-->
-->
هل إيران شريك
في صفقة تمرير سايكس بيكو الجديدة؟
في 6/ 1/ 2006
كدنا نسدل الستار على ذاكرتنا عن الحرب العراقية الإيرانية، خاصة فيما له علاقة بفضيحة «إيران - غيت» التي ارتكبها النظام الإيراني عندما قام بشراء أسلحة من العدو الصهيوني، لولا أن أرغمنا ما يجري تنفيذه الآن في العراق والذي نستدل من خلاله أن تلك الفضيحة لم تكن منفصلة عن المسار الاستراتيجي للنظام الإيراني في المنطقة عامة، والأمة العربية خاصة، ويتمثَّل بالموقف من أسس الصراع العربي - الصهيوني من جهة، والعربي – الأميركي من جهة أخرى.
مما لفت نظرنا هو أن اتفاقية تقسيم الأمة العربية من خلال «اتفاقية سايكس بيكو» القديمة لم تعد أسسها تلبي حاجة الاستعمار والصهيونية لذلك تمت صياغة اتفاقية جديدة تقوم على أسس تفتيت المنطقة على أسس طائفية. ولما استقرأنا أن ما أعده النظام الإيراني، إيديولوجياً وسلوكاً سياسياً، يتقاطع مع أسس تلك الاتفاقية أرغمتنا تلك الفرضية على وصل السابق باللاحق، أي وصل فضيحة «إيران غيت» بما لحق بها ولا يزال من فضائح أخرى لا يمكن الفصل بينها.
من المعروف أن سايكس بيكو الجديدة، كمشروع تقوم بتنفيذه إدارة جورج بوش، بالتنسيق الكامل مع الصهيونية العالمية من خلال ربيبتها «إسرائيل»، تقوم على إعادة رسم خريطة المنطقة على قواعد جغرافية الطوائف الدينية والعرقيات القومية. ويحتاج نجاح الاتفاقية الجديدة إلى توفر عاملين أساسيين:
العامل الأول، وهو وجود إيديولوجيا سياسية طائفية في المنطقة مستندة إلى قوى تنخرط في تنفيذها، وتقوم بحمايتها.
أما الثاني فهو عامل قبول التعايش مع الوجود الصهيوني في المنطقة كمتمم للجغرافيا الطائفية والعرقية. وهذا العامل لا يمكن أن يكتمل من دون الانخراط في تحالف مع الاستعمار الأميركي ومساعدته على إنجاح مخططه الجديد.
يأتي تلازم العاملين معاً لأنه لا يمكن قبول الكيان الصهيوني إلاَّ في منظومة فيدراليات طائفية في المنطقة من جانب، ولأن المنظومة الطائفية لا يمكن أن تكتمل إلاَّ بوجود كيان طائفي لليهود في المنطقة من جانب آخر. فقيام سايكس بيكو جديدة لا شك بأنه سيكون الحصان الذي ستبرر به «إسرائيل» وجودها بعد أن تمَّ رفضها كوجود سياسي يتناقض مع أهداف الوحدة العربية. فالاعتراف بالفيدرالية الطائفية هو تمزيق جديد للمنطقة بكاملها، ومنها وأهمها تمزيق الأمة العربية، ودفن واجتثاث لأي فكر وحدوي إلى الأبد. وهو بالتالي إفساح يؤدي إلى الاعتراف بحق اليهود بفيدرالية خاصة بهم.
على قاعدة أسس هذا المشروع تتلاقى أنظمة الطوائف الدينية، ذات الإيديولوجيات المذهبية الدينية، مع المشروع الأميركي الصهيوني. وإن هذا يؤدي إلى طرح التساؤل التالي: أين إيران من هذا المشروع؟
لموضوعية الإجابة عليه لا بدَّ من أن نعلم نظرياً هوية النظام الإيراني الإيديولوجية أولاً، وأن نعلم ثانياً ما هي الإسهامات السياسية العملية التي يقدمها النظام الإيراني في سبيل إنجاح هذا المخطط.
أولاً: هوية النظام الإيراني الإيديولوجية تستقيم مع أية حالة تفتيتية:
يتلطى النظام المذكور بإسلامية ثورته، فهل صحيح أن الثورة الإيرانية هي ثورة إسلامية؟
إن جوابنا على هذا التساؤل يقتضي أن تعترف كل الطوائف الإسلامية بأن هذا النظام يمثلها. وهذا يقتضي أن يكون مؤيداً من قبل الأنظمة التي تدَّعي بأنها إسلامية أيضاً. وهذا يستدعي أن تكون السعودية والباكستان، مثلاً، مقتنعتان بإسلامية الثورة في إيران. فهل هذا حاصل فعلاً؟
فلو حصل ذلك لكان على كل نظام إسلامي يعترف بإسلامية النظام الإيراني أن يتنازل عن ثوابته المذهبية لمصلحة الثوابت المذهبية للنظام الإيراني. أما ثوابت ذلك النظام فيختصرها الخميني في ما سمَّاه «الوصية الإلهية» بطلبه من المسلمين أن يقتدوا بالأئمة، وأن «لا ينحرفوا قيد أنملة عن الفقه التقليدي الذي هو عطاء مدرسة الرسالة والإمامة… سواء الأحكام الأولية منه أم الأحكام الثانوية …وأن لا ]يسمعوا[ إلى أي وسواس خنَّاس معاند للحق والمذهب. وليعلموا أن أية خطوة منحرفة تشكل مقدمة لسقوط المذهب والأحكام الإسلامية، وحكومة العدل الإلهية».. ويقول أيضاً: و«نرى أن الملك فهد [ملك المملكة العربية السعودية] ينفق سنوياً مبلغاً هائلاً…لطبع القرآن الكريم،وللدعاية إلى المذهب المعادي للقرآن،ولنشر الوهابية،هذا المذهب المليء بالخزعبلات والخرافات…».
سـعيد حـوَّى (عضو المكتب السياسي لأحد تيارات الإخوان المسلمين في سوريا) يقول في معرض انتقاده للخمينية: على عكس ما ادَّعى الخميني أن الثورة الإيرانية هي ثورة إسلامية «فإذا بالخميني هذا يتبنَّى كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ؛ وإذا بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني وبالخمينية، فكانت نكسة كبيرة، وخيبة أمل خطيرة».
أما رأي المذهب الوهابي في المذاهب الأخرى، ومنها المذهب الحاكم في إيران، فحدِّث ولا حرج.
لم نستأنس بتلك الآراء، وننبش عنها، تأييداً لهذا أو نفياً لذاك (فكل مذهب بما لديهم فرحون)، بل لنعطي مثلاً على أن الأنظمة التي تدَّعي أنها إسلامية ليست بأكثر من أنها أنظمة طائفية سياسية. فلو كانت كما تدعي لكان من الواجب أن تلقى إجماعاً من الأنظمة الأخرى من جانب كما أن تلقى إجماعاً من المذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى من جانب آخر. ولأن هذه المسألة طويلة وشائكة قمنا بمعالجتها في كتابنا «الردة في الإسلام»، لذا اقتضى مجال مقالنا الحالي أن نقوم بإطلالة سريعة نريد منها أن نثبت أن النظام في إيران نظام مذهبي، أي طائفي سياسي، يعمل من أجل المذهب، كما يعمل من أجل تأسيس نظام سياسي يجتذب إليه شيعة العالم. وهذا يحمل دلالة واضحة على أنه منخرط، أو هو على استعداد لينخرط، في تقسيم المنطقة على قاعدة إثنية الطوائف. وهذا يدل على أن فيدراليات الطوائف لا يمكن إلاَّ أن تكون من أهم أهدافه السياسية. ولهذا السبب فمن غير المُستهجًن أن تتلاقى أهدافه النظرية مع قواعد سايكس بيكو الجديدة وأسسها.
ثانياً: الفيدرالية الطائفية السياسية، تحدد المسار الإيراني الفعلي في تقسيم المنطقة كلها، ومنها الأمة العربية انطلاقاً من العراق:
1-الذاكرة التاريخية للسلوك السياسي الإيراني تبرهن على وجود مقدمات في العلاقة مع العدو الصهيوني تضرب شعارات النظام «الثورية» عرض الحائط:
بداية ننقل نص الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة القطرية مع أبو الحسن بني صدر الذي كان شاهداً على بدايات تلك الحرب ومتابعاً لإسرارها من موقع رئاسته لجمهورية إيران. وقمنا بنقل ما له علاقة بتلك الفضيحة من الرابط التالي:
arabic.islamicweb.com/shia/interview_baniSadr.htm - 31k
وهذا نص الحوار بين المذيع والرئيس بني صدر:
س- تحدثنا عن موضوع الحرب الإيرانية العراقية ومررت إلى إسرائيل ، هل كنت على علم بوجود علاقات معينة مع إسرائيل لأجل الحصول على السلاح؟
ج- في المجلس العسكري أعلمنا وزير الدفاع أننا بصدد شراء سلاح من اسرائيل ، عجبنا كيف يفعل ذلك ، قلت: من سمح لك بذلك ، قال: الإمام الخميني ، قلت هذا مستحيل !
قال : أنا لا أجرؤ على عمل ذلك لوحدي. فسارعت للقاء الخميني وسألته: هل سمحت بذلك ؟ قال : نعم إن الإسلام يسمح بذلك ، وإن الحرب هي الحرب. صعقت لذلك ، صحيح أن الحرب هي الحرب، ولكنني أعتقد أن حربنا نظيفة، والجهاد هو أن نقنع الآخرين بوقف الحرب والتوق إلى السلام، نعم هذا الذي يجب عمله وليس الذهاب إلى اسرائيل وشراء السلاح منها لحرب العرب، لا لن أرضى بذلك أبداً، حينها قال لي : إنك ضد الحرب، وكان عليك أن تقودها لأنك في موقع الرئاسة.
س- السيد الرئيس، السؤال فعلا محرج ، كيف أن الخميني الذي قاد كل هذه الثورة الإسلامية، ووضع القدس واستعادتها وحماية فلسطين في أولوياته كيف يمكن أن يشتري السلاح من اسرائيل؟! حين نسمع منك هذا الكلام لا نستطيع أن نصدق شيئا مماثلاً.
ج- حتى اليوم وقبل ستة أشهر كان الإسرائيليون ألقوا القبض على بعض المواطنين المتورطين في بيع الاسلحة لإيران، لقد حاولت منع ذلك -شراء الأسلحة من إسرائيل- خلال وجودي في السلطة وبعدها كانت إيران-غيت ، ما معنى إيران-غيت؟ كان أنها فضيحة شراء الأسلحة الأمريكية عبر إسرائيل.
س- قلت إن الخميني قال لك: إذا لم ترد أسلحة عبر اسرائيل فتش عن دول أخرى، من هي الدول التي أعطتكم السلاح في بداية الحرب؟
ج- بالنسبة للخميني كان شراء الأسلحة مسموحاً به من كل مكان حتى من اسرائيل، شكلت آنذاك لجاناً ذهبت إلى أوربا وإلى مصر لأن هناك عقودا بينهم وبين الشاه. (انتهى نص المقابلة).
من وقائع أجوبة بني صدر، تدل على أن النظام الإيراني حتى في أقصى مغالاته في إعلان عدائه للكيان الصهيوني، كان يشرِّع شراء الأسلحة منه. ومن ضمنها شراء أسلحة أميركية عبر ذلك الكيان. فهل كانت الولايات المتحدة الأميركية تعمل من أجل تمهيد لتطبيع العلاقات بين النظام الإيراني والكيان الصهيوني من خلال بيع أسلحة لإيران عبر «إسرائيل»؟
قلنا في البداية أننا كدنا أن نمسح من ذاكرتنا تلك الفضيحة لولا أن جاء ما يفرض ربطها بما يحصل الآن. فما هو الذي حصل؟
2-السلوك الراهن للنظام الإيراني، في العلاقة مع العدو الصهيوني، استئناف للسلوك السابق:
لا بدَّ في البداية من أن نعترف بأن النظام الإيراني قدَّم إمكانيات مادية وإعلامية كثيفة لحزب الله في لبنان من أجل تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني، وقد أنجز الحزب خطوات كبيرة لاقت تأييداً وطنياً لبنانياً عارماً، وترافق هذا التأييد مع احترام واضح على المستوى القومي لما تحقق. إلاَّ أن تلك الوقائع لا يجوز أن تثنينا عن الإشارة إلى التناقض الذي يسود المواقف الإيرانية في النظر إلى ما جرى في لبنان، وما جرى، ولا يزال يجري، في العراق.
أن تقاتل، أو تدفع لمن يقاتل العدو الصهيوني في لبنان، بينما تعاون وتنسِّق في العراق مع من يحمي العدو الصهيوني ويقدِّم له كل أسباب القوة في فلسطين ولبنان، لهو أمر أكثر من مُستغرَب وأكثر مما يثير الانتباه والشكوك. فأن تعرف من هو الشيطان، وتصر على التعاون معه، لهو أمر أكثر من محيِّر ومُستغرَب.
فمن المنطقي أن يكون شعار «إزالة إسرائيل من الوجود»، مترافقاً مع قتال «إسرائيل» في لبنان، ومساعدة من يقاتلها في أرض فلسطين المحتلة. إلاَّ أنه من غير المنطقي أن تفتح الأبواب لها في العراق ، وتتركها تسرح وتمرح من جنوب العراق إلى شماله.
من المنطقي أن تعتبر أميركا «الشيطان الأكبر»، لأنها فعلاً «شيطان أكبر». لكن من غير المنطقي أن تكون أميركا حليفاً تقدِّم له كل المساعدة لتنفيذ مخططاتها الشيطانية. ولا تقف الأمور عند هذا الحد فحسب، بل وأن تتباهى بتقديمك تلك المساعدة أيضاً.
عندما أجاز الخميني لبني صدر أن يحصل على السلاح من «إسرائيل» لأن الإسلام يسمح بذلك، كون هذا السلاح يوفِّر للنظام نصراً ضد العراق، يكون قد أسَّس لفتوى تجيز التنسيق مع «إسرائيل» «الشر المطلق» ومع أميركا «الشيطان الأكبر» حول العراق لاقتطاع قسم منه، وهو حلم كابر في القتال من أجله ثمان سنوات. ولما فشل اغتنم فرصة مشروع «الشيطان الأكبر» والـ«شر المطلق» من أجل تحقيق مصالح النظام الإيراني لتأسيس فيدرالية في جنوب العراق، تمثِّل قاعدة إيرانية للانطلاق باتجاه العمق العربي. وكأن هذا التنسيق ليس أكثر من سلاح يستخدمه النظام من أجل إنجاح مخططاته. فالسماح بشراء السلاح من «إسرائيل» في الثمانينيات من القرن العشرين للعدوان على العراق شبيه في استخدام العدوان الأميركي على العراق والاستفادة منه في أوائل القرن الحادي والعشرين، والتسلل جنباً إلى جنب العدو الصهيوني للاستيلاء على حصة من «كعكة العراق». أما الدلائل فهي كثيرة، والوثائق أكثر. وليس أقلها المظاهر التالية:
أولاً: على صعيد الاستجابة لتقسيم المنطقة والأمة العربية وفقاً لحدود الفيدراليات الطائفية:
1-إعلان إيراني مكشوف، وصل إلى حدود التباهي، مضمونه أنه لولا إيران لما استطاعت أميركا الدخول إلى كابول وبغداد.
2-مشاركة عملاء إيران في احتلال العراق، كمثل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، و«قوات بدر»، و«حزب الدعوة»، قادمين على دبابة أميركية، ودعم سياسي ولوجستي إيراني.
3-المشاركة بالعملية السياسية التي حددت أميركا شروطها واتجاهاتها في العراق.
4-ملاحقة كل من يُظهر، أو حتى يُبطن، نوايا مقاومة الاحتلال. وإما اعتقاله وتسليمه لقوات الاحتلال الأميركي، وإما قتله.
5- تأسيس ميليشيات طائفية، كانت قد تلقَّت تدريبها في إيران، ومن مهماتها الرئيسية أن تزرع الفتن الطائفية. وكل وقائع الأمور في السجون العلنية والسرية التي غطَّتها بيافطات «الشرطة العراقية» تبرهن بما لا يقبل الشك بضلوع تلك الميليشيات في العمل على تفتيت العراق عبر تفتيت النسيج الوطني فيه.
6-الإصرار على دستور ينص على الاعتراف بحقوق الطوائف، على حساب الحقوق الوطنية، ومنها الاعتراف بحق الخيانة الوطنية كحق ديموقراطي. كما الاعتراف بحق الطوائف بالانفصال على قاعدة الفيدرالية. وإن الإصرار على الفيدرالية يتلاقى مع استراتيجية تقسيم الإقليم والأمة العربية بناء لخطوط جغرافية الطوائف.
إن في تلك المظاهر والعوامل والمتغيرات، التي تُنفَّذ بمباركة ومساعدة إيرانية تصل حدود الإصرار، واعتبارها ثوابت في عراق محتل يتم تمزيقه، ما يثبت بما لا يقبل الشك، أن النظام الإيراني ضالع في توفير العامل الأول من شروط فرض اتفاقية جديدة لسايكس بيكو. ويتلخص هذا العامل بوجود قوة إقليمية ذات هوية إيديولوجية مذهبية تسهم في حماية تلك الاتفاقية لأن لها فيها مصلحة استراتيجية، إيديولوجياً وسياسياً.
ثانياً: على صعيد الاستجابة للاعتراف بحق اليهود بفيدرالية دينية:
إن التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية ليس منفصلاً عن التعاون مع الصهيونية العالمية بشكل عام ومع كيانها في فلسطين المحتلة بشكل خاص. فالمشروع الأميركي ليس منفصلاً عن المشاريع الصهيونية، سواءٌ أكانت اتجاهاتها إيديولوجية دينية، أم كانت إيديولوجية رأسمالية. فزراعة الكيان الصهيوني حسب اتفاقية سايكس بيكو القديمة كانت على أسس جغرافية تمتد فيما بعد على المساحة الجغرافية للوطن العربي.
ولما استمر الرفض العربي للوجود الصهيوني على قاعدة أنه وجود يتناقض تماماً مع الاتجاهات الوحدوية القومية، كانت حاجة المشروع الجديد إلى تأسيس اتفاقية جديدة لتفتيت الوطن العربي على القواعد الإثنية، ومن أهمها الإثنيات المذهبية.
وبوسائل تصدير تلك الاتفاقية الجديدة وجدت صدى لها في أروقة طهران، لأنها لن تستطيع أن تجد قدماً لها في العراق، وبالتالي الأمة العربية، من دون وسيلة تتجاوب مع منطلقاتها الإيديولوجية المذهبية، فكان في اتفاقية سايكس بيكو الجديدة بأسسها الطائفية ما يوفِّر الفرصة للنظام الإيراني بتحقيق أحلامه، ولهذا قامت بتأهيل مستلزمات نجاح العدوان الأميركي على العراق.
أما مسألة التناقض التي أشرنا إليها في بداية المقال، حول دعم النظام الإيراني حزب الله في مقاومة الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، بينما قام بمساعدة أميركا على احتلال العراق، فهنا يبدأ دور الإجابة حول أسباب هذا التناقض.
لم يدعم النظام الإيراني العدوان الأميركي على العراق فحسب، بل ساعد الصهيونية، وربيبتها «إسرائيل» على التسلل إلى العراق أيضاً. وهذا ما يضيف سبباً آخر للاستغراب، بل للشك في النوايا، وهو كيف يجمع النظام الإيراني بين متناقضين معاً. فكيف يساعد حزب الله في لبنان لمقاومة العدو الصهيوني بينما هو قادر في العراق على قتاله خاصة وأنه أصبح على حدوده بشكل مباشر. وهذا يطرح السؤال: ألم يستطع النظام الإيراني أن يجنَّد عشرات الآلاف من الإيرانيين وعملائه العراقيين لكي يؤسسوا حزب الله في العراق لقتال الاحتلال الصهيوني الموجود تارة بشكل سري، لا يجوز أن يخفى على المخابرات الإيرانية، وتارة أخرى بشكل علني هنا أو هناك؟
لن نرضى بأن يستغفلنا أحد على الإطلاق. إن الوجود الصهيوني في العراق غير ملاصق تماماً للوجود الإيراني. فهو ظاهر في الخبراء والضباط والجنود والاستخبارات، في أبو غريب والمعتقلات الأميركية الأخرى، كما هو موجود بشكل واضح، وإن غير رسمي، في شمال العراق. أما الوجود الإيراني فهو بعشرات الألوف، إن لم يكن بمئاتها، في شتى مجالات الحياة العراقية.
فهو وجود بارز في سجون الميليشيات الطائفية للتحقيق وممارسة التعذيب. وأعماله واضحة من خلال اغتيال الثروة العلمية العراقية جنباً إلى جنب «الموساد الإسرائيلي». فأينك يا حزب الله العراقي لتقاوم الموساد وهو قابع إلى جوارك في كل زاوية من زوايا العراق.
أيجوز أن يكون الصهيوني عدواً في لبنان وصديقاً في العراق؟
بالأمس ظهر ابراهيم الجعفري على شاشات التلفزيون يمهِّد لمرحلة تعاون بين العراق والكيان الصهيوني، وهو قد أوحى بأن تلك العلاقات تنتظر القرار الرسمي. وبانتظار ذلك القرار يعيش الجعفري مرحلة التطبيع الواقعي مع الصهاينة على أرض العراق. أيمكننا أن نتوهَّم بأن الجعفري فاتح دكاناً على حسابه؟ أم أنه من المسموح لنا أن نقول: لم يفتح الجعفري فمه حول تلك المسألة الخطيرة لو لم يأته الإذن من طهران؟
لقد أكمل البرازاني تصريح الجعفري قائلاً: إنه ينتظر إعلان العلاقات بين العراق و«إسرائيل» لكي يفتتح قنصلية «إسرائيلية» في أربيل بشكل معلن ورسمي. وهذا يعني أن الإسرائيليين متواجدين في شمال العرق فعلياً. وهو قد أعلن وجود ما هو موجود منذ احتلال العراق، وربما قبله كما تدل الوثائق الكثيرة.
وهنا، هل يمكن للنظام الإيراني أن ينفي بأن الأكراد الانفصاليين يمكن أن يتصرفوا بما يتصرفون به من غير رضى منه وقبول؟
وهل لا يمكنه أن يرفض التعاون مع الأكراد الذين يتعاونون مع الصهاينة؟
وهل لا يمكنه أن يطالب بمحاسبة عملاء الصهاينة في العراق، كما يطالب بمحاسبة أنطوان لحد في لبنان؟
أفلا يفاوض النظام الإيراني، بواسطة عملائه، الكيان الانفصالي في شمال العراق على قاعدة رضاه عن وجود خطرين وهما: الفيدرالية الطوائفية والعرقية، والتواجد الصهيوني في شمال العراق لمساعدة الكيان الكردي الانفصالي على تأهيلهم لتركيز سلطتهم الانفصالية؟
ثالثاً: النظام الإيراني شريك فعلي وفاعل في التخطيط لاتفاقية سايكس بيكو الجديدة ومساهم فعلي وفاعل في تنفيذها وحمايتها:
إذا استعدنا ذكر العوامل التي يجب توفرها لإنجاح اتفاقية سايكس بيكو الجديدة:
توافر الإيديولوجيا الطائفية وتوافر الاستراتيجية السياسية لتنفيذها.
وتوافر استراتيجية التنسيق والتكامل مع كل العاملين والمخططين على أسسها، ولأنه من المستحيل أن تبرز إلى الوجود من دون التعاون مع دعاة تمزيق المنطقة على تلك الأسس ويأتي على رأسهم الامبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.
ولما توافرت الشروط النظرية مع الممارسات العملية للنظام الإيراني من أجل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو الجديدة، يحق لنا أن نحذِّر النظام الإيراني أولاً من الاستمرار باستغفالنا، وثانياً أن يفبق المستغفلون من غفلتهم وأن يمتنعوا عن النظر إلى النظام الإيراني على قاعدة «وعين الحب عن كل عيب كليلة». ومن أجل ذلك ندعو النظام الإيراني إلى التراجع عما بدأ يتوهم أنه سيجنيه من فوائد تطبيق تلك الاتفاقية المشؤومة، لأنه لن يجني إلاَّ الحسرة والندم بعد أن تحول حركة التحرر العربي دون نفاذها. وعليه أن يتذكَّر أن المقاومة العراقية التي حالت دون نفاذ مشروع احتلال العراق لن تكون عاجزة عن مواجهة كل إفرازاته: مشاريع نظرية وعملية، وأدوات عميلة تخون دينها ووطنها وقوميتها.
وعلى النظام الإيراني الطائر على جناح نصر موهوم في تنفيذ مشروع تاريخي، وقد يعتبره مشروعاً إلهياً، أن يقرأ التاريخ بإمعان ودقة متناهية، لأنه حينذاك لن يجد قوَّته وعزته إلاَّ داخل جوار قومي عربي حر موحَّد. وعليه ألاَّ يتأخر بالاعتراف بالخطأ القاتل وينخرط في مقاومة المشروع الأميركي والصهيوني في العراق لنصدِّق أنه كان بالفعل جاداً وجدياً في المساعدة على مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين ولبنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق