-->
-->
الاحتلال الأميركي يستغفل إيران
وإيران تستغفل عقولنا
4/ 12/ 2004
إن الانتخابات في العراق، هي قبل كل شيء حاجة أميركية للتخفيف من مأزق احتلالها للبلد المذكور. ولهذا فالإدارة الأميركية لا تفوِّت أية فرصة ولا تضيِّع أي دعم لها من أية جهة أتى. لكن التقاط الفرص وقبول الدعم محكومان بالمصلحة الأميركية أولاً وأخيراً.
تحت هذا السقف، خُيِّل للاعب الإيراني بما يبذله من جهد، أن الانتخابات العراقية هي فرصته الذهبية لاقتطاع حصته في العراق إذا ما أوصل مرشحيه إلى ندوة العراق النيابية حتى ولو تحت مظلة «الشيطان الأكبر». وهو حكماً عجز –في السابق- عن تصدير ما سماه الثورة الإسلامية على الرغم من أنه ضيَّع من عمر المنطقة ثماني سنوات من الحرب ضد العراق.
وفي هذا الإطار أطلَّ علينا النظام المذكور بالمستغرَب والمستهجن من وسائله الديموقراطية، والتي لا تقل بشاعة عن رضاه في ممارسة ذلك الدور تحت مظلة احتلال غير شرعي بنظر القانون الدولي والإنساني والأخلاقي، أو تحت مظلة ما كان يسميه العدو الأول و«الشيطان الأكبر». فراح يستغفلنا، أو يستغفل نفسه، بإصراره على ممارسة الديموقراطية، ودعوة الشيعة لممارستها تحت حراب الاحتلال الأميركي. ومن أجل العمل لتحقيق مآربه، كما يتوهم، راح يستغل سذاجتنا بواسطة السيستاني.
لقد برهنت وقائع الأمور التي تدور الآن، سواء على صعيد الانتخابات الملغومة في العراق أو في مؤتمر شرم الشيخ الملغوم أيضاً أو مؤتمر وزراء داخلية دول الجوار العراقي الذي انعقد في طهران، أن الخطة الأميركية جمعت كل المؤثرين على الساحة العراقية من أجل احتوائهم بالتهديد والوعيد، وأخذت تجمع أوراقاً جديدة لمصلحتها تساعدها على احتواء الوضع المتفجر في وجهها تحت قيادة المقاومة العراقية.
ولأن خطوة الانتخابات في العراق –كاستحقاق مطلوب من الاحتلال الأميركي إنجازه من الدول التي أسهمت في الموافقة على قرار مجلس الأمن الرقم 1546- باتت على الأبواب، باتت إدارة الشر الأميركية في عجلة من أمرها لتنفيذها من أجل أن تقدِّم ولو إنجازاً شكلياً إلى الدول الممانعة لبقاء الاحتلال الأميركي لمدد طويلة في العراق لتوحي لها أنها جادة في الإعداد لترتيبات الانسحاب منه.
أما اللاعب الإيراني فوجد نفسه أمام عجالة من أمره ليقتنص مرحلة الرضى الأميركي عنه، وليقتنص فرصة أتاحتها له خطوة إجراء انتخابات في العراق، خاصة وأن ليس هناك من ينافسه في الساحة الشيعية: فما هو ليس تحت مظلته الأمنية، سواء لأجهزة «سافاكه» أو للأجهزة العراقية المأجورة لإرادته وقراره، فهو موجود تحت مظلة حليفه الأميركي وعملائه الآخرين.
وكما أن الاحتلال الأميركي قد نصَّب غازي الياور رئيساً لجمهورية العراق، وقام بتسويقه في شوارع العالمين الغربي والعربي والإسلامي وأسدل من بعدها الستار عليه إلاَّ من لحظات يُظهره فيها مقموعاً بحضور بيغروبونتي، فإن النظام الإيراني قام بتسويق السيستاني في شوارع لندن والكويت ليحصل منه على فتوى بشرعية الانتخابات العراقية، ومن بعدها أسدل الستار عليه.
يُستدَلُّ من إعلان السيستاني تأييده الانتخابات التي ستجريها قيادة الاحتلال الأميركي في العراق، أنها ليست المرة الأولى التي يحدد الوهم المستحيل مواقف المرجعية الشيعية في العراق. إذ مرَّت مواقف المرجع المذكور بعدد من التحولات التي كان يشوبها التردد في الوقوف إلى جانب أحد طرفيْ المعادلة: الاحتلال والمقاومة في العراق. لكن تأكَّد منذ الاحتلال أن اللاموقف هو الذي كان يميز موقفه تحت ذريعة أنه لا يريد تمزيق الصف الشيعي. لكن –منذ معارك النجف في صيف العام 2004م- بدأت التحولات الدراماتيكية في موقفه تتَّضح شيئاً فشيئاً- وكانت رحلته إلى لندن تحت زعم العلاج الصحي أنها كانت رحلة علاج من عقدة اللاموقف. وهذا ما أثبتته الأيام التي أعقبت عودته.
ابتدأت التراجعات عن موقف اللاموقف، والانحياز للاحتلال، منذ أن أعلن مقتدى الصدر تسليم مفاتيح العتبة الحيدرية في الكوفة والنجف إلى السيستاني. وكانت بداية لحل قضية النجف على أسس وقواعد مشبوهة تنال من وحدوية الوطنية العراقية. وليس هناك أخطر من أن يقسِّم الاحتلال العراق إلى مربعات ومثلثات ومخمسات طائفية ومذهبية.
كانت رحلة التقسيم الأميركي للعراق قد استندت بشكل أساسي إلى إخضاع السيستاني إلى عملية غسل نفسي لما شاب تفكيره للحظات قصيرة في الاختيار بين الولاء للوطن أو الولاء للمذهب على الطريقة الإيرانية. وأصبح الأمر أكثر خطورة عندما استسلم مقتدى الصدر لواقع الأمر، وقطع كل الخيوط التي كانت تنسج مواقفه على قواعد مقاومة الاحتلال، وانحاز إلى صف الاحتلال بشكل غير مباشر تحت وعود وذرائع ظاهرها طيب له وللمذهب الشيعي وباطنها ملغوم ومحشو بديناميت تفجير سمعة المذهب وجرِّه إلى مستنقع الموقف البعيد عن الوطنية. وهذا ما يحصل الآن من دون أن يعرف مقتدى الصدر أو يستطيع رؤية حقيقة المؤامرة، وهو الشاب القاصر عن فهم أبعاد ومرامي الخطة الخبيثة الموضوعة للعراق بشكل عام والمذهب الشيعي بشكل خاص.
روَّج الإعلام الأميركي، بتوابعه وأتباعه، وعزف الإعلام الإيراني وأتباعه على الوتر نفسه، للفتوى السيستانية الغريبة الأطوار والعبارات ومن أكثرها سذاجة هو أن من لا يشارك في الانتخابات سيكون وقوداً للنار، وهو لا يُظهره اليوم إلاَّ بشكل صور مكبَّرة على لوائح الترويج لسلعة الانتخابات. وبمثل هذا الأمر الذي يصفع عقولنا أدخل الإيرانيون، والسُذَّج والمضلَّلون، صور السيستاني إلى معترك الإعلانات. فتحوَّلت المرجعية الشيعية إلى ملصق على الجدران يستخدمه التجار، من أميركيين وإيرانيين، للترويج لسلعة الانتخابات.
أما استغلال أحكام غيبية على الممتنعين عن المشاركة في الانتخابات العراقية فليست مقطوعة الجذور عن نسق فكري متكامل بثَّته إدارة السياسة في طهران.
من المعلوم –في هذا الإطار- أن كلاً من الحليفين: الأميركي والإيراني تاجر ماهر. فالتاجر الأميركي يسوِّق لمشاريعه بالترويج للمعركة الفاصلة بين محوريْ «الخير والشر» تحت قيادة جورج بوش، أما التاجر الإيراني فيسوِّق لبضاعته بتوزيع «صكوك» الدخول إلى الجنة أو الدخول للنار. وهذا ما يقارب تجانس أهدافهما ووسائلهما في الوصول إليها، باستغلال القوة الغيبية لخلاص الأنفس في الآخرة.
فإذا كان التاجران هما الإدارتان في واشنطن وطهران، فإن السلعة التي تجتمع حولها أطماعهما هي العراق. ولأن العراق، في نظريهما، سلعة فلا يضيرهما مجتمعين أو منفردين أن يمزقانه قطعة قطعة. فهما ليستا «أم الولد» لكي يبكيا على تمزيقه. لكن المثير في الأمر، والمستغرب، والذي يثير الألم والحنق والغضب، هو موقف من يدَّعون أنهم «أم للعراق»، وهؤلاء ممن يزعمون أنهم عراقيون وعرباً ومسلمين، وهم الذين استغفلهم النظام الإيراني بحرصه الكاذب على مصلحة المذهب، فراحوا يعملون تمزيقاً وتفتيتاً في جسد العراق، وأكثرها تعبيراً ووضوحاً إصرارهم على المشاركة في الانتخابات تحت مظلة احتلال لا شرعي.
إلى هؤلاء نقول: ليست الانتخابات شرعية لأن من يشرف عليها هو معتد أثيم احتل العراق ضارباً عرض الحائط شتى أنواع المبررات الشرعية، ولا تهمه مصلحة العراق ولا مصلحة الذين ينتخبون أو لا ينتخبون. وهؤلاء –المشرفون- سواء الذين يزعمون بأنهم رواد ديموقراطية، أو رواد «المحافظة على المذهب أو حمايته»، فهم يستخدمون أكثر أساليب الكذب والتضليل، وأكثرها إثماً وتضليلاً هو ربط مصير الممتنعين في الآخرة بموقفهم من الانتخابات.
قال الرسول الكريم: «من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد». لكن مبادئ الإسلام لا تنص على أن من يموت دون إجراء انتخابات في ظل الاحتلال هو شهيد خاصة وأن الانتخابات في العراق هي خداع من أجل تبرير احتلال الأرض والعرض والمال.
إن أرضكم محتلة ولا تدافعوا عنها. وأعراض ماجدات العراق تُنتَهَك ولا يرمش للمتواطئين منكم رمش. وأهم أطماع الاحتلال هو سرقة مال العراق، والذي بدأ في السطو عليه بالتعاون مع عملائه، وأنتم لا تدافعون عن مالكم. يحصل كل ذلك وهو جريمة، وتتناسون كل هذا وتوغلون في المساعدة على إضفاء شرعية على المجرم.
فلا يمكننا إلاَّ أن نقول:
ليست المشاركة في الانتخابات هي التي تقرر مصيركم في الآخرة، وإنما المشاركة في الدفاع عن الأرض والعرض والمال هو المقياس الحقيقي لتحديد مصيركم في الدنيا والآخرة.
إن فتوى السيستاني بدخول النار لمن لا يشارك في الانتخابات ليست إلاَّ بدعة إيرانية على قاعدة «ولاية الفقيه» وإلزام أتباعه بتقليده تحت طائلة الاتهام بمخالفة أوامر الله. ولهذه المسألة جوانب دينية مذهبية يعمل الإيرانيون حسب قواعدها. ولكي لا نتناول فتوى السيستاني وكأنها زلة لسان، فهي بالحقيقة قاعدة فقهية إيرانية، تحدد أسس العلاقة بين «الفقيه» و«مقلديه». ولكي نعرف تلك الحقيقة يمكننا أن نقوم بمراجعة فكرية لمصادرها الأساسية.
في كتابه «الحكومة الإسلامية» يعطي الخميني للحاكم الإسلامي، الفقيه الذي هو نائب للإمام، سلطة مُطلَقَة في أصول المعرفة الدينية، وله أيضاً السلطة المطلقة في المعرفة السياسية وتطبيق هذه المعرفة. فهو الذي يتولَّى «الزعامة الكبرى والرئاسة العليا [وهو] المصدر للقيادة العليا الإسلامية… فالأمراء والقواد هم الممتثلون لأوامر الفقيه الشاغل لمنصب الزعامة، الواقع في قمة الحكم، والبقية مأمورون مؤتَمِرون [وهو] المخوَّل من قبل الله في إجراء الحدود»(راجع الصفحة 51 من الكتاب المذكور).
وللفقيه سلطات واسعة غير محدودة، أُعطِيَت إليه من الله تعالى، وهي -كما يراها الخميني- «إجراء الحدود وفصل قضايا الناس، والتصرف في بيت مال المسلمين، وفي شؤون المجتمع، والخلاصة: أن بيده أزمَّة الأمور كلها، الله أعطاه هذا الاختيار، وأوكل إليه أمر الأمة»( راجع الصفحة 51 من الكتاب المذكور). وهو يرى أن: «الزعامة المحدودة بحدود القانون لا يختلف مجال تنفيذها بالنسبة إلى النبيr والإمام (ع) والفقيه. إن الحكومة تكون للعالم العادل: نبياً أم إماماً أم فقيهاً عادلاً»( راجع الصفحة 55 من الكتاب المذكور).
وبناءً على تلك النصوص ابتكر فقهاء المذهب الشيعي من أنصار نظرية «ولاية الفقيه» تعابير ومصطلحات تدل على طرائقهم في قيادة الجمهور الشيعي كمثل إلزامهم بتقليد الفقيه بما يُسمَّى «التكليف الشرعي». و«التكليف الشرعي» يعني أن الفتوى ليست إلاَّ تعبيراً عن الأوامر الإلهية الموكول تطبيقها للفقيه، كنائب للإمام.
وهنا لا يخفى على القارئ أن مخالفة «التكليف الشرعي» عليها تبعات في مصير الإنسان في الآخرة. وحيث إن فتوى السيستاني، حول المشاركة في الانتخابات العراقية، هي «تكليف شرعي» للشيعة يحمل أمراً إلهياً بالمشاركة، فمن يلتزم به يدخل الجنة لأنه نفَّذ الأوامر الإلهية، ومن لا يلتزم بها سيدخل النار لأنه تمرَّد على تلك الأوامر.
وبعد كل هذا يحلو لأولي الأمر ممن يعتنقون نظرية «ولاية الفقيه» أن يوزِّعوا الاتهام لهذا أو ذاك بالخروج عن قواعد الديموقراطية، أو يتَّهمون هذا أو ذاك بالديكتاتورية لأنهم –حسب زعمهم- يصادرون حرية التفكير وحرية الاختيار للبشر؟؟!!
تلك هي قواعد الديموقراطية على ال«موديل» الإيراني.
وتلك هي حبائل الذكاء التي تقود خطوات النظام وكأنه «يتشاطر» على إدارة الشر الأميركية مستغلاً حاجتها لمن يمد لها سبل النجاة، فأغفل أن جورج بوش، بعظمة لسانه، قد أطلق الحرب ضد محور الشر وأحد أعضاء هذا المحور هي إيران. فلن تتناسى ذاكرتنا أن «العراق وإيران وكوريا الشمالية» هي تلك الأقانيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق