المشهد العراقي في كانون الأول 2005
المأزق الأميركي في العراق إلى مزيد من التأزم
بشائر إعلان الهزيمة الأميركية
بين إعلان جورج بوش بلاغ النصر الأول في 1/ 5/ 2003، وبلاغ النصر الثاني في أواخر شهر تشرين الثاني من العام 2005، تظهر الخديعة الكبرى في السياسة الأميركية. ففي الإعلان الأول يظهر الاستعجال في السيطرة على العالم وفيه ما يدل على الكثير من الغرور والعنجهية عند تحالف المتطرفين الأميركيين الجدد: الرأسمالية القومية الأميركية، والتطرف المسيحي الذي يعيش أوهام الرسالة الإلهية، والتطرف الصهيوني الذي يعيش أوهام «شعب الله المختار».
أما في الإعلان الثاني ما يحمل على الاعتقاد الذي يشبه اليقين بأن أصحاب رسالات التطرف راحوا يعيشون خيبة الآمال بتغليف فشل مشروعهم بأوهام النصر.
فكانت المقاومة الوطنية العراقية بين الإعلانين هي اللاعب الرابح.
فإذا كان الدافع للإعلانين أهداف السيطرة على العالم بقوة السلاح، فإن دافع المقاومة العراقية كان الدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية. والمسافة بينهما مملوءة بالتناقض بين القيم العليا وأنفاق الاستبداد والاستعباد.
في أوائل شهر آذار من العام 2003، أي قبل أقل من شهر من العدوان الأميركي، مستهزئاً بالتهديدات الأميركية، قال الرئيس صدام حسين، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي: «إن شرف المواطنة والوطن لا ينفصل عن إيمان الإنسان، في أي موقع كان من المسؤولية، بأن يموت من أجلهما. وذلك التزاماً بأخلاقيات الدفاع عن وطنه. وفي هذا السياق لا يمكن لأي دولة، مهما علت قدرتها وقوتها، أن تلوي إرادة شعب عندما يقرر أن يعيش حراً وكريماً». وفي الخامس عشر من كانون الأول من العام 2005، قال وهو في أسر الاحتلال ماثلاً أمام محكمة غير شرعية بكل المقاييس: « ماذا يمكن ان يتخيل العرب والعراقيون من أوضاع صدام الآن لو سلَّم بما ارادته واشنطن؟». وطلب من محاميه خليل الدليمي، أن يؤكد للعراقيين: « انه ثابت على المبادئ اكثر مما كان عليه قبل الاحتلال». فهو بذلك يكون قد وعد شعبه قولاً وأصدقه فعلاً.
في المقابل وعد جورج بوش الأميركيين قبل العدوان أن الشعب الأميركي سوف ينعم بثروات العراق بعد احتلاله. كما وعد جنوده أنهم سيعودون إلى بلادهم في غضون أشهر قليلة حاملين الورود التي سيستقبلهم بها العراقيون بعد دخول بغداد.
لقد أوفى صدام حسين وعده للعراقيين إذ دعاهم للدفاع عن كرامتهم وسيادة وطنهم، فكان أول المدافعين فنزل إلى خندق القتال أثناء العدوان، وقاد المقاومة أثناء الاحتلال. وكان أول النازلين إلى خندق النضال وهو في أسره. أصدقهم الوعد وأصدقهم الفعل: فكان أول من استقبل جيش الاحتلال في بغداد متأبطاً قاذفة الـ«بي سفن»، وأول القضاة الذي حاكم آسريه ورفع صوته عالياً في وجه المحتلين والجلادين، ورفع قبضته متحدياً حاكماً عليهم باللصوصية والكذب، وعلى عملائهم بالجبانة والخيانة أمام من احتل أرضهم فحابوه وساعدوه وخانوا وطنهم. وبهذا استحق شهادة الثائر العظيم غير عابئ بما هو خاص مقدماً للعام المثل الأعلى في التحدي والمقاومة. فيكون قد أثبت أنه المقاوم الأول قبل الاحتلال وفي أثناء العدوان وبعد الاحتلال.
أما جورج بوش فلم يف بأي وعد للأميركيين لأنه عندما قاد العدوان على العراق كان ظالماً باغياً كاذباً مخادعاً. فلم يرجع جنوده إلى بلادهم إلاَّ في النعوش أو ملاجئ الإعاقة أو المصحات النفسية، فهم بدلاً من أن يحملوا الورود حملوا العاهات، وحملتهم النعوش وكراسي المعوقين. وبدلاً من أن ينعم الأميركيون بثروات العراق نعموا بإنفاق أكثر من ثلاثماية مليار دولاراً على حرب عدوانية مدمرة ارتكبت فيها إدارتهم وأبناؤهم كل صنوف الجرائم وأنواعها، وأكثرها وحشية في تاريخ الحروب.
في معرض تقابل النتائج، فيما خطط له حزب البعث، بقيادة صدام حسين، وفيما خطط له جورج بوش، في الصراع بين قوى «الشر» التي يقودها بوش، وقوى «الخير» التي يقودها صدام حسين، أصبحت أكثر وضوحاً. حددتها بيانات قيادة المقاومة والتحرير في العراق حينما سفَّهت، بكل واقعية وموضوعية، أوهام جورج بوش التي تضمنها بلاغاه الأول والثاني، فجاء بيان القيادة الأول حاملاً عنوان «بشائر النصر، ونُذُر الهزيمة». أما البيان الثاني فجاء حاملاً عنوان «صانع استراتيجية النصر في العراق هو البعث وقائده صدام حسين».
بين المواقف السياسية التي تهدف للتعبئة المعنوية والمواقف المنطلقة من وقائع موضوعية في بيانات قيادة المقاومة والتحرير تظهر المسافات قصيرة، ففي بيانات القيادة كل الموضوعية والواقعية، وهو على خلاف ما تعودنا عليه في تجارب العرب الأخرى. فقد اعتدنا أن نتماثل بموضوعية المواقف الغربية وندعو إلى تقليدها في خطابنا السياسي، أما في أنموذج الخطاب السياسي لقيادة المقاومة العراقية فقد أصبح الأنموذج الأمثل في المصداقية والواقعية، وأصبح الخطاب السياسي على الأنموذج الغربي هو المرفوض حتى عند الأميركيين أنفسهم إلى الدرجة التي ألصقوا أوصاف الكذب والخداع في خطاب إدارتهم، أليس هناك في تلك المقارنة ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر بالأنموذج الخطابي السياسي الذي تمارسه قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق؟
لكي نقرن النتيجة بالسبب نستعرض المشهد العراقي في كانون الأول من العام 2005. فقد شهد هذا الشهر جملة من التطورات التي ستفرض عدداً من المتغيرات اللاحقة، سنقوم باستعراضها حسب العناوين التالية:
الأول: استئناف محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه: وقائع الجلسات وتقييم لها.
الثاني: الانتخابات التي قرَّرت الإدارة الأميركية إجراءها في 15/ 12/ 2005: وقائع وأهداف.
الثالث: بداية انهيار مشروع الاحتلال، وبشائر إعلان الهزيمة الأميركية بمصطلحات مضلِّلة، كمثل نقل الأمن إلى القوات العراقية بعد إنجاز العملية الدستورية، أو كمثل التخفيف من عديد القوات...
أولاً: محاكمة الرئيس صدام حسين محاكمة للأنظمة العربية والضمير العالمي
لكي نرتاح علينا أن نقتل تشي غيفارا، قالها رفاق تشي غيفارا، الثائر الأميركي الجنوبي رفيق فيديل كاسترو. ولما سألهم عن السبب أجابوا أنه عندما نقتلك كأننا نقتل الضمير فينا، وعندما يُقتَل الضمير نرتاح من أعباء الثورة لأننا لن نمارسها بعد موت الضمير على الإطلاق.
هكذا هو حال حكومات النظام العربي الرسمي، وحال النخب العربية المنساقين في مخططات الرأسمالية الأميركية. فاجتمعوا كلهم في تحالف واحد يطلبون رأس الضمير الثوري العربي.
إن ضمير الثورة العربية الآن، وقبله وبعده، ماثل في الفكر الشعبي المقاوم، وإن من يمثِّله أصدق تمثيل، قولاً وعملاً، هو الرئيس صدام حسين الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.
عملوا على افتعال الأكاذيب لتشويه صورته الرمزية بشتى الوسائل والأساليب، وفشلوا. وحاولوا، مع عملائهم، لاغتياله معنوياً، وفشلوا. عملوا على إذلاله في طريقة اعتقاله، وفي سجنه، فلم يحصدوا إلاَّ الفشل. وفي المقابل ازداد حجمه المعنوي بعد أن انكشفت كل أكاذيبهم التي حاكوها عنه. وهؤلاء هم الآن يجددون وسائل إذلاله أمام محكمة صورية عينَّوها لعلَّها تنجح فيما فشلوا فيه سابقاً. وفشلوا أيضاً. ألم يعبَّر رئيس لجنة العدل في الكونغرس الأميركي عن هذا الفشل الذريع عندما صرَّح غاضباً من خطورة إظهار صدام حسين على شاشات التلفزة؟
أرادوا أن يقتلوا الضمير في الأمة أمام محكمة مهزلة، لكن الضمير دقَّ أول مسمار في نعش الاحتلال وعملائه، عندما سرق الرئيس الأضواء وحوَّل محاكمته إلى محاكمة لهم جميعاً، أدهشت حتى الذين كانوا لا يزالون مضلَّلين بنظرتهم العدائية للبعث وقائده صدام حسين.
لم تكن محاكمة صدام حسين من أجل تطبيق الديموقراطية، فتلك كذبة كشفها الشعب الأميركي. ولم تكن لأهداف جنائية لأن إدارة بوش الإبن على يقين بأن كل التهم التي تمَّ توجيهها قبل الاحتلال وبعده بقليل ليست صحيحة على الإطلاق، وهذا ما يكشفه السؤال التالي: أين أصبح الاتهام بالمقابر الجماعية؟ وأين هي تهمة مجزرة حلبجة؟ وأين وأين؟؟؟ لماذا اختزلتها الإدارة الأميركية بقضية «الدجيل» التي يؤكد المحامون أن الشهود عليها أمام محكمة «رزكار محمد أمين» هم الجناة الذين تجب محاكمتهم؟
فللمحكمة أغراض أخرى غير غرض «مهزلة الديموقراطية»، وغير الغرض الجنائي. أمرت إدارة بوش بإجرائها لأغراض دعائية لتضفي شرعية على حكومة عراقية معيَّنة عرجاء. كما أنها توجِّه من خلالها رسالة لتخويف المقاومة العراقية، وهي تريد مقايضة قائدها بإنهاء المقاومة المسلَّحة. فكان رد قيادة المقاومة سريعاً، إذ بناء لرغبة قائدها صدام حسين، أعلنت أن المطلوب سلامة العراق وليس غير سلامة العراق على الإطلاق.
فلو أراد صدام حسين أن ينجو بسلامته الشخصية لكان استجاب للإملاءات الأميركية واقتسم ثروات العراق مع الأميركيين شأنه شأن من يتربعون الآن على عروش من آبار النفط. ولكنه يعتبر التواطؤ على ثروات العراق تواطؤاً على العراقيين وهي خيانة موصوفة، فاتَّخذ القرار الذي تمليه عليه كرامة شعبه وسيادة وطنه. ولهذا قال وهو في الأسر، كما جاء على لسان محاميه «أتشرف بان يكون عيبي الوحيد أنني لم أخن العراق».
لم تكن فضائل صدام حسين أنه ظلَّ أميناً لمبادئه كما للعراق فحسب بل كان ، على الرغم من وجوده في قلب دائرة الخطر، أميناً للدفاع عن كل القيم الإنسانية واقفاً في خندق الدفاع عن كل شعوب العالم المسحوقة بجبروت «ديكتاتورية الإمبراطور الأميركي» أيضاً.
ولن نضيف الشيء الكثير عما حدده المحامون ورجال القانون عن تلك المحاكمة المهزلة، كما عن أنها غير شرعية بكل المقاييس، ليس أقلها المطالبة بمحاكمة المجرم الحقيقي «الديكتاتور جورج بوش» وإدارته، بل ما نقوله إن الاحتلال الأميركي يداوي جراحه التي أثخنته بها المقاومة العراقية بمسرحيات أراد منها أن يُظهر الأبطال أقزاماً، وأن يساوم على حياتهم في إنهاء ما خططوا له من أجل الدفاع عن كرامة الوطن وسيادته، فظلَّ الأبطال، على الرغم من أنف المعتدين، أبطالاً. ليس هذا فحسب بل أيضاً، وفي الوقت الذي يريد الاحتلال أن يُضعف المقاومة بمساومتها على حياة قائدها، وجَّه القائد رسالة من على منصة المحكمة، ستكون الحافز الأكبر لها في تصعيد عملها ونضالها حتى خروج آخر جندي محتل من أرض العراق.
ثانياً: الاستحقاق الانتخابي في الخامس عشر من كانون الأول من العام 2005
لم تحز الانتخابات على أية شرعية إنسانية حسب القانون الدولي، فهي تجري تحت رعاية احتلال غير شرعي. فالقانون الدولي لا يبرر كل صيغ التزوير التي وُضعت لإلباسها الثوب الشرعي، فتلك الصيغ استُخدِمت فيها أحابيل وخُدعاً قانونية أسهمت في إخراجها المؤسسات الدولية تحت ضغوط أميركية متعددة الاعتبارات والأسباب والعوامل. واستغلها النظام الإيراني لاقتطاع حصته من جغرافية العراق المذهبية.
تعود بداية الخدع في تشريع انتخابات الخامس عشر من كانون الأول إلى القرار 1546، تاريخ 8/ 6/ 2004. في حينها، وبفعل الضغط الذي شكَّلته المقاومة العراقية على وجود الاحتلال لجأت إدارة جورج بوش، بنصيحة من خبرائها وسياسييها، إلى تدويل القضية العراقية. ولن يكون التدويل عملياً إلاَّ بالاستعانة بالدول التي كانت تلك الإدارة قد قطعت علاقاتها معها تحت تأثير مخدِّر النصر العسكري النظامي الذي أحرزته في العراق. وحينذاك أعلنت غضبها على الدول التي مانعت العدوان والاحتلال. لكن ولأنها وقعت في مأزقها الكبير راحت تساوم تلك الدول للحصول على مساعدة تخرجها من المأزق المذكور لقاء وعد يحقق مصالحها الاقتصادية في العراق. وعلى قاعدة المساومة تلك وُلد القرار 1546.
تقوم المساومة، حسب مدلولات القرار 1546، بحيث يُشرِّع مجلس الأمن الدولي وجود الاحتلال الأميركي بإلغاء صفة الاحتلال عنه، حيث جاء في ديباجة القرار: «وإذ يتطلع تحقيقا لهذه الغاية إلى إنهاء الاحتلال وتولي حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لكامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004»، وتحويله إلى «قوات متعددة الجنسيات» تبقى في العراق شكلياً تحت راية الأمم المتحدة، طبعاً بطلب من حكومة عراقية غُلِّفت بغطاء شرعي. وفي المقابل تتحقق مصالح الدول، الطرف الآخر في اتفاقية المساومة، في تسليم الملف العراقي للأمم المتحدة التي تحلم تلك الدول أن إخراج العراق من راية الاحتلال إلى راية السيادة فيها ما يضمن جزءاً من سلطة دولية تسمح لها بأن تكون طرفاً في اقتسام «كعكة العراق». ومن أجل توفير وسيلة لنجاح تسلل تلك الدول، رسم القرار 1546 سُبل نقل السلطة من الاحتلال الأميركي إلى سلطة عراقية مرهون استمرارها بقرار من تلك الدول الأعضاء في الهيئة الأممية على الشكل التالي:
«4-يقر الجدول الزمني المقترح للانتقال السياسي للعراق إلى الحكم الديمقراطي، ما يلي:
أ) تشكيل حكومة مؤقتة ذات سيادة للعراق تتولى مسؤولية الحكم والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004؛
ب) وعقد مؤتمر وطني يعكس تنوع المجتمع العراقي؛
ج) وإجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2004، إذا أمكن ذلك، أو في موعد لا يتجاوز بأي حال من الأحوال 31 كانون الثاني/يناير 2005، لتشكيل جمعية وطنية انتقالية، تتولى جملة مسؤوليات منها تشكيل حكومة انتقالية للعراق وصياغة دستور دائم للعراق تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخابا دستوريا بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005؛
12-يقرر كذلك استعراض ولاية القوة المتعددة الجنسيات بناء على طلب حكومة العراق أو بعد مضي إثنى عشر شهراً من تاريخ اتخاذ هذا القرار، على أن تنتهي هذه الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في الفقرة 4 أعلاه، ويعلن أنه سينهي هذه الولاية قبل ذلك إذا طلبت حكومة العراق إنهاءها؛».
لقد كانت الإدارة الأميركية مُلزمة بإنجاز الخطوات المطلوبة منها في القرار 1546، وليس هذا الإلزام مبنياً على قناعة أميركية بل لأن وجودها أصبح ضعيفاً في مواجهة المقاومة العراقية، السبب الذي أرغمها على طلب مساعدة الدول الأخرى فقدمت مساعدتها السياسية على شرط تنفيذ الشروط الواردة في القرار المذكور. وتراهن إدارة جورج بوش الآن للحصول بالسياسة على ما عجزت عن تحقيقه بالطرق العسكرية.
لقد تمَّ إنجاز كل الخطوات التي نصت عليها مواد القرار 1546. حيث كانت آخر حلقاتها في إنجاز استحقاق الانتخابات قبل حلول موعد الـ 31 كانون الأول من العام 2005. وهي بانتظار تشكيل حكومة منبثقة عن تلك الانتخابات، وهي تعمل من أجل عقد اتفاقيات معها على الصعد العسكرية والاقتصادية والسياسية تتوهَّم أنها ستكون ملزمة لأية حكومة تأتي بعدها.
لم يبق أمام الإدارة إلاَّ أن تضغط من أجل تشكيل حكومة عراقية تضمن استمرار مصالحها. وهذا مأزق آخر وقعت فيه.. أما السبب فعائد إلى تضارب مصالحها مع المصالح الإيرانية، حيث استطاع النظام الإيراني أن يوفِّر إنجاح أكثرية نيابية في انتخابات الخامس عشر من كانون الأول. ومن هنا ابتدأ المأزق السياسي لإدارة جورج بوش بحيث أصبحت مرغمة على الدخول بمساومة مع النظام الإيراني. وبه تكاثرت مآزقها: مأزقها مع المقاومة العراقية، ومأزقها مع الدول من المنظومة الرأسمالية ومأزقها الآخر وليس الأخير مع النظام الإيراني.
لقد تجاوزت إدارة بوش مأزقها مع الدول الكبرى بالقرار 1546، ونفذَّت كل موجباته. أما كيف ستستطيع أن تتجاوز مأزقها مع إيران؟ فهذا هو المطلوب إجابة واضحة عليه.
لقد جرت الانتخابات المذكورة في تاريخها المحدد، فكانت وقائعها كما خططت وأعدَّت لها إدارة جورج بوش الإبن، أما نتائجها فلم تكن تماماً كما أرادتها إذ دخل العامل الإيراني بقوة لاستغلالها لصالحه، وهذا ما أربك إدارة الاحتلال الأميركي، وأربك عملاءها من الذين يُصْدِقونها القول والفعل. أما وأن تأتي النتائج بشريك منافس فهذا ما لا يستقيم مع أطماع الاستئثار الأميركي بالعراق كله.
صحيح أن النظام الإيراني شريك فعلي للاحتلال الأميركي، تخطيطاً وعدواناً واحتلالاً، إلاَّ أن للنظام المذكور مصالح لا تتقاطع مع مصالح الاحتلال الأميركي، وهو يخطط لاستبداله باحتلال إيراني بكامل مواصفات الاحتلال.
فرصتان ذهبيتان لذئبين من غابتين مختلفتين، اتفقا على احتلال العراق ولكل منهما مآربه وأهدافه. فاستفاد كلاهما من استغفال أدواته وعملائه واستخدامهما في احتلال العراق، وفي نية كل منهما أن يخلع صاحبه متى حصل الاحتلال. فكان الاستحقاق الأخير، الماثل في نتائج انتخابات 15/ 12/ 2005، بداية لمعركة سياسية بين الذئبين يعمل كل منهما على خلع صاحبه. فلما كان الذئب الأميركي جريحاً يئن من الألم كان الذئب الإيراني مرتاحاً فلم يكن أمام الذئب الأميركي بدٌّ غير أن يدخل في مساومة مع الإيراني. فاستخدم وسائله وأدواته من أجل تسوية الأمور، فكان الجلبي وعلاوي من أهمهما، واستكمل مهمتهما بالطلب من سفيره «زلمان خليل زاده» بالاتصال مع النظام الإيراني لعلَّه يحصل على تسوية معه. فهل يكون إنقاذ رأس المفاعل النووي الإيراني هو الثمن؟ ربما. وعلى شتى الأحوال فلن تصب أية تسوية في مصلحة إدارة جورج بوش، أي تسوية تستطيع أن يعوِّض بها جزءاً من رأسماله الذي وظَّفه في عدوان تأكَّد من أنه عاد عليه بخسارة باهظة التكاليف، فهي قد دفعت حتى الآن مئات المليارات من الدولارات وعشرات الآلاف من حياة جنودها ودمائهم، والحبل على الجرار.
فمن سيكون الأكثر شطارة؟ أيكون التاجر الأميركي أم التاجر الإيراني؟
لا يفيدنا الأمر كثيراً في معرفة من هو الأكثر شطارة، فكلاهما سيخرج من العراق خاسراً. لكن ما يدفع بنا إلى الأسى والألم هو ما تشهده الساحة العراقية من كثرة في الاغبياء والمتواطئين والخونة من المراهنين على الاستقواء بالاحتلال الأميركي الراهن، أم من الذين ينتظرون خيراً من الاحتلال الإيراني لجنوب العراق. ما حصلت عليه إيران، في ظل الاحتلال الأميركي، لن يعدو كونه حلماً فارسياً تاريخياً، عجز الفرس عن تحقيقه طويلاً، إلى أن استندوا للأسف إلى الاحتلال الأميركي لكي يلتقطوا فرصة يحلمون بأنها الآن فرصة «إلهية» لن تتكرر مرة أخرى.
ففي بازار استكمال الروزنامة الأممية، أو في بازار استكمال تسوية بين الأميركي والإيراني، يبقى العراق والعراقيون هم السلعة التي يساوم أطراف الخارج على تمزيقها من أجل أن يحصل كل منهم على حصته. ونقولها وعلى كل الأطراف أن يفهموها إن حظهم كبير في المساومات لأن «السبع الأميركي» جريح. ولو كان غير ذلك لما تسنى للثعالب أن تنال شيئاً من العراق الضحية. كما عليهم أن يفهموا أن المقاومة العراقية التي أثخنت «السبع الأميركي» بالجراح لن تكون عاجزة عن أن تدمي ثعالب الجوار الجغرافي وتقطع أرجلهم وأيديهم من جذورها. وكما على الدول التي تواطأت مع إدارة جورج بوش، سواءٌ منها التي شاركت في العدوان والاحتلال، أم تلك التي تواطأت في صياغة القرارات الدولية، أن يتحسسوا رؤوس مصالحهم عندما تبدأ الهزيمة الأميركية قريباً.
ثالثاً: انهيار مشروع الاحتلال، وبشائر إعلان الهزيمة الأميركية
من خلال معرفة السقف الوحيد والكافي لتلبية أطماع مشروع الاحتلال الأميركي للعراق أولاً، وسقف ما هو متحقق منه في هذه اللحظة ثانياً، نستطيع أن نخمِّن المسافة الزمنية التي تفصل الاحتلال عن إعلان الهزيمة.
ليست الأطماع الأميركية المنصوص عليها بأقل من أن يكون العراق كله في قبضة الاحتلال. ليس هذا فحسب بل أن يكون العراق أيضاً قاعدة أمامية لإدارة جورج بوش ينطلق منها لاحتواء المنطقة كلها بما فيها إيران.
كما أن في مشروع احتلال العراق لم يلحظ المخطط الأميركي أية حصة لحلفائه في منظومة الدول الرأسمالية، بل إن عائدات الامبراطورية الأميركية المحتملة لن ينعم بقطرة منها غير الإمبراطور الأميركي وحده، سيد العالم الأوحد.
وهنا نتساءل عن مستوى سقف هذا المشروع. لنجيب بأنه أصبح في هذه اللحظة أقل بكثير مما خطط له مهندسوه في إدارة جورج بوش. وهو قابل للتخفيض طالما أن المقاومة العراقية مصممة على القتال والمواجهة.
أما السقف الراهن فيتظلل تحته مساومون كُثُر يبتزون ضعف جسد الاحتلال، ومن أهمهم:
أولهما: منظومة الدول الرأسمالية التي ابتهجت منذ أن أثبتت المقاومة العراقية كفاءتها ومقدرتها في لجم حصان جورج بوش الجامح والقافز فوق حواجزها.
ثانيهما: النظام الإيراني الذي يعمل الآن من أجل تحقيق حلمه التاريخي في اقتطاع جنوب العراق.
فبدلاً من أن تكون ثروات العراق حصة صافية نظيفة تذهب إلى خزائن الإمبراطور الأميركي نراه يجهد للحصول على حصة من ثروة كان حالماً بالحصول عليها كاملة. فهناك حصة لأوروبا وحصة لإيران. السبب الذي جعل جورج بوش مؤرقاً في أحلامه وهو يرى ثروة طالما حلم بها معرَّضة للقسمة مع أطراف أخرى.
كان من المستحيل على أوروبا العجوز، قياساً على وصف فرنسا بـ«الدولة العجوز» كما أطلق عليها بعض أقطاب إدارة جورج بوش، أن تحلم بقطرة من بترول العراق من دون التضحيات التي قدمتها وتقدمها المقاومة العراقية.
كما كان من المستحيل أن يرتفع صوت إيراني ليساوم الاحتلال على اقتطاع حصته من العراق لولا أن أجهضت المقاومة الوطنية العراقية إتمام الحلم الأميركي. بل العكس هو الصحيح تماماً لأن الحلم الإيراني الأقصى كان في التفتيش عن كيفية توفير بعض الدفاعات عن إيران، التي كانت بالكاد تستطيع توفيرها لو استقر المقام للاحتلال الأميركي في العراق.
ذلك هو السقف الواقعي للطموحات الأميركية. أو ليس ذلك مما يجب أن يدفع جورج بوش وإدارته إلى قاع عميق من الألم؟
نحن سنتصور كم سيتعمق ذلك القاع إذا قلنا بأن ما يدور من تسويات دولية أو إقليمية لن تكون هي الحد النهائي الذي يرسم مستقبل العراق. فالمقاومة العراقية التي فرضت على الاحتلال الأميركي بأن يدخل في تسويات معهم، لقادرة حتماً على تعميق مأزق كل من يتوهم أنه سيحصل على ذرة من تراب العراق أو نقطة من نفطه. فلا أوروبا ولا إيران هم من أرغم الأميركيين على إدخالهم سوق المساومات، فبفضل إعاقتها المشروع الأميركي، ولأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع الأم كانت الإدارة مرغمة للتنازل عن حلمها الكامل. والمقاومة التي حققت تلك المكاسب لهم فهي كفيلة في المراحل القريبة القادمة أن ترغم المستفيدين من سوق المساومات أن يتنازلوا عن السقف الذي رسموه مع إدارة جورج بوش. وسيروا أنفسهم قريباً أن عليهم أن يضعوا المقاومة العراقية في الدرجة الأولى والوحيدة من اهتماماتهم إذا كانوا حريصين على مستقبل مصالحهم في العراق.
إنه لمن المؤسف، بل الأكثر أسفاً، هي تلك الحفرة المهينة التي انحدر إليها النظام العربي الرسمي. فقد غرق بشكل كلي في خدمة المشروع الأميركي. وسكت عن احتلال العراق واستكان، ولم يتحرك إلاَّ عندما تأكد بأن النظام الإيراني سيضع أقدامه على الأرض العربية. وهو السبب الذي دبَّ الذعر في قلوب حكام السعودية، فتلمسوا خطورة ما يجري فراحوا يداوون المرض الخطير بأخطر منه. ففي التقابل مع التسلل الإيراني على حصان مذهبي إلى العراق راحوا يتسللون على حصان مذهبي آخر، وهم بذلك كأنهم يحضرون الساحة العراقية لفتن مذهبية لن تنتهي بغالب أو مغلوب، بل سيكون العراق كله مغلوباً فيه. أوَ لم يصب تعريب القضية العراقية، في مؤتمر القاهرة الهزيل، في طاحونة المصلحة الأميركية؟
وباختصار لقد تطوع الجميع ليضعوا جهدهم في عملية إنقاذ للمشروع الأميركي، بما يحقق مصالحهم، المشروع الذي تحول حتى الآن إلى ميني مشروع، لعلَّهم يصيبون حصة في العراق، إلاَّ الأنظمة العربية فهي تعمل من أجل «وجه الإمبراطور الأميركي» فقط، فالقناعة لديهم كنز لا يفنى!!
تناسى هؤلاء وأولئك أن المشروع الأميركي الذي أصبح الآن ميني مشروع لن يطول المقام بالإدارة الأميركية لتُرغَم أمام ضغط الشارع الأميركي بالخروج من العراق، فالمشروع الأم لم يكن بمعادل لدماء أبنائهم، فهل سيكون الميني مشروع معادلاً؟
كل الدلائل والمؤشرات، بما فيها حركة اهالي الجنود، وحركات المكلفين الذين دفعوا حتى الآن أكثر من ثلاثماية مليار دولاراً، إلى حركة السياسيين والكتاب والصحفيين من أصحاب الضمير، إلى حركات القوى السياسية التي تخشى من الفشل في الانتخابات القادمة، إلى نقمة الضباط والجنود الذين يقاتلون في العراق، إلى انسحاب ما يقارب نصف عدد الدول التي أتت إلى العراق تحت خدعة شعار «إعادة إعمار العراق»، إلى إعلان دونالد رامسفيلد البدء بالانسحاب التدريجي للقوات الأميركية في العام 2006، وإلى إعلان بعض الحكومات التي تشارك بقوات في العراق عن برمجة لسحب جنودها، كلها مظاهر تؤكد أن الهزيمة الأميركية قد وقعت من دون إعلانها.
ونختم اختصاراً بما قاله الصهيوني يوسي ساريد في صحيفة ها آرتس الصهيونية بتاريخ 28/ 12/ 2005: «عام 2005 يوشك على اغلاق بواباته، وفي 2006 ستنتهي الحرب في العراق، لن تنتهي لأنها انتهت - هي بالتحديد في ذروتها وتصاعدها - ولكن لأنه لن يكون أمام جورج بوش خيار آخر. الحرب تعقدت وتعفنت، وكل يوم يمر يحمل في طياته ثمناً باهظاً، والرأي العام في الولايات المتحدة قد سئمها: الامريكيون يريدون رؤية جنودهم الـ 160 ألفا وهم عائدون الى منازلهم».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق