المشهد العراقي في تشرين الثاني 2005
من أبرز الأحداث التي أحاطت بالقضية العراقية الشهر الفائت:
1: المشهد العسكري: يُخيَّل للمتابع أن عدد الجنود الأميركيين الذين يسقطون في العراق بفعل زنود المقاومين العراقيين الأبطال يزداد في هذه المرحلة. لكن الحقيقة هي أن عددهم كان كبيراً منذ بداية الغزو الأميركي – البريطاني للعراق. سواءٌ أكانت المعارك نظامية أو شعبية، أما الذي تغيَّر في الأمر هو أن الإدارة الأميركية أخذت تبثُّ الأرقام الجديدة، التي هي حكماً أقل بكثير من الواقع، فهو انكشاف كذبها أمام المواطن الأميركي الذي أخذ يضغط عليها، بعد أن تأكَّد أنها لا تنقل إليه حقيقة ما يجري في العراق، للخروج من دوائر الكذب وقول الحقيقة عن كل الأمور ذات العلاقة بحقيقة الوضع في العراق سواءٌ اكان منها ما يتعلق بالخسائر بالأرواح، أم كان يتعلَّق بالخسائر المادية، أم كان يتعلَّق بسوء إدارة أموال المكلَّف الأميركي المرصودة للحرب والعدوان.
إن فعل المقاومة كان شديد الوطأة على الاحتلال منذ البداية، وكانت خسائر جيشه كبيرة، ولكن التضليل والخداع كان السبب في حجب حقيقة تلك الخسائر منذ البداية، والدليل على ذلك أنه إذا كنا لن نستطيع معرفة حجم المقاومة وقوتها على أرض المعركة، فإننا كنا نتلمَّس مدى تأثيرها في إرباك قوات الاحتلال وسلوكات زعماء البنتاغون منذ أواخر العام 2003، أي بعد شهور معدودة من الاحتلال. فإنهم كانوا مُربكين وقلقين من تأثير خسائرهم في الأرواح والمعدات والأموال.
كان استمرار المقاومة العراقية وثبات أدائها، مع ابتكارات جديدة في معارك المواجهة، سواءٌ أكانت في الميدان العسكري، أم في الميدان السياسي، فعل المخدِّر الذي يشوِّش الرؤية أمام صقور الإدارة الأميركية. ولأنه لم يترك لها فسحة من الوقت لتستخدم أساليب التضليل والخداع لتهدِّأ موجات الغضب في الشارع الأميركي، إنصاعت أخيراً لتعلن عن بعض خسائرها البشرية في معاركها مع المقاومة. لذا كان الإعلان أكثر من مألوف عادتها.
2: المشهد السياسي: لقد بذلت إدارة جورج بوش جهداً كبيراً من أجل توفير إمكانيات دولية، سياسية وعسكرية، لمساعدتها على تخفيف مآزقها في العراق. لكن ما قدَّمه لها المجتمع الدولي لم يتجاوز التواطؤ السياسي لمصلحتها في عدد من قرارات مجلس الأمن الدولي. تلك القرارات وإن خفَّفت عنها العبء السياسي إلاَّ أن إصرار المقاومة على تنفيذ منهجها السياسي الاستراتيجي جعل من تلك القرارات مظلة واهية.
ولأن الإدارة الأميركية لم تستطع حماية قراراتها المنفردة في احتلال العراق، على الرغم من امتلاكها أكبر ترسانة عسكرية في العالم، فهي لن تستطيع أيضاً حمايتها بقرارات دولية منزوعة الأنياب، خاصة وأن أنياب المقاومة تحمل لجنودها السم الزعاف.
و لما عجزت إدارة الاحتلال عن جر العراقيين إلى حرب أهلية مسمومة برياح المذهبية والعرقية. ولما كانت لبعض الأنظمة العربية مخاوف من سيطرة لون مذهبي واحد، يدين لإيران بالولاء، راحت تعمل لخلق توازن طائفي بتقوية اللون المذهبي الآخر، ودفعه إلى المشاركة في العملية السياسية الأميركية المشبوهة في العراق. فكانت معادلات الحل السعودي تستند إلى الثوابت الأميركية في تقسيم العراق دويلات طائفية وعرقية.
كل ذلك يجب أن يمر عبر الدستور العراقي الذي أقر على الطريقة الأميركية، وأن يُستكمل تعميده في انتخابات 15/ 12/ 2005.
لكل تلك الأسباب اندفعت إدارة جورج بوش إلى الاستنجاد بعملائها من الأنظمة العربية لتقديم العونيْن الأمني والعسكري. ومن هنا ابتدأت حكاية دور جامعة الدول العربية. ودخولها على خط المعالجة الطوعية ظاهرياً المأمورة أميركياً، مضموناً وواقعاً.
لقد تمَّ إقرار الدستور بمسرحية استفتاء لا تخفى على المراقب وسائل تمريره، فأميركا التي أمرت بإقراره في 15/ 10/ 2005، لن تسمح لأحد من المأمورين بأقل من أن يُخرج المسرحية كما ألفها جورج بوش. فجال عمرو موسى وقبله بن حلَّي، وبارك كل مظاهر الاحتلال وروحه، ورعى استقلال كردستان العراق. وفي اليوم السابع استراح على دعوة العراقيين للمصالحة في القاهرة. فانعقد المؤتمر المذكور تحت رعاية حسني مبارك، وجوقة الصمت العربي، وخرج بوثيقة «تاريخية» لـ«المصالحة العراقية» سيتم على أساسها استدعاء من صاغها وباركها وسمع نصوصها، سواءٌ أكان حاضراً في قاعة المؤتمر، أم متابعاً في خارج أروقته، إلى محاكمة سيعقدها الشعب العربي، يعلِّق بعدها المجرمين وشهود الزور على أعواد المشانق التي سينصبها المقاومون العرب، وعلى رأسهم المقاومون العراقيون.
لقد شهد العراق، في خلال هذا الشهر، جملة من الأحداث العسكرية والسياسية، وكان من أبرزها: «مؤتمر المصالحة العراقية»، ومسرحية التراشق بين السيد الأميركي وعبيده من العراقيين حول فضائح سجون عملاء الاحتلال.
ومن التداعيات التي فرضتها نضالات المقاومة العراقية مشهدان، وهما: تداعيات احتلال العراق على الداخل الأميركي، وتداعياته على أوضاع الدول المشاركة في جريمة الاحتلال.
أولاً: ما أطلق عليه الأميركيون اسم «مؤتمر المصالحة العراقية».
إنعقد المؤتمر في 19 – 20/ 10/ 2005، بدعوة من عمرو موسى، وتحت رعاية حسني مبارك «عرَّاب أميركا في المنطقة»، وحضور بيادق أميركا العرب. كما حضره «جحا الأميركي، وأهل بيته من العراقيين»، أي جورج بوش في كواليس المؤتمر، وأهل بيته أمام أضواء وسائل الإعلام. فبرز التآمر في المؤتمر مضموناً وشكلاً:
أما عن مضمونه، فجاء، بتاريخ 21/ 11/ 205، في بيان مكتب الإعلام والنشر لحزب البعث في العراق ما يلي: إنما أهدافه «تندرج في مسعى الولايات المتحدة المحموم لتجيير عجزها وتحميل فشلها الإستراتيجي والسياسي والإداري والأمني للمنظومة الإقليمية العربية برمتها، بعدما أصبح غير كاف لها دور السلطة العميلة في العراق وأدوار أنظمة عربية معينة مدمجة مع مشروعها الاحتلالي».
أما عن شكله، فبدا المؤتمر هزيلاً لأنه كمؤتمر «مصالحة»، شكلاً، كان يجب أن تحضره أطراف متقاتلة أو متخاصمة، ولما كان أهل جحا الأميركي هم الحاضرون الوحيدون، فظهر المؤتمر وكأنه مؤتمر مصالحة بين العملاء أنفسهم. وهكذا كان، لأنهم أتوا ليتصالحوا على حساب مصلحة العراق وشعبه. وظهرت سطحية المؤتمر وشكله في أشكال التصريحات والخلافات والمناقشات، خاصة تلك التي لها علاقة بتمثيل المقاومة:
1-خرج المؤتمر بفقرته السابعة، وهي فقرة شكلية يُراد منها التضليل، وتنص على أن «المقاومة حق مشروع للشعوب كافة»، فجاءت شعاراً عاماً من دون مضمون، وجاء حشرها إرضاءً شكلياً لأصحاب النوايا الحسنة من الذين شاركوا في المؤتمر رهاناً على الدور العربي المسرحي. أما المقصود الفعلي فأتى في الفقرة الثامنة التي تنص على «أن الإرهاب لا يُمثل مقاومة مشروعة»، وفيها من المقاصد ما أفرغ الفقرة السابعة من مضمونها بشكل كلي، فالمقصود الفعلي، كما يريد بوش، اعتبار المقاومة العراقية إرهاباً.
2-التصريح الذي جاء على لسان الطالباني «كرازاي العراق» وفيه يرحِّب باستقبال من يريد من المقاومة العراقية الدخول في العملية السياسية. وكأن التصريح مُعدٌّ له ليشكل فاتحة لتضليل آخر، وهو الإيحاء بأن المقاومة العراقية على أبواب تسليم سلاحها. وهذا ما تابعه المخرج الإعلامي الأميركي بالفعل. فلم ينقض من عمر المؤتمر أيام معدودة حتى أعلن موفَّق السامرائي، المعيَّن مستشاراً للطالباني، أن عدداً من قيادات القوى «المسلَّحة» استجاب للدعوة وطلب الحوار معه.
أما من كان مُستغرباً حضوره المؤتمر فهي فئات كانت محسوبة على المقاومة، وقد كشف بيان مكتب النشر والإعلام في قيادة قطر العراق اللثام عنها، وحذَّرها من أن تستمر في الارتهان السياسي لمشروع التقابل الطائفي الذي يعمل الاحتلال على إرساء النظام السياسي العميل في العراق على قواعده، « فالارتهان السياسي قد تم على أسس طائفية لجميع الحاضرين للمؤتمر عندما وافقوا صراحة على بيانه الختامي، ولا تتماهى حالتهم بعد الآن مع مشروعية وموقف المقاومة الوطنية العراقية المسلحة».
كانت خطورة مشاركة «هيئة العلماء المسلمين في العراق» آتية من أنها توفِّر الحضور السني في المؤسسات التي بناها الاحتلال. كما أن حضورها ليس وطنياً، بل جاء بناءً على قواعد اللعبة السعودية في توفير التقابل الطائفي لمواجهة ميزان القوى الشيعية العراقية التي يدعمها النظام الإيراني. تلك الخطورة آتية من أنها تمهَّد الطريق لفيدرالية طائفية لن تكتسب واقعها إلاَّ بمشاركة سُنية أولاً، والأخطر من كل ذلك أنها ستتجاوز كل المسلمات الوطنية وتضرب بها عرض الحائط بما يعني تدميراً فعلياً للنسيج الوطني العراقي، وتفتيتاً عرقياً ضاربة عرض الحائط كل المسلمات الوحدوية القومية.
ثانياً: إثارة مسألة الحريات الديموقراطية من جديد:
تمثَّلت هذه المسألة بالتداعيات التي سبَّبها الكشف الأميركي عن جرائم القتل والتعذيب في سجن الجادرية، التابع لما يُسمى بوزارة الداخلية العراقية. وإذا كان ليس المستهجن في الأمر أن يكشف الاحتلال عن جرائم تستبيح حقوق الإنسان العراقي، لأنها أكثر مما نتصوَّر، وما يجري في سجن الجادرية هو غيض من فيض من الجرائم التي يشارك في ارتكابها كل من أجهزة الاحتلال وأجهزة عملائه. أما الملفت للنظر فهو دلالات الكشف عنها في هذه المرحلة، وأسباب إثارتها في هذه اللحظة.
يريد الإعلام الأميركي أولاً أن يضغط على عملائه ويحذِّرهم، وهم على أبواب مؤتمر المصالحة العراقية، أنهم سيتعرضون لكشف جرائمهم إذا لم يستجيبوا لإملاءاته في توفير نتائج تستجيب لمخططه. وهي ثانياً رسالة موجَّهة إلى عملائه من السُنَّة في أن الاحتلال قادر على تحجيم الميليشيات الطائفية الموالية لإيران والقضاء على دابر جرائمها فوراً عندما ترضى القيادات السنية في الاندماج بالمشروع السياسي الأميركي على قاعدة مؤتمر المصالحة في القاهرة. وثالثاً، تريد أن تظهر أمام الرأي العام الأميركي، كما أمام الرأي العام الدولي، بأنها تحمي حقوق الإنسان في العراق. وتريد أن تمسح من ذاكرة الجميع أنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن كل ما مُورس من جرائم تضعها وجهاً لوجه أمام «المحكمة الجنائية الدولية».
ثالثاً: تداعيات مأزق الإدارة في العراق على الداخل الأميركي.
إن حالة الممانعة الأميركية للحرب ضد العراق أصبحت ككتلة من الثلج يكبر حجمها كل يوم عن اليوم الذي يسبقه. ولأن جثث قتلى الجيش الأميركي تصل تباعاً، ويومياً، إلى أهلهم تتنامى مع وصولهم تلك الممانعة وترتفع.
وكلما اقترب أي استحقاق انتخابي أميركي، تزداد المعارضة الأميركية على قواعد انتخابية وتنتشر أكثر فأكثر، وتنفتح ملفات كانت منغلقة ومخبَّأَة للظرف المناسب على قاعدة المثل القائل: «خبّئ ملَّفك الأبيض ليوم غريمك الأسود». وتلك هي القوى الأميركية المعارضة والممانعة للحرب ضد العراق تنبش ملفات إدارة جورج بوش السوداء لاستغلالها في موسم انتخابات الكونغرس القادمة.
وبعيداً عن التنافس الانتخابي، الذي هو بلا شك مهم في أن يفضح أهل البيت الأميركي ملفات بعضهم البعض، وينشرون غسيل المافيات السياسية الأميركية، إلاَّ أن الأهم هو أن حالة الضمير تستفيق الآن عند قطاع واسع من الأميركيين، من الذين يمثلهم عدد من المفكرين والكتَّاب وأهالي الجنود المشاركين في الاحتلال.
تتصدَّر حركة الضمير تلك «سيندي شيهان» أمٌ لأحد الجنود الذين قُتلوا في العراق، تلك الحركة التي لا تدع منفذاً لجورج بوش يهرب منه، ولا لحظة تتركه يهنأ بعيداً عن شبح المقاومة العراقية. وبالتالي بعيداً عن هموم الدم الأميركي الذي ينزف على أرض العراق كثمن لمصالح مافيات الشركات الأميركية الكبرى.
في خلال الشهر الفائت، ازدادت حركة الاعتراض الأميركية على احتلال العراق، وأخذت المسارات التالية:
1-تقوم الحركة المناهضة للحرب، التي تتصدرها «سيندي شيهان» بعدد من التحركات المنتظمة، وهي ترفع شعارات مناهضة للاحتلال، ويتصدرها شعار «الخروج فوراً من العراق».
2-الحرب الإعلامية التي تقودها المعارضة السياسية الأميركية بكشف عدد من ملفات الفضائح التي تطول رؤوساً ومسؤولين في إدارة جورج بوش: بدءًا من كشف اسم عميلة للـ«سي آي إيه»، انتهاء بملف الأكاذيب التي حاكتها حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، مروراً بملفات الفساد التي كشفت عن طبيعة السرقات والتزوير في موازنة الحرب في العراق، وكلها تدل على أن كبار المسؤولين فيها غاطسون حتى الأذنين بالسرقات والرشاوى والتزوير والحصول على العقود المجزية بالطرق الملتوية.
3-وكان من أهم التحركات النوعية هي تلك التي أطلقها جون مرتا، شيخ النواب الديمقراطيين في الكونغرس وخبير شؤون الامن القومي، المحارب القديم في فيتنام ومن اشد المؤيدين سابقاً للحرب على العراق. ومضمون المبادرة مخالف لكل الدعوات التي سبقتها التي كان سقفها سحب الجيش الأميركي من العراق من دون أن يظهر أنه مهزوم. فدعوة جون مرتا إلى الانسحاب الفوري مبني، حسب ما ورد في كلامه، على أن «السبب الرئيسي لذهاب أميركا للحرب ثبت عدم مصداقيته». وأضاف «اننا نصرف أموالاً على الاستخبارات أكثر من كل دول العالم مجتمعة ولكن استخباراتنا بما يتعلق العراق كانت خاطئة... وإن مستقبل جيشنا في خطر. ان جنودنا وعائلاتهم يعملون فوق طاقتهم . والكثير يقولون ان جيشنا قد كسر. وبعض جنودنا يذهبون للمرة الثالثة . والانضمام إلى الجيش يتضاءل... لقد سببت حرب العراق نقصا هائلا في قواعدنا في الولايات المتحدة... واعترف مدير مكتب الميزانية في الكونغرس بكونه (مرعوبا) من العجز في الميزانية خلال العقود القادمة... ان جيشنا يحارب في العراق منذ سنتين ونصف. وأنهى مهمته وقام بواجبه... لقد اعتقل جيشنا صدام حسين واعتقل او قتل اقرب مساعديه. ولكن الحرب تستمر بشدة . ويتزايد عدد الجرحى والقتلى وهناك اكثر من 2079 حالة وفاة مؤكدة وأكثر من 15 الف إصابة خطيرة ويقدر بأن هناك اكثر من 50 الفاً سوف يعانون من وهن القتال... واهم شيء ان حوادث التمرد ازدادت من حوالي 150 كل اسبوع إلى أكثر من 700. وبدلا من ان تنخفض الهجمات مع اضافة قوات اخرى، ازدادت بشكل هائل. لقد قلت منذ أكثر من سنة والان يوافقني الجيش والادارة ان العراق لا يمكن النصر فيها عسكريا . أرى انه قبل الانتخابات العراقية في منتصف كانون الاول يجب ان يخطر الشعب العراقي والحكومة التي ستؤلف بان الولايات المتحدة سوف تنسحب... خطتي تدعو إلى سحب القوات الامريكية فورا وبما يضمن سلامتها».
لقد ردَّت عليه إدارة جورج بوش بإحالة الموضوع إلى الكونغرس، فصوَّت أعضاؤه بالأكثرية ضد الانسحاب. فتذرَّعت الإدارة بنتائج التصويت لتوحي وكأن الشعب الأميركي يقف وراء بقاء قواته المسلحة في العراق. هذا الإيحاء لم يُقنع جون مرتا الذي ردَّ قائلاً: إن الرغبة في الانسحاب «تعبر عن إرادة شعب أمريكا كله... لقد انقلب الشعب الأمريكي ضد هذه الحرب وعارض استمرارها حتى قبل أن أدعو لانسحاب قواتنا. والمؤكد أن شعبنا يتمنى أن يجد مخرجًا من هذا المأزق، ونتمنى أن تدرك الإدارة الأمريكية ذلك». وأوضح مرتا أنه «تلقى دعمًا من مختلف شرائح الشعب الأمريكي منذ أن أطلق دعوته لسحب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق». وتابع قائلاً: «إن لنا جنودًا لا يمكنهم التعبير عما في صدورهم, ونحن من أرسلهم إلى العراق, ونحن الذين يجب أن نتكلم باسمهم». وشدد مرثا على أنه لا يعير النقد الذي تعرض له من جانب الرئيس الأمريكي وإدارته بعد دعوته للانسحاب من العراق أي اهتمام.
وسيَّان اقتنعت إدارة جورج بوش بنتيجة نهائية تقر بعجزها عن احتواء مآزقها في العراق، أم لم تقتنع، فإن إعلان رايس عن نية الإدارة بتقليص عديد الجنود في العراق في مطلع العام القادم هي النتيجة الحتمية. ولا يقلل من القبول والإذعان للانسحاب تصريح عنجهي يصدر من هذا المسؤول الأميركي أو ذاك يصرُّ فيه على أن الأمور في العراق بألف خير.
إلاَّ أن ما يدعو إدارة جورج بوش إلى الصمود، على الرغم من الخسائر الكبيرة للجيش الأميركي، هو إنهاء آخر مرحلة من مراحل تشكيل المؤسسات السياسية العراقية طمعاً بتوقيع ستأخذه على أوراق اتفاقيات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية. تلك اتفاقيات تتوهَّم إدارة جورج بوش بأنها ستكون ملزمة لأي حكومة عراقية ستأتي في المستقبل.
لكن ما نستطيع أن نقوله، في هذه المرحلة، ان مستقبل كل أوراق الاتفاقيات التي تمهد من أجلها إدارة بوش في الحقل العراقي لن تساوي على بيادر قمح المقاومة العراقية أكثر من حبة زؤان لا تشبع أميركا وإدارتها ولا تغنيهم عن جوع.
رابعاً: تداعيات المأزق الأميركي على حلفاء الاحتلال الدوليين:
يقول المثل العامي «إذا لم تمت، فقد رأيت حال من يموت». وهذا هو حال الدول التي شاركت الأميركيين في احتلال العراق. إن حكومات تلك الدول أصرَّت على تغليف العدوان الأميركي بشعارات «القوات المتعددة الجنسيات»، كما راحت تضلل شعوبها بأنها موجودة في العراق من أجل «إعادة إعماره»، أو أنها موجودة هناك للاسهام في محاربة الإرهاب الدولي.
للأسف لم تدفع تلك الحكومات من دم جنودها، نقولها للأسف لأنه كان عليها أن تدفع، بما يكفي لإثارة الأصوات الشعبية المعترضة. ولكنها تسمع من جانب آخر أن القوة العظمى لا تستطيع أن تتحمَّل ما دفعته حتى الآن، وها هي تُعد العدة للخروج من العراق تحت وهم تقليص أعداد القوات على الأرض. وهي ستخرج حتماً، بدءاً من عملية التقليص تلك، وحينذاك هل سيبقى سقف تتلطى به تلك الحكومات أمام شعوبها؟ وهل سيبقى سقف عسكري تتظلل به بعد خروج قوات الاحتلال الأساسية؟
إلى ذلك الحين سوف تتعرَّى تلك الحكومات كلياً، وهي تتعرى اليوم من غطاءاتها وأكاذيبها قطعة قطعة، ولن يبقى أمامها ليس وسيلة الخروج المشرِّف، بل سيكون أمامها الهرب والهرب وحده.
فنحن عندما نجمع كل أخبار ما يتم تداوله في شوارع تلك الدول، ونطل على ما يجري من تظاهرات أو دعوات إعلامية هناك، سنتوصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن تلك الدول لن تجد أمامها متسعاً من الوقت لتفكر فيه بالخروج بغير طريقة المهانة والإذلال.
فمن اليابان، إلى شوارع سيول (عاصمة كوريا الجنوبية المستسلمة حكومتها لإدارة جورج بوش)، إلى شوارع روما التي يرئس حكومتها من هو أسير بيد المافيات الإيطالية ناهيك عن المافيات العالمية، مروراً بشوارع وارسو (عاصمة بولندا التي رسا التزام قيادة قوات المرتزقة على رئاسة حكومتها)، وجولة بشوارع لندن التي ارتضى رئيس حكومتها بأن يكون تابعاً ذليلاً لإرادة جورج بوش، وصولاً إلى شوارع نيويورك وواشنطن. كل مراحل تلك الرحلة في شوارع الدول التي راح رؤوساء حكوماتها يتواطأون على احتلال العراق، تدل على أن مرحلة الخروج من العراق آتية لا ريب فيها.
خامساً: تداعيات الاحتلال على دول الإقليم الجغرافي وعملاء الاحتلال العراقيين:
من حقائق الأمور أن استعصاء المأزق الأميركي في العراق، دفع بإدارة جورج بوش إلى التفتيش عن الخلاص في شتى الاحتمالات. ومن أهمها فرض دستور يعمِّم التفتيت المذهبي والعرقي الفعليين ويشرِّعهما، فالتقط الإيرانيون الفرصة وأجادوا اقتناصها. إن أصول اللعبة في التفتيت المذهبي تشكل المدخل المناسب لترسيخ موطأ قدم لهم، وهذا بحقيقته يسحب البساط من تحت قدميْ قوات الاحتلال الأميركي، إذ حينها يصبح العامل الإيراني شريكاً فعلياً في الاحتلال بعد أن كان عاملاً مساعداً. ولأن من يصنع السم يصبح عرضة للموت فيه، راح الأميركيون يستكملون خطتهم بالطلب من السعودية أن تلعب دوراً من داخل أصول اللعبة الأميركية، أي أن يكون مستنداً إلى قواعد الطائفية والمذهبية.
من هذا الواقع الخطير، استمرأ النظامان السعودي والإيراني طعم الدخول إلى العراق كل منهما مستنداً إلى ركائز عراقية تفتِّش عن عوامل استقواء في الخارج تستجيب لمصالحها.
أما عن أصول اللعبة ومبادئها فهي خطيرة بكل المقاييس. فهي تشكل الأنموذج الفعلي لمشروع الشرق الأوسط الكبير بعناوينه الكبرى في فرض سايكس بيكو جديدة. وحقيقتها تكمن في أنها لما فشلت النسخة القديمة منها لاستنادها إلى التفتيت على القاعدة الجغرافية، انتقل الإمبرياليون الجدد إلى سايكس بيكو الجديدة التي تأخذ العامل الطائفي الديني قاعدة للتفتيت. ويبدو أن الطائفيين من العراقيين استمرأوا طعم اللعبة فشدّوا إليهم أطماع دول الجوار العراقي. وكان النظام الإيراني أكثر الأنظمة حماساً لالتقاط الفرصة الذهبية. ولأن ما هو مبني على خطأ لن يُنتج إلاَّ خطأً آخر، كما توهَّمت السعودية كنظام طائفي مذهبي أن توفير حصتها يجب أن يكون على قاعدة سايكس بيكو الجديدة. فلعبت دور العرَّاب للتيار السُنَّي في العراق القابل بتمزيقه إلى دويلات طائفية. وتمَّ ذلك على قاعدة التوازن الطائفي – الطائفي، متناسبة مع طبيعة نظامها القائم على العشائرية والمذهبية.
تلك الوقائع تفسر الاهتمام بإنجاح مؤتمر القاهرة للمصالحة، وهو ليس أكثر من مصالحة بين التيار الشيعي المنخرط في المشروع الإيراني، والتيار السني المنخرط في المشروع السعودي. وللأسف فقد غفل النظامان عن أنهما يمهِّدان الطريق لإنجاح المخطط الأميركي.
إن النظامان المذكوران، عندما استجابا أو التقط أحدهما الفرصة لترجمة مشروعه المذهبي، فإنما يؤسسان إلى حروب أخرى شبيهة بالحروب التي كانت تجري بين الدويلات المذهبية في العصر العباسي. وهي حروب لن تنتهي فحسب، وإنما ستؤسس لحروب ماثلة في الوطن العربي أيضاً، خاصة وأن التعدديات الدينية والمذهبية منتشرة في كل المجتمعات القطرية العربية.
أما عملاء الاحتلال فراحوا يفتشون في دول الجوار الجغرافي عن البدائل لملء الفراغ الذي سيتركه تقليص قوات الاحتلال، وأدواته الدوليين. وكان من أبرزها زيارة الطالباني إلى طهران فعاد بنتائج مريحة مكلَّلة بوعود إيرانية بالمساعدة على إنهاء ما أطلقوا عليه اسم «التمرد في العراق»، أي ضرب المقاومة العراقية وإنهائها.
وليس بعيداً عن حقيقة ما يفعله الطالباني، وهو الغريق الذي يحتاج إلى قشة تنقذه من الغرق. فالمقاومة العراقية، وجزء منها يمارسه الأكراد، تشكل أكبر تهديد للمشروع العرقي الانفصالي في شمال العراق، كما هي تهديد جدي للمشروع المذهبي الإيراني في جنوبه. فليس من المستغرب، إذاً، أن يتواطأ الطرفان: الكردي والإيراني ضد المقاومة الوطنية العراقية.
فطالما أسر النظام الإيراني نفسه في سجون المذهبية فسيستمر بلعب دور خطير، وهذا الدور مستوحى من الأطماع الإيرانية التاريخية. وليس أقلها الأطماع الصفوية. لكن ما لم يتعظ به النظام الإيراني الحالي هو أن تلك الأطماع لم تتحقق في التاريخ إلاَّ في محطات قليلة وقصيرة. فهي الآن لن تكون أكبر من محطة تستمر طالما الاحتلال الأميركي سالك في العراق. وسوف يزول الحلم (الوهم) الإيراني بزواله. إن القاعدين على المصاطب المذهبية والعرقية، لن يفعلوا ما يحقق مصلحة وحدة العراق، فمصلحتهم ليست في وحدته بل في تمزيقه لأنهم بغير تفتيته لن ينالوا حصة «نظيفة» منزوعة من الألغام المذهبية الأخرى. تلك التي تؤرق جفونهم إذا ما وُجدت. وحتى ما يحلم فيه النظام الإيراني لن يكون أكثر من وهم، لأن ما يحمي وجوده في جنوب العراق الآن ليست المذهبية، فسكان الجنوب العراقي هم وطنيون وقوميون قبل أن يكونوا أي شيء آخر. بل ما يحمي الوجود الإيراني ليس إلاَّ وجود الاحتلال الأميركي للعراق. وإننا على ثقة، نقول: إن شعب الجنوب في العراق سيكون كفيلاً بطرد كل ما زرعه النظام الإيراني من عوامل قوة وستصبح مظاهر فارغة وهشة بعد أن يهرب الأميركيون منه تحت شدة ضربات المقاومة العراقية.
وإذا كانت هناك من نصيحة نسديها للنظام الإيراني فلن تكون أقل من تذكير أولياء الأمر فيه بأن المقاومة العراقية، التي وعد الطالباني بمساعدته على إنهائها، هي التي شكَّلت حماية له، ولا تزال. فهل نسي النظام المذكور أنه كان ثالث الأطراف في «محور الشر» الذي أطلقته دعوة جورج بوش الإلهية؟
لهذا لن تتوفَّر أية مصلحة لإيران في إسهامها باحتلال العراق أو تمزيقه. فمصلحة إيران تتحقق أولاً بتأجيج المقاومة المسلحة ضد الوجود الأميركي. كما الأفضل لمصلحة إيران أن تحافظ على عراق موحَّد فيكون إلى جانبها جار قوي على المشاريع الأميركية الصهيونية، خير من عراق مفتت ستأخذ حصة صغيرة منه، ولن تكون تلك الحصة إلاَّ مؤقتة ستنفلت من يدها عندما تتغير الظروف، والتغير آت بشكل سريع. وفي مثل هذه الحالة لن تحصد إيران مما تزرعه اليوم في العراق إلاَّ الشوك والندم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق