المشهد العراقي في شهر تشرين الثاني من العام 2006
الاحتلال الأميركي يلفظ أنفاسه الأخيرة،
وجنوده على عتبة الانهيار النفسي والمعنوي
المرحلة القادمة معركة تعميق السقوط المعنوي عند الجندي الأميركي
كانت تطورات الوضع في العراق، على مدى شهر تشرين الثاني من العام 2006، تتسارع وتُصبح أكثر إثارة واهتماماً في العالم كله. فقد افتُتِحت أحداث الشهر بأغرب حكم قضائي صدر بحق الرئيس صدام حسين ورفاقه الأبطال. وكان الحكم محوراً للكثير من الأحداث التي رافقته أو تلته. وقد رجَّح المراقبون أن توقيت الحكم جاء سابقاً للانتخابات النصفية الأميركية، بحيث حسبت إدارة جورج بوش أنه قد يصب في مصلحتها، ويقوي أوراقها التي عصفت بها المقاومة الوطنية العراقية. لكن حسابات حقل الإدارة لم تنطبق على بيدر الانتخابات إذ جاءت نتائجها مخيِّبة لآمال «الأميركيين المتطرفين الجدد»، فأسقطت الحزب الجمهوري في مجلسيْ الكونغرس والشيوخ، وجاءت بالديموقراطيين لأنهم وعدوا الشارع الأميركي بالعمل على الانسحاب من العراق، بشكل صريح وواضح لا لبس فيه أو غموض.
كان سقوط الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية تتويجاً لسقوط آخر سبقه ومهَّد له، وهو استقالة، أو إقالة رؤوس الكبار المنتسبين إلى مشروع «اليمين الأميركي المتطرف» من الذين نظَّروا له ووضعوا أسسه الإيديولوجية، ويأتي على رأسهم المفكر «فوكوياما»، كبير واضعي المشروع الإيديولوجي، الذي أعلن منذ شهور مديدة أنه لا يستطيع متابعة تأييد مشروع سقط في مستنقع اللاأخلاقية، ودعا الإدارة الأميركية الحالية إلى الإقلاع عن استراتيجيتها في تصدير «الديموقراطية بالطرق العسكرية».
وسبق تلك النتيجة الكثير من معالم المأزق ومظاهره، الأمر الذي تحققت فيه شروط سقوط الاحتلال، فكان من تلك المعالم والمظاهر هو تعمبق المأزقين العسكري والأمني لقوات الاحتلال وعملائه، مما باتت معه قدرة الاحتلال في السيطرة على العاملين مستحيلة. تلك العوامل كانت خاضعة لمقاييس التقابل بين الاحتلال والمقاومة مرجَّحَة لصالح المقاومة، تلك المقاومة التي أوفت بكل موجبات الحرب الشعبية من جهة، والتي عجز الاحتلال عن استعادة التوازن لمصلحته من جهة أخرى. وبهذا باتت الهزيمة مؤكَّدة للاحتلال والنصر مسألة وقت، وليست مسألة قرار.
ولأن المقاومة الوطنية العراقية استقرأت أن مشروع الاحتلال الأميركي قد أصبح في مراحل نزاعه الأخير، أعلنت «برنامج التحرير والاستقلال» الذي صدر باسم القيادة الموحدة للمقاومة في الشهر الفائت. ولما فرض الوجه العسكري للمقاومة المأزق تلو المأزق على الاحتلال رفعت سقفها إلى برنامج سياسي يجمع كل فصائلها، العسكرية والسياسية لمواجهة تداعيات المرحلة الأخيرة من عمره.
في الإعلان المذكور عبرت المقاومة إلى مرحلة متقدِّمة من عملها، وفيه توَّجت نضالها العسكري على مدى أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة بإعلان سياسي يُعد لمرحلة ما بعد الاحتلال. ولأنها في تلك السنوات فرضت على الإدارة الأميركية صياغة حركة سياسية لاحتلالها العراق، تقوم على خداع الشارع الأميركي والكذب عليه، وقد خدعته بالفعل عندما أعاد انتخاب جورج بوش لرئاسة الولايات المتحدة مرة ثانية . ولما كان المرء لا يستطيع أن ينجح في الكذب مرتين، فقد جاء الرد حاسماً من الشارع الأميركي في الانتخابات النصفية الأخيرة.
أكَّدت نتائج الانتخابات النصفية أن الاحتلال يسير نحو الزوال سريعاً، أما السبب فهو أنه إذا كان الحزب الديموقراطي قد أحرز النجاح فإنما لم يصل إليه إلاَّ لسبب واحد، وهو الوعد الذي قطعه على نفسه أمام الناخب الأميركي بإعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم من دون تباطؤ أو إهمال. وإذا كان الإهمال مرفوضاً عند الشعب الأميركي، وهو ما دلَّت عليه سرعة رد فعل الناجحين من الحزب الديموقراطي الذي ما إن أُعلٍنت نتائج فوزهم حتى تعددت تصريحاتهم بأن من الملفات الأولى التي سيبادرون إلى فتحها مع إدارة جورج بوش هو تحديد سياسة جديدة في القضية العراقية.
أما بالنسبة للتباطؤ، وهذا ما تشير التقارير إلى إمكانية حصوله من جانب رئاسة جورج بوش، بإغراق الديموقراطيين في متاهات أخرى من التسويف والخداع، فهذا مما لا نحسب أن الشارع الأميركي سيترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الطرفين الديموقراطي والجمهوري على حد سواء، وأن يسكت على أي تسويف. وإذا ما تلمَّس الشارع الأميركي مثل هذا الاحتمال، فإننا نعتقد بأن صبره سيكون سريع النفاذ، وبمثل تلك الحالة، وإن تناسى جورج بوش هذا الأمر، فإن الشارع الأميركي سيكون جاهزاً للضغط بشتى الوسائل والأساليب. فإراقة دم الأبناء أو الآباء أو الأزواج لن يستطيع صبراً.
وفي مجمل الأحوال، يتوقَّف المراقبون، والعارفون بحقيقة إيديولوجيا الحزبين المذكورين، أمام احتمالات تطور الأمور بناء على تلك المعرفة، وهم لا يرون أن استشراف مستقبل المواقف حول القضية العراقية هي من المسائل السهلة التي يمكن البت باتجاهاتها بمثل تلك السهولة، وهذا ما يدفعنا إلى استعراض ما يراه أولئك المراقبون والعارفون.
يقول البعض إن سقوط الصقور الجمهوريين في الإدارة الأميركية لا يعني أن هناك حمائم في المعارضة الديموقراطية، وإذا كانوا موجودين فلا يعني أن تلك الحمائم ستكون حرة في اتخاذ قرار واضح وسريع في شأن هام، خاصة أن فيه الكثير من الإغراء والتشويق كما هو موجود في العراق، الذي فيه ما يفتح شهية الرأسماليين أينما كانوا، سواءٌ أكانوا جمهوريين أميركيين أم ديموقراطيين. وسواءٌ أكانوا أميركيين أم غير أميركيين.
هذا الجانب يدفع بنا للتمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود بين مواقف حزبين أميركيين ينتسبان إلى إيديولوجيا رأس المال، كما يمتلك النخبة في رأس هرمهما الحزبي سلسلة من الشركات الصناعية والتجارية التي لا يمكنها أن تعيش من دون أسواق للسلع ومن دون مناجم فيها المواد الخام والثروات الطبيعية. كما يجمعهما أنهما سليلان لنظام تأسس على الجريمة المنظمة منذ أن غزا أجدادهم القارة الأميركية وقطعوا من أجل استيطانها سلالة الهنود الحمر، السكان الأصليين، واستوردوا العرق الأسود من أفريقيا مكبَّلين بالأغلال من أجل استخدامهم في تنفيذ جريمة تطهير القارة من أولئك الهنود. وبذلك لا نستطيع أن نميِّز بين رأسماليي الحزبين المذكورين بالنوع، بل ربما نميز بينهما بالدرجة.
وهناك أمر آخر يجمع الحزبين المذكورين هو تنافسهما لحماية الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وهما يتباريان في إظهار الإخلاص والغيرة عليه، ويتسابقان في الموافقة على بذل الغالي والنفيس من أجل الموافقة على كل موجبات حمايته في شتى الحقول.
إن الهدف من الإشارة إلى العوامل أعلاه يساعدنا على صياغة تحليل سليم وموضوعي لاستشراف مستقبل القضية العراقية استناداً إلى تداعيات الانتخابات الأميركية الأخيرة.
إن هذه الحقائق تدفعنا للتساؤل التالي: هل يستمر الحزب الديموقراطي في ضغطه على إدارة جورج بوش من أجل تنفيذ الانسحاب المبكر من العراق؟
بداية لا بدَّ من القول إن في نفط العراق وموقعه الاستراتيجي ما يسيل له لعاب الديموقراطيين وليس الجمهوريين وحدهم. لكن إذا كان الحزبان لهما الأهداف ذاتها، أهداف تنمية رساميلهم من دون شبع، إلاَّ أنهما يختلفان حول وسائل النهب. ولهذا السبب أثار ذلك الاختلاف منذ البداية التي تلمَّس فيها الديموقراطيون أن مشروع احتلال العراق العسكري لن يأتي بالفائدة المرجوة، وكان دليلهم انطلاقة المقاومة العراقية بشكل مبكر، وتناميها بسرعة لم يكونوا يتوقعونها. حينذاك برزت إلى الواجهة، حتى ولو بشكل خجول، التمايز في الوسائل الاستراتيجية لكل من الحزبين، أي بما يُعرف الاتجاه الذي يحافظ على أميركا كأمة تمارس دورها الرأسمالي بشتى الطرق باستثناء الغزو العسكري المباشر، والاتجاه الذي تبنَّته إدارة جورج بوش كمعبِّر عن إيديولوجيا «اليمين الأميركي المتطرف» التي تعتمد على بناء إمبراطورية أميركية في العالم يتم تصديرها وفرضها بالقوة المباشرة. وهذا ما استخدمته إدارة جورج بوش انطلاقاً من العراق.
قد يحاول الحزب الديموقراطي أن يُسوِّف وعوده إلى أمد يراهن فيه على التخفيف من خسائر أميركا نتيجة انسحابها من العراق إلاَّ أنه لا يستطيع أن يراهن على فرصة زمنية مفتوحة.
إن المقاومة الوطنية العراقية لن تترك أياً كان يأخذ فرصته الزمنية التي يريدها، والسبب أن جثث جنود الاحتلال ستصل باستمرار إلى بلادهم، ومن المرجَّح أن تزداد أعدادهم حسبما وعدت المقاومة العراقية، وهي سوف تصعِّد عملياتها، كماً ونوعاً. أي أن استراتيجيتها القادمة ستقوم على قاعدة ألاَّ تترك متنفساً للعدو تجعله يرتاح فيه.
إن هدف هذه الاستراتيجية، في هذه المرحلة تحديداً، هي إبقاء الضغط مستمراً على جنود الاحتلال في مرحلة أصبح الجندي فيها حريصاً على المحافظة على حياته، خاصة وأن الشارع الأميركي قد اعتبر أن الحرب غير عادلة، وأن الانسحاب منها أصبح قاب قوسين أو أدنى.
إن من أهم نتائج الانتخابات النصفية، ليس فوز الحزب الديموقراطي فيها إلاَّ لكونه قد فتح بوعوده أبواب الأمل أمام جنود الاحتلال الذين أصبحوا متعبين ومُرهقين ومصابين باللوثات النفسية وعاهاتها وإعاقاتها. وهم أيضاً أصبحوا بلا هدف، وهم بالأساس قد زُجُّوا بحرب لا مصلحة وطنية لهم فيها ولا طبقية. وعندما انخرطوا فيها كانوا يعرفون أن تعبهم وجهدهم سيصب في احتلال آبار النفط التي ستُتخم جيوب أصحاب الشركات الكبرى بالإضافة إلى جيوب الطبقة السياسية الحاكمة، فانخرطوا فيها لأن الذين أعدوا للاحتلال قد زيَّنوا لأفراد جيش الولايات المتحدة أن قيامهم بالحرب لن يستمر أكثر من أيام، وإن احتاج الأمر فلن يكون أمدها أكثر من أشهر معدودات، هذا بالإضافة إلى الكثير من الإغراءات المادية التي ستُغدَق عليهم نتيجة قيامهم بتلك الخدمة. كما أن عائدات النفط العراقي ستُوظَّف لمصلحة الشعب الأميركي. وهذا ما كشف الكذب فيه الجنود الأميركيون، وعائلاتهم. السبب الذي جعلهم ينادون بإنهاء هذه الحرب التي بدلاً من أن يتنعموا بنتائجها الاقتصادية، رأوا أنفسهم يدفعون الثمن الباهظ من دمهم وحياتهم وجيوبهم وصحتهم النفسية والعقلية.
سيان راهن البعض من المحللين على صعوبة اتخاذ قرار بانسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق بالسرعة الممكنة بعد نجاح الحزب الديموقراطي وهزيمة الحزب الجمهوري، مستندين إلى تشابه أهداف الحزبين الأميركيين الحاكمين في تعزيز مواقع الرأسمالية في العالم، إلاَّ أن القرار الآن ليس قراراً يتَّخذه الكبار في أروقة البنتاغون والبيت الأبيض، بل أصبح القرار بيد الجندي الموجود في قلب المعركة، لأن القرارات الفوقية في هذه المرحلة لن تحمي حياة جندي أو تحرسه من إعاقة جسدية أو نفسية، بل القرار أصبح بيد الجندي المتروك في معركة سيموت فيها من أجل لا هدف.
إن المرحلة القادمة تحتاج إلى فترة يسيرة من الزمن تتحول فيه نداءات الجنود وعائلاتهم إلى طفرة نوعية تحوِّل الجندي القابع في مواقع الخطر إلى متمرد على أوامر ضباطه حينما يدفعون به في واجبات عسكرية يشعر أنه سيموت فيها. وقد عبَّر عنها ريتشارد جوين، أحد الكُتَّاب الأميركيين، بأنها المرحلة الأخيرة من حياة الاحتلال، قائلاً: إن بداية عملية قتل الضباط الأعلى سوف تؤرخ للحظة توقف الجيش نفسه عن مساندة الحرب. وهذا يحدث حين يسود الإحساس لدى الجيش الأمريكي انه يخاطر بتدميره في حرب تستمر بدون أي هدف ، بالضبط كما حدث في فيتنام . إن مرحلة «»اترك واهرب» لم تصل بعد ولكنها قريبة جداً .
إنها في الواقع مرحلة الانهيار النفسي لدى الجندى الأميركي في العراق. كما أنها مرحلة لا بدَّ من أن يؤديها أبطال المقاومة وبواسلها بكفاءة واقتدار، وقد أثبتوا أنهم جديرين بذلك خاصة وأنهم اجتازوا المسافة الأصعب، ومرحلة الشوط الأخير هي الأسهل. إنها مهمة دفع الانهيار النفسي إلى أقصى مدياته عند الجندي الأميركي الذي شعر فعلاً إنه لا يقاتل في سبيل قضية وطنية أو طبقية. والحال كذلك فإن هذه المرحلة لن تترك لأحد في أميركا، سواءٌ أكان في هرم السلطة الحاكمة أم في هرم المعارضة، فرصة زمنية كافية للتفكير في البدائل التي تقلل من خسائرهم. وهي مرحلة لا تتطلب أشهراً مديدة. ولعلَّ في ما تتناقله الأخبار عن بطولات المقاومة وسيطرتها على مناطق كثيرة في العراق ما يحملنا على الاعتقاد بأن الجيش الأميركي المحتل يقبع على مسافة قصيرة من مرحلة الانهيار النفسي والمعنوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق