرير مواقفه الخيانية أو النفعية أو تلك المثيرة للريبة«. كما أقرَّ بأن الأمن الوطني للدولة هو من أولوياتها، وواجب عليها أن تقوم به »تحت أي ظرف وبكل ما يتطلبه هذا الدعم من إمكانات وتضحيات وإن الحفاظ على المصلحة الوطنية والأمن الوطني هي نفسها الأسس التي حاولت إدارة بوش أن تصنع منها التبريرات المناسبة لتسويغ العدوان علي العراق«.

وحول ذلك لا يخفى على الدكتور الحسيني بمواقفه النبيلة من المقاومة العراقية، حتى ولا على غيره ممن يدينون المقاومة ويعملون على محاربتها والقضاء عليها، أن المروِّجين لما يسمونها جرائم قام نظام البعث بها هم أجداد وآباء وأخوة الكثيرين ممن اكتشفهم الجميع بعد فوات الأوان- أنهم كانوا من الجواسيس والمتآمرين على أمن الدولة العراقية وسيادتها بالتعاون مع شتى أنواع المخابرات الأجنبية.

فمن وقع في مستنقع الخيانة، الآن كما في السابق، هو مدان ويستحق الحكم عليه بالقوانين ذات العلاقة بأمن الدولة الوطنية. وليس ما فعله نظام البعث بخارج عن المألوف وإنما ينطبق على الشرائع القيمية التي تطبقها كل الدول التي تحترم سيادتها، ولم تخرج الولايات المتحدة الأميركية عن السياق ذاته، فهي قامت بالحرب ضد العراق كما يقول الحسيني بنفسه- تحت ذريعة الحفاظ على سيادتها وعلى أمنها الوطني بحيث روَّجت أن نظام البعث هو الذي يهدد ذلك الأمن.

يتابع الحسيني عرض الأسس، التي بناء عليها يحكم على هذا المواطن بالخيانة الوطنية أو الدفاع عن السيادة الوطنية، فيقول:

-»المواطن الصالح، مهما كان موقعه الاجتماعي أو السياسي ملزم قانوناً بعدم الإخلال بأساسيات المصلحة الوطنية والأمن الوطني، وبعكسه يتعرض للمحاسبة القانونية«. أما السلوكات التي تؤدي إلى الإدانة بالخيانة، فهي كما يعددها الحسيني: »تقديم معلومات لدولة أو منظمة في حالة حرب أو تخطط لحرب أو عدوان على البلد. و تقديم أي شكل من أشكال المساعدة لقوات دولة في حالة حرب مع البلد.، التعاون مع قوات محتلة«. و»الخيانة واحدة.. ولا تقبل تفسيراً ولا تتحمل تبريراً. والموقف الوطني واحد ولا يبرره معارضة حكم دكتاتوري«.

ولكي لا تشكِّل بعض الأخطاء كما نرى- التي كانت تُرتَكب من قبل أجهزة النظام قاعدة لمحاكمة النظام بأكمله، فيضيع الوجه الإيجابي ويُمحى، ويتحول النظام فيه إلى كتلة من السادية، كان يمكن للمعارضة العراقية الصادقة أن تعمل كما يرى الحسيني ونؤيده في رؤيته- من أجل المصلحة الوطنية على قاعدة أن »تظهر التزاماً بالمصلحة الوطنية، بشكل أفضل مما يحققه النظام القائم«. أما الذي حصل كما أثبت الواقع- فهو العكس تماماً حيث خرجت فيه قوى وأحزاب من الوطنيين إلى خارج العراق بذريعة حفظ حياتها وحريتها، وهذا ما عمَّق الخلاف بينها وبين النظام الحاكم، خاصة وأن شرائح واسعة من بينها تغطت برداء المعارضة العريض، وراحت تمارس الخيانة بأقذع صورها مع أجهزة المخابرات الخارجية. ولا يفوت اللبيب إمكانية تحديد الكثير منها. وقد عددها الدكتور الحسيني في دراسته.

ومن الأكاذيب الكبرى، التي حاول البعض استغفالنا بنشرها، هي أن عدد المعارضين العراقيين المهاجرين إلى الخارج بلغ خمسة ملايين معارض!! وهذا ما يثير الدهشة والاستغراب، وهو ما يدفع إلى التساؤل التالي: إذا كان هذا هو عدد المعارضين فعلاً، وهم من الذين هاجروا أو طلبوا اللجوء السياسي خوفاً من »نزعة القتل للقتل« الذي كما يحسب الحسيني- أن نظام البعث في العراق كان يتميز بها، فهل بمقدور قوة على الأرض أن تقوم بقتل كل أولئك المعارضين؟ وإذا كان النظام سيقوم بسجن خمسة ملايين معارض هل بإمكانه أن يوفر السجون الكافية لحبسهم فيها؟!! وإذا كان هذا هو عدد المعارضين، أي ما يشكل 50% من عدد العراقيين البالغين الواعين الذين لديهم الكره الكافي لنظام البعث، وعجزوا عن قلب النظام على رؤوس أصحابه، فهم بلا شك ممن لا يستأهلون الحرية. وإذا كانت بضع من فلول »نظام البعث« قد أوقعت قوات الغزو الأميركي في أكبر مأزق في تاريخها، فهل لا يكفي خمسة ملايين من المعارضين لوضع »النظام السابق« في مأزق أكبر بكثير من المأزق الأميركي؟!!

إتقوا الله يا ناس، وتكلموا »كلام المجانين« حتى يستطيع »عاقل« أن يصدِّق!!!

إن المعارض الصادق، الذي لا يريد أن يمارس اللعبة الديموقراطية على جثة وطنه، قد بان واضحاً. وهو لما حان وقت العدوان على العراق، أخذت بعض القوى الوطنية من المعارضين يراجعون حساباتهم، وحضر وفد من بعض تنظيماتهم إلى العراق، في تشرين الثاني من العام 2002م، ووقعوا فيه على اتفاق بعد أن خرجوا من الاجتماعات المشتركة مع السلطة العراقية متوافقين على عدد من المبادئ التي تنظم العلاقة بين المعارضة والنظام. ويكون أولئك قد سلكوا طريق المعارضة الشرعي والمعترف به، ونالوا الاحترام والتأييد من الشرفاء من غير القوى المعارضة التي تلوَّثت بالعمالة والتجسس للأجنبي. ويمكن للدكتور الحسيني أن يتأكد من تلك الوقائع من الأوساط المعنية والتي هي غير مجهولة لديه.

وهنا لا بُدَّ من تعليل أسباب تعميق الهوة بين نظام البعث والمعارضة العراقية، وهي الأسباب التي نحسب أنها قادت النظام إلى الوقوع في أخطاء تجاوزت الحق الديموقراطي للمعارضة الوطنية، والمقصود بها تلك التي تغلِّب أولوية المصلحة الوطنية والأمن الوطني على ما عداها من المهمات الأخرى، هو أن خروج معظم القوى ذات التأثير الفاعل إلى الخارج، وهناك ضاعت الخطوط والحواجز بين المعارضين الوطنيين والمعارضين الجواسيس، فأصبح من الصعب إذا لم يكن من المستحيل- أن تفرز أجهزة المخابرات العراقية التابعة للنظام بين الوطني والجاسوس، واستمرت حالة الضياع تلك إلى أن أصبح الفرز واضحاً بعد الاتفاق بين النظام والبعض من قوى المعارضة والتي أشرنا إليها أعلاه.

وإذا كان لدى البعض أمثلة معاكسة فإنما بأتي في إطار التفاصيل وليس في الإطار العام، ومتى تم التوافق على الإطار العام يمكن السيطرة على الأخطاء التفصيلية على قاعدة الحوار الإيجابي البعيد عن التوتر والاستفزاز وإثارة المخاوف في جو متلبد مملوء بالمؤامرات التي ثبت أنها ليست وهمية كما وصفها الدكتور الحسيني- بل كانت أكثر من حقيقية وأكثر من مخيفة على الأمن الوطني والسيادة الوطنية.

يمهِّد الدكتور الحسيني في معرض كلامه عن أساليب الاحتلال لمواجهة المقاومة- لوصف تأثير الحرب النفسية، قائلاً: »تلجأ سلطات الاحتلال عادة، لمجموعة من العمليات العسكرية المدعومة بحملة دعاية ممنهجة ومنظمة لتشويه المفاهيم والحقائق الجارية على الارض، وبما يندرج تحت مفهوم الحرب النفسية وعملية غسيل الدماغ«. وهو إذ يشير إلى معالجة دورها السلبي في أثناء الاحتلال، فهو يكون قد نظر إلى نصف المخطط النفسي الإعلامي الخاص بمرحلة ما بعد الاحتلال، ولكنه يغفل نصف المخطط الخاص بمرحلة ما قبل الحرب والاحتلال. وحول ذلك سنعمل على استكمال النقص، فنشير إلى أنه جاء في إحدى توصيات أصحاب المشروع الأميركي كما أوردته جريدة القدس العربي (أواسط تموز / يوليو 2003م)- ما يلي: »من الضروري أن تركز أجهزة الإعلام، وخاصة الفضائيات وكُتّاب المقالات والتعليقات، على الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين، بشكل يومي، وتكرار التعليق على المقابر الجماعية وضحايا الأسلحة الكيماوية، وعلى أحداث القتل والاعدامات والتحكم الفردي بمقدرات العراق، دون نسيان الحديث عن القصور الفخمة والبذخ والاسراف، وذلك من أجل صرف النظر عن الاحتلال الأميركي«.

لم يكن الإعلام الأميركي المبرمج مسبقاً- موجهاً إلى غسل أدمغة العراقيين من أجل خلق فجوة بينهم وبين المقاومة فحسب، بل غسل أدمغتهم من القناعة بأي فائدة أو جدوى من النظام السابق أيضاً، ولذلك عمل على تكبير صورة الأخطاء العادية، واختلاق أسباب وصور لم تكن في ذاكرة العراقي الذي يعيش في العراق أبداً، فالعراقي بشكل عام- لم يكن على علاقة عداء مع نظامه الحاكم و إلاَّ لما وزَّع النظام ملايين البنادق على الشعب (وتقدر قوات الاحتلال أن عددها بلغ الخمسين مليون قطعة سلاح، أي أن ذلك يعني أن لكل عراقي ثلاث قطع من السلاح).

أما النصف الثاني من مخطط الحرب النفسية، أي لما هو مخطط له بعد الاحتلال، فنحن لا نستطيع إلاَّ أن نثمِّن العمق الذي عالج فيه الحسيني هذا الجانب. ولكن نشير إلى أنه يقلل أحياناً من عمق تحليله بإشاراته الواضحة إلى ما يسميه النظام القمعي لصدام حسين من حين إلى آخر بطريقة لا توحي بالترابط المنطقي بين الفكرة التي يركِّز عليها وبين الإيحاءات المذكورة- وهي عبارات واضحة الخلفية الإيديولوجية أو الموقف الشخصي.

أما حول موضوع المقاومة، التي يحسب الدكتور الحسيني أنها نشأت من لا شيء، أي بقوة سحرية خفية، وهي محاولة يسلكها الكثير ممن عندهم غرض أو وطر إيديولوجي- لتجهيل ما هو واضح ومعروف حول الإعداد لها قبل العدوان والاحتلال بسنين طويلة. وموضوع التجهيل مقصود به إغفال أي دور لصدام حسين وحزب البعث. وقد تمسَّك البعض، ومنهم الدكتور الحسيني، في إغفال دور صدام حسين وحزب البعث بسبب أن العراقيين سينفضُّون من حول المقاومة إذا عرفوا أنها تنتسب إلى البعثيين. وهو استغفال وليس غفلة، فلأكثر من طرف مصلحة في تجهيل المعلوم بنسبة المقاومة إلى حزب البعث، أي بمعنى الإعداد لها منذ زمن طويل بالتربية الفكرية والإيديولوجية والتدريب والتسليح

إن كلامنا حول هذا الجانب، وكما هو راسخ في قناعة البعثيين العراقيين من خلال بيانات قيادة قطر العراق (التي بلغت حتى الآن- خمسة وأربعين بياناً سياسياً عدا المنهج السياسي الاستراتيجي) أنهم يريدون بناء تجربة جبهوية مقاتلة أنموذجية تضم كل العراقيين، بأحزابهم وتنظيماتهم وقواهم وأفرادهم، علمانيين وقوميين وإسلاميين، عرباً وكرداً وأشوريين سنة وشيعة، وعلى قاعدة دحر الاحتلال كما قال الرئيس صدام حسين في رسالته الأولى بتاريخ 28 / 4 / 2003م يخاطب العراقيين قائلاً: »انسوا كل شيء، وقاوموا الاحتلال، فالخطيئة تبدأ عندما تكون هناك أولويات غير المحتل وطرده«. ويقول في رسالته، بتاريخ 7/ 5/ 2003م: »وحين يكون هناك وقت ومكان لمراجعة التجربة (أي تجربة حزب البعث قبل احتلال العراق) سنفعل بروح ديمقراطية لا تخضع لأجنبي أو صهيوني«.

وهذا ما يؤيده الدكتور الحسيني، وهو في الوقت الذي يظهر فيه رأيه السلبي بنظام حزب البعث، يجيب بنفسه عن ضرورة الابتعاد عن كل ما يعيق هدف التحرير، قائلاَ: »فلا هدف يمكن أن يرتقي فوق هدف التحرير وتحقيق الاستقلال الكامل، وآي خلافات أخرى ستصبح ثانوية جداً أمام التحرير وهي متروكة للغد الحر الكفيل بحلها ضمن أطر سياسية وطنية مستقلة«.

لو كلَّف الدكتور الحسيني نفسه بالقليل من العناء، وهو الذي لا تخفى على القارئ كفاءته الأكاديمية، لقام بالبحث -على قاعدة »السببية«- عن تأصيل أشرف ظاهرة للمقاومة يعرفها التاريخ العالمي (وهو يعتز بها من خلال دراسته) ومعرفة مقدماتها وواقعها، لأن نتائج باهرة كما أكدت نضالات المقاومة العراقية- لا يمكن إلاَّ أن تكون ذات مقدمات لا تقل إتقاناً عن نتائجها. أما الخلل في ابتعاده عن البحث، أو فلنقل تجنبه الخوض فيه، ليس أبعد من ضعف نفسي هو الأدرى بأسسه وأسبابه. وطمعاً منا بإخلاصه وصدقيته وحماسه لنضالات شعبه العراقي، وشعبنا نحن الذي نعتز به، أن يعطي موضوعياً القليل من جهده ليرى نفسه أنه قد وجد نفسه كبيراً وكبيراً جداً بأن هناك إيديولوجيا تحررية نضالية قادها حزب عراقي بأعماق قومية عربية علَّقت على صدورنا، وعلى صدر الدكتور الحسيني، وسام ريادة الثورة العالمية المعاصرة ضد أقذر مشروع أمبريالي تقوده إدارة جورج بوش الصغير معبراً عن كل أنواع التطرف القومي والديني والطبقي.

إن نظرة موضوعية تجعل الدكتور الحسيني يبتعد حتى عن »تصوير المقاومة على أنها مجموعة من الموالين للنظام السابق، أو مجموعة من المرتزقة الذين ينتقمون من قوات الاحتلال بسبب فقدانهم لامتيازاتهم التي كان ينعمون بها أبان العهد السابق«، إلى الإيمان بأن هؤلاء ليسوا قلة تحابي شخصاً فرداً، ولا هذا الشخص الفرد هو فردي بل هو ينطق باسم رسالة للتحرر والانعتاق ووضع نفسه بروحه ونضاله وآلامه- في خدمة مجتمعه العراقي وأمته العربية. وإن أولئك ليسوا قلة تدافع عن امتيازاتها، بل هم كثرة تؤمن برسالة سامية لا تقل على الإطلاق- عن رؤية الحسيني النظرية بسموها وقيمتها.

وإذا كان الحسيني يرفض أن يجرد الاحتلال »المقاومة (العراقية) من صفتها الوطنية، ومثلها الأخلاقية العليا، وإيمانها بالعدالة والاستقلال والإنسانية«، ضنَّاً بالقيم الإنسانية السامية فنحن ندعو الحسيني بدورنا، ورحمة بتلك القيم، أن لا يجرد الظواهر والقضايا العظيمة ويفصلها عن صانعيها. فالمقاومة الوطنية العراقية هي من صنع حزب البعث تحت قيادة صدام حسين وليس غيره على الإطلاق. لا نقول هذا من أي منطلق تعصبي لأنني وليعلم الدكتور الحسيني- أن أحكامنا تلك مبنية وموثقة على أسس أكاديمية صارمة، وإذا أراد الاطلاع والتوضيح فيمكنه الحصول على عنواني البريدي لنكون على اتصال مباشر، وإذا أراد متابعة الحوار العلني فأحسب أنه سينتج الكثير من الفائدة لمصلحة حفظ حقوق القيم الإنسانية من جانب، وحقوق العاملين في حقلها من جانب آخر. فتأييدك للقيم العليا وتجاهلك للذين يخدمون في رحابها ومعابدها والمدافعين عنها والحاملين لواءها يشوبه النقص ويكون موسوماً بالظلم واللاعدالة. فالوطنية كقيمة إنسانية- ليست منفصلة عن العاملين من أجل تكريسها، ومقاومة الاحتلال كقيمة عليا- ليست معنى منفصلاً عن المقاومين. وإذا كان من فضيلة للوطنية أو للمقاومة فهي لا تنفصل عن فضيلة الوطنيين والمقاومين. وكل هؤلاء ليسوا رموزاً مجردين، بل هم من لحم ودم وعظم. وإذا جردت القضية عن صانعيها فكأنك تجرد القيمة العليا عن قيمتها. فليس من العدالة أن تنسب العدل إلى غير أهله، وليس من الفضيلة أن تنسب الوطنية إلى غير أشخاص بشر، ولا أن تنسب المقاومة إلى غير أبطال يضحون ويتعبون ويقدمون، يتألمون ويُجرحون، ويُسجنون ويستشهدون. فمن هم أولئك البشر، أريد جواباً ينبع من الضمير؟

إن تجريد حركات المقاومة من سماتها الوطنية يقول الحسيني- و»نسبتها لتجمعات أو عصابات أجنبية، يمثل منهجاً استعمارياً عاماً، لا تختص وتنفرد به حملات التضليل الأمريكية فقط«. ونحن نقول حبذا لو تابع استنتاجاته حول المقاومة العراقية على القاعدة المنطقية ذاتها التي يدعو الاستعمار إلى التحلي بها، لكان وفَّر على نفسه وعلينا عبء الإشارة إلى هذه الثغرة ولفت الانتباه إليها. لأنه هو نفسه جرَّدها من أية هوية لها صفة عملية وواقعية. وحصل هذا التجهيل من دون ما يبرره. لا يكفي أن ننسب المقاومة إلى محبة العراقيين وعشقهم لها، لأنها ليست بحاجة إلى إيمان ومحبة فحسب، وإنما هي بحاجة إلى عدد من النخبة من الرجال ومواصفات أخرى من التدريب، وإمكانيات فعلية من التسليح المناسب. فلانطلاق المقاومة إذاً- شروط لا يمكنها أن تصبح مقاومة فعلية إلا إذا كانت تلك الشروط متوفرة. وللسرعة في انطلاقتها شروط أخرى يأتي على رأسها الاعداد المسبق، ولما انطلقت المقاومة الشعبية العرقية السرية في العاشر من نيسان من العام 2003م، أي لم يكن هناك مسافة زمنية بين انتهاء الحرب النظامية وبداية الحرب الشعبية، لا يمكن أن يكون هذا الانتقال السريع جداً إلاَّ بناء لإعداد مسبق سبق الاحتلال بسنوات عديدة. وإذا كانت المعارضة الوطنية مهاجرة في الخارج، وإذا كانت التنظيمات الإسلامية لم يكن لها تصورات سابقة عن تلك المقاومة (وهي قد اعترفت بذلك)، فلا شك بأن هناك من كان يضع احتمالات الاحتلال، ومقتنع بأهمية الحرب الشعبية كبديل للحرب النظامية، فراح يعد إمكانيات حرب طويلة الأمد (خاصة وقد أثبتت الوقائع أن الرجال المدربين هم بعشرات الآلاف، والسلاح المناسب للحرب الشعبية كان معداً بالكميات الكبيرة، وهو موزَّع على آلاف المستودعات الصغيرة المنتشرة في كل مناطق العراق).

لم يكن الذي أعدَّ كل تلك المستلزمات هو من النكرات، أو الذي من الممكن أن يثير مخاوف أحد إلاَّ ما تقتضيه الإيحاءات غير الموضوعية- وهو لن يكون إلاَّ كما قال أحد المعارضين السابقين للنظام البعثي: مهما كانت هوية الذي أعدَّ للمقاومة العراقية وهوية من يقودها لأن الشعب العراقي والشعب العربي سيبقى مديناً له لقرون عديدة قادمة.

وبالإجمال، من اللا موضوعية ومن اللا عدالة، بل ومن الظلم الفاحش، أن يتم تجهيل تلك الجهة تحت أية ذريعة كانت. وهل علينا أن نقولها بالسر وبصوت خافت أن الذي أعدها وقادها هو حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة صدام حسين؟

لا والله يقتضي الجميل علينا، وكي لا تغيب جرأة الاعتراف، أو الشجاعة الأدبية بالاعتراف أن نعلن بالفم الملآن أن صدام حسين هو ذلك القائد، وأن حزب البعث هو صاحب تلك الرسالة. وهل على الشعوب الأخرى أن تكون أكثر منا عرفاناً بجميل قادتها التاريخيين، وأن تكون الشعوب الأخرى أكثر نبلاً منا؟

لماذا أصبح لينين القائد التاريخي للثورة البلشفية والجنرال جياب رمزاً للثورة الفيتنامية، وفيدال كاسترو رمزاً للثورة الكوبية، وتشي غيفارا رمزاُ لثورة أميركا الجنوبية، وماو تسي تونغ رمزاً للثورة الصينية، وغاندي ثوراً للثورة الهندية. فهل كل شعوب الأرض من النبلاء والعارفين للجميل، بينما نحن نكون من ناكري الجميل وتجريد معارك الحق عن أصحابها، والمجردين لأبطالنا في حقهم من الرمزية، ونمارس ذلك بناء لسادية هذا أو ذاك من ال3رضى بالفصام النفسي، الذين يريدون أن يفصلواً تعسفياً بين القضايا الكبرى وصانعيها؟

من المؤسف أن الدكتور الحسيني، بعد أن ينتهي من القسم النظري الذي يستهلك الجزء الأكبر، ينهي دراسته بخاتمة بعيدة كل البعد عن القسم النظري، وكأن هناك انفصام واضح بين رؤية الحسيني النظرية ورؤيته العملية. وهنا، وبقصد التلوين في ردنا على دراسته نشير في موقع هجومه على الخداع في شعارات الاحتلال ومحاولته إظهار نفسه بأنه نجح في إتمام إنجازات باهرة في العراق- إلى أن الحسيني لا ينسى بعد أن أثبت كفاءته النظرية السليمة- أنه قد عاد لممارسة حالة الانفصام بين النظري والعملي عنده من خلال تذكيرنا (وبفكاهة لم نكن من الذين يستسيغونها عند أصحاب الذوق النظري السليم) بأن هناك تشابهاً بين خداع الاحتلال ونظام »صدام حسين« وهو يعبِّر عنه قائلاً: »وهو تقدم لا يختلف كثيراً عن الإنجازات التقدمية التي ظل يرددها صدام حسين وطيلة 35 سنة في كونه علَّم العراقيين أن يلبسوا النعال (نوع من الأحذية الخفيفة) «.

فإذا كانت تلك هي الموضوعية عند أصحاب النظر السليم، فكيف يكون الأمر عندما من أصيبوا بالعمى النظري، ويعجزون عن رؤية العمل بأعين سليمة من الحول.

من المؤسف أن يتحول آلاف العلماء الذين أعدَّهم العراق في عهد صدام حسين، الذين تفخر بهم الأمة، إلى حذاء عند سليمي النظر. ومن المؤسف أن العملاء يقومون بتصفية العلماء بشتى الوسائل والسبل المادية بينما يقوم آخرون بتصفيتهم المعنوية.

وهل مفاعل تموز الذي أقلق الصهيونية ولم يغف لها جفن إلاَّ بعد أن قصفته وقامت بتدمير أجزاء كبيرة منه؟ وهل مئات الجامعات ومراكز الأبحاث التي نهبها العملاء وصدَّروا تجهيزاتها إلى إيران هي من نوع النعال؟

وهل كل البنى التحتية، التي مثَّلت ثورة نوعية في نقل العراق من عصر التخلف والفقر إلى مستوى الدول المتقدمة؟ وهل خريجو الجامعات من شتى صنوف الاختصاص والذين يُعدون بمئات الآلاف هم من صنف تعلم لبس النعال؟

وهل الدكتور الحسيني، وعشرات الآلاف غيره، الذين تغطوا تحت رداء المعارضة، قد تعلموا خارج الجامعات العراقية؟

ماذا نقول بالرد حول اختزال الدكتور الحسيني لكل المتغيرات التقدمية التي حصلت في العراق في نكتة لم تضحكنا ولكنها زرعت الخنجر في قلوبنا بأن تُنتهك الحقيقة وتسام بشتى أنواع التزوير؟

لقد سمعت أحد الكتَّاب العرب يقول بأنه قد صاغ مجلَّدين بكاملهما لوصف إنجازات المشروع النهضوي القومي العربي في العراق منذ ثورة تموز في العام 1968م، ولم يكتمل مشروع بحثه حتى الآن. فيا لشدة تعاسة ذلك الباحث العربي الكريم عندما سيرى جهده البحثي قد ضاع سدى، لأنه كان غافلاً ولم يكتشف أن أحد الباحثين العراقيين قد لخَّص تلك الإنجازات بسطر واحد تحت عنوان أن المشروع النهضوي العربي ليس أكثر من أن صدام حسين ظل يفتخر »طيلة 35 سنة في كونه علَّم العراقيين أن يلبسوا النعال «. وأسفاه عليك يا صدام حسين كم كنت تعاني من حول خصومك وتعاميهم عن الحقيقة وكرههم لها. وأسفاه عليك أيها الباحث العربي الكبير فقد كتبت آلاف الصفحات عن ذلك المشروع، والذي قلت كنتائج وصلت إليها- بأن المشروع الأميركي لم يكن له غاية من احتلال العراق إلاَّ القضاء على المشروع الذي بناه صدام حسين. وهل أتى الأميركيون إلى العراق طمعاً بإعادة »عصر تعليم العراقيين لبس النعال« إلى ما قبل العصري الصناعي؟ وهل تستأهل عدة نعال أن يبذل الأميركيون من أجلها أن يصرفوا مئات المليارات من الدولارات للقضاء عليها؟

أيتها الحقيقة إصفحي عنا، ونقبل قدميك ونعتذر إليك عن إساءات البعض من قومنا التي طعنتك في الصميم.

يبدو أن الدكتور الحسيني خفيف الظل يلتقط النقاط المجهرية التي يستخدمها رسَّام الكاريكاتير. فإذا كان هذا الأسلوب هو للترويح عن النفس إلاَّ أنه لا يتناسب مع عمق ثقافة الدكتور الحسيني وإطلالته الوطنية الصادقة نظرياً والفاشلة عملياً.

ولولا بعض ما أثار إعجابنا في البعد النظري عند الحسيني ووضوح هذا البعد لوجهنا أكثر من اللوم إليه ضد ما أنهى به دراسته، ومن دون تعليق عليها نلفت النظر إلى المقارنات التي يقوم بها بين أفعال الاحتلال وأفعال نظام البعث، وحول ذلك يقول:

-» لو وضعنا توقيع صدام حسين عليها بدلاً من توقيع بريمر« .

-»هي أعنف، وأشد قسوة مقارنة بعمليات المداهمة التي كانت تنفذها أجهزة أمن النظام السابق«.

-»ينتهكونها الآن بشكل لا يختلف، إن لم يكن أشد قسوة وعنفاً مما كان يمارسها النظام الدكتاتوري السابق«.

-»فهي تبرئ بشكــــل واضح كل ممارسات النظام السابق... وصدام حسين كان يمارس نفس الأساليب للقضاء علي المعارضة، «.

-»ما هو مرفوض من الممارسات القمعية لصدام أو غيرها، مرفوض أيضاً عندما تعتمدها قوى الاحتلال أو غيرها«.

-»إن سلطة الاحتلال غير معنية عملياً بالانتقام من صدام ومؤيديه، بالعكس انها توفر الحماية لصدام وهو يمتلك الحق في استعادة قصوره وأرصدته المالية. ويغادر للعيش في اي بلد مقابل تقديم تعهد شرف بعدم الوقوف ضد الامريكان. «

-»صدام ليس موضوعاً لحقد وانتقام سلطة الاحتلال، بل هو العراق وشعبه، وقمع صدام واضطهاده لشعبه كان غطاء لخداع العراقيين، أدى وظيفته، وانتهى«.

إن بعض نماذج ما أنهى به الدكتور الحسيني هجومه الظالم، ولن نقول الهجوم الظالم الغشيم، فلو كان الأمر كذلك لغفرنا له لأنه لا يعلم ماذا يفعل، فتسقط ساعتئذ أحكام الحد عليه ويُمنح الأسباب التخفيفية لأن ظلمه صادر عن »غشيم«، بل هو ليس كذلك، لأنه يعلم ماذا يفعل، ولهذا لا نطلب من أبينا أن يغفر له لأنه يعلم ماذا يفعل.

وأخيراً، ومما يدخل في باب نقدنا، نستحلف الدكتور الحسيني بالله إذا كان سيبقى ثابتاً على قناعته التي يدِّونها في دراسته عندما يقول: »وفي أي دولة من دول العالم، فإن المتمسكين بالمصلحة الوطنية والمدافعين عنها هم المؤهلون عرفاً وشرعاً لمسك القوة أو الحكم في البلد، لا أولئك الذين يغلبون مصالحهم أو مصالح دولة أخرى عليها. «

فهل المقاومون هم من المدافعين عن المصلحة الوطنية؟ يقول الحسيني: نعم، لأنهم يضحون بأغلى ما لديهم من أجل تلك المصلحة.

وهل يبقى ثابتاً على قوله النظري: بأن الذي يقاوم هو الذي يحكم البلد؟ نعم هو يقر بذلك، وقد سجَّله باسمه، ولا مفر من التهرب. وهنا نلقي عليه اليمين بأن يبقى ثابتاً على قوله. ولن نسامحه على الإطلاق- إذا لم يبايع صدام حسين وحزب البعث أولاً، لأن الوقائع التي لا شك فيها تؤكد على أنهم لا يقاومون فحسب، بل إنهم أعدوا لتلك المقاومة كل أساب نجاحها. وإذا كان الحسيني يطلب مهلة لكي يطمئن قلبه فله تلك المهلة. وإذا كان للحزب الحصة الكبرى في الدفاع عن المصلحة الوطنية، وله الحصة الكبرى في مقاومة الاحتلال، لا يعني ذلك أن ليس للآخرين دور، بل لكثير من الفصائل: القومية والعلمانية والإسلامية والشيوعية سهم أو أكثر في ممارسة الجهد العسكري أو السياسي أو الإعلامي مما يمنحهم الحق أيضاً- في المشاركة بالحكم، وهو حق لهم بامتياز نالوه بكفاءة وشرف وتضحية.

في بعض نتائج البحث العامة:

ما يلفت النظر في دراسة الكاتب أنه يضع القارئ في حيرة من تحديد موقفه بشكل واضح، فتراه في مقدمة الدراسة وفي نهايتها يتسِّم منهجه بالهجومية والعدائية ضد نظام البعث في العراق على قاعدة عناوين عريضة وفضفاضة، فإذا به من خلال متن البحث يظهر كباحث يستوعب الأسس المبدأية والنظرية حول القضايا السياسية ذات العلاقة بمقاومة الاحتلال. وهو يطرحها بشكل لافت لسعة ثقافته وعمقها وموضوعيتها.

إن التجاذب عند الدكتور الحسيني بين منهجين: سياسي وفكري حول قضية واحدة يجعل القارئ عاجزاً عن التقاط الترابط بين المنهجين. فما هو سياسي يتَّسم بالانحياز وردات الفعل الإيديولوجية، وما هو فكري يتَّسم بالموضوعية والترابط المنطقي. وتبدأ المشكلة عند القارئ عندما يحاول أن يربط بين المنهجين ليحدد الموقف الحقيقي للكاتب، فلا يُوفَّق بل تتجاذبه نتائج متناقضة ومتفاوتة في المعالجة، ويلمس كأن الكاتب يهرب من العبء الإيديولوجي للتخفيف من حدته ووضوحه وتعصبه إلى الاحتماء بموضوعية ثقافته النظرية.

إن ما نلاحظه عند الكاتب يدل على وجود أزمة ثقافية عامة عند معظم المثقفين العرب، ومن خلال تجربتنا نعبِّر عن تلك الأزمة بإشكالية عامة ونظرية هي حالة الانفصال أو الفصل التعسفي بين القضايا الفكرية والسياسية الكبرى وصانعيها السياسيين.

فكانت لنا فرصة من خلال تقييم ونقد الدراسة التي أعدَّها الدكتور موسى الحسيني لكي نبحث عن تلك الإشكالية وتحديد أصولها وتفسير انتشارها بين معظم المثقفين العرب، وبالتالي الخروج بجملة من الاقتراحات التي قد تفيد في معالجة منهج معرفي يتبيَّن فيه وجه الخطأ.

إن تاريخ ميلاد الكاتب لا يوحي بأنه اكتسب تجربة سياسية معمَّقة، وقد تكون نشأته في بيئة بعيدة عن المدن قد أبعدته عن العمل السياسي، أو الحزبي، خاصة وأن الفترة الزمنية الدراسة التي أوصلته إلى حيازة الدكتوراه تكون قد استهلكت معظم أوقاته، وما أن استقرَّت أوضاعه الدراسية حتى أخذ يعايش عدة من الأزمات التي كان يواجهها نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.

إن مرحلة السبعينيات، وهي المرحلة التي نحسب أن وعي الكاتب السياسي أخذ يشق طريقه فيها نحو التكوين، كانت تشكل بالنسبة للنظام- مرحلة التراكم في المسؤوليات ومواجهة المؤامرات الخارجية، ومن أكثرها لفتاً للنظر الحرب العراقية الإيرانية بما أفرزته من تيارات دينية سياسية عراقية بشكل خاص، مترافقة مع مرحلة استنهاض تلك الحركات في الوطن العربي بشكل عام. وبها، وبعد أن انسحب الشيوعيون من الجبهة الوطنية في العراق، ومن بعد أن قوي تيار المعارضة الكردية للنظام متغذية من الحرب العراقية الإيرانية ومستقوية بالخارج الإيراني، كلها عوامل أدَّت إلى اعتزال كل أنواع المعارضات عن دورها الشرعي المتعارف عليه في التجارب العالمية. وأخذت تشق طريقاً جديداً من حيث الهجرة إلى الخارج الإقليمي أولاً، ومن ثم انتشارها إلى المحيط الخارجي الأجنبي ثانياً. وبمثل ذلك التطور استغلت المخابرات الأجنبية (أميركية وبريطانية وصهيونية وإيرانية) تفشي تلك الظاهرة، واستخدمتها من أجل تصفية الحسابات مع نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.

لا يتَّضح من خلال المعالجات التي يقدمها الكاتب أية هوية سياسية ينتسب إليها. وإنما نستنتج من خلال ما تتضمنه دراسته من بعض الإشارات إلى أنه فعلاً لا ينتسب إلى أية هوية سوى أنه وجد نفسه في بيئة عراقية معارضة تمتلك الشعارات العامة الفضفاضة. فانفعل بها، وصدَّقها من دون تعمق أو إثبات، فانخرط منبهراً بتلك الشعارات- في خندق المعارضة للنظام. وابتدأت رحلة المحاباة والمجاملة عنده، وراح يراهن على أن زملاءه المعارضين سوف لن ينسوه في عراق سيتسلمون قيادته. وبعد أن حصل الاحتلال، ظناً منه أنه سيترك العراق للعراقيين أخذ يكشف عن أهدافه الحقيقية في البقاء والنية في حكم العراق مباشرة، فأخذت آماله تتقلص وأحلامه تضمر، وازدادت التوترات عنده كلما طال زمن تحقيق الحلم. فإذا بزملائه من المعارضين (قوميين وشيوعيين وإسلاميين) ينخرطون في ورشة مساعدة الاحتلال في البقاء لقاء وضعهم في وظائف إدارية يأتمرون بأوامر بول بريمر، ولما ظهر أنهم تناسوا زملاءهم من الموعودين بدخول جنة التغيير بعد قلب »نظام حزب البعث وصدام حسين«، وجد الدكتور الحسيني أن زملاءه قد خذلوه بلا وطنيتهم عندما انخرطوا في ورشة تدعيم الاحتلال ومساعدته، فعتب عليهم. وظهر إحباطه بشكل عتب عليهم على الرغم من أنه كان من المتشددين نظرياً من خلال دراسته- ضد الذين يتعاونون مع الاحتلال ويقفون ضد المقاومة.

وعلى كل حال، فقد أتيحت لنا الفرصة لرد نقدي حول بعض النماذج من المعارضين العراقيين الذين على الرغم من تميزهم بالحس الوطني- ظلوا على تمسكهم بأسباب العداء لنظام حزب البعث السياسي. ونحن نتوقَّع لمثل أولئك الذين ظلوا ثابتين على مواقفهم من نظام اتهموه بكل الاتهامات بينما كان على كرسي الحكم، ولم يأخذوا المتغيرات الجديدة ومن أهمها وجود الحزب في خندق المقاومة ليعدِّلوا من مواقفهم منه أو يبدِّلوا، سيجدون أنفسهم في مرحلة ما بعد التحرير في أزمة جديدة ولا أحسب أنهم قد أعطوها الاهتمام الكافي في حساباتهم. ونحن نرى حرصاً على أمثال الكثيرين من الصادقين في وطنيتهم ممن برهنوا على صدق توجهاتهم الوطنية الاستراتيجية- أن يفتشوا عن أسباب عدائهم السابقة بكل موضوعية وفي سياقاتها الظرفية وأمكنتها، وأن يروا الحزب من خلال المتغيرات الجديدة بعين الارتياح النفسي بما يؤهلهم نفسياً للعمل مع كل العراقيين جنباً إلى جنب، لبناء عراق جديد متحرر من هموم تأثيرات المشروع الأميركي الصهيوني، وتجارب الماضي.

***

د. موسى الحسيني 18/ 6/ 2004م

- في البدء أشكر الأستاذ الفاضل حسن خليل غريب على ما أبداه من ملاحظات طيبة ، تجعل الإنسان يحمد الله على مثل هذه الشهادة رغم انه لا يمكن إغفال توجهات اللا إستحسان الواردة في الرد ، فهو يستحسن كثيراً من الأمور التي سماها نظرية . وهذا إطراء على موقف وطني من معارض بشدة لبعض الاطروحات. لذلك سيكون من عوامل الاعتزاز والشعور بالرضى والارتياح .واشكره على تكرمه بالاستعداد لإعطائي عنوان بريده الإلكتروني لمتابعة الحوار بشكل خاص، لكني أميل أكثر لقبول عرضه الثاني بأن يكون الحوار عاماً ومفتوحاً على صفحات دورية العراق ، فالحوار يجري حول قضية وطنية عامة . فما نعيشه من محنة لا تخصنا وحدنا نحن المتحاورين، ولا تخص أيضاً جيلنا أو الأجيال المتعايشة حالياً على ارض الوطن ، بل سيكون لها إفرازاتها وتأثيراتها التي ستمتد عبر التاريخ لتحدد هوية الأجيال القادمة ، فنحن أمام محنة أن نكون أو لا نكون ليس فقط كعراقيين بل كعرب على امتداد الرقعة الجغرافية الموسومة بأرض العروبة . وأرجو أن يشارك جميع قراء بوابة دورية العراق في هذا الحوار ، مع الأمل أن يكون رائدنا الحرص على المصلحة الوطنية والأمن الوطني، وهذين المصطلحين ليسا شعارين بل مفهومين علميين سياسيين ، هما عند فقهاء السياسة الدولية العماد في تقييم جميع السياسات المحلية والدولية بالنسبة للأفراد والجماعات والدول .

- وأرجو أن يتسع صدر الأخ المشرف على الدورية لجميع الآراء ما يتعارض أو ينسجم مع تصوراته السياسية، فالحوار في هذه المحنة مسؤولية وطنية ، وما دام الغاية منها البحث عن قناعات مشتركة لأطراف تقف في نفس الخندق لكنها تختلف في النظرة للأمور علينا أن نحتمل حتى ما يستثيرنا عاطفيا.

- مع هذا لا أميل لان يجري الحوار بهذه العجالة مخافة أن تؤثر فينا الانفعالات في محنة نحن أحوج ما نكون فيها للعقل والتعامل الموضوعي المجرد من الأهواء والاعتبارات الشخصية .إضافة إلى أنى واقع تحت ضغط انشغالات خاصة لأسبوع أو للأيام العشرة القادمة . خاصة وأني بطئ في التعامل مع مفاتيح الكومبيوتر .

على أنى أود الإشارة لملاحظتين إحداهما عامة والأخرى خاصة :

الأولى : إن اصطلاح " لاعب " هو اصطلاح علمي مستخدم في كل الأدبيات العلمية المختصة بفقه العلاقات الدولية، ويعني العنصر الفاعل ، أو أحد طرفي المعادلة المؤثرة في موضوع أو واقعة سياسية معينة. كما يستخدم اصطلاح " لعبة " للدلالة على واقعة سياسية كبرى، وغالبا ما يستخدم مصطلح لاعب لوصف الدول الكبرى أو الجماعات المؤثرة مباشرة في حدث سياسي ما . فبدل أن نقول هذا الطرف المؤثر في القضية العراقية أو هذا الصانع للحدث في واقعة ما نستطيع استخدام مصطلح لاعب . لذلك فان استخدامي للمصطلح ليس تقليلا من أهمية الحدث بل توصيف للأطراف المشتركة في الحدث آو الصانعة للحدث .

ثانيا : بقدر ما أن الأستاذ الفاضل آثار غروري واعتزازي بالتزاماتي الوطنية إلا انه عاد فصورني في النهاية بصورتين غريبتين ، الصورة الأولى استوحاها بشكل غريب من تاريخ ومكان ميلادي . وبنى عليها حكمه في كوني لم اكتسب تجربة سياسية مع اعتقاد آني عشت في بيئة بعيدة عن المدن . ولا ادري كيف يخفى على الأخ دور مدينة الناصرية واسهاماتها الفاعلة في تشكيل حزب البعث نفسه ، إذا كان حزب البعث هو المعيار الوحيد للتحضر والتخلف، وتأتى الناصرية الثانية بعد بغداد مباشرة في تعداد أعضاء الحزب قبل ثورة 14تموز 1958، والمرحوم الشهيد فؤاد الركابي كان له الدور الأكبر في بناء فرع الحزب في العراق ، وعبد الله الركابي ( عضو القيادة القطرية في حينها ) كان أحد قادة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959 ، يومها كان صدام حسين مجرد عضو منفذ صغير في الحزب . واعتقد أن معاذ عبد الرحيم كان أيضاً عضو قيادة قطرية قبل 14 تموز 1958 ، وكان حازم جواد أحد القادة المهمين في تنفيذ حركة شباط 1963، واعتقد حسب فهمي لتاريخ الحركة القومية في العراق كان فؤاد الركابي مؤسس أول حركة ناصرية في العراق ، ولشباب الناصرية دور مميز في تأسيس الحزب الشيوعي أيضاً . والرئيس الفعلي لحركة الضباط الأحرار هو ناجي طالب ، وكان محمد حسين الحبيب من أهم عناصر هذه الحركة ، وهذا يعني آني ابن بيئة تغلي بالوعي السياسي .

ورغم كرهي للحديث عن نفسي أود أن اعرف نفسي للأخ حسن وبقية القراء ، واعتقد آن هذا حق طبيعي لإزالة اللبس الوارد في رد الأستاذ حسن . أنا من مواليد مدينة الخضر من عائلة تنحدر أصلاً من الناصرية قضيت دراستي الابتدائية في الخضر دون آن انقطع عن أجدادي لأبويَّ في الناصرية ، ثم أكملت الثانوية في الناصرية ، والخامس الإعدادي في بغداد في الثانوية الجعفرية . ولم اكن مقطوعا عن بغداد لان آبي كان يرسلني كل عام للتقوية في الصيف في المعهد الوطني في شارع الرشيد السنك- ، لأقضي صيفي في بغداد منذ عام 1964 . كان والدي رجل دين ابن لأحد صغار الإقطاعيين ، عنده مكتبة خاصة اعتقد أنها اكبر مكتبة ليس في الخضر بل حتى في الناصرية أو السماوة ، تضم مختلف الاختصاصات من أمهات كتب التاريخ كالطبري والكامل حتى راس المال لماركس مرورا بطه حسين والعقاد وبنت الشاطئ وسلامة موسى . علمني منذ الصغر أن لا ألمس كتاباً قبل أن اغسل يدي. عادة لا زلت أمارسها مهما كان الكتاب ، وتشجيعا لي على القراءة عمل لي اشتراكا بمجلة العربي منذ صيف 1959 حيث لازلت طالبا في الصف الخامس الابتدائي. كان والدي بمثابة شيخ دين وقبيلة والحاكم المطلق في المدينة وما حولها وجاورها وفجأة جاء المد الشيوعي ، لينتقم من آبى من خلالي ، لذلك أوصاني أن لا أذكر اسمه عندما انتقلت للمتوسطة عام 1961 - 1962 اتقاء لشر الشيوعيين. واستغربت عندما جاءني الطالب راجي موسى الحصونة ( تركته برتبة لواء أو عميد شرطة في عام 1978 مديرا لشعبة الجنسية ) وقال عرفنا انك ابن السيد وبعثني إليك حزب البعث لتنظم لنا ، سألته ببراءة الطفولة ماذا يعني البعث وماذا يعني أن النظم لكم ، قال بما أقنعني في حينها بدلا من أن نترك الشيوعيين يعتدون علينا نوحد جهودنا لنمنعهم من ذلك . اقتنعت جدا بهذه الحجة ، وكنت من الطلاب النشطاء في الحزب ادفع الدرهم والمئة فلس دون تردد من مصروفي الخاص ، بعد حركة 1963، وبسبب نشاطي في الحزب واستئناس مسؤوليني بشجاعتي ، عينت مسؤولا للجنة الحرس القومي في متوسطة الناصرية ، كان اصغر أعضاء اللجنة الخمسة يكبرني بثلاث سنوات على الأقل .ولا ادري أهي حالة وعي مبكر أو تأثراً بالأصدقاء أغاضني موقف الحزب من الوحدة وتردده في إنجازها لذلك أخذت بيان ما يعرف في حينها بالقيادة الثورية لحزب البعث ، والتي تشكلت في حينها من قبل المرحوم الشهيد فؤاد الركابي وعبد الله الريماوي ، ووزعته في المدرسة ومنطقة السيف في الناصرية ، مما أثار استياء الحزب مني ففصلت بمحكمة حزبية شكلت في حينها من كل من رسول حامد ، عبد الأمير هاشم ، كريم السيد خلف ، ومنذ ذلك الحين وأنا ملتزم بخط المرحوم فؤاد مع تغير الأسماء التي استخدمها ، حركة الوحدويين الاشتراكيين ، الحركة الاشتراكية .ثم ساهمت مع بعض الأصدقاء ببناء الحزب الاشتراكي العربي الموحد بقيادة المعلم فؤاد الركابي وهو بالسجن ، وكنت قد تخرجت من الكلية العسكرية دورة 48 ، برتبة ملازم ، عند اكتشاف أمر التنظيم في صيف 1971 هربت في أواسط شهر أيلول إلي سوريا مع زوجتي واحد عناصر التنظيم مسؤول مدينة بلد الأخ بادع عبد علي ، وصدر بحقي في حينها حكمين بالإعدام الأول من محكمة آمن الثورة والآخر من المحكمة العسكرية الخامسة .

في سوريا اكتشفت آمرين : الأول : إن المعارضة من الخارج عمل عبثي مفتوح لتدخل مخابرات البلد المضيف، والثاني : إن بعض المعارضين أو من وضعوا في قيادة المعارضة كانوا محكومين بدوافع الحرمانات المختلفة ووجدوا في المعارضة في الخارج ما يشبع عقد الحرمان هذه ، وهم أبعد ما يكونوا عملياً عن الحرص على مصالح البلد وأمنه ، لذلك اعتزلت المعارضة لأخدم متطوعاً في صفوف الثورة الفلسطينية ولمدة 12 عاماً. كثيراً ما كنت اترك دراستي لالتحق بالمقاتلين في لبنان لمواجهة الاحتلال الصهيوني . وإذا كتبت لي السلامة ولم استشهد لسوء الحظ ليس لهرب من الموت بل فرصة الشهادة لم تأتي ، والأعمار بيد الله .

بالعودة لوجودي في سوريا بعد قضية ناظم كزار في 1973 صدر أمر عفو عن المعارضين المقيمين في دمشق ، مشروطا بسجن أقرب أقربائهم عند عدم عودتهم خلال شهر، وكان السجن من نصيب أحد إخواني ولمدة 10 اشهر، حتى اضطررت للعودة ، خاصة وقد فقدت الثقة بقيادة المعارضة في سوريا ، لكن الغرابة هو آن يتم احتجازي ومن نقطة حصيبة ، ويطلق سراحي في اليوم التالي في الرمادي ، تم توقيفي ثانية بعد ثلاثة أيام ولمدة حوالي الشهرين في الشعبة الثانية في الأمن العام ثم تم تحويلي للاستخبارات العسكرية ، حيث تم إخلاء سبيلي استنادا لقرار العفو الصادر من مجلس قيادة الثورة ، ونسبت لوظيفة مدنية . واللجنة التي حققت معي في الاستخبارات كانت تضم كلاً من الملازم الأول سعد خضير العبيدي ( أصبح معارضا بعد أن أحيل للتقاعد عام 1993 ) والنقيب وفيق السامرائي (عارض بعد أن أحيل للتقاعد عام 1992) والتهمة التآمر على الحزب والثورة . من اغرب المفارقات أن اختلف ثانية مع الرجلين اعتبارا من بداية وصولهما للخارج ، كانا على استعداد للتعاون مع الشيطان للخلاص من صدام حسين كما يدعيان هما ومن معهما من الضباط وكنت مع بعض الوطنين ندعو لان ينحصر الخلاف بحدوده الوطنية والابتعاد عن السماح لأي تدخل أجنبي ، كانا من دعاة الحصار والحرب وكنت أول من كتب ضد الحرب والحصار ، ومنذ بداياته في عام 1992 ، وفي سلسة من المقالات نشرت في جريدة السفير في حينها بعناوين مختلفة " ملاحظات على مؤتمر المعارضة العراقية في فينا" ، " المناطق الآمنة ، المعارضة والمصالح الأميركية " ، " المصلحة الوطنية وأعراس الذل للمعارضة العراقية " ، " الموقف القومي من المحنة العراقية " وغيرها ، جمعت في كتاب تم توزيعه بشكل محدود تحت عنوان " العراق بين النظام والمعارضة " عام 1994. وعندما عقدت مجموعة من الضباط مؤتمرهم في لندن بين 12 – 14 / 7 / 2002 ، وكنت من المدعوين ، لكني لم اكتف برفض الدعوة وعدم الحضور بل كتبت كراسا بعنوان " العسكر والسياسة في العراق " ناقشت فيه تهافت أطروحات المؤتمرين وتناقضها مع المصلحة الوطنية العراقية، مما يعني أنها تندرج تحت باب الخيانة الوطنية ( ولا مانع من إرساله لدورية العراق لنشره إذا وافق الأستاذ مدير الدورية على ذلك لأنه تعرض للحصار وتم توزيعه بشكل محدود لخوف أصحاب دور النشر من توزيعه ) ، قبل ذلك كنت قد تصديت للمشروع الطائفي الذي يدعو لتقسيم العراق لدول طائفية ونشرت عام 2000 ، كتاب "ساطع الحصري والخطاب الطائفي الجديد " والذي تعرض لنفس عملية الحصار حتى إن متعهد التوزيع لم يوزع منه غير 60 نسخة ، إلا أن أحد دور النشر الأردنية عادت فاشترت منه 200 نسخة ، ويقال إن أحد المطابع في بغداد عادت طباعته ومتوفر الآن في شارع المتنبي . ومنذ 2001 ومن خلال محطات التلفزيون المستقلة والاي. إن أن ، وابو ظبي توقفت عن تسميتهم بالمعارضة بل بالمناوئة أو المعارضة المصنعة ، باعتبار أن المعارضة تعني اتجاهاً سياسياً يفترض أن ينافس النظام على الحرص على المصلحة الوطنية ، أما خيانة المصلحة الوطنية فتجعلنا نعتبرهم أي شئ آخر كعصابات مرتزقة مثلا . وتدخلت دول ودفعت الملايين كما علمت لأمنع من الخروج على المستقلة ، وارتقت المستقلة من محطة بإمكانات محدودة إلى واحدة من أغنى المحطات . والحديث طويل إلا إن عراقيي الخارج يعرفون جيدا مواقفي اكثر ممن في الداخل على ما يبدو ، سيفا مسلطا للدفاع عن بلدي وآنا أميز دائما بين البلد والنظام . لذلك كان حكم السيد حسن خليل عن عدم وضوح هويتي دليل على عدم اطلاع أو سوء متابعته لما كان ولا يزال يجري من معارك وطنية لاشك أنها سببت لنا كثيرا من المتاعب ، مع أننا لم نكن نفكر الاستفادة من النظام يوما بأي شكل كان ولم نرجو من أحد المكافأة بقدر ما أن الأمر الذي يدفعنا هو إيماننا بوطننا وحق شعبنا في اختيار طريقه للعيش الحر الكريم . مدفوعين إلى ذلك بكل الاستعداد بالتضحية بكل ما نملك دفاعا عن كرامة البلد واستقلاله .

آما حكمه باني يمكن آن أكون ممن نستهم المعارضة المصنعة أو لم تف بوعودها معهم ، للآسف هو حكم لا يدل على رجاحة في فهم الأمور ، وهو الذي كان يتغنى قبل سطور عما اسماه بمعالجاتي النظرية ،فأنا بحكم دراستي وتواجدي اعرف كل المنافذ احسن من غيري وبدقة وخبرة وآنا خريج الجامعات البريطانية بفرعي علم النفس الاجتماعي والعلاقات الدولية وعضو في كثير من المعاهد البحثية ، وافهم اللعبة وأجيد لعبها لو كان للمصالح الخاصة حسابات عندي ، ولم احتاج لشيء لأكون لاعبا ثانويا ينتظر فتات الخيانة وسقط المتاع ، وهذا هو الأمر الثاني الذي وددت الإشارة إليه .

اغرب ما في الموضوع ، وحول كتابي " المرجعية الشيعية والسياسة في العراق " ( أتمنى لو بادرت دورية العراق لنشره وهو عبارة عن كراس صغير أو جزء من كتاب وقد نشر في جريدة القدس أيضاً بحلقتين يوم 12 / 4 / 2004 ) ، وكتاب " المقاومة العراقية والإرهاب الأميركي المضاد " ، قُوبلا من قبل جماعة المتهافتين والعملاء المرتبطين بالأجنبي من المرتزقة ، بشتى الاتهامات بل والشتائم ، وآنا فرح لذلك لأمرين الأول أن شتائمهم شرف على أساس أن ذم الناقص دلالة على الكمال - ، ولأنهم لم يجدوا فيَّ من النقائص ليشهروا بها فراحوا يلفقون التهم ، والأغرب ان بعض مؤيدي المقاومة وأنصارها لم يرتح لطرحي ، وهذا دليل على استقلالية الخط الوطني الذي انتهجه . وجاء مقال السيد حسن دليلا على ذلك ، ولا أمتلك إلا أن اشكره ، مع التأكيد لكل مقاوم على ما ذكرته ولأكثر من مرة وسمعه الملايين من مشاهدي محطة الاي . ان . ان ، انحني إجلالاً لكل مقاوم واقبل يده بشرف وفخر ، ومهما كانت ذنوبه التي يمكن أن يكون مارسها في عهد النظام السابق غفر الله وشعبه له ذلك ، ولم اقل ذلك ترضية للسيد حسن خليل أو من انتقدوا كتابي بل هو تعبير عن إيمان كنت قد جزمت به قبل اكثر من ستة اشهر من نشر كتابي وحتى قبل أن تبدأ أحداث الفلوجة والانتفاضة الصدرية المباركة .

-في خضم كل هذا الصخب الذي رافق حياتي أكملت دراستي في الجامعة المستنصرية عام1979، قسم التربية وعلم النفس وكنت الأول على دورتي ، أهَّلني معدلي العالي لدخول اشهر كلية في جامعة لندن للعلوم السياسية والاقتصادية، لأحصل على دبلوم اختصاص بعلم النفس الاجتماعي 1983 ، ثم على الدكتوراه فلسفة في الدراسات الدولية من جامعة سالفورد عام 1989. ولا زلت افخر أنى ملازم متقاعد .احمل شهادة البكالوريوس بالعلوم العسكرية من الكلية العسكرية العراقية .

هذا ما يهمني شخصيا وسنرد إن شاء الله حول ما له علاقة بالموضوع في محاولة للتجرد من الذات.

رد ثان على مقالات الدكتور موسى الحسيني

سيدي العزيز

نحن اتفقنا على الحوار، وحتى لا نكون كالساعي إلى الهيجاء بدون سلاح، لن تكتمل شروط الحوار من دون سماح إدارة دورية العراق بفتح أبوابها لاحتضانه.

سيدي رئيس تحرير دورية العراق

أشكرك أولاً لأنك أتحت الفرصة لنشر بدايات حوار بين مواطنين عربيين حول القضية العراقية، شاغلة العالم من أقصاه إلى أقصاه. فبنتائج الصراع الدائر على أرض العراق تتحدد معالم تاريخ جديد للنظام العالمي بأسره، كما تتحدد معالم تاريخ جديد لواقع صراع الأمة العربية مع الاستعمار والصهيونية.

وإنني ثانياً لي ثقة كبيرة، وأنا لا أعرفك شخصياً وبالإسم، بأنك من خلال قيادتك للموقع اخترت طريق الحوار الموضوعي أمام المتحاورين حول القضايا العربية. ولا شك بأنك تتميز بكفاءة القراءة والكتابة من خلال المراسلات السريعة التي تدور بيننا من آنٍ لآخر.

وثالثاً، وكي لا أدعك أمام أمر واقع في فرض طاولة حوارية مع الدكتور الحسيني، أرجو أن تدرس المسألة من كل جوانبها قبل اتخاذ القرار النهائي.

وبناء عليه، واستباقاً للقرار، أرجو السماح بنشر ردٍّ حول توضيحات الدكتور الحسيني حول تحديد بعض آليات الحوار القادم.

في 19/ 6/ 2004م حسن خليل غريب

سيدي الدكتور موسى الحسيني

أولاً: أنا متفق معك أن يكون حوارنا معلناً على شرط أن يتَّسع صدر الموقع. وأنا أنتظر إذن السماح بذلك.

ثانياً: في الاتفاق حول بعض ما واجهنا أو سيواجهنا من التباسات في بعض التعابير أو المصطلحات: قد يلتبس بعضها عند كلينا، فأرى من الضروري أن نقوم بتوضيحها كلٌّ في وقته.

ثالثاً: كنت من غير الملحين على إدخال التجارب الشخصية في ميدان الحوار، لأن لكلينا حرمة في شؤونه الشخصية. ولكن ما جاء من تفصيلات عن تجربتك الذاتية ما لفت نظري إلى أهمية هذا العامل في حوارنا، خاصة وأنك تصوِّر نفسك ضحية لديكتاتورية النظام السابق. ومن العدالة، قبل إصدار الحكم، أن يسمع الحَكَم دفاع الضحية عن نفسها. كما أن من حقه أن يوجِّه الأسئلة ويضع الفروض للتأكد من مصداقية الشهادات والوقائع.

يا سيدي، إن أنموذج حوارنا، قد يضع بعض الضوابط في رؤية العلاقة بين النظام السابق والمعارضة بمعزل عن الأحكام العامة التي تهدف إلى الإثارة أكثر من أنها تهدف إلى الوصول للحقيقة. فتأتي بعض تجارب بعض من يعلنون أنهم ضحايا الديكتاتورية أنموذجاً عادلاً وموضوعياً في تحديد الأحكام قبل اتخاذها بحق المتهم.

من المفهوم، سياسياً وإيديولوجيا، وهذه سمة من سمات خطابنا اللا موضوعي أن ترفع من تفترض نفسها ضحية شتى الاتهامات الفضفاضة والأحكام العامة ضد من تتهمه، ومن الخطاب السائد أن يدافع المدافعون عن المتهم بوسائل فضفاضة ودفاعات عامة قبل سماع أسباب الضحية.

فلنتخذ من حالة الدكتور موسى الحسيني أنموذجاً، وأحسب أن آلاف الحالات شبيهة بها، فنكون بحوارنا حول الأنموذج الذي تمثِّله كمن يعالج آلاف الحالات المشابهة، ونستطيع بالتالي أن نقترب أكثر فأكثر نحو النظر بموضوعية إلى تعميم الحالة الخاصة.

لذلك أرى من واجبي أن أوضح أن التباساً قد حصل في فهمك لي من خلال قولي إنك عندما اتَّخذت دور المعارض »لم تكن قد اكتسبت خبرة سياسية« لم يكن المقياس عندي أهمية البيئة السياسية التي عشت فيها، وللناصرية في قلبي محبة لمعرفتي ببعض سكانها، وبعض تاريخها. وحول هذا الجانب سأدافع عن قناعتي بما يلي:

لم يكن المكان الجغرافي أو البيئة السياسية أو التجربة الحزبية الخاصة، بل كان العمر هو المقياس عني عندما أطلقت حكمي على تجربتك. لقد وُلدت يا سيدي في العام 1950م. وتابعت دراستك المتوسطة في العام 1962، وتخرجت كملازم في العام 1971م. أي كان عمرك في أوائل العشرينات. وفي خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة جداً، هذا إذا تجاهلنا مدى اكتسابك ثقافة معمَّقة، سياسية وفكرية، أو من حيث خوض تجربة نضالية ميدانية تكسبك خبرة الإحاطة بما يدور في قطرك أو في الأمة العربية من مشاكل أو إشكاليات، فنتساءل: أوَ لا تلاحظ أن خللاً ما سيحيط بحكمك على قضايا كثيرة وشائكة سواء على مستوى تنظيمك الذي انتسبت إليه مبكراً جداً، أو على مستوى النظام السياسي الذي كان يحكم العراق قبل الاحتلال؟

أنت كنت في العام 1963م ابن أربع عشرة سنة واستطعت أن تكتشف خطأ موقف حزب البعث من الوحدة، وانحزت إلى تيار فؤاد الركابي وأنت لم تبلغ بعد سن المراهقة، وفُصلت من الحزب بطريقة قانونية. وعلى الرغم من ذلك انتظمت في تنظيم سري مناهض للحزب الحاكم، وتابعت دراستك في الكلية العسكرية وتخرجت منها. وهربت إلى سوريا وحُكم عليك بالإعدام مرتين، ثم عدت إلى العراق وعمرك ثلاث وعشرون عاماً، وصدر عفو بحقك وتابعت دراستك في العراق حتى العام 1979م، ومنه نلت منحة دراسية من الدولة العراقية التي يحكمها حزب البعث الذي كنت مناوئاً له ومحكوماً عليك بالإعدام مرتين.

لا أشكك بروايتك، وأعتبرها صادقة مائة بالمائة، ولكن لا بُدَّ من الوقوف عند عدد من الاستنتاجات المثيرة للاستغراب:

1-إذا كانت بوادر الوعي السياسي عندك مبكَّرة، كما أراها من خلال وصفك، فهذه ظاهرة تدعو إلى الاعتزاز. فتى لا يتجاوز سن المراهقة يصدر أحكاماً حول مواقف سياسية وتنظيمية في غاية الأهمية والخطورة. وهي اتهام حزب عريق في أنه كان مخطئاً في موقفه من الوحدة العربية، وهو لا يستطيع أن يلم بحد أدنى من الثقافة السياسية القومية الوحدوية، والأمر على هذا المنوال نقول: حتى كل الدراسات الأبحاث التي تناولت أسباب فشل ميثاق 17 نيسان من العام 1963م بين العراق وسوريا ومصر لم تتوصَّل إلى معرفة الطرف الذي أعاق تطبيق ذلك الاتفاق. أما أنت، وفي العمر الذي أنت فيه، فتمثل ظاهرة فريدة من نوعها، في الوعي المبكر أولاً وفي قراءة أسرار وخفايا الصراعات السياسية ثانياً.

2-لقد فُصلت من الحزب في العام 1963م نتيجة انحيازك لتكتل حزبي داخلي، وهذا من أبسط قواعد العلاقات الحزبية، وعليك أن تطلع على النظام الداخلي للحزب الذي ينص على أن من يخالف أسسه وقواعده يتم التحقيق معه وتتخذ العقوبة المناسبة. فإذا ارتأت اللجنة التي حققت معك اتخاذ هذا الإجراء فما هو وجه الغرابة بذلك؟ فالحزب ليس نادٍ، بل هو خاضع لنظرية محددة على الحزبيين بمجرد انتمائهم للحزب عليهم أن يلتزموا بالقوانين التي ربطوا انتسابهم للحزب على أساسها. وهل لك الحق باستنكار ما تقوم به قيادة مكلَّفة بمراقبة احترام أنظمتها الداخلية؟

يا سيدي الدكتور، ألم أقل لك إن تجربتك السياسية كانت متواضعة، ويبدو أن تجربتك التنظيمية متواضعة أيضاً، ولا تخلو معرفتك لأسس الأمن الوطني من التواضع، وإلا كان يجب عليك، وأنت خرِّيج للكلية العسكرية، أن تعرف القوانين التي يُحاكم على أساسها الجنود والضباط، قبل أن تنتسب للجهاز العسكري، وقوانينه صارمة في كل قوانين الدول المتقدمة منها والمتخلفة.

لا يمكن، والحال هكذا، أن يستمر الحوار بشكل موضوعي إذا كان لكل منا قوانين خاصة به، تبتعد عن المكاييل والقوانين العامة. وأخشى أن تكون كل حالات المعارضة الشبيهة بحالتك، ممن لهم مقاييسهم العائمة والغائمة والمغرقة بخصوصياتها، والتي يريدون أن يحاسبوا النظام السياسي على أساسها.

آنت يا سيدي ممن تخصصوا بعلم النفس الاجتماعي، فهل مرَّ معك أن هناك قاعدة من قواعد العلاقات الاجتماعية تنبني على أسس أن لكل فرد ملتزم بمجتمع قوانينه وقواعده الاجتماعية التي تلبي رغباته الخاصة، ويعتمدها مقياساً موضوعياً لمحاسبة كل العلاقات الاجتماعية على أساسها؟

وما ينطبق على أسس العقد الاجتماعي كناظم لعلاقات الأفراد، وكصاهر لثقافة موحدة بينهم، ينطبق أيضاً على العقد السياسي بينهم. قد تشوب العقد السياسي أو التنظيمي أو الاجتماعي الكثير من الثغرات، ولكن هذا لا يبرر أن يكون لكل مواطن مفهومه الخاص لكل تلك العقود، ويريد على أساسها أن يلزم الآخرين: الحزب أو السلطة أو المجتمع، على أن يطبقوا في محاكمته قواعده الخاصة.

قد تثبت التجربة والنقد قصور تلك العقود عن حل إشكاليات العلاقة بين الفرد والمجتمع. لكن هذا لا يبرر الهروب منها بإلقاء المسؤولية على نظام أو تجمع أو حزب واتهامهم بمحالفة الديموقراطية وحرمان الفرد من حريته.

يا سيدي إن قواعد وأسس العلاقات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية تقوم على نوع من المركزية، ويسميها البعض ديكتاتورية، ولكن ما العمل؟ وما هو الحل؟

الحل هو عزلة الفرد عن المجتمع وابتعاده عنه إلى جزيرة نائية، كما فعل ابن طفيل بأنموذجه الفلسفي. وهناك كما أرى- لن تخلو علاقة المنعزل مع نفسه من أسس تضبط له سلوكاته. فهو سيضع أسس حماية أمنه من الحيوانات الضارية، فلا يستطيع أن ينام كيفما يشاء وأينما يشاء. وهو لا يستطيع أن يأكل ما يريد وكل ما يريد والكمية التي يريدها، بل إن نوع الطعام وكمية وجوده ونوعه هي ديكتاتورية تمارسها الطبيعة والأحياء الموجودين فيها على الإنسان.

أنت يا سيدي تريد أن تجعل من نفسك ضحية كل القوانين والأشخاص لأنهم لا يطبقون قوانينك ومفاهيمك الخاصة. أوَ لست تمارس الديكتاتورية بأحكامك؟

أنا لا ألوم ناقص الثقافة، خاصة بالعلوم الإنسانية، ويأتي في مقدمتها علم الاجتماع ومن أِشد فروعه أهمية في معرفة أسس وطبيعة ومفاهيم العلاقات البشرية هو علم النفس الاجتماعي، بل تكون ملامتي أشد لمن هو في الموقع الذي عليه أن يكون مرشداً ميدانياً للآخرين. وإنني أصارحك أن من مهماتي في الإرشاد التنظيمي الحزبي أنني أدافع عن اقتراح اقتنعت به هو أن تكون مادة علم النفس الاجتماعي من بين المواد الأساسية التي تدخل في مناهج التثقيف الحزبي. ولقد ارتحت لما اكتشفته من خلال ردك أنك من المتخصصين في هذا المجال، ولقد شعرت بالطمع في الاستفادة منك في هذا الميدان.

3-لقد صدر بحقك حكمان بالإعدام وأنت لا زلت ملازماً في العشرين من عمرك، فهل الذي أصدر الحكم بالإعدام هو هاوٍ لمثل تلك الأحكام أم أن هناك ما يبرر ذلك؟ ألست منتمٍ إلى تنظيم محظور؟ أو لست خريجاً لمؤسسة عسكرية لها قوانينها (ولتكن جائرة تلك القوانين) التي التزمت بها عندما انتسبت للكلية الحربية؟

4-فإذا صدر عفو عن محكوم عليه بالإعدام مرتين، فأين مكان الديكتاتورية في مثل هذه الحالة؟ لم يصدر عفو بحقك فحسب، بل تمَّ تنسيبك لوظيفة مدنية أيضاً. وقُبلت في الجامعة المستنصرية التي تخرجت منها في العام 1979م، ونلت من الدولة العراقية التي يحكمها حزب البعث منحة دراسية في لندن.

في خلال ثمان سنوات أو أقل: يصدر حكمان بالإعدام، ويصدر عفوان عنهما، ويستعيد المعفو عنه كل حقوقه المدنية فيتم تنسيبه إلى وظيفة يعيش من راتبها، ثم يقبل في جامعة ينهي بها دراسته الجامعية، وينال فوق هذا كله منحة للتخصص في الخارج أو لا تلفت هذه القصة النظر والاهتمام والاستغراب؟

هل واقع هذه القصة هي مظاهر ديكتاتورية نغَّصت عليك حياتك يا سيدي الدكتور؟

فإذا كان الأمر كذلك، فلنقارن حال الديكتاتورية التي تعاني أنت منها، مح حال الديموقراطية التي ننعم فيها بلبنان. فأقول بداية: إن عشرات آلاف الفقراء في لبنان مثلاً- يحسدونك على ما تمتعت به من سيئات الديكتاتورية، وإليك الأسباب:

إن المحكوم عليه بجناية في لبنان يُحرم من بعض حقوقه المدنية لمدد تتفاوت حسب الجرم الذي ارتكبه.

لم يكن متيسراً لفقراء لبنان أن ينتسبوا إلى الكلية الحربية في السابق،

ولم يكن أي فقير في لبنان يستطيع أن ينال وظيفة بسهولة.

ولم يكن أي فقير في لبنان يستطيع أن ينتسب إلى جامعة ليتابع دراسته الجامعية إلاَّ بقطع النفس. ولولا الفرص التي أتاحتها بعض الدول الاشتراكية سابقاً، وبعض الدول العربية، وكان أكثرها تميزاً الجامعات العراقية باهتمام ورعاية واحتضان ممن تسميه النظام الديكتاتوري، لما رأينا الطفرة النوعية العلمية الأكاديمية في لبنان التي وصلت إليها الطبقات الفقيرة في لبنان.

أما التخصص في خارج لبنان فهو غير متاح على الإطلاق، وأما في الداخل فهو يتميز بصعوبة بالغة إلاَّ للمحظوظين.

فهل تدري يا عزيزي، وأنا ما زلت مصراً على احترام عمق ثقافتك الأكاديمية، أنك تدفعنا للمطالبة بأن يحكمنا ديكتاتور يؤمن لنا كل تلك المزايا التي نالها مغضوب عليه مثلك، فكيف يكون وضع من كان مرضياً عنه؟!!

5-واسمح لي أن أكرر عبارتك واستعيدها في كل مرة أتكلم فيها عن حالة الانفصام بين النظرية والعمل لأناشدك بضميرك: هل يستأهل النظام الذي تصفه بالديكتاتورية، أو رأس ذلك النظام بأنه كان يمنن العراقيين بأنه علَّمهم لبس النعال؟؟!! وهل قدَّم إليك منحة دراسية إلى لندن لسبب انتمائك إلى تنظيم معارض أم بسبب تفوقك بالدراسة؟ وهل قدَّم تلك المنحة إليك بسبب انتماء عائلي أو مذهبي أو جغرافي؟؟ أم أنه قدَّمها كما قدَّمها لعشرات الآلاف غيرك استناداً إلى الكفاءة والأهلية الشخصية؟

قبل أن تلتحق أنت بجامعات لندن، وكان هذا معسوراً عليك لولا قوانين اتخذها النظام الديكتاتوري للتأسيس لمشروع عربي نهضوي، كان قد سبقك في الاختصاص آلاف العلماء العراقيين والاختصاصيين من شتى الصنوف والاختصاصات. أم هل مفاعل تموز النووي كان (نوعاً من تعليم لبس النعال للعراقيين)؟

لم يدفع أحد من مسؤولي النظام من ثروة أبيه، بل خطوة تأميم النفط كانت الخطوة الجبَّارة التي نقلت العراق (بلد النفط والثروات الهائلة) من دولة معسورة إلى دولة ميسورة، وكان الانتقال هو من نعم الديكتاتورية. وهنا أسألك، وأسأل ضمائر كل المعارضين من العراقيين الوطنيين (وأنتم أدرى بشعاب مكة): كم هو عدد مسؤولي النظام الديكتاتوري ومن هم من الذين يملك شقة واحدة في بلاد خارج العراق؟ وهل اكتشفت كل أجهزة السي آي إيه أن هناك أرصدة شخصية لمسؤول واحد منهم أو لأحد أبنائه؟ قولوا لنا يا أصحاب الضمائر الوطنية واقعة واحدة تقنعنا نحن غير العراقيين بالشعارات الفضفاضة والوهمية التي ملأت كل الآفاق حتى أصبحت الأذهان الساذجة والبسيطة تعتقد بأن كل ما يُقال عن نظام حزب البعث حقيقة.

فهل تريد أن تعرف شيئاً عن نعم الديموقراطية في لبنان؟

هل تعلم يا عزيزي بأن لنا حرية القول دون حرية الفعل والتغيير؟

هل تعلم بأن الصحافة في لبنان يحتكرها أصحاب الرساميل والأرصدة المالية؟

هل تعلم أن الصحافة في لبنان مملوكة لمثقفين ميسورين يمارسون ديكتاتوريتهم على ذوقهم؟ ويحجبون نعم الديموقراطية في إبداء الرأي على كل من يعارضهم الرأي أو المصلحة؟

هل تعلم أن نظامنا الديموقراطي في لبنان ينعم بوجود 27 (نعم سبعة وعشرين مليارديراً) بعضهم وزراء في الحكومة وبعضهم أعضاء في مجلس النواب؟ أما المتسترين فالله أعلم كم عددهم؟

هل تعلم أن الديموقراطية في لبنان تنتج، على قاعدة العددية في الأصوات، أركان النظام ذاته، منذ أن نال لبنان الاستقلال في العام 1943م؟

هل تعلم أن الديموقراطية في لبنان لا تستطيع أن تؤمن فرص عمل لأهم شريحة في المجتمع من الاختصاصيين في شتى الحقول؟

لا يتَّسع مقال أو دراسة أو رد أو حتى مجلدات لاستيعاب نعم الديموقراطية في لبنان. وأرجو اعتبارها تنفيس عن احتقان تاريخي غضباً من نعم الديموقراطية عندنا.

قل لنا يا سيدي كم هي آثام الديكتاتورية عندكم في العراق؟

كانت الطبقة الوسطى في العراق هي من أهم معالم نجاح النظام فيه. والتنمية على شتى الصُعُد تلف العراق من شماله إلى جنوبه. يكفي أن العراق قد أنتج صاروخاً انفجر على أبواب تل أبيب. فهل يمكنك أن تسمي لنا نظاماً عربياً واحداً يمتاز بالديموقراطية قد وجَّه الصاروخ الثاني إلى أبواب الاحتلال الصهيوني.

تعال يا سيدي نتبادل المعلومات والخبرات والرأي فنحن كلانا معنيان بشؤون الأمة على قاعدة إنتاج آليات نقدية تحظى بالثقة والعلمية. وعلى قاعدتها لن نبرر أخطاء وقع فيها نظام حزب البعث أو غيره. على شرط أن نحاكم تلك الأخطاء في زمانها ومكانها وظروفها وأن نضع بدائلها الواقعية من دون تعصب وإغراق في السلبية، أو تعصب أو إغراق في الإيجابية. لعلَّنا نمهِّد الطريق ونسهم في التأسيس لرؤية جبهوية ديموقراطية تحكم عراق ما بعد انتصار المقاومة. وهو انتصار محقق غير خاضع للتخمين. فأنا أرى أن الأفق واضح يسير باتجاه النصر، فتكونوا أنتم يا أحباءنا في العراق تحت قيادة المقاومة الوطنية المسلَّحة- قيادة لنا في كل معارك التحرر الوطنية القائمة الآن، وفي المستقبل، من المحيط إلى الخليج.

يداً بيد، وباحتضان ومساعدة من إدارة موقع دورية العراق، هيا بنا يا سيدي الدكتور لنسهم في كشف الغطاء عن الحقيقة.

رد ثالث على الدكتور موسى الحسيني

25/ 6/ 2003م

عندما ابتدأت بنقد دراسة منشورة للدكتور موسى الحسيني في جريدة (القدس العربي)، ومن بعدها في عدد من مواقع الأنترنت، كانت دورية العراق من ضمنها. لم يتبادر إلى ذهني على الإطلاق- أن أخوض في نقاش له علاقة بمسائل شخصية عنده، وأنا أجهلها بالأساس.

أما قصتنا في الخوض فيها، فسامح الله الدكتور الحسيني فقد أوقع نفسه وأوقعني معه في متاهاتها، ويبدو أنه مصرٌّ على تحميلي المسؤولية على الرغم من أنه أعاد تكرارها في رده الثاني. وأخشى أن يعود إليها في أي رد قادم. والتزاماً بالوعد لن أتطرق إليها في ردي هذا على الرغم من عدد من الملاحظات، أعفاني مدير دورية العراق مشكوراً- من بعض جوانبها.

لم أقرأ الدكتور الحسيني من زوايا شخصية إلاَّ بما له علاقة بتفسير مواقفه مستنداً فيها إلى ما عرفته من مواقع داخل نصه الأساسي.

لقد قرأت نصاً (دراسته الأولى) واستعنت بمحاكمة النص من أجل رد التهم التي أحسب أنه وجَّهها بغير وجه حق لنظام حزب البعث. لكنني لم أقرأ تاريخاً شخصياً للدكتور وكنت لا أريد أن أقرأ تاريخيته الخاصة لولا أن استعان بها وكشف بنفسه عنها لتبرير اتهاماته الظالمة.

وأعود واعتذر إذا كان هناك في ردي ما يسيء إليه شخصياً. كما أرجو منه أن ينقطع شخصياً عن إدخال العامل الذاتي في تقييمه لتجربة كبيرة ومترامية الأطراف بحجم الصراع الذي يخوضه شعب العراق ضد أعتى مشروع عالمي وأشده خطراً على البشرية. لأنه بمثل هذا الإدخال لن يقدِّم أو يؤخر من وجهة نظري في نقد نصه الأول لكن إلى الحدود التي يرى فيها أنه كان من المبالغين في إسقاط تجربة خاصة، ولو كانت مؤلمة، من أجل إصدار حكم نهائي على تجربة حكم البعث العامة للعراق.

ففي إسقاط آلام التجارب الخاصة على التجارب العامة يؤدي إلى الوقوع في التعسف بالأحكام، لأن هناك عشرات الآلاف من الذين نظروا إلى تجربة حكم البعث في العراق من مناظيرهم الذاتية فظلموا أنفسهم وظلموا بلدهم وظلموا من حسبوه متهماً فحكموا عليه من دون محاكمته.

يا عزيزي، لا أخفيك سراً أنني كنت سابقاً- أنظر إلى مسألتين اثنتين من منظار ألغيت استخدامه في هذه المرحلة- بعد انكشاف كثير من الأمور التي كانت النظرة إليها تتم في أجواء غائمة بل ومجهولة في كثير من جوانبها، والمسألتان هما:

-لم يكن إحساسي يتحمل أية رؤية سلبية تجاه أي عراقي، لمحبة خاصة للعراقيين الذين لم يتوانوا يوماً ما عن سماع صرخة عربي أينما كان. في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر

-كانت رؤيتي لاتهامات المعارضة العراقية ضد الرئيس صدام حسين وحزب البعث مشوبة بالتساؤل، ولم أشعر يوماً أن الحكم على تلك الاتهامات يجب أن يكون سلبياً بالمطلق، بل كان التروي في الحكم هو المعيار.

ولكن وهذه اللاكن طويلة، وسوف أختصرها بمقدار ما أستطيع:

من بعد الحصار الظالم في العام 1991م، ومن بعد تكاثر نشاط التيارات المعارضة في الخارج، وبعد أن أخذت علاقاتها تظهر إلى العلن. ومن بعد ما انكشف الكثير من الستائر عن تلك العلاقات، وعن الأدوار المرسومة لها في المخطط الأميركي الصهيوني، وعن ضلوع تلك التيارات في تدعيم الاحتلال وتمكينه من الاستقرار في العراق. لكل تلك الأسباب أخذ مني الحذر كل مأخذ ودفع بي إلى أن أكون أميل إلى اتخاذ جانب السلبية في الحكم على تلك المعارضة من الجانب الإيجابي.

ولولا ما ظهر من مواقف سليمة تميَّزت بها تيارات معارضة أخرى حينما انحازت إلى الوطن والدفاع عن الكرامة الوطنية لكنت قد أُصبت بانفجار نفسي من شدة حنقي على معارضة اختارت طريق خيانة أمن وطنها وسيادته وسلامة أراضيه تحت ذريعة الديكتاتورية وبالأسباب والوجوه العامة والغائمة كما جاءت تماماً في دراسة الدكتور الحسيني.

وهنا لا يمكنني إلاَّ أن أرفع تحيتي واحترامي لسلامة الطريق الذي اختارته تلك التيارات وأراني شديد الإلحاح للوقوف إلى جانب اعتراضاتها وحقوقها في ممارسة دورها الوطني في ظل نظام سياسي وطني يحترم الخيارات السياسية والمطلبية لكل تنوعات وتعدديات المجتمع العراقي.

وبالعودة إلى الاتهام بالديكتاتورية فقد كانت أسباب الدكتور الحسيني التي ساقها في اتهاماته واهية وجاءت حكماً تعسفياً بدون مضامين موضوعية أو مضامين مفهومة كمثل عبارته عن تعليم صدام حسين لبس النعال للعراقيين. وما جاء من تشبيه من هنا وهناك يربط فيها وكأن ما يصدر عن الاحتلال يجد له الشبيه في ما كان يصدر عن نظام حزب البعث بقيادة صدام حسين.

لقد كنت موضوعياً في نقدي أيها العزيز، أعطيتك حقك من التقييم الإيجابي حول ما جاء في تحليلك للمقاومة العراقية، ولم أقصِّر في نقدي لما وجدته من ثغرات كثيرة في الجوانب الأخرى، خاصة منها تلك التي افتتحت بها دراستك أو ختمتها بها.

لم أنسبك يا عزيزي إلى أحد الصنفين من النقاد على طريقة إما أبيض أو أسود، فأعطيتك ما تستحقه من ثناء حول جانب، ووجدت من حقي أن أبدي رأياً سلبياً في الجانب الآخر. ولهذا كنت تمثَّل رأيين: الانحياز إلى المقاومة من جهة، وانتزاع كل فضل لقائدها من جهة أخرى، ومنه كان حكمي عليك بممارسة الازدواجية في الموقف.

أنا لا أسمح لنفسي بأن أصادر رأيك وأمنع عنك حرية نقد من تشاء، فالله سبحانه وتعالى هو الكامل الوحيد. ولكن من حقي أن ألفت نظرك إلى تعسف في الأحكام تمارسه على غيرك من دون أن تسمع دفاعه عن نفسه، فكنت أنت الخصم والحكم معاً.

خصمك قسم منه في الأسر، وقسم منه في الخندق المقاوم، وقسم آخر يعاني من التهجير والجوع والتخفي. فمن الظلم أن تقتنص تلك الفرصة لاحتلال قاعة المحكمة بكاملها.

أنا حريص يا عزيزي، كحرصك الذي أنوِّه به من أن تخدش كلمة مني أو منك قد تكون غير مقصودة أن تجرح مقاوم أو تستفزه، فتعمِّق جراحاً يكون قد أصيب بها. ولكن على هذا الحرص أن يكون واقعياً وعملياً. وهو ما لم تلتزم أنت به عندما وصفت الغالبية العظمى من المقاومين، وهم حكماً ينتمون إلى حزب البعث، أو ممن ينظرون إلى الرئيس صدام حسين بالمحبة والاحترام، بالديكتاتورية والعبثية في أثناء إدارتهم النظام السياسي في العراق.

تعال بنا أيها الصديق العزيز، ورابطنا الأساس الحرص على المقاومة، لنقدِّم اعتذاراً مشتركاً لكل مقاوم نكون قد أسأنا إليه بشكل مباشر أو غير مباشر- ويأتي على رأسهم الرئيس صدام حسين كقائد للمقاومة. وللبعثيين قياديين في المقاومة أو مناضلين في زواياهم النضالية.

وهنا أيها العزيز المقاوم بكلمتك، تعال بنا لنتقاسم المسؤولية في الحقل الذي يمكننا المشاركة فيه، لكي نواجه بعض المناهج التي تلعب دور مقاومة المقاومة. أو تسوق وسائل التخريب على المقاومة.

في ملتي واعتقادي ليس من الديموقراطية في شيء أن نوازن بين العدو والصديق حتى ذلك الذي لا يجمعنا رابط موحَّد في الرؤية السياسية معه. وتنتشر على الساحة الثقافية العربية نماذج منهم.

لا يتورَّع تيار يحسب نفسه أنه ولي أمر المثقفين الليبراليين العرب عن ابتكار شرائع وقواعد في المنطق والنقد لم يعرفه تاريخ الفكر البشري سوى مع السفسطائيين السالفي الذكر، الذين حسبنا أنهم رحلوا برحيل مدرستهم اليونانية، فإذا بنا نراهم يولدون في مقاهي حَمَلَة »البايب« من الذين يتسامرون على أرصفة المقاهي في هذا الشارع العربي أو ذاك. ويعلنون من شوارع »هايد باركهم« ما لا يمكن فهمه أو هضمه إلاَّ أنه يصب في دائرة تعويق بعض ظواهر الصحة في الحركة العربية الثورية. ومن أهم مظاهرها في هذه المرحلة التشكيك بهوية المقاومة العراقية، وبنتائج نضالاتها. يتم كل ذلك بأن ينصِّب حملة »البايب« من اليساريين المشبعين بالتعصب الإيديولوجي أنفسهم أساتذة في التنظير والثورة وصنع أنواع من المقاومة على أمزجتهم

من مميزات السفسطائيين العرب أنهم يربطون مواقف التأييد لهذه القيمة الإنسانية أو تلك بروابط المحبة أو الكره لهذا الشخص أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك. فالقيمة الإنسانية العليا ليست قيمة بحد ذاتها في مصطلح السفسطائيين- إلاَّ بمقدار ارتباطها بمن ينظرون إليه بعين الحب. فيا ويل القيمة الإنسانية العليا إذا قام بممارستها من ينظرون إليه بعين الكراهية والبغضاء. فإذا أتى العدل ممن لا يحبون فهو ليس عدلاً إنسانياً بل هو عدل موبوء. فلا يتورَّع هؤلاء من شتم العدل إذا لم ينظروا بعين الحب لممارسه.

وعلى مثل تلك القاعدة ابتكروا مكيالاً منطقياً جديداً يقول مضمونه: قبل أن نؤيد عملاً مقاوماً علينا أن نعرف هوية المقاوم. فتناسوا المقاومة كقيمة إنسانية وربطوا تأييدهم لها بهوية ممارسها. فأصبح الممارس (المتغير) هو الفاصل بين تأييد المقاومة (الثابت) أو رفضها. وهذا مَسْخٌ لقواعد المنطق المتعارف عليه في قياس النتائج حسب قربها أو بعدها من هذه القيمة العليا أو تلك. ولهذا رفضوا المقاومة العراقية لأنها تنتسب إلى صدام حسين وحزب البعث.

فلا هم أحبُّوا حزب البعث، ولا هم نظروا في أية لحظة- بعين الحب لصدام حسين. فأصبح الرفض المطلق لهما ديناً وديدناً. رفضوهما وهما في السلطة تحت حجة ممارستهما الديكتاتورية، وهم ليسوا على استعداد لأن يصدقوا أنهما يقودان المقاومة العراقية، بل يستكثرون عليهما أن يكونوا في شرف الأسر، أو شرف الشهادة، أو شرف القتال ضد قوات الاحتلال الأميركي الصهيوني.

إن نظرة تعصبية تملأ قلوبهم لهي على استعداد لأن تختلق كل وسائل الدعاية ضد حزب البعث والرئيس صدام حسين وهما في السلطة، وتختلق كل الذرائع ومكاييل المنطق المستغرَب من أجل منع أية إيجابية لهما حتى ولو اختاروا الشهادة في سبيل الوطن.

إن منطقاً كهذا، لا شك بأنه ينتمي إلى الجهل القائم على الغرور المعرفي، والتعصب الإيديولوجي، مما نسمح لأنفسنا أن نطلق عليه منطق »عنزة ولو طارت«.

وقام البعض منهم، أي السفسطائيون، ولكي لا يرتكبوا الإثم بعدم تأييد المقاومة العراقية، بتجهيل هوية المقاومة (بمعنى الذي أعدَّ لها ومارسها منذ اللحظات الأولى لوقوع فعل الاحتلال، واستمر في أدائها حتى تحقيق أهدافها كاملة) لأنهم على قاعدة النظر إليها كقيمة عليا- لا يريدون أن يظهروا بمظهر المتناقض، فراحوا يروِّجون نسبتها إلى هذه الجهة أو تلك، ولكن باستثناء حزب البعث!!!

في رسالة الرئيس صدام حسين، قائد المقاومة العراقية، بتاريخ 17/ 9/ 2003م، وجَّه نداء إلى أبناء الأمة العربية، سواء من الوسط الرسمي أو الشعبي، قائلاً: »إن العراق جزء حي من أمته فليتذكر بقدر همته ونيته قبل أن تفوت على الفعل فرصته، ومن لا يستطيع فيكفينا منه الدعاء الصادق، ومن لا يستطيع أي موقف إيجابي فليكف الله شره عنا وحسبنا الله ونعم الوكيل«.

يتذكَّر الأخ الدكتور أنني لم أكن موافقاً على متن دراسته عن المقاومة فحسب، بل قلت إنني لا أستطيع أن آتي بمثل دقة التعبير الذي أتى به الدكتور الحسيني أيضاً. فليعفنا الدكتور من هذه المسألة التي أصبحت في دائرة الاتفاق التام. والعودة للتذكير بها لا يمكن أن يزيد إيجابية الاتفاق سنتمتراً واحداً.

نحن متفقان يا عزيزي، إذاً، حول مسألتين:

الأولى: حول أهمية المقاومة العراقية وواجب دعمها بشتى السبل. وأكرر: لو فصلت متن دراستك عن مقدمتها وخاتمتها وعن بعض الإشارات (التي جاءت كجمل اعتراضية، والتي وجدت شخصياً أنها جاءت في غير مواقعها) لنصحت بأن تعمم تلك الدراسة على شتى المنابر الثقافية والحزبية التي تؤيد المقاومة العراقية.

الثانية: حول الموقف من عملاء الاحتلال: نحن متفقان حول مسألتين:

-الرفض الكلي لما قامت به تنظيمات وحركات وقوى وأشخاص بالتعاون مع أصحاب المشروع العدواني على العراق، تحضيراً وإعداداً ومشاركة، قبل الاحتلال وبعده. وعلينا أن نقوم بمحاكمتهم حسب قواعد الأمن الوطني والسيادة الوطنية.

-الرفض الكلي لكل عمالة حصلت بعد الاحتلال تسهل استقراره في العراق.

نحن لا نتناقض من حيث المبدأ في التمييز بين الضلالة والخيانة. ولكن التمييز بينهما دقيق جداً، نحتاج للتمييز بينهما إلى شفرة جرَّاح ماهر. والسبب أن لا نصيب ضالاً بتهمة خائن، ولكن على ألاَّ نسمح لخائن بالتسلل من جديد إلى جسم الوطن.

أما الجوانب التي نحن لم نتَّفق من حولها فهي اثنتان:

الأولى إجراء محاكمة عادلة وموضوعية لنظام حزب البعث وللرئيس صدام حسين.

أما الثانية فهي إشكالية تجهيل هوية المقاومة العراقية.

حول الأولى، أرى من الواجب، بعد الكشف الواضح عن طبيعة الخطاب المعارض السابق، أن نغيِّر نحن أيضاً آليات الخطاب النقدي للرئيس صدام حسين، ولنظام حزب البعث. ونحن إذا توصلنا إلى آلية جديدة بعد أن انكشفت حقائق كثيرة كانت مستورة سابقاً حول المعارضة العراقية- نستطيع أن نقدِّم بحوارنا حول هذا الجانب الكثير الكثير للحركة النقدية السياسية العربية على مستوى أدوات المعرفة ومستوى النتائج النظرية السياسية لتحديد أسس سليمة للعلاقة بين المعارضة والنظام الحاكم.

أما حول الثانية: فترانا نختلف حول مسألة التجهيل اللاحق بهوية المقاومة العراقية:لم يقم الدكتور الحسيني بتوضيح منهجه عندما قام بفصل تعسفي بين المقاومة (كعمل نظري وميداني رائع) وحزب البعث (كصانع للمقاومة إعداداً فكرياً وعسكرياً وممارسة نضالية).

لا يكفي الهروب، نصحاً بالابتعاد عن الفئوية، أن نعطي أوصافاً عامة للمقاومة. فالدكتور صاحب تجربة نضالية في صفوف المقاومة الفلسطينية، وهو لم يخفٍ انتماءه لأحد فصائلها. فإذا كان الإعلان عن الهوية عملاً فئوياً، يحق لنا أن نتساءل: هل كل تنظيم فلسطيني أعلن عن هويته هو فئوي؟ وهل كل تنظيم لبناني مارس المقاومة ضد العدو الصهيوني وأعلن عن هويته هو فئوي؟

فإذا كان من حق كل التنظيمات المقاوِمة أن تعلن عن هويتها، فهل يجوز لغير حزب البعث ما يجوز لغيره؟

وهل الدكتور، وما يمثل من منهج في تجهيل هوية المقاومة العراقية، يشك بدور حزب البعث، بقيادة الرئيس صدام حسين، في الإعداد للمقاومة منذ سنوات؟ فإذا كان يشك أو يشكك، فهل يريحه أن يسود منطق الاحتلال في نسبة المقاومة تارة للقاعدة وتارة أخرى للزرقاوي وطوراً لفلول من هنا أو هناك وطوراً آخر بنسبتها إلى إرهابيين قادمين من خارج العراق؟ وإذا كان لدى الدكتور معلومات لا نملكها فمن واجبه على الأقل رداً على التشويه المعادي- أن يعلنها.

رد رابع على د. موسى الحسيني

(لم يُنشر الرد بناء على اتفاق إنهاء الحوار)

عزيزي الدكتور الحسيني

بداية أعترف بأننا أرهقنا كاهل القارئ الكريم بكثير من المواضيع التي لا تضيف إلى مخزونه المعرفي أكثر من حواديث تمَّ التقاطها بشكل عشوائي من هنا أو هناك، ورحت يا عزيزي الدكتور تبني أحكاماً عليها تتميَّز بالكثير من التعصب خاصة وأنك قد اتخذت أحكامك بشكل متسرِّع، ورحت تنبش حكاية من هنا، وحكاية من هناك لتدعيم صحة أحكامك.

حتى ادِّعاؤك بمقارنة ثلاث محاولات لمشاريع نهضوية عربية جاء في منتهى التعسف والقصور في التقييم، سواء بانتقاء ما يخدم أحكامك أو بالتركيز على ما هو شكلي فيها على حساب الجوهري، وكأنني بك تريد أن تستخلص من دروس تجربة محمد علي باشا والرئيس الراحل عبد الناصر الجزء السطحي منها، وهو ما يتعلَّق بعملهما من أجل توفير بعض السلع الاستهلاكية للمواطن لتصل إلى تسجيل قصور في مشروع حزب البعث في العراق، المشروع النهضوي العربي الذي يهدف إلى استبدال مجتمع مستهلك بمجتمع منتج على شتى الصعد، أي من مشروع نهضوي قومي شامل (لم يستوعب جوانبه مجلدان كاملان من المعلومات الموثقة) لينحدر به إلى مستوى مشروع لتصنيع »الطماطة والبطاطا«. وكأن حقك الديموقراطي في تقزيم مشروع كبير ببعض جوانب الاستهلاك العادي، يعطيك صفة إرغامنا على التصديق أن المشاريع النهضوية تقوم على الأساس الذي تتصوره أنت.

أنت يا عزيزي تغوى التقاط الحواديث الشخصية والتاريخية (وهنا أترك جانب استخدامك للتاريخ بالشكل السطحي الذي تستخدمه إلى المهتمين بفلسفة التاريخ)، وتهواها، لاستخدامها من دون سياق منطقي لتوظيفها في مصلحة أحكامك التي أصدرتها قبل أن تتمعَّن بالأسباب والوقائع. كما تغوى التقاط جمل منفصلة عن سياقها العام أيضاً. وهذا ديدن المتعصب لرأيه. ومن موقعك الكاره لصدام حسين تزيِّن أسبابك العدائية بكل ما في جعبتك من أوصاف وأسباب، ولا تتورع عن اختلاق ما تريد لدعم الجانب السوداوي من الصورة لتضفي تعتيماً أكثر عليه. وإليك بعض الأمثلة التي تطلق فيها العنان للدفاع بشكل سطحي عن هذا، وإغراق ذاك باللوم والاتهام:

»الغنى المفرط للعراق مقابل الشحة في مصر «، و»تجربة صدام لا تخلو من خلل كبير«، و»نفكر بالصاروخ والقنبلة النووية ونستورد معجون الطماطة «، و»ولا يمكن ان نتهم عبد الناصر بالدكتاتورية «، و»ولم يمارس عبد الناصر القسوة والقمع ضد خصومة بالمستوى الذي مورست فيه بالعراق «، و»في العراق كانت النزعات الدكتاتورية من القوة والشدة «، و»توفرت فرصة للتطور النهضوي الشامل للعراق بشكل لم يتوفر لغيره من الدول العربية «، و»وصلت التطلعات الديكتاتورية عند الرئيس حدا تجاوز الحدود «، »ان هذه مجرد أمثلة للأخطاء القاتلة«، و»ورغم الجروح العميقة التي خلفها النظام «، و»تتحول الشدة إلى منهج عام وقمع حتى من يتفوه بكلمة استياء واحدة «.

لقد تأكد لنا هيمنة ديكتاتورية الإيديولوجيا في اتهاماتك من خلال ما تلصقه من دفاعات عن هذا وذاك (كمثل امتداحك لكل التيارات الوطنية العراقية باستثناء حزب البعث فيقول: »والقوى الوطنية التي ليس هناك من غبار أو حتى نقطة سوداء صغيرة يمكن ان تشوه مواقفها الوطنية «، و»والأسماء كثيرة للجماعات والأفراد ، مع آني أستطيع ان اجزم أن لا أحد من هذه الأطراف استفاد أو فكر في الاستفادة من النظام«)، (وكمثل امتداحك لأخلاقيات شكري القوتلي »لغياب شخصية تمتلك روحية شكري القوتلي في التضحية بالموقع الشخصي من اجل هدف سامي عام «، وردحك بأخلاقيات البعثيين الذين انتهكوا »الثوابت الأخلاقية والوطنية «). ومن تقريع لهذا وذاك، بسياقات عصبوية وليست بسياقات تحكيمية.

تستند في تقييمك للمشاريع النهضوية الثلاثة، وكأنها جزر منفصلة عن بعضها البعض، وكأنها لم تأت في سياقات تاريخية ذات علاقة باستمرارية تاريخية للتغيير التي تمر بها المجتمعات. إن رؤية التاريخ من هكذا منظار تستخدمه يستند إلى منطق البتر والإلغاء للمحطة التاريخية التي لا تلائم مزاجك أو إيديولوجيتك. ولم تقف على الإطلاق عند قوانين التطور والارتقاء التي تضع تلك المشاريع الثلاثة في سياق مترابط يستفيد اللاحق من إيجابيات السابق ويلغي سلبياته. ولذلك قلَّما تجد مشروعاً مبتوراً عن الآخر ليصلح أن نقارن بينها بغاية اختيار أحدها ورفض الآخر، فالمشاريع الثلاثة هي إنتاج لبيئة اجتماعية وفكرية وسياسية تتراكم فيها الأسس المعرفية لتنتج أسساً أخرى تخدم تطور البناء المعرفي للمجتمع العربي.

بعد أن تستحسن مزايا المشروعين (محمد علي باشا وجمال عبد الناصر)، وبعد أن تجرِّد مشروع البعث النهضوي من كل مزاياه وأهميته، تعود إلى الاعتراف بمزاياه مفتعلاً القول بأن »التوجهات النهضوية رغم ما بها من أخطاء كانت هي السبب الحقيقي للعدوان على العراق ، ونظام صدام حسين كجزء منه – وليس العكس«. وكأنك تندم على اعترافك بأهمية المشروع، (الذي أثار خوف الاستعمار ليس لأنه كان فاشلاً بل لأنه كان ناجحاً)، تستعيد سيرتك الأولى بممارسة هواية تجريده من أكثر ثيابه التي تظهر نجاحاته، وتلبسه ثوب الفشل من جديد، فتقول:

-»كانت إحدى الأخطاء التي حارب بها صدام مشروعه النهضوي بتسليمه بأيدي مجموعة من الجهلة عديمي الخبرات «. أنظر يا عزيزي الدكتور إلى مواقع التناقض التي تنزلق إليها من دون دراية وتبصر. وهل يمكن أن ينجح الجهَلَة في بناء مشروع كمثل المشروع الذي عرَّض العراق للعدوان عليه؟؟!!

-أو بتسليم الأمور إلى أجهزة تركض وراء تأمين مصالحها الخاصة، فتقوم بفبركة معلومات عن خطر موهوم لترفع من رصيدها أمام الرئيس »فهي معنية بخلق الأزمات بشكل دائم لتحتفظ بدورها وامتيازاتها ، من هنا يتم تضخيم حجم المخاطر أو تلجأ هذه الأجهزة أحياناً لاختلاقها إن لم تكن موجودة«.

كان من الممكن أن تجد يا عزيزي من يصدق كلامك لو لم تكشف بنفسك حجم المخاطر التي كان يتعرَّض لها الأمن الوطني والسيادة الوطنية العراقية من كثرة تيارات المعارضة العراقية التي علَّبتها أجهزة المخابرات الأجنبية. أو أنه لا يكفيك أن ترى كل أولئك الذين قدموا على دبابات الاحتلال وتسلَّموا ولاية أمر التطبيق الديموقراطي في عراق ما تحت الاحتلال؟! وهل اعترافات علاوي وغيره ممن تعرف الكثير عنهم كانت تضخيماً لما كانت تقوم به بتكليف من أجهزة المخابرات الصفراء والسوداء والحمراء؟! أكفنا شرَّك يا رجل والله نعم الوكيل.

تعتمد على روايات تعترف بنفسك أنها ضعيفة كما يرد في متن نصك »ولا أزعم أني أعرف أدق تفاصيلها «، أو »كما تسربت بعض المعلومات السرية «، أو »ولا نستبعد صحة الرواية «، كروايات منسوبة لبعض البعثيين السابقين أو مما أتحفتنا به عن دور الملك حسين في كشف مؤامرة من هنا أو من هناك.

يظهر من ادعاءات الحسيني أنه مخزن لتجميع الإخباريات التي يعتقد أنها ترقى إلى مستوى المعلومات الموثوقة، وكأنه إما هاو لجمع الإخباريات أو أنه رئيس لجهاز أمني تفوق إمكانياته إمكانيات جهاز رسمي. ويبني أحكامه عليها، وهو يظهر أنه واثق من عدالة حكمه. إن إمكانياته الكبيرة في جمع المعلومات الغث منها والسمين، وبناء أحكامه عليها، يختزل في نفسه أدواراً كثيرة لآخرين: فحرصه على الديموقراطية في العلاقات الداخلية لحزب البعث تظهر وكأنه أكثر حرصاً من البعثيين أنفسهم. وهو يشق أمامنا أنموذجاً جديداً للديموقراطية وفريداً في الوقت ذاته. وكأنه يدعو كل الأحزاب أن تستعين في إدارة شؤونها الداخلية بمراقبين من الخارج. وعليها أن تأخذ بنصائحهم. و إلاَّ يصبحون متهمين بالديكتاتورية.

يصوغ الدكتور الحسيني مبادئه بما يتلائم مع مزاجه الإيديولوجي وبما يتلاءم مع مذمة ما لا يهواه من الإيديولوجيات الأخرى. ومن مستغرَب الأمور أن كل المقاومين يستشهدون من أجل مبدأ وطني سامي إلاَّ البعثيين عنده- فلا يستشهدون إلاَّ في سبيل العودة إلى السلطة. ويعود السبب عنده إلى عاملين لم يكتشفهما واحد غيره حتى من المغالين أكثر منه في كراهية البعث وكراهية صدام حسين، وهما:

-خيانة قيادات البعث: ويحمِّلها »مسؤولية ما حصل من انتهاكات للثوابت الأخلاقية والوطنية «. و»خيانة قيادات الحزب لهذه الشعارات (أي الشعارات الوطنية)«. و»إن أحداً لم ينهك حزب البعث أو يحبط تجاربه غير قياداته«.

-انحطاط أخلاقية البعثيين الوطنية: »إن البعث لم يستطع ان يسمو بأعضائه لمستوى من الرقي بالالتزامات الوطنية «. ويستطرد الحسيني مرتاح الضمير في مظالمه اللا أخلاقية ليردح بالبعثيين قائلاً: »لذلك نعتقد أن ما يميز البعثي المشارك بالمقاومة الآن عن ذلك البعثي الذي انقلب على نفسه هو ليس مستوى الإعداد أو الدرجة الحزبية بل يعود لعوامل أخلاقية وتربوية لا علاقة للحزب بها«.

لقد أرسلك الشيطان لتعلِّم البعثيين أسس الأخلاق والوطنية. ما أقوله لك ليس أكثر من أنك مدفوع من جماعات تعلم مخاطر اتهاماتك فقامت بتشجيعك لترويج تلك الاتهامات على لسانك، فهي على الرغم من أنها حاقدة على البعث إلاَّ أنها لا تريد أن تسجِّل باسمها أنها تنحدر إلى ما دون سقف الأخلاق، وقامت بتشجيعك لتسجيلها باسمك. يمكنك أن تخلع ثوب الأكاديمية لأن الاتهامات العشوائية ليست من سماتها.

الدكتور الحسيني هو كابن بطوطة السائح بين التنظيمات لا ينتمي إلى تنظيم إلاَّ وتراه خارجاً منه، فحركته الدائمة من تنظيم إلى آخر لا تؤهله لأن يعمِّق معرفته عن تنظيم فتبقى تقييماته سطحية لأنها تلامس ظواهر الأمور، وساذجة في أكثر الأحيان لأنها تلاحق الخبرية الفردية أكثر من النقد الموضوعي للقضايا الاستراتيجية، ومزاجية لأنها تستند إلى رؤية ذاتية وتجربة خاصة.

والدكتور الحسيني رائد لمشروع غريب من نوعه تقوم أسسه على مبادئ الطماطة والبطاطا ولبس النعال

فكل من لا يعترف للبعثيين بما يستأهلون من صفات المناضلين، الذين قاموا بتضحيات كبرى في سبيل الوطنية فهو جاحد ومأفون، ومكانه في أية زاوية إلاَّ في زاوية الوطنية والأخلاق الثورية. أنت يا عزيزي الدكتور تنعم براتبك ومخصصاتك التي تتقاضاها في مكان عملك بعيداً عن نار العذاب والملاحقة والأسر، مرتاح لتوزيع الاتهامات العشوائية التي لم يسبقك إليها بوش وبلير وشارون وبول بريمر الذي حرق البعثيون أصابعه فراح إلى بلاده ليرتاح ويداوي جروحه التي لن تلتئم.

والتزاماً منا بما قاله صدام حسين رائد الأخلاق وقائده، رائد النضال وقائده. ولكي لا نخرج عن جادة الهدوء ونبتعد عن الانفعال، يكفي أن نعيد ما خاطب به أمثالك بهدوئه وصلابته الثورية المعهودة: » ومن لا يستطيع أي موقف إيجابي فليكف الله شره عنا وحسبنا الله ونعم الوكيل«.

أما دفاعك عن بعض تيارات المعارضة العراقية التي نؤكد نحن أيضاً أنها- أثبتت أصالتها الوطنية فلا أعتقد أنه يرضيها إلحاحك على محاكمة حزب البعث أو محاكمة صدام حسين. أو دعوته إلى إجراءات نقدية، بعضها من صلاحيات مؤتمرات الحزب الداخلية والتي لا يستطيع أن يتجاوزها أحد حتى ولو أجرتها بعض التنظيمات القطرية المنضوية لقيادة قومية واحدة مع التنظيم العراقي. وبعضها الآخر له علاقات بين قيادة البعث في القطر العراقي والتنظيمات والتيارات الحزبية العراقية التي تقف في صف المعارضة، حيث إن هذه العملية توجب حضور الطرفين على طاولة واحدة، وما الإصرار من قبل الدكتور الحسيني على نصب تلك الطاولات إلاَّ ابتعاد عن الواقع و إلاَّ إصرار على إجراء المستحيل. و إلاَّ فليقل لنا في هذه المرحلة بالذات- في أي خندق يمكن أن تُعقَد طاولات الحوار؟

وحول هذا الجانب، ولأننا رصدنا نصوص معظم تلك الأطراف إن لم يكن كلها، فلم نجد واحداً منها ممن يقتنع بإلحاح الدكتور الحسيني على المحاسبة والمساءلة والحوار. ولم نجد واحداً منها من ينسب كل الحق إلى جانبه، أو يعمل على تحميل مسؤولية كل الأخطاء لقيادة حزب البعث. إنما الحقيقة التي تؤمن بها كل تلك الأطراف هي أن معركة تحرير العراق من الاحتلال لها الأولوية المطلقة، كما أن لا معنى للعمل من أجل الديموقراطية في ظله.

ولهذا، ولكي لا نطيل بالكلام عن الاتجاه الوطني المعارض سابقاً، سنقتطع الفقرات ذات العلاقة بهذا الجانب من كتابنا الجديد الصادر في بيروت تحت عنوان »المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية«.

ولأجل النظر إلى التيارات العراقية المعارضة سابقاً لنظام حزب البعث، نرى أن خرائطها ومواقفها قد تغيَّرت وتبدَّلت قبل الاحتلال بقليل واتَّخذت أشكالاً متمايزة ورسمت لنفسها أهدافاً أخرى ووسائل أخرى. ولأننا رصدنا تلك المتغيرات فيمكننا تقسيمها إلى الأصناف التالية:

الأول: الصنف الذي حسم مواقفه إلى جانب الاحتلال بشكل كلي.

الثاني: الصنف الذي حسم مواقفه إلى جانب المقاومة بشكل كلي ومن دون شروط مسبقة، مستأخراً كل الخلافات السابقة إلى وقتها وظرفها المناسبين.

الثالث: الصنف الذي رفض الاحتلال لكنه شرط رفضه بمحاكمة لما يحسبه ديكتاتورية نظام حزب البعث وصدام حسين.

وإذا كنا متفقين على رفض سلوكات الصنف الأول وإدانتها، ومحاربة أهدافها ووضعها في دائرة الاحتلال ذاته. وإذا كنا من جانبنا- نعتقد أن مواقف الصنف الثاني يتميز بحس ومسؤولية وطنية سليمة، ومن جانبك لا ترى أن موقفها من العلاقة مع نظام حزب البعث سليمة، والدليل على ذلك انحيازك إلى صفوف الصنف الثالث، أرى أنك يا عزيزي تدخل دائرة التيار الثالث من صنوف المعارضة العراقية السابقة. ومن هنا يجب أن يكون مربط خيل حوارنا.

يا عزيزي الدكتور موسى، ليست تجربتي في الحوار معك جديدة بل هي تجربة قديمة حتى قبل أن أتعرَّف إليك من خلال ما أطلقت عليه اسم كتاب عن المقاومة العراقية. لقد تعرَّفت إليك من خلال منهج معارض شعاره »لا للاحتلال، لا للديكتاتورية«. وهذا التيار/ المنهج يضم في صفوفه كل بقايا الشيوعيين والماركسيين والمثقفين الليبراليين الذين لم يقدروا على تجاوز مرحلة التنافس بين أطراف قوى الثورة العربية على قيادة تلك الثورة. وملفاتهم مليئة بما لذَّ لهم وطاب من الاتهامات ضد حزب البعث سواء كان في السلطة أو في خنادق الثورة.

فإذا كان بعض فلول الماركسيين من الذين يُحقِّرون كل أساس معرفي لا يأخذ الفلسفة الماركسية بكاملها منهجاً لهم في الحياة وهم أسسوا لطبقة مثقفة تمتاز بالغرور والعنجهية، لم يتورعوا عن تصنيف المقاومة العراقية في دائرة المقاومة التي »تُفتِّت الوطن« ليس لسبب إلاَّ لأنها تمتاز بقيادتها البعثية، ولأن البعث أصغر من أن يقتنعوا حتى بإيجابياته، قادهم الغرور المعرفي الماركسي إلى التساؤل عن هوية المقاومة العراقية قائلين: »قبل أن نحدد موقفنا من المقاومة العراقية علينا أن نعرف من يقاتل أولاً«.

أما بعض التنظيمات الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني باستثناء قلة من أعضائه- ينظر إلى المقاومة العراقية من منظار قيادتها القومية عامة والبعثية خاصة، على قاعدة مرحلة التنافس سابقاً حول قيادة حركة التحرر العربية. وهم لم يستطيعوا أن يتخلَّصوا من آثام تلك العقدة. وهي من الأخطاء التي عمل حزب البعث العربي الاشتراكي منذ الثمانينات من القرن الماضي على التخلص منها لخطورتها على مجرى حركة الحركة العربية الثورية. ومن يريد متابعة وقائع هذا الموقف النقدي للحزب أن يعود إلى خطابات ونداءات مؤسس الحزب المرحوم ميشيل عفلق.

وأما حول مواقف المثقفين الليبراليين العرب، فهم لا يرون خلاصاً للأمة العربية إلاَّ من خلال التقليد للفكر الغربي بجوهره وشكلياته في آنٍ معاً. وإذا دعوا للتغيير في البنية المعرفية العربية فلن تتجاوز علاجاتهم نقل البنى المعرفية الغربية مع بعض التعديل الشكلي الذي يتناول شكل التوقيع. إن هذه الشريحة من المثقفين لا تبتعد كثيراً عن الارتباط مع المؤسسات الثقافية الغربية الرأسمالية بشتى الوسائل والسُبُل.

وأخيراً عزيزي الدكتور موسى، لا أخفيك سراً أن المحاورة معك، كانت محاورة مع تيار الصنف الثالث من المعارضة العراقية سابقاً. وهي لا تخلو من الارتباط مع المثقفين العرب، الذين يدَّعون الانتساب إلى تيار المثقفين الليبراليين، وهم يمثلون منهجاً يستند إلى المقدار الذي يسجلون فيه رسائل حب للديموقراطية، كنزعة (موديل) يزينون بشكلها صحونهم الثقافية لأنها تظهر فيها بشكل أجمل، وهم يعتمدون على الشكل أكثر من الجوهر.

وهم يصرون على المساواة بين النضال ضد الاحتلال (هذا إذا كانوا من الصادقين) والنضال من أجل الديموقراطية (التي يعلمون أنه لا مكان لها في ظل الاحتلال). كما يريدون من وراء شعاراتهم أن يحاكموا النزعات الديكتاتورية عند حزب البعث وصدام حسين (على الرغم من معرفتهم أن قيادة الحزب وعلى رأسها صدام حسين أسرى في معتقلات الاحتلال).

إن بسط طاولات حوار مع المنهج الذي تمثل يا عزيزي الدكتور هو نوع من المماحكة قد تسيء إلى المناضلين الحقيقيين، فأرجو المعذرة من وصف الحوار بأنه عقيم، كما أنه مماثل للحوار بين نظام حزب البعث وإدارة جورج بوش قبل الحرب والاحتلال. بحيث كان نظام الحزب في العراق يقدِّم كل البراهين للأمم المتحدة بأنه أصبح خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، بينما كانت إدارة بوش تصر على وجودها، فكان منطق بوش يستند إلى قاعدة »عنزة ولو طارت«، لأنه لم يكن يهمه أن يقتنع بمقدار ما كان مصراً على احتلال العراق بسبب أو بدون سبب. وإن الحوار مع المثقفين الليبراليين، أو أولئك المنتمين إلى نزعات إيديولوجية اتَّخذت أحكاماً بالإعدام على تجربة حزب البعث في العراق سواءٌ أكانت مصيبة أم كانت خاطئة، لأنهم مصرون على أحكامهم حتى ولو حضر أرسطو للنقاش معهم حاملاً معه مربَّعه المنطقي بشحمه ولحمه.

دورية العراق 25/11/2004


ليست هناك تعليقات: