ماذا حصل في العراق؟
وأين موقعه في محطات النضال القومي؟
كيف نواجهه؟
29/ 11/ 2004
أسئلة ثلاث لا تنفصل الإجابة عنها عما تقدَّم وعما تأخَّر.
فإذا كانت أهداف الحركات الثورية أن تُحدِث التغيير الشامل في بُنية النظام العربي، فإن التغيير ليس حركة سحرية أو تنبؤات أو معجزات. وإنما التغيير هو حركة متواصلة تستمر عقوداً وأجيالاً طويلة من النضال الدؤوب الواعي، بحيث تتواصل التجارب النضالية وتتراكم، ترفد كل محطة سابقة ما يليها من محطات لاحقة، بحيث تبني الخطوات السابقة وتؤسس للخطوات اللاحقة، فتفيدها بالإيجابيات بعد أن تتخلَّص من سلبيات المراحل السابقة بعد نقدها بموضوعية وتجرُّد.
من عادات العقل العربي السائد، ونحسب أنه أخذ ينحو باتجاه تجاوز سلبيات الماضي، أنه محكوم بالفعل وردَّة الفعل. تلك العادة تعمل على بتر كل تجارب النضال والعمل على قطعها عن كل ما قبلها وعن كل ما بعدها. وتعود أسباب ما تعوَّد عليه العقل العربي، وهو مُشبَع بالفئوية، أن كل تيار يجبُّ غيره ويلغيه.
فمن دروس الماضي نسجِّل ما علينا أن نلغيه وما علينا أن نثبته، كالتالي:
-القضية العربية قضية واحدة، ينظر إليها كل تيار من زواياه الفكرية والسياسية الخاصة، وينفي زوايا الآخرين ورؤاهم الفكرية والسياسية. فدروس الماضي تدعونا إلى النظر في أن وحدوية المصير لكل التيارات تدعو إلى الاعتراف بحق التيارات الأخرى بالنظر والتفكير، وهو ما نتعارف عليه بتعددية الاتجاهات داخل الوحدة، بحيث يستفيد كل تيار ن تجارب الآخرين، ويتعاطى مع نتائجها الإيجابية بما يعمل على تراكم إيجابيات تيارات الحركات الفكرية والسياسية العربية لتصب نتائجها في دائرة الوحدوية المصيرية.
-بناء على الاعتراف بالتعددية داخل دائرة وحدة المصير، يقتضي تجميع كل تراكم للإيجابيات في التجارب الفئوية ووضعها في خدمة التراكم الإيجابي في النضال العربي.
استناداً إلى رؤيتنا السابقة، واستناداً إلى معرفتنا بالتجربة النضالية القومية التي مارسها حزب البعث العربي الاشتراكي على الساحة القومية بشكل عام، والساحة العراقية بشكل خاص، سنتناول الأسئلة التي وضعناها عنواناً لهذه الندوة ونعمل على الإجابة عنها.
ماذا حصل في العراق؟
حتى الثامن من نيسان من العام 2003م، بعد أن خاضت المدن العراقية –وفي القلب منها العاصمة بغداد- قتالاً مُشرِّفاً ضد قوات التحالف العدواني الأميركي البريطاني الصهيوني، حصل ما ليس له تفسير حتى الآن. وهو ما عجَّل في اندفاعة العدوان إلى الدخول إلى بغداد بمسافة زمنية كان من المحتمل أن تقع خسائر إضافية في صفوف العدوانيين، وهو ما يعني أنه لم يكن من الواقعي أن يمنع القتال –مهما كان زخمه وإمكانياته- قوات العدوان من احتلال العراق.
منذ تلك اللحظة كان الذهول والإحباط هو سيد الموقف عند جميع شرائح التيارات السياسية، الصادقة منها في شعورها، أو من تلك الشامتة للأسف. وهنا لا نود أن نقف أمام تلك الظاهرة المؤسفة لأمثال أولئك، إلاَّ أن نقول: إغفر لهم يا أبتاه إنهم لا يدرون ماذا يفعلون.
في سياق موازين القوى بين حركة الثورة العربية وقوى العدوان العالمي مسافة شاسعة، تلك المسافة التي لا يجب أن تعمي أبصارنا عن رؤية نتائج الصراع المادي، والتي لن تصب إلاَّ لصالح الغلبة لقوى العدوان.
نتيجة هذا التفاوت الكبير –منذ العام 1948م- سرقت قوى العدوان الأرض الفلسطينية واغتصبتها. وفي العام 1967م اغتصبت تلك القوى –أيضاً- مساحات من الأراضي العربية لثلاث دول مجاورة، ونحن نراها –اليوم- تغتصب أرض العراق، وهو استكمال للمشروع العدواني الإمبريالي.
ولأننا مسكونون بنتائج الحرب المادية رحنا نطلق على تلك التجارب مسميات الهزيمة. ويروح البعض منا –تكريساً لمثل هذا النطق- إلى دعوة العرب إلى التعقل والعقلنة. فانقسمنا –كما يحلو لبعض أصحاب الوطر ممن يحملون هوية العروبة- إلى سورياليين يجرون الهزيمة تلو الهزيمة للعرب، وإلى متعقلين يدعون فيها العرب –وخاصة الحركات الثورية- للتفكير الواقعي، وهو لا يعني أكثر من أن نسلس التعاون لقوى العدوان فنسلمها مقدرات بلادنا ونسترخى وننعم بما تمن علينا به تلك القوى من فتات ثرواتنا.
فكان هجوم تلك الفئة من المتعقلين على العراق وراحوا يكيلون الاتهامات ضده بالجنون السوريالي والرومانسي والديكتاتوري، وما إلى هنالك من اتهامات وإشاعات وتشنيعات.
ماذا تتضمن دعوة المتعقلين؟
إذا كانت موازين القوى بين العراق وقوى تحالف العدوان الأميركي والبريطاني والصهيوني مختلَّة –بما لا يقاس بين الطرفين- يدعو العقلاء المثقفون والسياسيون المحسوبون على العرب الحركة العربية الثورية عامة، والعراق خاصة، للتسليم بنتائج ذلك الميزان. لقد فات هؤلاء وأولئك منطلقات السيادة وتقرير المصير والكرامة الوطنية والقومية ومنطلقات العدل والمساوة والوقوف في وجه العدوان والظلم كقيم إنسانية ثابتة.
لقد قصَّر هؤلاء المحسوبون على العرب كثيراً عن نبض الشارع الغربي، ومنهم الأميركيون والبريطانيون، عندما وقفوا إلى جانب الحق العربي عامة، وحق العراق خاصة، في تقرير المصير وحماية الثروة الوطنية والدفاع عن كرامة الشعب وحقه في الحرية وتقرير المصير.
يقيس العقلاء نتائج الصراع على الجانب المادي، على قاعدة أنه إذا لم يستطع العرب حماية ثرواتهم وأرضهم بأكملها، وهم عاجزون عن ذلك، فما عليهم إلاَّ الرضوخ لمنطق القسمة التي يحددها مالكو القوة في العدوان.
فإذا كان من درس على هؤلاء أن يتعلموه، فهم بأمس الحاجة إلى أن يبتعدوا عن مقاييس القيم الإنسانية العليا التي يتجاهلها العدوانيون وهي لا تعني لهم شيئاً أكثر من أنها أقل قيمة بكثير من مصالح الثروة والاقتصاد.
بين التعقل والحكمة –كما هي مضامينها عند الدعاة المثقفين- والدفاع عن القيم الإنسانية –الكرامة الوطنية وقتال الظالم وحماية الحق في الثروة الوطنية وفي الحرية بتقرير المصير السياسي الداخلي…- ارتضى حزب البعث العربي الاشتراكي أن يكون في موقع الدفاع عن القيم الإنسانية العامة التي انتهكها منطق الاستعمار من الأساس، وليس العدوان الحاصل على العراق اليوم إلاَّ وجه من تلك الوجوه.
إن اختيار الدفاع عن القيم الإنسانية يستند إلى أنها الثابت الوحيد الذي يجمع حضارات العالم ذات الطابع الإنساني، وهي التي تشكل أساساً لتطبيق قيم العدالة في توزيع الثروات المادية. وهنا لا بُدَّ من أن نذكر الواقعيين والعقلاء بأنهم قد أضاعوا ترتيب الأولويات في سُلَّم الحضارة الإنسانية لأنهم أعطوا أرجحية لمنطق سيادة الأقوى مادياً على مالكها الأضعف، فانطبقت عليهم مقولة الحياة للأقوى. وهم بذلك أقروا السيادة الطبقية بين السيد والعبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق