--> --> --> -->
يا لعارهم متواطئين في صياغة دستور للعراق
وضالعين وساكتين وجهلة
13/ 8/ 2005
ونحن نعيش اليوم عصر القرون العجائب الغرائب. عصر الذين يزيفون الحقائق ويصورون الأسود أبيضاً والأبيض أسوداً، فلا يجوز إلاَّ أن نقول: يا لعار عصرهم، ومنطقهم، ومكاييلهم. يا لعار الشعب الطيب الذي تمر على عقله فنون المشعوذين فيصفق لهم. يتسلى بأحابيل «لاعبي الكشاتبين» فيعشق أخاديعهم، ويهتف بـ«الحياة» لـ«شطاراتهم».
لقد تحوَّل الشعب الطيب إلى مشاهد حيادي وكأن مصيره ومستقبله ورزق عياله وأمن أطفاله وشرف بناته وسيادة وطنه أشياء لا تعنيه ولا تستفزه ولا يتعب نفسه بالتفكير فيها، ولا تعني له شيئاً، بل كل همه أن يصفِّق لهذا أو لذاك من الذين يعتلون خشبة المسرح العراقي، وخاصة من رجال الدين، ممن يؤدي دوره الذي تلقنه قبل أن يقوم المخرج الأميركي باحتلال العراق. ومن أهم عوامل ذلك الدور هو أن يتفنَّن في وسائل خديعة الشعب الطيب مستغلاً القاعدة الدينية «أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»، والقاعدة الفقهية التي ترتكز على قاعدة «التكليف الشرعي». وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل يعفي الله «المقلِّدين» من الحساب؟
لا نحسب أن أحداً ينوب عن أحد. كما لا نحسب أن أحداً سيفلت من العقاب بحجة أنه لا يستطيع الاجتهاد لنفسه، فقد نصَّت قاعدة قانونية على «أن القانون لا يحمي المغفَّلين»، فالشرع أيضاً لا يحمي «المقلِّدين» الذين يقعون في حبائل «المجتهدين». ووزر أخطائهم يتحملونها بأنفسهم.
فهل لمن ينقاد إلى تقليد من يرتكب الخيانة عذر يعفيه من الحساب؟
وهل من ينقاد إلى تقليد من يستغل، أو يستغفل، عقول العامة من أجل مصلحة ليست من مصلحتها، يعفيه الشرع من الحساب؟
لقد قدَّمنا لما نريد أن نقوله بالإضاءة على انقياد الشريحة الواسعة من شعبنا الطيب لمساعدة أصحاب المصالح العليا، من رجال دين ودنيا، على تمرير مشاريع خالية الوفاض من أية مصلحة للوطن والمجتمع. أما السبب فهو أنه، في غالب الأحيان، إن لم يكن فيها كلها، نتسابق على إعفاء تلك الشريحة من المحاسبة تحت ذريعة جهلها لسياقات الأمور. أما الآن فلا يجوز أن نتجاهل ذلك الواقع. وأصبح من الواجب علينا أن ندعو تلك الشرائح لتتحمَّل مسؤوليتها لأن الادعاء بالجهل لا يعفيها من العقاب.
لكن تحميل الشعب جزءًا من المسؤولية ليست الواقع المزري الوحيد بل هو امتداد لوجوه واقعة أخرى، فهناك أيضاً العديد ممن يتحملون وزر عار ما يجري في العراق:
فبين سذاجة المشاهدين البسطاء من أبناء شعبنا، وتآمر المخادعين من نظامنا العربي الرسمي، وخداع النخب العليا في مجتمعاتنا، تُرتكب أفظع الجرائم ليس بحق العراق فحسب، بل بحق أمتنا العربية أيضاً.
نبدأ من المساومات الدائرة بين «راعي البقر» الأميركي، وتاجر «البازار الإيراني»، إلى شعبنا الطيب الذي يبتلع الطعم، إلى نظامنا العربي الرسمي الذي «يبول» على مصالح البشر، إلى المؤسسات الأممية التي راحت تتلهى بـ«الرشوة» على حساب الجائعين المقهورين، إلى المؤسسات التي تحتضنها جامعة الدول العربية، إلى المؤسسات التي تحتضنها «جوامع» العمل الإسلامي، يُنفِّذ الأميركي حاكم العالم الوحيد غير الشرعي أهم جرائم العصر في العراق.
يا للعار، ليس للحاكم الوحيد بأمره لأنه يعمل من أجل مصلحته، بل يا لعار الأنظمة العربية والإسلامية الرسمية، يا لعار المؤسسات الأممية، يا لعار الضمير الذي مات عندهم جميعاً. فهم يتآمرون على كل ما هو شعبي وكل ما هو أخلاقي. يتآمرون على الشعب العراقي، وعلى وحدة العراق، فأصبح العراقيون اليوم كالأيتام على مائدة اللئام. فتحت خداع صياغة الدستور العراقي الجديد يفصِّل كل المتآمرين مصالحهم:
-فالمخرج الأميركي يريد من خلال الدستور أن يضمن مصالحه بضمان تعيين حكومة عراقية توقِّع على الاتفاقيات التي توفِّر له غطاءً شرعياً دولياً حتى ولو بغطاء مغلَّف بقشرة قانونية.
-ومساعد المخرج الإيراني يريد ضمان عمق شيعي له في جنوب العراق.
-والعدو الصهيوني يريد موطئ قدم أمين في شمال العراق.
-أما «الدمى» من الممثلين الذين احتموا بهويات عراقية فهم من المستفيدين الصغار لأنهم سينالون وكالات حصرية بالحكم، كل على قطعة الأرض التي سيقتطعها بنصوص الدستور. وبمثل تلك الوكالات يضمنون حصصهم بسرقة ثروات العراق.
إن من أكثر الذين يتحملون أوزار العار هم أولئك الدمى الذين تواطأوا مع المعتدي والمحتل تحت شعارات خادعة حوَّلوها إلى مبادئ عاهرة. إذ خدعنا هؤلاء بأنهم شرَّعوا الخيار بين الكرامة الوطنية والدينية وخيانة الوطن فجعلوا الخيار بينهما مبدأً ديموقراطياً أي أنه إذا اختار هؤلاء «الخيانة» فليس عليهم من حرج، كمثل الأعمى والمريض...
يا للعار.
إن المساعدين والمتواطئين والساكتين ينساقون، كمثل المخلوقات غير العاقلة، وراء المشروع الأميركي متناسين خطورته حتى على أنفسهم. والخطورة تأتي من أن الإدارة الأميركية اتَّخذت قراراً بتمزيق اتفاقية «سايكس -بيكو» على الرغم من خطورتها. وأعدَّت مخططاً لتنفيذ «نيو سايكس - بيكو».
اكتشف المشروع الأميركي الصهيوني أن من نسيج الاتفاقية القديمة يتسلل بعض النسمات الوحدوية. تلك النسمات اقتضتها التشريعات التوحيدية لضمان مصالح التعدديات والإثنيات الدينية والعرقية من خلال بناء نسيج مجتمع وطني وقومي. فكل ما هو توحيدي هو مرفوض إمبريالياً وصهيونياً. لذا أصبحت الدعوات الوطنية القائمة على إرادة العيش المشترك بين شتى ألوان المجتمع الحديث تشكل خطورة على مشروعيْ «العولمة» و«الصهينة». ومنها أصبحت الفكرة القومية مُدانة بـ«الذنب» في قاموس المشروع الأميركي. أما الحل عنده فهو في العودة إلى تعميم فكرة الاحتراب الداخلي في المجتمعات الوطنية والقومية على قاعدة إعادة تفسيخ تلك المجتمعات إلى إثنيات دينية ومذهبية دينية وعرقية.
ولما كانت الفكرة الوطنية والقومية من أهم ابتكارات العصر الحديث. ولأن تجميع التعدديات في إطار وطني فكري وسياسي تعتبر أساساً توحيدياً اكتشف المشروع الأميركي الصهيوني أن في الكيانات القطرية التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس بيكو خطورة نواة وحدوية فاتَّخذت القرار بضرورة تمزيقها والعودة إلى مرحلة الدويلات الدينية أو المذهبية أو العرقية. ومن تلك النقطة كان لا بدَّ أمام المخطط الإمبريالي الصهيوني من أن ينقلب على سايكس بيكو القديمة والانتقال إلى مرحلة «نيو سايكس - بيكو» من أجل منع أية نسمة يُشتم منها التفكير بوحدوية ما. فأصبح القضاء حتى على الوحدوية المجتمعية القطرية من أهم مشاغل العولمة الأميركية الصهيونية.
كان احتلال العراق فرصة مناسبة لاختبار المشروع التفتيتي الخطير، أي الانقلاب على «سايكس - بيكو» بطبعتها القديمة لتصديرها وفرضها بطبعتها الجديدة. وما الجدل الدائر اليوم حول وضع دستور جديد للعراق إلاَّ تجربة تعمل أوساط التحالف الأميركي الصهيوني من أجل إنجاحه بكل الوسائل والأساليب.
يا للعار.
لن يستطيع الإيرانيون أن يحصلوا على موطئ قدم في العراق إلاَّ بتمزيقه. أليس من المؤلم أن يتآمر من يدَّعي الانتساب إلى الإسلام على وحدة بلد يعتبره مسلماً؟
لقد شجَّعوا أدواتهم في العراق. فأعطى السيستاني الضوء الأخضر لعبد العزيز الحكيم بالموافقة على النظام الفيدرالي. واندفع الحكيم، ملتقطاً الفرصة، بالدعوة لقيام دويلة شيعية في جنوب العراق. ووضع رئيس «منظمة بدر» توقيعه مطالباً بأن تسيطر الدويلة الشيعية في جنوب العراق على ثروات الجنوب. وبمثل هذا التصريح والتوقيع نتلمَّس بكاءه على «الهريسة» وليس على «دم الحسين».
ولكي لا تسيطر الشيعية السياسية على منطقة «وسط العراق» انجرف الحزب الإسلامي في العراق «حزب محسن عبد الحميد»، وهو منجرف أصلاً، في الدعوة إلى المشاركة بالعملية السياسية (المشاركة في وضع الدستور، والاستفتاء عليه). وللأسف الشديد وافقه قسم من هيئة العلماء المسلمين (بقيادة الصميدعي). وتمَّ ذلك تحت ذريعة أن القطار سيسبق «الركَّاب السنة» وتفوتهم فرصة المشاركة السياسية، على قاعدة أنه لا يجوز أن يتم اقتسام العراق بين «الشيعة والأكراد» و«السنة» يتفرَّجون. وهم بمنطقهم ذاك يتصرَّفون وكأن ما يجري قدَر محتوم. وتناسوا أن كل ما يعمل الاحتلال على فرضه لن يكون شرعياً على الإطلاق، فهو لن يكون قدراً محتوماً، فالقانون الدولي لا يجيز لقوات الاحتلال أن تقوم بتغيير أي شيء ومن اهمها تغيير القوانين ويأتي الدستور الوطني على رأسها. لذا نناشدهم ونقول: لما العجلة؟ اطمئنوا فالقطار لن يفوتكم، لأن الاحتلال قادم على الرحيل. فلا تسجلوا أسماءكم في سجل الخونة ولن يغفر لكم التاريخ ولا الشرع إقدامكم على اتقاء «المعسور بالميسور».
أما الفصائل الكردية (حزبا البارازاني والطالباني) ، بتطمين من إدارة بوش وإدارة شارون، فاعتبرت أن فرصة ذبح العراق مناسبة يجب أن لا تمر من دون الاستفادة منها حتى آخر قطرة دم تنزف منه. واستخدموا الحاجة الشيعية الإيرانية لبناء دويلة في جنوب العراق كي يتشددوا في وضع مواد في الدستور المزعوم تتيح لهم بناء دويلتهم في شمال العراق. وراح الطرفان (الشيعي والكردي) يتسابقان في كشف المستور من نواياهما، كما يتسابقان على توزيع الثروة النفطية قبل أن تصبح في متناول اليد، كما تناسيا أن «القرد الأميركي» لن يترك لهما من «جبنة النفط» إلاَّ ما يساعدهما على البقاء حيين يؤديان خدمتهما له بطواعية وعبودية. ويصبح مثلهما كمثل استيراد العبيد من أفريقيا لوضعهم في خدمة السيد الأبيض في مزارعه.
يا للعار.
إذا كان أهل الكهف قد ناموا ثلاثماية وتسع سنين، فـ«أهل النظام الرسمي العربي» ناموا ولن يستيقظوا أبداً. ولم يبق بينهم من يشعر بـ«الألم من شدة الخازوق الأميركي» الذي سـ«يركبون» عليه.
أليس ما يُنفِّذه جورج بوش في العراق هو أنموذج لما سيرسو عليه الأمر في كل الأقطار العربية؟
أليس في مشهد المستقبل العربي ما يخيف؟
لم يرمش جفن لشارع عربي وهو يشاهد ما يجري في العراق، بتدبير من التحالف الإمبريالي الصهيوني، وبتشجيع وانتهازية إيرانية. لقد أغمضت أكثر الأوساط «التقدمية» العربية عينيها، ودفنت رأسها في رمال ثنائية «لا للاحتلال، لا للديكتاتورية». وهي ستخسر المعركة أمام الاحتلال إذا ما أصرَّت على مواقفها تلك، وهي لن تربح معركة الديموقراطية. والحال على منوال ما يجري في العراق يوجب على كل «التقدميين العرب» أن يحضروا أنظمة داخلية لطلب الترخيص لهم لأحزاب «طائفية»، أو تحضير «طلب انتساب» إلى الأحزاب الطائفية القائمة وما أكثرها. وعلى مشايخ الطوائف، و«آياتها»، أن ينتظروا من سينافسهم في حقلهم من العلمانيين الذين سيتكاثرون على أبواب العودة إلى طوائفهم بعد أن «ارتدُّوا» عنها إلى مروج أوطانهم. وبعد أن تصبح «الوطنية» و«القومية» تهمة تؤدي بالمتهم، بإحداهما أو بكيلهما، إلى محكمة «غوانتاناموا».
يا للعار.
لقد أنجزت الدعوة الإسلامية، في بواكيرها الأولى، وحدة المجتمع العربي في الجزيرة العربية، أما اليوم فلا تعني الوحدة شيئاً أمام المُستحدثين من المسلمين خاصة من ثبَّتوا كراسي حكمهم على «براغي» أميركية. لا يعرف هؤلاء وأولئك أن مخطط العولمة الأميركية الصهيونية الجديدة ستشرذم مجتمعاتهم الوطنية إلى دويلات مذهبية متناحرة يسهل السيطرة عليها واحتواؤها.
يا للعار.
لجنة صياغة الدستور العراقي ليست عراقية الأهداف. إنها تصيغ دستوراً انموذجاً لكل الأنظمة العربية والإسلامية. فمن يسكت عنه ويسمح بتمريره الآن فسوف يندم عاجلاً أم آجلاً.
يا للعار.
معظم زعماء دول العالم الحر، أو الذي يعتبر نفسه حراً يقف في موقع المتواطئين. فهل يحسبون أنفسهم بمنأى عن التأثيرات السلبية؟ أليست مرحلة الاقتتال الأهلي في دولهم قد ذهبت إلى غير رجعة في عصر القومية؟ ألم تذهب المرحلة بعد غياب السلطات الدينية المذهبية في أوروبا؟ أيجوز أن تخون أوروبا مبادئها بالسكوت على تمرير دستور «مشبوه» كمثل الدستور التي نعمل إدارة جورج بوش على صياغته في العراق؟
ما يظهر في العراق اليوم يبدو وكأن سياقات الأمور تجري من دون عوائق أو إعاقات. ويبدو للمراقب وكأن العراق أصبح ملكاً لكل المخططين والمتواطئين والمتآمرين والساكتين والصامتين والجاهلين. لكن القرار ليس بيد هؤلاء على الإطلاق، فأن تخطط أو تتآمر أو تتواطأ أو تسكت أو تكون جاهلاً بالأمر هو شيء، وأن تستطيع أن تنفذ شيء آخر.
فمن يحدد مصير العراق، ليس هؤلاء أو أولئك، فالذي يحدد مصير العراق هم أبناؤه ممن آمنوا أن المشروع الأميركي لم ولن يحسب لمصلحة العراقيين حساباً. وممن آمنوا أن الحل الوحيد للعراق هو في وحدته الوطنية جغرافياً وسياسياً. وممن آمنوا أنه لا حل للعراق إلاَّ طرد المحتل، وقبل طرده إغراقه بحمامات الدم لجنوده ولميزانيته.
إن الحل ليس بيد هؤلاء أو أولئك بل بيد المقاومة العراقية المسلحة التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي. وهي تكبر وتتنامى، وتزداد انتشاراً من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وقطارها لا يزال متسعاً لكل من تنكشف خطورة المؤامرة أمام ناظريه. وإذا كنا نراهن فعلى الشعب العراقي الطيب الذي تمَّ تضليله بشعارات زائفة. ولن يطول الوقت حتى تنبري إلى ساحة المقاومة حشود كبيرة لا شك بأنها ستغير كل معادلات المحتلين والمتواطئين والصامتين والخونة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق