تحرير جنوب لبنان:
صراع بين موضوعية كتابـة التاريخ وبين شبق الكسب الفئوي
لا بُدَّ، أولاً، من أن نتوجَّه إليكم بأسمى آيات التهاني في عرس التحرير الذي ما زال جنوب لبنان يعيشه حتى الآن. هذا العرس الذي عمَّ أرجاء لبنان، وكل بقعة من بقاع الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. عرسٌ له دلالاته ومعانيه الكبيرة، ليس على لبنان فحسب، وإنما، أيضاً، على كل الشعوب التوَّاقة نحو التحرُّر من الغزو الأجنبي، فكيف به إذا كان غزواً استيطانياً كمثل الغزو الصهيوني؟
ولأن بعض الفصائل حوَّلت الاحتفال بالنصر إلى احتفال فئوي، وعَدَّته وكأنه لها وحدها،
وكي لا يتحوَّل النصر ويتقزَّم،
وحتى لا يتحوَّل تاريخه إلى كتابٍ مزوَّر،
وحتى لا يمحي دمُ شهيدٍ دمَ شهيد آخر، كان لا بُدَّ من أن نتساءل:
هل نَعِدُّ تحرير الجنوب حلقة منفصلة عن حلقات النضال التي سبقتها؟
وهل نمحي دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا، قبل سنوات كثيرة، على طريق مقاومة العدو الصهيوني؟
كيف نكتب تاريخ تحرير الجنوب؟ ومن يكتبه؟ ولمصلحة من؟ هل نُزيلُ شواهد قبور الشهداء الذين لا يحملون هُويَّة التنظيم الذي قطف النصر لأنه استفرد بالعمل المقاوم في مراحله الأخيرة؟
وحتى لا يضيع النصر ويصبح فئوياً، وحتى لا يصبح التاريخ مُلْكاً لأصحاب الأغراض السياسية التكتيكية، وحتى لا تضيع حقوق آلاف الشهداء، كان لا بد من إيضاح ما يجب إيضاحه في هذا المجال.
أولاً: إننا نقف بإجلال وإكرام أمام كل الشهداء الذين سقطوا على طريق تحرير الجنوب، إلى أي فصيل انتموا، ومع أي حزب ارتبطوا. ولا ننكر الدور المهم والفعال الذي قام به مقاتلو حزب الله في السنوات العشر الأخيرة عندما قدَّموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وقاموا بأعمال تتَّسِم بالبسالة وروح التضحية العالية.
ثانيـاً: إن ما قام به مقاومو حزب الله من أعمال تميزت بالنوعية يجب أن لا يلغي ما كان يقوم به مقاومو أحزاب الحركات اليسارية في لبنان.
ثالثـاً: لا بُدَّ من من أن نتساءل عن السبب الذي من أجله تفرَّد حزب الله بالعمل المقاوم؛ وعن السبب الذي من أجله أُبْعِدَت الأحزاب العلمانية / الأحزاب الوطنية اللبنانية أو انكفأت عن واجهة الصراع مع العدو الصهيوني؟ هل كان الانكفاء ذاتياً؟ وهل إن روح التضحية والنضال قد نضبت في داخل صفوف قواعدها الحزبية؟ أم هل كان الانكفاء قسرياً، ولأي سبب ؟
لمزيد من الأسف لم يقم أي حزب من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية بتقديم تعليل لهذا الانكفاء، وهي التي كانت تتصارع في سبيل نيل كسبٍ من هنا وكسبٍ من هناك. ما هو السبب الذي دفع بها نحو الصمت وهي ترى تضحيات شهدائها تؤكل وهم عاجزون عن الدفاع عنها !!!
وهل ننسى التسابق الإعلامي المحموم على الكسب الفئوي، الذي كانت قيادات مختلف الأحزاب تمارسه قبل أن يعلو صوت حزب الله، وبعد أن علا، أو تمَّت مساعدته على أن يكون صوته الأعلى؟
لا ندري لماذا خرست أصوات الجميع أو أُخْرِسَت؟
لم يجرؤ أي منهم حتى الآن على الإفصاح عن السبب الذي من أجله صمتت أمام الزحف السياسي والإعلامي الكاسح الذي تشنُّه قيادات حزب الله تهليلاً لنصر تدَّعي إنجازه لوحدها.
إن كل ما نستطيع أن نقوله نحن هو أننا قد مُنِعنا –في حزب البعث- من متابعة دورنا في المقاومة لأسباب إقليمية. ولم يكن المنع عادياً، بل استخدمت فيه الأجهزة أساليب الملاحقة والاعتقال والتجريد من السلاح ومصادرته؛ ووصلت شدة الملاحقة إلى أسلوب الخطف والاغتيال.
من هو الذي عليه أن يكتب تاريخ المقاومة اللبنانية، سواء كانت وطنية أم إسلامية؟
من هو الذي سوف يكتب هذا التاريخ حينما يُقَرَّر تدريسه في كتب التاريخ الوطنية؟ وهل سيلجأ كاتبوه إلى الموضوعية أم أن قوَّة الحاكم هي التي ستفرض اتجاهاته ووقائعه؟
كان التاريخ يُكْتَب بإرادة من الحكام السياسيين وبما يخدم مصالحهم، وقليلاً ما كان المؤرخ الموضوعي يلعب دوره في العصور السالفة، وكانوا من القلة التي تفسرها قلة انتشار وسائل الإعلام. أما اليوم فهو عصر الصحافة التي تسجِّل يوميات التاريخ حتى بأدقِّ تفاصيلها، ويُصبح تقييم التاريخ بشكل موضوعي، أمام الأكاديميين البعيدين عن الإيديولوجيات السياسية، أكثر سهولة ومنالاً من السابق؛ ولكن، حتى يستطيع الأكاديمي أن يلعب دوره ليس أمامه إلا انتظار أفول نجم نظام سياسي حاكم ومُغْرِض حتى يستطيع أن ينشر نتائج أبحاثه.
وعلى هذا الأساس، نرى أن كل وقائع تاريخ المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني ، وحتى أدق تفاصيلها كانت تُسَجَّل في الصحف والمجلات؛ ومراكز الأبحاث مليئة بها، وأرشيفات الصحف أصبحت بغاية من التنظيم والدقة، التي تسمح لأي باحثٍ أو مؤرِّخ أن يفتح خزائنها؛ ومنها يستطيع بحياديته -إذا كان حيادياً أو غير مأمور بكتابة التاريخ على ذوق هذه الجهة السياسية أو تلك- أن يكتب تاريخاً نظيفاً وموضوعياً بعيداً عن الأغراض السياسية وأهوائها.
أما بالنسبة للانتصار العظيم الذي حققته المقاومة ضد العدو الصهيوني، والتي سَرَقَت فيه أضواء النصر منظمات (مثل حركة أمل وحزب الله) مدعومة بشكل تام وكامل من أنظمة سياسية مهيمنة، فلا يُعَبِّر تماماً عن تاريخ موضوعي وأمين لوقائع يوميات المقاومة التي لم تُوْلَد منذ العام 1982م، أي بعد الاجتياح الصهيوني الواسع للأراضي اللبنانية، بل وُلِدَت قبل ذلك بكثير.
من دون أن نحدِّد مرحلة التحضير والإعِداد وهي تعود لسنوات قبل هذا التاريخ إنطلقت المقاومة اللبنانية، فعلياً، منذ العام 1969م، وسقط فيها لحزب البعث العربي الاشتراكي أول شهيد في تلال العرقوب، وهو الشهيد حسين علي قاسم الذي استشهد في العام 1969م. وتبعه الشهداء: الترك، وهوشر، وحمُّود، والصيادي قرب بلدة الهبارية في العام 1970م.
وبنى حزب البعث، أيضاً، الخلايا الأولى للمقاومة اللبنانية في عدد من قرى جنوب لبنان منذ أوائل السبعينات، وكان من أجلى مظاهرها معارك المواجهة التي حصلت بين مجموعات من جيش العدو الصهيوني وبين عائلة الشهيد علي شرف الدين، وولديه عبد الله وفلاح في 1/1/1975م. ولحقتها معارك المواجهة بين البعثيين في كفركلا وبين قوات العدو في معركتين: حصلت الأولى في شهر تموز من العام 1975م، وتبعتها معركة أخرى في 27/11/1975م سقط فيها الشهيد عبد الأمير حلاوي.
وتواصل البعثيون مع تاريخهم النضالي المقاوم في القتال ضد العدو بعد أن سقطت منطقة مرجعيون؛ فسقط عدد آخر من الشهداء على شتى المحاور. وتتابعت عملياتهم بعد العام 1982م، فبلغت المئات وسقط منهم عشرات الشهداء. ولم تهدأ عملياتهم بعد الاندحار الأول للصهاينة في العام 1985م. وهنا لن ننسى أن أول المجموعات التي كانت تطال تلال سجد المشهورة كانت من المقاتلين البعثيين، فهل ننسى الشهيد ناجي قنبر الذي سقط في إحدى العمليات في تلك التلال، وذلك في 29/11/1985م؟
واستكمالاً لاستراتيجية الحزب التي بدأ في تنفيذها منذ أواخر الستينات، فقد استمرَّ مقاتلو الحزب، بعد العام 1985م، وعلى الرغم من كل العوائق التي كانت تُزْرَع في طريقهم، في عملياتهم العسكرية في داخل الحزام الأمني؛ وقد سقط في أوائل التسعينات الرفيقان الشهيدان: حسين المحمود وسليم بركات في أثناء قيامهما بزرع عبوة ناسفة في منطقة حاصبيا؛ إلى أن توقفت العمليات العسكرية لحزبنا بشكل قسري بعد أن شُدِّد الخناق على الحزب بشكل كامل.
إذ نذكر هذه الوقائع إنما لكي نؤكِّد من خلالها أن التنظيم الأول الذي أعدَّ لاستراتيجية المقاومة ضد العدو ليس دفاعاً عن لبنان فحسب، وإنما لتحرير فلسطين أيضاً، هو حزب البعث العربي الاشتراكي. وعلى التنظيمات اللبنانية جميعها من اليسار واليمين أن تكشف تاريخ المقاومة لترى أن هذه هي الحقيقة من دون منازع.
ولا بُدَّ من أن نُذكِّر أن التنظيمات اللبنانية الأخرى قد بدأت في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني بعد العام 1975م:
-حركة أمل تأسَّست في العام 1975م ولم تمارس أسلوب مقاومة العدو إلا في وقت متأخِّر بعد الاجتياح الصهيوني من العام 1982م.
-حزب الله تأسس بعد العام 1985م، ولم يمارس أسلوب المقاومة إلا في وقت متأخِّر أيضاً.
-الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعلى الرغم من استراتيجيته المُعْلَنَة في قتال العدو الصهيوني، إلا أنه لم يبدأ في لعب دوره في المقاومة، فعلاً، إلا من خلال القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية في العام 1975م.
-الحزب الشيوعي اللبناني الذي ابتدأ يغيِّر استراتيجيته من العدو الصهيوني بعد العام 1969م، وذلك بعد أن كان يؤمن بأن الكفاح الشعبي المسلَّح هو عمل مغامر، بدأ ينخرط في تأهيل عناصره للانخراط في العمل المقاوم منذ بدايات السبعينات.
-منظمة العمل الشيوعي وهي تأسَّست منذ أوائل السبعينات، وأخذت تمارس دورها العسكري من ضمن القوات المشتركة في العام 1975م.
فبالعودة لوقائع التاريخ، إذاً، نجد أن كل القوى التي أسَّست للعمل المقاوم ومارسته بالفعل، قد أُبْعِدَت عن واجهة أقواس النصر، باستثناء علم هنا للحزب السوري القومي الاجتماعي، وعلم هناك للحزب الشيوعي... أما بالنسبة إلينا نحن فغير مسموح لنا على الإطلاق أن نمارس حقنا.
لقد مُنِعَت شتى التنظيمات الوطنية من متابعة العمل المقاوم، ويأتي على رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي، لأسباب إقليمية. واستخدمت الأجهزة كل ثِقَلِها في سبيل المنع، وقد وصلت الأمور إلى الدرجة التي كانوا يلاحقون فيها مجموعات الحزب المُؤهَّلَة للقتال ويتم اعتقال أفرادها. وقد استُخدمت أساليب التصفية الجسدية بحق عدد من المناضلين كما حصل مع رفيقنا الشهيد عبد الأمير مقلد، الذي خُطِف وسُجِن وتمت تصفيته جسدياً وألقى الجناة بجثته في أحد شوارع بيروت بتاريخ 30/6/1987.
إن النصر الأخير الذي تحقق كان يجب أن يكون مُلْكاً لجميع الشهداء، ولكنه قُطِف على قاعدة أن من سُمِح له بالعمل هو الوحيد الذي يجب أن يقطف ثمار جهده ويسرق جهد الآخرين.
أخيراً، وبعد أن أوضحنا بشكل شديد الإيجاز بعض اللمحات من تاريخ المقاومة، التي كان لحزب البعث فيها قصب السبق، لا نستطيع إلا أن نقول إن للمقاومة تاريخ متسلسل بذلت فيه الدم كل التنظيمات بشكل أو بآخر، بنسبة أو بأخرى؛ ولكن كان لحزبنا قصب السبق في وضع استراتيجية للتحرير تستند إلى الكفاح الشعبي المسلَّح. وقد سُرِقت منه، لأسباب سياسية إقليمية، دماء شهدائه بدءًا من الشهداء من آل شرف الدين في العام 1975م وانتهاءً بالشهيدين: المحمود وبركات في أوائل التسعينات من هذا القرن.
وإذا كنا لا ننكر الدور الكبير الذي قام به شهداء حزب الله وحركة أمل الذين جيَّرت قياداتهم كل ثمار النصر لصالحهم، فإنه علينا أن لا نرضى بأن يُنْسى شهداؤنا وأن يُلْغى الدور الذي لعبه حزبنا في مقاومة العدو الصهيوني منذ العام 1948م وحتى الآن.
إن ما نقوم بإيضاحه، الآن، ليس إلا لكي لا ينسى البعثيون ريادتهم لعمل المقاومة في شتى الميادين النظرية والعملية. وكي لا ننسى في غمرة النصر ونشوته أنه كان لهم شهداء فوارس، لو كُتِب تاريخ المقاومة بشكل موضوعي لكان من الواجب على من يبتهجون اليوم أن يبنوا لشهداء البعث تماثيل الفخر والعزة والكرامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق