-->
علاء اللامي
في نقده المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية
يبدو كأستاذ يصحح كراريس الطلاب على منهج أهل الكهف
6/ 8/ 2005
طالعنا الأستاذ علاء اللامي في مقال نشره في جريدة القدس العربي، بتاريخ 3/ 8/ 2005، ناقداً فيه «المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية»، الصادر بتاريخ 9/ 9/ 2003. وبعد أن استكمل نقده وعد القراء بالمزيد.
بداية نقول إننا قرأنا للأستاذ علاء اللامي عدداً من الكتابات، ومنها كتاب صادر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت . وكان دافعنا لقراءته تمييزه بين مرحلة ما قبل احتلال العراق عما بعدها. معبِّراً عن موقف رافض للاحتلال لكنه لا يزال ثابتاً على نقده لنظام حزب البعث تحت عنوان وصفه بـ«الديكتاتورية». ومن تحت هذا العنوان دفعنا الفضول إلى التفتيش عن الأسباب التي تدعو رافض للاحتلال الأميركي إلى وصف النظام السياسي، الذي أسقطته الإمبريالية، بـ«الديكتاتورية». لعلَّنا، وفي ظل الاتهام الأميركي للنظام نفسه بالتهمة نفسها، نستطيع أن نفسِّر ظاهرة أن يتساوى بالحكم نفسه على نظام حزب البعث السياسي طرفان: الإمبريالي مع رافض للإمبريالية.
كنا نرى، أن اتهام الإدارات الأميركية المتعاقبة، بالتحالف مع الصهيونية العالمية، لنظام حزب البعث بـ«الديكتاتورية» له أغراض وأهداف تساعد على إسقاطه إعلامياً قبل تنفيذ استراتيجية عسكرية ثبت أنها مُعدَّة قبل أجيال سابقة من أجل إسقاطه. أما الفضول فكان يدفعنا لقراءة نقد يكتبه معارض عراقي سابق، خاصة أنه أثبت وطنيته بعد وقوفه ضد الاحتلال. وقراءتنا له كانت من أجل البحث، ربما نحصل منها على وثائق ومعلومات واضحة تقنعنا بإدانة النظام، التي قد تساعدنا على تقييم تجربة سابقة نرى أنها كانت بداية جدية لتأسيس مشروع عربي نهضوي.
لكن ما كنا نسعى وراءه من وثائق ومعلومات لم نحصل عليها، بل كل أبواب النقد التي مارسها الأستاذ علاء اللامي لم تخرج عن العناوين «المُضخَّمة» الكبرى التي لاكها، ولا يزال يلوكها، التيار العراقي المعارض العميل للمخابرات الأميركية، والتي استفاد منها الإعلام الأمبريالي أيما استفادة. ومن يريد أن يختبر «حظه» في التنقيب عن وقائع ووثائق محددة في كتابات اللامي وأطنابه فليقرأهم ونرجوه أن يرد علينا الجواب لعلَّه يجد ما لم نستطع العثور عليه. وكان مثلنا كمثل كل لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة. ونحن نرجوهم أن لا يرددوا ببغائيات ما كان قوتاً للإعلام الأميركي لفترة طويلة، كمثل حالة حلبجة والمقابر الجماعية، وكثرة السجون التي وجدها الاحتلال خاوية، فتلك مسائل عالجها عراقيون بعلمية وموضوعية وكشفوا عن الكذب البالغ فيها. وقد استعانوا غالباً بتقارير منسوبة إلى باحثين وسياسيين غربيين.
فإذا كنت توازن بين مسألتين: احتلال العراق و«ديكتاتورية» النظام السابق الذي أسقطه الاحتلال، فلا بد من أن تكون لديك أسباباً وجيهة تقنع القارئ بأنهما يتمثلان بالخطورة ذاتها. وباستثناء أن النظام لم يكن «رحوماَ» بمن أثبت أنه يعتبر «الخيانة» حقاً ديموقراطياً، أو من كان يهدد استقرار العراق وأمنه، لم نسمع من معارض هنا كان أم هناك أكثر من حالات تأفف وإعلان عدم الرضا تارة لمعارض لم يعجبه راتبه، أو يريد أن يكون في سلم وظيفي أعلى. ومن لم يعجبه موقعه السياسي فهو يريد موقعاً أفضل... وهلم جراً...
أما القسوة بحق من كان يعتبر التعاون مع المخابرات الأجنبية، أو من كان يهدد أمن العراق الوطني، فاسألوا الدول ذات الديموقراطيات العريقة، ومنها أميركا وبريطانيا، عما فعلته، وتفعله، يداها وأجهزتها الأمنية والمخابراتية حول ذلك.
وبعد أن قرأنا للأستاذ اللامي مقالات أخرى تتصف بالموضوعية، خاصة بعد أن أثبتت المقاومة العراقية لدى المشككين فيها قوَّتها وتأثيرها وفعاليتها، إذ به يفاجأنا بمقالته الأخيرة التي تنضح نوايا غير سليمة والتي لا يربطها أية صلة بموقعه الوطني الذي احتلَّه فقط برفضه للاحتلال كحد أدنى.
ففي المقالة المذكورة، موضوع نقدنا، يظهر اللامي لأول وهلة كأستاذ يصحح كراريس طلابه. وإذا كنا لا نعترض على التصحيح كمبدأ، ولكننا نعترض عليه كمحتوى لهذا المبدأ. والمحتوى في تصحيح اللامي أنه يحاسب طالبه على قاعدة ذاكرة أهل الكهف. ويصل بنتائج تصحيحه إلى أن آليته للنقد شبيهة بـ«العملة» التي راح أهل الكهف ليشتروا بها فوجدوا أنها لا تساوي أية قيمة شرائية بأكثر من أنها تملك قيمة أثرية. والقيمة الأثرية يُستفاد منها في كتابة التاريخ أولاً ولتقييمه على ضوء الأحداث التي لحقت بها ثانياً.
فاستناداً إلى ذلك لم يكن اللامي أستاذاً موفقاً في تصحيحه كراس المقاومة العراقية، والمُسمَّى «المنهج السياسي الاستراتيجي» الذي كتبته منذ سنتين تقريباً، ولا ندري لماذا تأخَّر الأستاذ اللامي بالقيام بوظيفته «الأستذة» حتى هذا اليوم.
نقول للأستاذ اللامي إن المنهج الاستراتيجي المذكور يرسم حداً فاصلاً بين مفصلين تاريخيين: الأول هو عصر ما قبل المقاومة، والثاني عصر ما بعدها. فالقوى التي سجَّلت تاريخ ما قبلها وما بعدها هي حزب البعث العربي الاشتراكي. فمحاكمة عصر ما قبلها يخضع لآليات مختلفة تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بها. فإذا كانت معارضة اللامي للحزب قائمة على مقاييس ثنائية «الديموقراطية - الديكتاتورية» فليس له الحق في إغفال أهم العوامل التي ترافقت مع تلك المرحلة والتي هي فهم أهداف المعارضة السابقة ووظائفها ومواقعها من القضية الوطنية العراقية، ومواقعها من القضية القومية.
إذا كان تصنيف أخطاء النظام السابق منبثق عن أخطاء في الممارسة الديموقراطية مع التلاوين السياسية العراقية فليس من المنطقي أن نستثني تداخل الخنادق بين ما يقع في حقل الحقوق الديموقراطية وما يقع في حقل الواجبات الوطنية. ففي العام كانت جميع تلاوين المعارضة العراقية تطالب بحقوقها الديموقراطية وهو حق لها بلا شك. تلك التلاوين كانت منقسمة إلى تيارين لا يمكن أن يجمعهما جامع مشترك:
-التيار الخاضع لتوجيه المخابرات الأميركية البريطانية الصهيونية بالإضافة إلى الإيرانية، وهو الذي أراد، ولا يزال يريد، اعتبار «الخيانة الوطنية» حقاً ديموقراطياً. ولهذا السبب تعاون مع التحالف المعادي لوطنه، فباعه من أجل الحصول على مكسب سياسي.
-والتيار الذي يرفض «الخيانة الوطنية» لأنها لا تستقيم مع مبادئ القيم الإنسانية العليا وتشريعاتها. ولهذا لم يرفض التعاون مع أعداء وطنه فحسب، بل وقف في خندق مقاومة العدوان والاحتلال أيضاً.
أصرَّ التيار الأول على إلصاق التهم بما سماه «نظام البعث الديكتاتوري» لتبرير خيانته، وبما يساعد أكاذيب الاحتلال وخداعه. وهو ليس لديه ما يتمسك به ويدافع فيه عن نفسه إلاَّ تلك الشعارات «المضخَّمة» والتي بها برر مشاركته في غزو بلاده عسكرياً على دبابات أجنبية، وهو يبرر الآن دفاعه عن بقاء الاحتلال على أرض العراق.
أما التيار الثاني فقد أجَّل مطالبته بحقوقه الديموقراطية إلى مرحلة ما بعد التحرير، آخذاً دوره في معركة التحرير الوطنية لأنه لا يرى أية قيمة للديموقراطية من دون استعادة السيادة الوطنية أولاً. كما اعتبر أن أي جهد تبذله أية جهة عراقية كانت لا تصب في مصلحة المعركة الوطنية، أو فيه ما يساعد الاحتلال ويبرر له حججه وذرائعه في احتلال العراق، هو جهد غير مبرر بل ومشبوه. وبها يصبح عند هذا التيار فتح الملف الديموقراطي خطوة لاحقة للتحرير وليس خطوة تسبقه.
ولأن نظام حزب البعث، من خلال مراقبته حركة القوى المعارضة في كل مواقع الشتات، كان على يقين باستخدام أجهزة المخابرات المعادية تلك الأوساط المعارضة لأغراض مشبوهة،
ولأن تداخل المواقع الجغرافية لتلك الأوساط المعارضة في الشتات لم تدع مجالاً للتمييز بين من هو خائن لوطنه ومن هو مخلص له، كانت تحصل بعض الأخطاء في الممارسة الديموقراطية. وقد حسم الشك باليقين في التمييز بين خندق «الخونة» وخندق «الوطنيين» هو ذلك الحوار الذي جرى مع عدد من التنظيمات العراقية المعارضة في كانون الأول من العام 2002، وكانت نتائجه وقوف تلك التنظيمات إلى صف الدفاع عن العراق ضد العدوان. وكانت تلك التيارات ترى أنه من غير المنطقي أن تتلهى بنقد سلبيات التجربة الديموقراطية السابقة لأنها ستكون حكماً على حساب توفير مستلزمات مقاومة الاحتلال.
لم يكن استغرابنا عائداً إلى حرمان الأستاذ اللامي من حقه في النقد، ولكننا نستغرب توقيت هذا النقد أولاً والمغالطات التي ارتكبها في نقده ثانياً. فإذا كان ما قدَّمنا به ردنا كافياً حول خطأ التوقيت، فإننا فيما يلي سندلي بأسبابنا حول المغالطات التي وقع فيها الأستاذ اللامي.
ففي مقالته الأخيرة أكثر اللامي من الهفوات والهَنَات والتناقض والابتعاد عن أي موقف وطني. فمقياس الوطنية، في الظرف الذي فرضت فيه مقاومة حزب البعث وقائع جديدة على الاحتلال نفسه، هو أن على كل الأصوات أن تأخذ جانب تأييد تلك المقاومة ومشاركتها واعتبارها «الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي». أما كل ما يصب لصالحها فهي امتدادات مهمة ومؤثرة. وتأثير تلك الامتدادات لم يكن ليحصل لو لم تنطلق المقاومة المسلَّحة. فالسلاح في معركة التحرير هو الأول أما غيره فهو الثاني. لكن هذا لا يعني أن أحدهما يجب أن يطغى على الآخر إلاَّ بسمة أساسية هو أن المقاومة المسلحة هي النواة، وهي الأساس، وهي القاعدة، التي لولا انطلاقتها لافتقدت العوامل المساعدة الأخرى أهميتها إلاَّ في حالة واحدة هي أن تتساعد كل عوامل المقاومة الأخرى من أجل أن تؤسس مقاومة مسلحة. أما وأن المقاومة كانت مؤسسة سابقة للاحتلال وتقوم بعمل بطولي فاق في سرعته كل المقاييس المتوقعة، واختصر بها حزب البعث مسافات طويلة ومساحات زمنية واسعة أمام العراقيين، فلسنا نرى أي مبرر للاشتغال بهويتها أو بأشخاصها لأنهم شخَّصوا بعملهم المثل الذي نطمح إليه. وما سبق من أخطاء لهم ثبت أنها لم تكن تعبيراً عن استراتيجية كما يحلو للأستاذ اللامي أن يوحي بها، بل كانت ردود أفعال فرضتها مرحلة حماية الأمن الوطني العراقي والقومي العربي ثبت، بعد مرحلة الاحتلال، أنها كانت مخاوف جدية.
أن تمارس النقد الذاتي أو تمارس النقد، هما من أهم أسس الديموقراطية الصحيحة. فتفاءلنا خيراً، وشدَّنا العنوان الذي توَّج به الأستاذ اللامي مقالته إلى قراءة المقال، خاصة وأن المنهج السياسي المذكور الذي وضعه الأستاذ اللامي في غربال نقده هو من الأمور الفائقة الأهمية. وهو أيضاً من النصوص التي مضى على وضعها سنتان أي أن عمره يتناسب مع عمر المقاومة العراقية. كما أن مناقشته ونقده لا يمكن أن يتم بمعزل عن التعريف بتلك المقاومة. فالمنهج النظري مترابط بشكل كلي مع وجوهه التطبيقية. ومناقشة أحد الوجوه بمعزل عن الآخر لهو بتر مغرض وليس موضوعياً.
أما تشبيهنا نقده للمنهج على أنه شبيه بتصحيح كراريس طلاب القرن الواحد والعشرين استناداً إلى معلومات أهل الكهف، فهو أنه ينبش «عملة» عبد الكريم قاسم القديمة جداً ليقايض بها «بضاعة» مقاومة تسطِّر الآن أكثر صفحات التاريخ العالمي إشراقاً، بعد أن عجز النظام السوفياتي الذي كان داعماً لعبد الكريم قاسم عن تحقيقه. وهنا نلفت نظر اللامي إلى ما جاء في مقالته مما يتشابه مع «عملة أهل الكهف».
أولاً: نظام عبد الكريم قاسم أجدر بالاستهداف الأميركي من نظام صدام حسين:
بعد أن نام اللامي أكثر من نصف قرن من الزمن على تأييده عبد الكريم قاسم، في خلاله عرف العراق تطورات بالغة الأهمية في تاريخ العالم، وفيها ابتدأ عصر المقاومة المسلحة ضد أعتى إمبراطوريات العالم. فنزل اللامي إلى أسواق العراق بعد أن استفاق من نومه الطويل ليشتري لأصحابه، وكلبهم معهم، شيئاً يقتاتون به بـ«فلوس» يعود تاريخ صكها إلى زمن عبد الكريم قاسم، فلم يقدِّر أي من تجار السوق قيمة تلك «الفلوس». وليس على اللامي إلاَّ أن يعود إلى المغارة إما للنوم الطويل من جديد فيعفي نفسه مشقة النزول إلى المدينة أو أن يعمل على الحصول على «عملة جديدة» يمكن للعصر أن يفهمها.
يغرف الأستاذ اللامي من ملفات «أهل الكهف» ما يلي: «كيف ننظر إلى دور حزب البعث في تدمير النظام الوطني واللاطائفي المنبثق عن ثورة 14 تموز 1958، واغتيال مؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم؟ وأي نظام أجدر بالاستهداف الأمريكي أهو نظام قاسم الوطني المعادي للغرب أم النظام الذي قتله وأدار مذبحة فظيعة لأنصاره ومؤيديه من اليسار الديمقراطي؟». نجيب بسرعة: نؤيد اللامي بأن عبد الكريم قاسم كان ملاكاً في تلك الفترة. وملائكيته كانت تعبِّر عن نفسها في «محكمة المهداوي» وضحاياه. أنت تعرف أن من كان يحكم ليس عبد الكريم قاسم، وأنت تعرف أن فلول من كان يحكم من ورائه ساقطون الآن في «سلة الاحتلال الأميركي»، فأي هراء تقوله يا أستاذ علاء؟
وببساطة وهدوء نقول: إن ألفباء النقد تنطلق من ترابط الظواهر وليس في تفكيكها بشكل تعسفي. أي أن تربط عصر الصراع بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث في أواخر الخمسينيات والستينيات بالعصر الراهن، عصر مقاومة الاستعمار بكل أشكاله، تلك المقاومة التي خطط لها حزب البعث وأعد مستلزماتها قبل العدوان والاحتلال، تلك حقيقة لا يمكن إخفاؤها سواءٌ أشاء الأستاذ علاء أم أبى.
وإننا لا نريد الخوض بتجربة تاريخية، يمكننا الاستفادة منها في مرحلة ما بعد التحرير، لأن المطلوب الآن أن لا نقتسم «جلد الدب قبل اصطياده» كما هو شأن من يريدون انتهاز الفرص إذا عرفوا أن «الدب» مقتول فعلاً.
فالخلاف حول ذلك، وإذا تعدَّى عناوينه الكبرى، لهو خوض لمعركة ليست في زمانها ومكانها المناسبين. على الرغم من ذلك لا يمكننا القفز فوق ما ذكَّرنا به الأستاذ من دون الإشارة إلى عناوين التقييم الكبرى لتلك المرحلة، فنقول: إن عامل الصراع بين عبد الكريم قاسم (أو قل مع الحزب الشيوعي العراقي يومذاك) وحزب البعث، كان محكوماً بسقف أممية العراق أم عروبته. فكان الحزب الشيوعي العراقي آنذاك يريد أن يشد العراق إلى تحت «اللحاف الأممي للاتحاد السوفياتي» أولاً، أي أنه لا يحق للعراق أن يطرق بوابة العروبة سوى بـ«الجرس السوفياتي»، وثانياً كان الحزب الشيوعي، في موضوعة الصراع مع الاستعمار، يسلك الاستراتيجية السوفياتية في الحلول السلمية. ولهذا كانت مواقف الأحزاب الشيوعية العربية آنذاك وحتى السبعينيات لا تؤمن باستراتيجية الكفاح الشعبي المسلح خاصة إذا كانت لا تستجيب لمصالح الاتحاد السوفياتي.
ليست من الموضوعية في شيء أن يستحضر كل ملفات التاريخ العراقي التي للأستاذ رأي خاص منحاز فيها إلى إيديولوجيا فئوية كانت تعشعش في زوايا العقل الحزبي لأكثر من نصف قرن مضى، فنحيله إلى أبحاث قام بدراستها أكاديميون حياديون. وهنا نذكِّر الأستاذ علاء بمرحلة الصراع بين البعث وعبد الكريم قاسم، للإشارة وليس للغرق فيها لأنها أصبحت في ذاكرة أهل الكهف في عصر المقاومة المسلحة، ونحيله إلى قراءة دراسات قام بها أكاديميون من غير البعثيين أو الشيوعيين عن تلك المرحلة وغيرها ليستفيد منها وتعمل على تطهير عقله الملوَّث بإيديولوجيا التعصب.
فإذا كان استذكار تلك المراحل التاريخية ضروري، فنحن نوافق على ذلك، ونوافق على إعادة تقييمها بما يخدم وضع أسس للعمل الديموقراطي في مرحلة ما بعد التحرير، لكن علينا أولاً أن نُطلق رصاصة واحدة باتجاه قوات الاحتلال لنسهم في إنجاز التحرير وليس أن نربك من يقاتل، خاصة أن الذي يقاتل أثبت أنه جدير بالتقدير والاحترام. فالمقاتلون العراقيون أجبروا بوش وبلير على الاستغاثة، وقفزا فوق ملف «الديموقراطية الفارغة»، وفوق ملف «الديكتاتورية» المضخَّمَة. لكن الأستاذ اللامي للأسف الشديد لا يريد أن يسمع صراخهما من شدة «الخازوق» الذي ركبا عليه، بل هو يصر على استحضار ملفات «أهل الكهف». أما السبب فلست أدري ماهيته واتجاهاته ووظائفه وأغراضه.
ثانياً: كان إسقاط نظام حزب البعث مجرد نتاج ثانوي للحرب:
يقول اللامي مكذِّباً ما جاء في المنهج السياسي عن أن نظام حزب البعث كان مُستهدفاً بالأساس لأنه قاد مرحلة بناء مشروع عربي نهضوي: « غير أن الهدف الأمريكي الأول لم يكن كما يلح المنهاج هو اقتلاع النظام السياسي أو الإطاحة بصدام حسين والمجموعة الحاكمة لأنها وطنية ومعادية للإمبريالية والصهيونية، بل إن الهدف الحقيقي هو احتلال العراق وتدمير الدولة العراقية وجعل العراق مثابةً وقاعدة جغراسياسية وعسكرية للولايات المتحدة، أما سقوط النظام فهو كما آنفنا مجرد نتاج ثانوي لتلك الحرب». ويستطرد مزاوجاً تناقضين بارزين عندما يقول: «وأخيرا فإن محاولة بناء التوازن العلمي والدفــــاعي مع إسرائيل كلف العراق ثروات هائلة».
هراءٌ آخر يرتكبه الأستاذ اللامي. لقد انتقد ونقض نقده في الوقت ذاته:
إذا كنت لا تدري أن القرار الأول، الذي يحمل الرقم واحد المؤرَّخ في أول أيار 2003، الذي أصدره بول بريمر «الحرامي الهارب إلى واشنطن»، كان تحت عنوان «تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث»، فنحن نرجوك أن تستعيد ذاكرتك وأن تراجعه من جديد كما أن تراجع التقارير الأميركية التي تأمر ليس باجتثاث البعث كتنظيم سياسي فحسب، بل اقتلاع فلسفته أيضاً. ألم يطرق أذنيك أن الإدارة الأميركية بصدد وضع تشريع يعتبر حزب البعث إرهابياً؟ وهل كل تلك القرارات والتقارير التي أعطت أهمية لحزب البعث لتمثيله الخطورة الأقصى على مصالح التحالف الأميركي - الصهيوني هو «مجرد نتاج ثانوي لتلك الحرب»؟
ومن مآخذ اللامي على نظام حزب البعث هو أنه عمل على بناء يُحدث توازناً استراتيجياً مع العدو الصهيوني، وأنفق «ثروات هائلة» في سبيل ذلك الهدف. وهنا نسأل الأستاذ اللامي: هل الخطأ هو في هدف بناء المشروع أم في الإنفاق عليه؟
فإذا كان الهدف سليماً، فليسمح لنا الأستاذ أن نتساءل:
-هل الإعداد الاستراتيجي لمقاومة الصهيونية، في الوقت الذي تعمل فيه لابتلاع ليس ثروات العراق الهائلة فحسب، وإنما ابتلاع ثروات العالم كله أيضاً، إلاَّ دفاعاً عن ثروات العراق المخزونة؟
-وهل تكون «اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وأوسلو مع الفلسطينيين، ووادي عربة مع الأردن، واتفاق 17 أيار مع لبنان» مشروعة لأنها أخذت بالاعتبار توفير الإنفاق العسكري في الصراع ضد العدو الصهيوني؟
فإذا كان الهدف سليماً فأين الخطأ في الإنفاق المادي من أجل تحقيقه؟ بل أين الخطأ في إنفاق الدم من أجله؟ بل أين الخطأ في تقديم الأرواح من أجله؟
أما إذا كان الهدف، في نظر الأستاذ اللامي، خاطئاً فليسمح لنا بأن نضع علامات الاستفهام حول كل مبادئه في واجب مقاومة الاستعمار والصهيونية.
وهراءٌ آخر في التناقضات التي يقع فيها الكاتب، حينما يقول: «وأين نضع سنوات الدهن على دبس بين النظام البعثي والغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً طوال عقد السبعينات والثمانينات؟ وأين نضع الحرب بالوكالة التي شنها النظام البعثي ضد إيران».
فهل من لديه مشروع ليبني توازناً استراتيجياً مع العدو الصهيوني يدهن من دبس الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل تعطيه تلك الولايات دبساً لكي يدهن به مشروعاً يهدد أمن العدو الصهيوني وكيانه؟ وهل تستطيع تلك الولايات أن تتآمر على حليفها الاستراتيجي الأول القابع على أرض العروبة؟
أما آراؤك عن الحرب مع إيران، فأنت على حق بها، هذا إذا كانت إيران معادية للإمبريالية الأميركية فعلاً. وإذا كان شعار «اميركا الشيطان الأكبر» قد ضلَّلك فنحن لم نكن في يوم من الأيام بمنتهى السذاجة لكي نصدِّق هذا الادعاء.
يا عزيزي الأستاذ. إن من لا يقرن القول بالعمل فهو مخادع ومحتال. نؤكد لك أن العراق لم يكن مسؤولاً عن الحرب العراقية الإيرانية. بل نشير إلى واقعة أساسية وواضحة تحمِّل إيران مسؤولية الحرب. كل الإثباتات الإيديولوجية والسياسية والأهداف الإيرانية تبرهن أن الخميني كان يريد اجتياح العراق للوصول إلى العتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء. وقد باشر بذلك فعلاً. وهناك من الأسباب الشيء الكثير لدينا حول ذلك ولكن المجال في هذا الرد لا يتسع. فباختصار كان موقف العراق في ظل نظام البعث هو الدفاع الأرض العراقية ضد أطماع الدولة الفارسية التي اعتبرت، بعد إسقاطها نظام الشاه، أن لديها «فرصة إلهية» لمد نفوذها إلى جنوب العراق، قبل أي شيء آخر، تحت شعارات مذهبية خدعت بها الكثيرين من أصحاب النوايا الطيبة، وأسهم في تحقيقها مجاميع سياسية شيعية عراقية ليست بخافية على أحد . وإذا كنت غير مقتنع بأهداف الخميني الأساسية، فهل أنت اليوم، بعد وصول الإيرانيين إلى تلك العتبات تحت حماية «الشيطان الأكبر»، ستبقى مصراً على ما قلته في مقالك؟
وعلى هذا الأساس كيف تفسر لنا يا أستاذ علاء اللامي، ما قاله كبار المسؤولين الإيرانيين، وما يقولونه، بعد الحملة التي قادتها أميركا ضد المفاعل النووي الإيراني: لولا المساعدة الإيرانية لأميركا لما استطاعت أن تدخل إلى كابول (عاصمة أفغانستان) وإلى بغداد (عاصمة وطنك العراق)؟
هل تدري بأن إيران اليوم تساوم على العراق والعراقيين مع الأميركيين من أجل إنقاذ رأس مشروعها النووي؟
ثالثاً: هل في المنهج الاستراتيجي مراوغة كما يحسب اللامي؟
يقول في بداية نقده للمنهج الاستراتيجي: « لا وجود لذكر أية أهداف أخرى كتلك التي تدعو إليها بيانات الحزب من قبيل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه يوم 8 نيسان وإعادة الشرعية والرئاسة لصدام حسين»، ويدعو المنهج «للمطالبة بإعادة صدام حسين إلى السلطة، ولكن بشكل مراوغ»، و«والواقع فالمنظِّر البعثي يحاول هنا خلط الأوراق واستثمار لاشرعية الاحتلال وما نتج عنه بهدف إضفاء شرعية مزعومة على نظام صدام». هذا النظام، كما يرى اللامي، الذي يريد المنهج استعادته من خلال تأكيد حزب البعث واحتكاره «صفتين فهو قائد المقاومة وهو أيضاً مديرها... وفي ذلك استمرار تكراري لسياسة الحزب الواحد، والزعيم الواحد، والمقاومة الواحدة ((متناسياً الشعار الذي كان يهتف به شيوعيو عبد الكريم قاسم: ماكو زعيم إلاَّ كريم))»،
وبعد كشفه الذكي لنوايا المنهج، وهي ليست نوايا بل هي قرارات معلنة وواضحة كما جاء في بيانات للحزب تدعو إلى أنه من حق المقاومين، كل المقاومين، أولاً أن يتولوا السلطة بعد مرحلة التحرير. فيأتي اللامي لكي يفرض كفرد رأيه في تحديد آلية استلام السلطة لمرحلة ما بعد التحرير قائلاً: «إن الحكومة العراقية الشرعية، هي تلك التي تنبثق عن توافق عراقي واسع بين ممثلي السكان والقوى السياسية المطالبة بالاستقلال الحقيقي»، وهي التي عليها أن «تبدأ الاستعداد لانتخابات شرعية ورئاسية ديمقراطية وتعددية في العراق تحت إشراف ومراقبة دولية وعلى أساس مبادئ المواطنة الحديثة وليس على أساس المحاصصات الطائفية والعرقية».
عجباً يا عزيزي القابع في أوروبا، هل كان يمكنك أن تقود مقاومة مسلَّحة من هناك؟ وإذا استطعت ذلك فهل يمكنك أن تطلب ممن يدفع الحياة والدم والقهر والسجن والملاحقة أن يقوموا بمبايعتك لحكم العراق؟ وإذا دفعوها إليك فهل تكون أنت الحاكم الراضي الضمير في الوقت الذي لم تعان فيه في معركة التحرير أو تدفع نقطة من العرق ولم تمسح غبار معركة عن جبينك؟
تعال بداية نضع تحديداً واضحاً للحقوق: لم تعرف ثورة مسلحة في تاريخ العالم زهداً في حكم بلادها بعد التحرير، بدءًا بلينين في روسيا، ومروراً بفيدال كاسترو في كوبا، وانتهاء بهوشي منه في فييتنام. كلها يا عزيزي أنموذجاً لثورات قادها ماركسيون. فلماذا تريد من حزب البعث أن يكون الزاهد الوحيد في تاريخ الأحزاب؟
حزب البعث، وعلى رأسه الرئيس صدام حسين، أعدَّ للمقاومة الشعبية المسلَّحة بكل تفاصيلها قبل العدوان والاحتلال، وانطلق فيها في اللحظة المناسبة التي كان قد حدَّد شروطها وتوقيتاتها. وممن درَّبهم كنواة، أو قل أكثر من نواة لأن عدد المدربين فاق عشرات الآلاف، هم تحديداً كما جاء ذكرهم في أول بيان لـ«قيادة المقاومة والتحرير» الذي نشرته جريدة القدس العربي التي استضافتك على صفحاتها، بتاريخ 22/ 4/ 2003، وهم: «كوادره المناضلة ومقاتلي الجيش العراقي البطل وقوات الحرس الجمهوري والحرس الخاص الباسلة وقوات الأمن القومي المقدامة ومجاهدي منظمة فدائيي صدام البواسل والمقاومين العراقيين الوطنيين والمتطوعين العرب النجباء». ونعيد إلى ذاكرتك أن من صاغ البيان الأول للمقاومة هو الذي صاغ المنهج السياسي بثلاثة أشهر ونيِّف قبل صياغة المنهج. وتلك وثيقة لا يمكنك نكرانها وإلاَّ ستزعل منك هيئة التحرير في صحيفة القدس العربي.
فإذا كان يزعجك أن تكون كل تلك الفصائل تنتسب إلى حزب البعث أو وُلدت من رحم نظامه السياسي فنطلب منك أن تأتي لنا بوثيقة تدحض هذا الادعاء ونكون لك من الشاكرين. وللتخفيف عليك عناء البحث، لأنك لن تبحث كما أنا على يقين من ذلك، فنرشدك إلى كتاب «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة» الذي نشرناه في أوائل شهر تشرين الأول من العام 2003. بلغ عدد بيانات «قيادة المقاومة والتحرير» أربعة عشر بياناً عسكرياً حتى تاريخ 18/ 6/ 2003، وذلك قبل أن تصدر منظمات أخرى بأسماء أخرى بيانات سياسية منذ حزيران في العام 2003، وكان أول بيان عسكري يصدر عن غير «قيادة المقاومة والتحرير» مؤرخاً بـ 21/ 7/ 2003. وفي المقابل وجَّه الرئيس صدام حسين عشر رسائل منذ أواخر نيسان حتى 17/ 9/ 2003. وتخلل بيانات قيادة المقاومة ورسائل الرئيس الإعلان عن المنهج السياسي الاستراتيجي.
ولمعلوماتك إن المنهج كان استراتيجياً بنصه النظري، وهو لا يزال استراتيجياً بتطبيقه العملي. ألا يكفيك أنه حدد أهداف المقاومة بدقة: قتال قوات الاحتلال وعملائها ومنع إدارة بوش من الاستفادة من نفط العراق؟. أليس العمل العسكري أثبت جدارة وكفاءة لم تنكرها قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية. وكانت أمينة على خطها السياسي الاستراتيجي.
يطول بنا المجال في الدفاع عن صحة ما نقول. وإننا لا ندعوك إلى قراءة ما تكتبه قيادة قطر العراق عن أهمية وفعالية المقاومة ولكننا ندعوك إلى النظر إلى وجهيْ كل من رئيس الولايات المتحدة ورئيس الحكومة البريطانية. ندعوك إلى أن تقرأ التقييم العالي لفعالية وتأثير المنهج الاستراتيجي السياسي والعسكري للمقاومة العراقية على وجهيهما، كما على تصريحاتهما، كما على نواياهما غير المعلنة بتوفير شروط «انسحاب مشرِّف» لا يلوِّث شرف جيشيهما بمرارة الهزيمة.
فمن تلك النتيجة نأخذ عليك بأنك بعيد عن جادة العدل والموضوعية عندما لا تعترف بأن حزب البعث هو الذي يقود المقاومة بجدارة. كما أنك تتناسى أن الحزب، كما الرئيس صدام حسين، دعيا منذ البداية، ورحَّبا بكل من حمل البندقية، وبكل من سوف يحملها، واعتبرا أن كل من يقاتل الاحتلال سيكون من المستحقين بجدارة لأن يكون العراق المستقبل، عراق ما بعد التحرير، أمانة في أعناقهم. لأنه لن يدافع عن العراق في المستقبل إلاَّ من دفع دماً وألماً ومعاناة في تحريره.
ولا يفوتنا الرد على مقترحك الذي أطلقته على عواهنه، وهو دعوتك لتشكيل حكومة شرعية من شتى أطياف الشعب العراقي على قاعدة انتخابات تشرف عليها المؤسسات الأممية. فهل تناسيت يا عزيزي أن المقاومة المسلَّحة تكون عادة الممثل الشرعي والوحيد لشعب البلد المحتل؟ أنت لم تنس دور المقاومة في مثل تلك العملية فحسب بل سرقت منها أي دور أيضاً.
والله لن أشكوك إلاَّ للينين وفيدل كاسترو وهوشي منه. ولن يكون حكمهم عليك إلاَّ بإعلان الأسى والأسف لأنك كنت إما غير مولود في عصر بعضهم وكنت غراً يافعاً في عهد بعضهم الآخر. ولو كانت أفكارك واردة عندهم لكان على كل منهم أن يزهد بالسلطة استجابة ليس لإرادة «جمهورية إفلاطون»، بل لأفكار علاء اللامي الثورية التي لم يسبقه إلى إعلان نوايا الزهد فيها غيره. فهو لو كان قائداً لثورة مسلَّحة سيعلن أنه سيتنازل عن السلطة التي تعقبها لكل من أراد اللامي أن يصنفهم في دائرة المستفيدين، وهم «ممثلو السكان والقوى السياسية المطالبة بالاستقلال الحقيقي». وكان الله بعون الثوار لأنهم ليسوا مطالبين بـ«الاستقلال الحقيقي». فهم حَمَلَة بنادق، فهم من العسكر الذين ينتظرون رواتبهم آخر الشهر فقط وليس عليهم بعد أن ينجزوا التحرير إلاَّ تسليمه مفاتيح السلطة فهو أدرى بمصالحهم، وإذا فعلوا ذلك فهم ديموقراطيون، وإذا لم يفعلوها فهم ورثة «الحزب الديكتاتوري».
لن ننسى أن علاء اللامي هو أحد أكبر المطالبين بالاستقلال الحقيقي لأنه يطالب بمنع البعثيين من الحكم ويدعو إلى استعادة نظام المغفور له عبد الكريم قاسم، وربما إلى تعيين حميد مجيد رئيساً لمحكمة الثورة بديلاً للمغفور له المهداوي. على أن تكون مهمة حميد مجيد تطبيق العدالة على أساس قرار بول بريمر «اجتثاث حزب البعث من المجتمع العراقي». والله لمن الغرابة أن يحكم المهداوي، تحت راية الاتحاد السوفياتي، بالقضاء على حزب البعث، وأن ينبري علاء اللامي مع «حميد مجيد»، تحت راية بول بريمر، إلى اجتثاثه.
أليست مهزلة يا عزيزي علاء أن لا تكون المقاومة العراقية أحد الأطراف المطالبة بالاستقلال؟ أليست مهزلة يا عزيزي علاء أن لا تحدد لنا مضمون مصطلحك «المطالبة بالاستقلال»؟ وهل قتال المحتل ليس وسيلة من وسائل «المطالبة»؟ وكيف يمكن مطالبة جورج بوش باستقلال العراق؟
وإذا عرفت عزيزي القارئ أسباب تعميم اللامي وتعميته على المصطلح، وهو شبيه بمصطلحات الجعفري وعلاوي والطالباني والجلبي والسيستاني، فلن تكون مستغرباً، فعلاء يمتلك حس المناورة وتكيكاتها. ويا لخطورة المناورين إذا كانوا قاعدين على كومة من التعصب الإيديولوجي، فهم مستعدون لتصوير الأسود أبيضاً، وتصوير الأبيض أسوداً. ولكي لا نكون من الظالمين تابعوا معنا الفقرة التالية:
رابعاً: الإساءة التي يوجهها اللامي إلى المقاومة العراقية وجماهيرها:
لكي يقنع القارئ باقتراحاته البهلوانية الآنفة الذكر، ولكي يبرر أن المقاومة ليست لا الممثل الشرعي ولا الوحيد بل لا يمكن أن تكون بمستوى ممثل بدرجة «كومبارس» في صف الذين سيشكلون حكومة ما بعد التحرير، يقول إن المقاومة مجرد «مقاومة لفلول النظام ومخابراته»: والمنهج السياسي الاستراتيجي «يفصح تماما عن الماهية الحكومية والبيروقراطية للمقاومة المنفصلة عن الشعب، بما يجعلها أقرب إلى مجاميع من الموظفين وضباط الجيش والشرطة والمخابرات فاقدي الامتيازات والرواتب والرتب منهم إلى مقاومة حقيقية في حركة تحرر وطني تريد تحرير وطنها وليس تحرير رواتبها واستعادة امتيازاتها». وكما أنه يحكم على المقاومة بأنها ليست مقاومة، فقد حكم اللامي (ممثلاً مهداوي زمانه) بالموت على النظام قائلاً: «لقد كتبنا في مناسبات عديدة، قبل الحرب الأخيرة، بأن نظام صدام مات موتاً سريرياً في آذار 1991، ولم يكن بعدها إلا جثة سياسية متحركة».
إن الرد على ما وصف اللامي المقاومة به لا جدوى منه، لكن يكفينا العودة إلى ما كانت أبواق أجهزة الـ«سي آي إيه» تروِّج له منذ بدايات انطلاقة المقاومة منذ أكثر من سنتين. فاستخدام اللامي لـ«عملة أهل الكهف» تنطبق على تلك الاتهامات التي أخذت أجهزة الـ«سي آي إيه» تتناساها وتخجل من تردداها. لكننا نتساءل ما هو السبب الذي دفع به إلى إنزال تلك «العملة» إلى السوق، وفي هذا الظرف بالذات؟
نؤكد للأستاذ أننا نربأ بأنفسنا أن نرد على كل من يمارس النقد باتهامه أنه يعمل لحساب أجهزة معادية. ولكننا نطلب منه، لكي نؤكد أنه يستخدم نقداً سبقته إليه أجهزة معادية وتناسته أو اهملته، أن يعود إلى التقارير التي كانت توزعها قوات الاحتلال كلما طُلب منها أن تقيِّم وضع المقاومة. فكانت تعيدها إلى «فلول النظام» أو إلى ناقمين على إقصائهم عن وظائفهم، أو لأنهم متضررون من فلتان الوضع الأمني، تلك الوسيلة دفعتنا إلى الرد عليها في كتابنا الأول عن المقاومة العراقية الذي صدر منذ سنة وعشرة أشهر. ويمكنك قراءة مقدمة الكتاب المذكور لتتأكَّد أنك تكرر اسطوانة كانت سلطات الاحتلال تعمل على ترويجها.
وباختصار نتساءل: إذا كانت «مجاميع من الموظفين وضباط الجيش والشرطة والمخابرات»، تريد فقط «تحرير رواتبها واستعادة امتيازاتها» أسَّست مقاومة عظيمة بمستوى قامة المقاومة العراقية الباسقة الطول، والتي يبدو أمامها حتى الصادقين في تأييدها أقزاماً، فبات علينا يا عزيزي علاء أن نعيد النظر بكل نظرياتنا الثورية، ولتطلب الأمر منا أن نعيد تصنيف من هم الثوريون.
إن أولئك الأبطال يقومون بالمقاومة، كما أنهم أبناء نظام حزب البعث سواءٌ انتموا إلى الحزب أم لم ينتموا، فمنهم الموظف وضابط الجيش والشرطة وحتى المخابرات. وهم سيحققون النصر بالفعل. فهل بسبب موقعهم الوظيفي السابق نتهم المقاومة كأنها مجموعة من المنتفعين؟ ألا يمكن للموظف المدني أو العسكري أو المخابراتي أن يكون ثورياً؟
إن من تصفهم بالمعزولين عن الشعب العراقي لمواقعهم الوظيفية هم الآن من أهم أعمدة الثورة التحررية في العالم. ولمعلوماتك نقول: إذا كانت دوافع «تحرير الرواتب واستعادة الامتيازات» قد أنتجت أبطالاً كأولئك الذين يرفعون رأسنا عالياً فما أحلاها دوافع. وأهلاً وسهلاً بالثورة ضد الاستعمار على قاعدة تحرير الرواتب والامتيازات. وبئساً لثوريين يبخلون بنقطة عرق تنضح من جباههم من أجل تحرير أوطانهم.
إنها فاجعة يا عزيزي علاء أن يتصل بي أحد الأصدقاء ليزف لي نبأ مقالة نشرتها جريدة السفير اللبنانية لكاتب يُدعى علاء اللامي وهو يبدي إعجابه بها ويدعوني إلى قراءتها، فقرأتها وسجلت إعجابي بها. إنها لفاجعة أن أنقل إليه ما كتبه علاء اللامي نفسه في جريدة القدس العربي. والفاجعة الأكبر هو أن أقول له إن علاء اللامي يستفيق الآن على وقع موسيقى «أهل الكهف» يعزف على وتر من اللاموضوعية، يتناسى فيه إعادة الفضل لأهله لسبب من تعصب إيديولوجي سابق حمدت الله على أنه تناساه على الأقل إلى حين يتحرر العراق، ولكنه للأسف لم يصمد طويلاً، فالعراق على قاب قوسين أو أدنى من مرحلة التحرير. فما هو الذي عدا مما بدا؟
خامساً: نسجل على اللامي تهمة الافتراء المُنظَّم على المناضلين البعثيين عن سابق خداع وكذب:
فهو يتَّهم الأسرى في سجون الاحتلال الأميركي مبتكراً فرية لو سمعها الساذج لرشقه بأقذر ما يُمكن من الشتائم. لقد جاء في مقال اللامي مباشرة بعد إدانة النظام بـ«محاولة بناء التوازن العلمي والدفــــاعي مع إسرائيل (الذي) كلف العراق ثروات هائلة » ما يلي: جعل «النظام الدكتاتوري من النفط وسوى النفط مجرد مصروف جيــــب وحساب شخصي له ولأفراد طاقمه القيادي؟».
فهل بعد إنفاق ثروات هائلة من أجل بناء مشروع توازن استراتيجي مع العدو الصهيوني يمكن أن يبقى فلساً واحداً ليضعه المناضلون في حسابهم الشخصي؟
وليس ذلك فحسب، فلو قرأ اللامي التقارير التي أشارت إلى ما باعه الاحتلال وعملاؤه مما سمَّاه بول بريمر «خردة» تعود إلى أسلحة الجيش العراقي ومكونات المصانع العسكرية والمدنية والمختبرات والبنى التحتية المنقولة، لكان عليه أن يكون أكثر ذهولاً إذا عرف أن تكاليف تلك البنى لوحدها تفوق الأربعماية مليار من الدولارات. وإذا حسب مقدار تكاليف البنى التحتية العائدة إلى وزارات النفط والتربية والصحة والأشغال العامة لكان على شعر رأسه أن يقف من الذهول. ونسأله هل بعد كل تلك الإنجازات التي حققها النظام السابق يبقى فلس واحد ليضعه أي مسؤول في حسابه الخاص؟
لو كان لأي منهم حساب خاص باسمه، أو باسم أحد أفراد عائلته، او لو كان أي منهم يمتلك شقة خاصة خارج العراق لكانت أجهزة الـ«سي آي إيه» أول من أذاع الخبر. وإذا كشفت شيئاً من هذا القبيل فليطمئن الأستاذ علاء بأن الخبر سيصله بأسرع مما يتصور.
عيب على من يسكن خارج العراق، ومن يمارس التجارة هناك، ومن يعرف من الترفيه أقله خارج الأسر والاعتقال أن يفتري على المناضلين في الخنادق والمعتقلات والسجون بينما عائلاتهم تنزل بضيافة من استقبلوهم وأمنوا لهم المصروف والمأوى.
عيب على من هم خارج الأسر والمعتقلات، من هم بعيدين عن المعاملة الإجرامية التي يرتكبها الاحتلال وعملاؤه بحقهم، أن يوزِّع التهم العشوائية على المناضلين والثوار وهم لا يجدون تكاليف أجر محام يدافع عنهم.
عيب على من هم خارج الأسر والمعتقلات، ممن سكنهم هاجس الغرض الإيديولوجي أن لا يرى نقطة إيجابية فيمن هم في أسر الاحتلال، بينما تطوَّع للدفاع عنهم آلالاف المحامين.
عيب عليهم أن لا يحترموا وعي أولئك الذين تطوعوا للدفاع، وكأن الأستاذ علاء يقول لهم أنتم تدافعون عن «حرامية» وضعوا أموال العراق في حساباتهم الخاصة.
وأخيراً، نتوجه إليك ندعوك لتفيء إلى ضميرك، وأن تمتنع عن الإساءة إلى من رفعوا رأسك عالياً، الذين كانت مقاومتهم البطلة قد شكَّلت حماية لك ولنا. فلو لم تكن تلك المقاومة لكان جورج بوش الآن يعرضك ويعرضنا، بعد أن يأسرك ويأسرنا كـ«إرهابيين»، ويعرض علينا إما الصعود إلى «بوسطة العولمة»أو البيع إلى مؤسسة غوانتاناموا أو أبو غريب، أو عرضنا في سوق نخاسة العولمة لأقرب راغب في استخدام عبيد أرقاء في مزارعه الشبيهة بمزارع المستوطنين الأوربيين البيض في مزارعهم التي استولوا عليها في القارة الأميركية منذ ثلاثة قرون. وهم اليوم يريدون ليس استيراد العبيد من أفريقيا بل يريدونهم عبيداً عرباً مضمَّخة أسمالهم بعطور مصنوعة من البترول العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق