وفي اليوم السابع استراح بيكر :
رؤية في احتمالات مرحلة ما بعد تقريره
9/ 12/ 2006
كانت نتائج الهزيمة الأميركية معروفة منذ أواخر العام 2003، أي بعد أن أثبتت المقاومة العراقية ذلك. حينذاك استنتج بعض أصحاب الضمائر من الأميركيين والبريطانيين، ممن ليسوا على ارتباط مع إدارة جورج بوش أو مع إدارة طوني بلير، أن الاحتلال الأميركي سائر باتجاه الهزيمة، والهزيمة وحدها. وعادة ما يكون غير المتأثرين بغرض أو هوى من الموضوعيين في أحكامهم، ولمن يود الاستزادة من تلك الرؤى العودة إلى كتابنا «المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية» ليراجع التقارير الأجنبية التي استندنا إليها، وهي التي ساعدتنا على الوصول إلى النتائج التي توصلنا إليها، وتوجنا بها كتابنا المذكور.
عدنا بالذاكرة إلى وقائع تلك المرحلة من أجل تفسير عنوان مقالنا هذا، ولنثبِّت حقيقة علمية هي أن النتائج التي توصَّل إليها جيمس بيكر في تقريره كانت مقدماتها العلمية قد ثبَّتتها التقارير المذكورة التي صدَّرها أصحابها منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومن بعدها أصبحت ككرة الثلج تتراكم وتتزاحم في صياغة النتائج التي كتبتها المقاومة العراقية بأرواح شهدائها ودم جرحاها وغبار نضالها وجوع أطفالها.
فجيمس بيكر أتى في اليوم الأخير ليسجِّل نتائجه، ولو سمع جورج بوش يومذاك لتقارير من سبقوا بيكر لكان قد وفَّر على جنوده عشرات الآلاف من الإصابات.
ولهذا استراح جيمس بيكر في اليوم السابع، ليس لأنه هو الذي تعب في تحصيل الاستنتاجات خلال الأيام الست الأولى التي سبقت تقريره، بل نتوجَّه بالشكر والامتنان إلى كل النخب السياسية والفكرية من المفكرين والسياسيين الغربيين الذي شكلوا «الهم الأساسي على قلب جورج بوش» وإدارته. وهو كان يحاول الخلاص منهم بأي ثمن.
فهل استجاب بوش إلى صوتهم الآن من خلال استجابته لتقرير جيمس بيكر، وقرَّر أن يحافظ على حياة من تبقى من جنوده في العراق؟
ظاهرياً، قرَّر رئيس «المجرمين الأميركيين» الذين أعدوا للجريمة التي ارتكبوها في العراق كل مستلزماتها المنظمَّة، ألاَّ يستجيب.
إن إعلانه بأن ما تقدَّم به جيمس بيكر، وغيره، ليست أكثر من توصيات غير ملزمة، فهو رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي يستطيع أن يركل «القانون الدولي» برجله اليسرى، ظهر وكأنه يريد أن يقول بأنه يستطيع أيضاً أن يركل نتائج تقرير جيمس بيكر برجله اليمنى.
أولاً: قرار الانسحاب من العراق أصبح بيد الجندي الأميركي وعائلته
فإذا كان كلام الرئيس هو «رئيس الكلام»، فيمكننا ألاَّ نعوِّل عليه هذه المرة، بالتأكيد. فكلامه لن يكون «رئيس الكلام»، لأنه أصبح بلا صوت، وبلا مخالب، وبلا سلطة تتيح له اتخاذ القرار. ومن لا يصدقنا فليأت معنا لنبرهن له.
خفض جورج بوش رأسه ذُلاًّ، واختفت مصطلحات خطاب النصر من كل تصريحاته، ولم تعد لديه الجرأة على الكذب، فرجاله يموتون كل يوم، وهم يحصلون على كل أنواع الإعاقة، هم يُصابون بالجنون ويُنقلون إلى المصحات العقلية، وهم... وهم... وحدِّث عن أزماتهم وآلامهم من دون حرج.
خفض جورج بوش رأسه ذُلاًّ، ولم تعد لديه الجرأة على الكذب، فأهالي جنوده وزوجاتهم وأطفالهم، يعانون من الكوابيس على مصير أحبائهم.
ماذا تعني كل تلك المشاهد، التي غزت طرقاتها بوابات البيت الأبيض؟
السبب أن مخابراته لم تعد قادرة على منع وصولها إلى مسامع رئيسهم. فهي قد وصلت إليه صاخبة، ومدوية، عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات النصفية. ودخل صراخ الجنود وعائلاتهم عبر بوابات الكونغرس ومجلس الشيوخ. فأين المفر؟
كان باستطاعته أن يعتقل «سيندي شيهان»، ويضع القيود في يديها، ولكن هل يستطيع أن يعتقل نصف أعضاء الكونغرس، ومجلس الشيوخ، زائداً واحد؟
وهل يستطيع أن يركل برجله، سواءٌ أكانت اليمنى أم كانت اليسرى، كل تلك الأصوات التي تشبه قرع الطبول الأميركية؟
لقد اجتمع الشارع الأميركي، ودخل بوابات البيت الأبيض بزخم مدو، فأين المفر؟
إذا كان باستطاعته أن يُغلق في السابق شبابيك البيت الأبيض لكي لا يسمع، فهل باستطاعته الآن أن يغلق بواباته في وجه الشارع الصاخب الذي ملأ المؤسسات التشريعية الأميركية؟
قد يفاجئنا البعض متوقعين أن ينقلب الناجحون من الديموقراطيين على وعودهم للذين منحوهم أصواتهم لسبب وحيد، لا ثاني له، هو إعادة أبنائهم وأزواجهم إلى بلادهم، من العراق بالتحديد. أو ينقلبون على نداءات الجنود القابعين على أرض العراق ينتظر كل منهم أن يكون القتيل الأكيد في اليوم التالي، أو المعاق على الأرجح، وهم أصبحوا جميعهم مصابين بالعاهات النفسية.
إن تلك الوقائع تدفعنا إلى التأكيد أن القرار أصبح بيد الجندي الأميركي وعائلته.
إن تلك الوقائع تدفعنا إلى التأكيد أن القرار قد فلت من يد المؤسسات وأصبح الشارع الأميركي هو صاحب القرار. وقرار الشارع الأميركي أصبح بيد الجندي الأميركي.
لا احتلال ممكن إلاَّ بوجود جندي يحرسه، ولا وجود لجندي محتل إلاَّ بوجود بيئة آمنة لهذا الوجود. ولا بيئة أمنية مناسبة إلاَّ بوجود شعب مستسلم للاحتلال.
ثانياً: قرار الجندي الأميركي تمسك به المقاومة الوطنية العراقية
فإذا بدأنا بصياغة المعادلة من آخرها، لا نرى إلاَّ أن المقاومة الوطنية العراقية قد اقتلعت لغة الاستسلام من جذورها، وبرهنت على أنها تمتلك موجبات الصمود والاستمرار، فهي في ثنائية «المقاومة والاحتلال» ستمنع توفير بيئة أمنية تغري الجندي المحتل بالبقاء، فستبقى حياته في خطر دائم، والشعور بهذا الخطر ستدفع به إلى الحلم بالانسحاب، أو إلى قتال «اليائس».
وفي شتى الأحوال ستبقى جثث الجنود تصل إلى الأهل، وفيها الكثير من التحريض على الضغط ورفع الأصوات، وستبقى سيفاً مسلطاً على رقاب الواعدين ورقاب الذين قد يتناسون، ولهذا كانت النتائج التي توصلنا إليها صحيحة: «إن القرار بالانسحاب لم يعد بيد المؤسسات الرسمية الأميركية»، بل انتقلت دوائر القرار الفعلية، إلى مؤسسة المقاومة العراقية، وبدورها أرغمت الجندي الأميركي، ليصرخ، ويدفع أهله إلى الصراخ. فنحن لم ننس مشهد اليافطة التي رفعتها مجموعة من الجنود الأميركيين كُتب عليها: «جون كيري إسحبنا من العراق فقد توحلنا فيه».
ثالثاً: اصطفافات جديدة ستعمل على إعادة توحيد العراق
على مقاييس ما قمنا بتحليله أعلاه، تتكثَّف التقارير وتتراكم، ومنها ما أشار إليه تقرير بيكر، وكلها تدل على أن إدارة جورج بوش، قد تلجأ إلى توسيط كل من إيران وسورية من أجل الحصول على مساعدتها لتجاوز مأزقها في العراق أو التخفيف منه. وهي قد تستفيد من تلك التوصية لكسب الوقت، لعلَّ الاحتلال «الغريق يتمسك بقشة من الأمل». وتلك مسألة، في حساباتنا ليست أكثر من «قشة» بالفعل. فليس في تلك التوصية أي عامل من عوامل الحل، بل نؤكد أن إيران هي جزء كبير من المشكلة، والعمل على التفاوض معها هو تعقيد للمشكلة أكثر فأكثر. فأما بالنسبة لسورية فلا نظن أنها ستنخرط بشكل جدي في مخطط خطير لا بدَّ من أنها ستتعرَّض لمثله، وهي ترى نتائجه الخطيرة في العراق. فهي، في أسوأ الأحوال، إن فعلت، فكأنها توافق على تقسيم سورية، كما توافق على نقل «إسرائيل ثانية» إلى شمال العراق. أما تحالفها مع إيران، فلا نظن أيضاً أنها ستحافظ عليه لأن ما تستفيد منه إيران في العراق كدواء لمخططها المعادي للأمة العربية ولمشرعها المذهبي، من تقسيم وزرع كيان صهيوني، هو داء خطير لسورية بعمقها القومي الوحدوي.
إن الانسحاب الأميركي من العراق، لن تكون تداعياته فتن طائفية داخلية وتقسيمات سياسية عراقية كما تروِّج له الكثير من الأوساط السياسية، بل ستكون تلك التداعيات فتن وحروب من نوع آخر، لن تعني العراق وحده بل ستشمل الإقليم المجاور للعراق، وستشمل الجوار العربي بالتأكيد. إذ ذاك ستكون معارك أخرى ذات استهدافات تعبر عنها العناوين التالية:
-ثنائية تقسيم العراق إلى مذاهب دينية، طرفها الأول إيران التي تعمل على اقتطاع حصتها منه، وطرفها الثاني منع تقسيمه على أساس طائفي لمنع إيران من اختراق الجبهة الشرقية للأمة العربية.
-ثنائية تقسيم العراق إلى كانتونات عرقية طرفها الأول كردي انفصالي متحالف مع الصهيونية ويعمل لبناء كيان انفصالي تنعكس مخاطره على دول الجوار الجغرافي لشمال العراق، وطرفها الثاني منع تقسيمه لانعكاساته ومخاطره على الدول المجاورة لشمال العراق.
إن تحالفات جديدة، واصطفافات جديدة ستكون عنوان المرحلة المقبلة، ومن اللافت أن تشترك دول وأنظمة تواطأت مع الاحتلال الأميركي في معركة إعادة الوحدة للعراق.
إن الحل المنطقي، المبني على مصالح وليست على مبادئ، تدعو إلى ترقب احتمالات المستقبل في العراق على أساس تلك العناوين الكبرى، تلك الاحتمالات التي بدأ كل أصحاب المصلحة، من دول الجوار الجغرافي للعراق، عرباً أم غير عرب، يُعدُّون أنفسهم من أجل مواجهتها. ونحن نحسب أن انتظار مواجهة تلك الاحتمالات لن يطول. ونعتبر أن أكثر المعنيين بالإعداد إلى تلك المرحلة، هم العراقيون الوطنيون، وعلى رأسهم المقاومة الوطنية العراقية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق