-->
-->
الموقف الإيراني في العراق
والمنزلقات الخطيرة
نُشر في 21/ 4/ 2004م: دنيا الوطن – البصرة – الوحدوي…
لم تكن زلة موقف أن تطلب الإدارة الأميركية من الحكومة الإيرانية أن تكون وسيطاً مع السيد مقتدى الصدر لمعالجة التداعيات في النجف وكربلاء. ولم تكن مهمة إنسانية خالصة لوجه الله أن تستجيب الحكومة الإيرانية بسرعة للنداء الأميركي.
لم يكن حقن دماء المسلمين، الهدف المعلن للوفد الإيراني الرفيع المستوى الذي وصل إلى العراق، هو الهدف الحقيقي. فأهداف الإعلان الإيراني لم تكن نظيفة –أيضاً-عندما صرَّح المسؤولون الإيرانيون بأن »النجف وكربلاء خط أحمر«.
إننا لا نخرج عن الموضوعية عندما نضع الأهداف الإيرانية في موقعها غير النظيف في الآونة الأخيرة. فتلك المواقف هي نتائج لمقدمات سبقتها في التنسيق الجاد والهادف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإيرانية حول أفغانستان. وهو ما لم ينفه الإيرانيون فحسب، بل أكَّدوه أيضاً. وكان ذلك التنسيق مدعاة مِنَّة أعلنها الطرف الإيراني طالباً من الطرف الأميركي بأن يحفظ الجميل الإيراني لقاء الخدمات التي قدَّمها في رحلة احتلال أفغانستان.
ينظر الطرف الإيراني إلى قضية أفغانستان من زوايا المصالح الإيرانية، ضارباً عرض الحائط كل مصلحة إسلامية أولاً، وكل مصلحة إنسانية ثانياً. وهذا هو المنطق التجاري الصرف.
ففي المصلحة الإسلامية، على الرغم من أننا لا ندخل إلى معالجة المسألة من هذا المدخل، لا نرى أن يدعم نظام إسلامي نظاماً غير إسلامي في احتلال أرض إسلامية. (إيران الإسلامية تتحالف مع أميركا غير الإسلامية ضد أفغانستان الإسلامية).
أما في المصلحة الإنسانية، وهذا ما نقيس منهجا في التحليل عليه، لا نرى في العدوان الأميركي أية قيمة إنسانية يمكننا أن ننصرها. فالعدوان الأميركي –حتى ولو كان مغلَّفاً بقشرة أممية متحدة- هو عدوان على حق إنساني أعلنته الأمم المتحدة نفسها تحت مبدأ »حق الشعوب في تقرير مصيرها«.
بعد توضيح تلك المخالفات الإيرانية للأسس الإسلامية والإنسانية، فهل يبقى من شك لدينا في وضع علامات الاستفهام حول المواقف الإيرانية في القضية العراقية؟
لا علاقة للمبادئ والأهداف الإسلامية والإنسانية في مبادرات إيران ومواقفها من العراق. لأنها تلعب من داخل الملف العراقي لعبة خطيرة. والخطورة فيها أنها باركت العدوان على العراق منذ لحظاته الأولى، أو لنقل قبله بكثير. فهي قد شاركت في الإعداد له، سواء بدور إيراني صامت وراء الكواليس، أو بدور إيراني ناطق من خلال التنظيمات المذهبية السياسية التي أسستها (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وميليشياته »فيلق بدر«)، أو التي باركتها (حزب الدعوة الإسلامي في العراق).
نتيجة التنسيق الأميركي – الإيراني دخلت المخابرات الإيرانية إلى العراق. ونتيجة أبوَّتها للتنظيمات السياسية المذهبية تسلَّلت إلى »مجلس الحكم الانتقالي«. ونتيجة الضوء الأميركي – البريطاني الأخضر اكتظَّت الأسواق وغرف التجارة العراقية بالتجار الإيرانيين، ومنه تسلَّلت إلى أجهزة المافيات (سرقة ونهب) بدون النظر إلى عرقها أو مذهبها، إذ تشاركت الأحزاب الكردية مع الأحزاب السياسية الشيعية (فيلق بدر وجماعات البرازاني والطالباني) في نهب كل ما طالته أيديهم وباعوه إلى التجار الإيرانيين، واستناداً إليه وصف أحد العراقيين الدور الإيراني في العراق قائلاً: »خرجت إيران –بعد احتلال العراق- بأكبر حصة من وليمة ذبح الدولة العراقية«.
إن مستفيداً من وليمة كبرى، كمثل استفادة إيران من وليمة ذبح العراق. كما أن شريكاً في احتلال العراق، كمثال شراكة إيران لأميركا، لا تلزِمُه أهداف إسلامية ولا إنسانية. هذا السبب يفرض على من يريد تحليل الموقف الإيراني الأخير أن يتساءل: أية أهداف يرمي إليها التدخل الإيراني الأخير بعد التهديد الأميركي باقتحام النجف لاعتقال السيد مقتدى الصدر؟
لقد اقتحمت قوات الاحتلال الأميركي مدينة الفلوجة، وحاصرتها، وقتلت المئات من أبنائها، وجرحت الآلاف. فلم يهتز للنظام الإيراني جفن. وكأن المجازر التي تُرتكب خارج كربلاء والنجف لا علاقة لها بأي منظار إنساني.
وليس من الغريب أن لا يهتز الضمير الإيراني بحصار الفلوجة وقتل أبنائها، فهو قد تواطأ على احتلال العراق كله، فهو لا يضيره أن يحتل المعتدي مدينة من مدنه.
أما لماذا أخذ ذلك الضمير يتململ عند حصار النجف؟ فهنا تبدأ مظاهر الخطورة في الموقف الإيراني.
لقد حاصر الأميركيون –منذ عقود طويلة- مكة المكرمة، واحتلوها برضى من النظام الحاكم. واحتل الصهاينة القدس الشريف وعاثوا فيه فساداً، وارتكبوا جرائم كبرى في حق الإنسانية. ومن أجل تلك الأسباب، أعلن النظام الإيراني شعارات العداء لأميركا، كمثل، »أميركا الشيطان الأكبر«، و»الموت لأميركا«.
فالشعار شيء والموقف شيء آخر. فبدلاً من مقاومة أميركا، وقد أصبحت على بعد أمتار من رافعي شعار الموت لها، تتحوَّل أميركا إلى طرف يجوز التفاوض معه وبه ولأجله!!!
فلماذا أتى الوفد الإيراني إلى العراق من أجل »حقن دماء المسلمين في النجف« تحت شعار الدعوة إلى التهدئة بين السيد مقتدى الصدر وقوات الاحتلال؟ ولماذا عاد؟ وبماذا عاد؟
أما بعد عودة وفده من العراق فقد وجَّه النظام الإيراني تهديده »للشيطان الأكبر«، قائلاً: »إن النجف وكربلاء هما خط أحمر«. ولكن كيف حصل، ولماذا حصل؟
يعرف النظام الإيراني أن له مصلحة في احتلال مقعد فاعل في المنطقة العربية، ويعرف أن طريقه إليه لن يكون سهلاً بدون مساندة محلية عربية يتَّكئ إليها. ولهذا السبب قام بتصنيعها منذ أكثر من عشرين سنة، مستفيداً من احتقان مذهبي ضيق عند بعض النُخب الشيعية العراقية. وهو يعرف أنه إذا فقدها فسيخسر وسيلة المساندة الأساسية، ولهذا نراه حريصاً على عدم قطع العلاقة بينه وبينها بشتى السبل والوسائل، ومن أهمها أنه يريد أن يتلطى بغطاء الدفاع عن العتبات الشيعية المقدسة في العراق.
عجباً للشطارة بالتلاعب بعواطف الشارع الشيعي البريئة!! وكأن العتبات الشيعية المقدسة في العراق لم تكن محاصرة أو محتلة قبل الأزمة الأخيرة التي وتَّرت الأجواء بين السيد والأميركيين.
لا يعني للنظام الإيراني أن يكون العراق محتلاً، وكأن العتبات المقدسة غير موجودة في العراق. أو كأن العراق شيء والعتبات شيء آخر. وأنه إذا احتل العراق فلن تكون العتبات تحت الاحتلال!!
بلى إن العتبات كانت محاصرة ومحتلة وممنوعة من الحرية، بمعنى امتلاك حرية القرار السياسي وتطبيقه في اختيار الدستور أو شكل النظام أو حتى اختيار الحاكمين العراقيين الوطنيين الأكفياء على قاعدة الاختيار الشعبي الحر.
أما السبب الذي من أجله، تحوَّل الموقف الإيراني من موقف الوسيط، الذي أضاء الخطوط الخضراء، الغيور على حقن دماء المسلمين، إلى الموقف الذي يضع الخطوط الحمراء أمام الاحتلال، فنراه كالتالي:
توهَّم النظام الإيراني أنه ولي لأمر الشيعة في العراق، فتعجَّل قيامه بالوساطة لعلَّه يكسب رضى وعرفان للجميل من قبل الأميركيين، لكنه فوجيء حال وصول وفده المفاوض إلى العراق، بأن حسابات حقله لم تلق رضى من البيدر الشيعي تحديداً. فالبيدر الشيعي العراقي يحسب الحساب لأكثر من أمر:
أولهما أنه لا يرضى بحقن دماء المسلمين في النجف وكربلاء بينما يتفرَّج على إهراقه في الفالوجة والموصل، فقد تربى الشيعي على حس وطني سليم، باستثناء من ربَّاهم النظام الإيراني على الحس المذهبي التفتيتي.
وثانيهما، هو ما لمسه الشيعي من خلال سلوكات النظام الإيراني التجارية التي لعقت الكثير من الدم العراقي، ولم ينج الدم الشيعي من اللعق.
وثالثهما، هو الانتماء الوطني للشيعي العراقي قبل أي انتماء آخر، وهو لا يرضى أن يُقال بأنه كان يتفرَّج على احتلال أرضه وإهانة عرضه من جهة، أو أن يتفرَّج على إهانة كرامة جاره العراقي وعرضه من جهة أخرى. فالشيعي العراقي لم يقبل أبداً في كل تاريخه أن يكون تاجراً ليس على حساب شعبه فحسب، بل ولا على حساب أي شعب آخر أيضاً.
ورابعهما، معرفة الشيعي أن بلده كله محتل، ودماء المسلمين وغير المسلمين كلها مهدورة وتُراق كل يوم وكل لحظة، على أيدي الاحتلال الأميركي والبريطاني، وعلى أيدي التجار الإيرانيين، وأجهزة المخابرات الإيرانية التي لم تستفحل شجاعة وإقداماً كما استفحلت وأصبحت أكثر شجاعة في التنسيق والتعاون مع المخابرات الأميركية والبريطانية في ملاحقة أبطال المقاومة العراقية واعتقالهم أو تصفيتهم.
لمس الوفد الإيراني، حامل الأضواء الخضراء، أن وساطته سوف تصطدم بالعقبة الشيعية الرافضة للسلامة الشيعية على حساب السلامة الوطنية. فأصبحت بضاعته غير مرغوب فيها، ولم يجد من يريد أن يشتريها ممن حملها إليهم.
وبأسلوب التاجر الشاطر بدَّل بضاعته إلى خطوط حمراء خوفاً من أن يخسر من حسبهم زبائن دائمين على قاعدة الوحدة المذهبية.
في مثل تلك الأساليب الملتوية، التي يسلك النظام الإيراني دروبها، إنما يقود نفسه إلى منزلقات خطيرة لا بُدَّ من أن تعكس آثارها السلبية على الإسهام في تفكيك اللحمة الوطنية العراقية. أما كفى العراق ما يمارسه الاحتلال من تفكيك وتفتيت؟
ليس هناك أكثر خطورة على تفكيك النسيج الإسلامي والقومي في العراق من استخدام الأساليب المذهبية الملتوية، خاصة إذا كانت مغطاة بالدين.
أتركوا العراقيين يحافظون على تاريخهم الناصع بلحمة وطنية أثبتوا أنهم من المتمسكين بها بأهدابهم. ولا تلعبوا مع السيد مقتدى الصدر لعبة المذهبية، فهو قد رفضها، وهو يعمل كي لا يسجِّل في تاريخ المرجعية الشيعية أنها آثرت السلامة المذهبية على حساب وحدة البلاد والعباد.
ونناشد الحريصين على العراق، بمذاهبه وأديانه وأعراقه، أن لا يلعبوا لعبة المحتل الأميركي القاضية بتحييد هذا الطرف أو ذاك ليستفرد بهم واحداً إثر واحد، لأن وليمته لن تكتمل إلاَّ بذبح الجميع واحداً واحداً. ولا تكونوا كالخراف التي تجترُّ بينما الجزار يقود بعضهم إلى الذبح.
ونناشد النظام الإيراني بأنهم إذا لم يكونوا لكل العراقيين، وهم لن يكونوا، فعليهم أن يكفوا العراق شرهم وهو أضعف الإيمان. وأن لا ينزلقوا به إلى منزلقات خطيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق