--> -->
المشهد العراقي في شهر حزيران2006
سلسلة من المآزق تتبعها سلسلة من محاولات الهروب
حفل شهر حزيران بالتطورات بدءاً من محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه، مروراً بالانتهاء من تشكيل حكومة نوري المالكي، انتهاءً بالأزمات التي تعصف في وجهها: ليس أقلها بداية التداعي الفعلي لوعودها ومستوى المراهنة عليها من قبل الطاغية جورج بوش وتابعه طوني بلير، انتهاء بمأزقها، بل بمآزقها، ابتداء من الملف الأمني الذي فتحته على طريقتها ليشهد المزيد من التآكل على طريقة المقاومة.
لا تجدي معالجة كل مظهر من المظاهر بشكل منفصل عن الآخر، بل كل أوجهها مترابطة لتؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي بداية العد العكسي للهروب بعد أن سقطت كل مراهنات الاحتلال الأميركي. وبسقوطها راحت إدارة بوش تحتال على توفير طريقة للانسحاب تعفيها من خروج مكلَّل بالهزيمة.
هروب الإدارة الأميركية وعملائها من مأزق المحكمة الصورية باجتثاث نتائجها
ضاقت الإدارة الأميركية ذرعاً بالمحكمة الصورية التي نصَّبت عليها الحاقدين على نظام حزب البعث السياسي، ورئيسه الشرعي الأسير، فتميَّز شهر حزيران بعنوان كبير وهو كيف يمكن لإدارة جورج بوش أن «تجتثَّ النتائج الإيجابية» التي مالت موازينها لمصلحة البعث من خلال المواقف الجريئة للأسرى وشهود النفي ومحامي الإسناد والدفاع.
توزَّعت إدارة المحكمة الأميركية الأدوار مع «طراطيرها» حَمَلة الهوية العراقية، الذين أحسنوا التنفيذ بتفريغ المحكمة من محامي الإسناد بالطرد بشكل تعسفي، وإرهاب الشهود واعتقالهم، أولئك الذين أظهروا شجاعة فائقة مشهوداً لها، وإرهاب الأسرى بالنفي عن مسرحها الإعلامي وتكسير أيديهم من قبل جلاوزتها، كمثل ما حصل مع المناضل برزان التكريتي، واستكملت مهمتها شللٌ وعصابات من الحاقدين، تارة تحت غطاء وزارة الداخلية، وتارة أخرى تحت غطاء الميليشيات الطائفية الحاقدة من الذين رضعوا من أثداء الخيانة حتى شبعوا، فقاموا بخطف فقيد العراق والعروبة والقانون، المحامي خميس العبيدي، وقتلوه ومثلَّوا بجثته.
فكان شهر حزيران شهر تقويض المحكمة التي نصبَّوها لأهداف انقلبت عليهم كانقلاب السحر على الساحر. فاجتثوها للهروب من الفضائح التي لاحقهم بها الأبطال الأسرى، والمحامون الشجعان، بكل رباطة جأش.
الهيئة الأممية تنجد الإدارة الأميركية بتمويه جريمة الاحتلال بالاستجابة لطلب المالكي
بعد أن تأخَّرت الإدارة الأميركية عن تلبية استحقاقات القرار 1546الدولية، التي هي طبعاً استحقاقات المساومة التي جرت في أروقة مجلس الأمن الدولي لتحصل الدول التي استجارت بها إدارة جورج بوش على حصتها في العراق، مدَّدت تلك الدول تحت شكلية طلب حكومة نوري المالكي ستة أشهر أخرى لبقاء قوات الاحتلال في العراق. ونحسب أن تلك الفرصة لن تتكرر إلى الأبد، بل هي فرصة مدفوعة الثمن للدول المتواطئة في مجلس الأمن، لعلَّها تحت سقفها تساعد إدارة جورج بوش على تدبير أمورها في صياغة طريقة للهروب تحفظ ماء الوجه لأكبر جيش في العالم، ولعلَّ تلك الدول التي هي من قادة النظام الرأسمالي بحفظها لماء وجه جيش الرأسمالية الأميركي تحفظ ماء وجه النظام الرأسمالي في العالم، من أجل ألآَّ يفقد النظام الرأسمالي هيبته.
الإدارة الأميركية تنقل مأزقها إلى محاولة التفاوض مع من جاءت بالأصل لـ«تجتثه»
تجدر الإشارة هنا إلى أن تلك الخطوات تترافق مع رغبة مُلحَّة عند الإدارة الأميركية في جرِّ المقاومة العراقية إلى التفاوض على قاعدة إلحاقها بما تسميه «العملية السياسية» وهي تغدق لها كل أنواع المغريات، وتطلق الإشاعات عبر الإعلان عن لقاءات وهمية، تارة على لسان جلال الطالباني، وتارة أخرى على لسان المالكي، ومرة ثالثة بتكليف عملائها مما يُسمون «ممثلو السُنَّة» بدعوة قادة المقاومة إلى الاستجابة لدعوات الحوار.
ليس اللغط الدائر حول إلغاء قرار «اجتثاث البعث»، وهو القرار الذي حمل الرقم (واحد) تحت توقيع بول بريمر، والذي ضمَّنته الإدارة الأميركية، مترافقاً مع حماس الحاقدين من الطائفيين والخونة، في صُلب ما سمُّوه الدستور العراقي، إلاَّ وجهاً من وجوه الإغراءات التي تروِّج لها لاجتذاب حزب البعث العربي الاشتراكي إلى مصيدة كان متنبهاً لها منذ الأساس، ورفضها رفضاً مطلقاً منذ البداية.
ذلك الإعلان / المصيدة لم ترفضه المقاومة والبعث لوحدهما فحسب، لأن ما يتم تحت سلطة الاحتلال وعملائه مرفوض بالمطلق، بل رفضته القوى الطائفية الحاقدة أيضاً لأنها تعلم علم اليقين أنها مرفوضة في ظل النظام الوطني. فالنظام السياسي إما أن يكون لكل أبنائه وإما ألاَّ يكون، والدولة الوطنية إما أن تكون لكل أبنائها أو لا تكون. فالصراع بين البعث، الذي يعبِّر عن قراره الوطني، والشلل الطائفية التي تريد تفتيت الوطن لحفظ حصص للطوائف على حسابه، هو صراع وجود لا صراع مصالح بين الطوائف.
على وقع الإعلام المكثَّف عن هذا الجانب، تعمل الإدارة الأميركية على نار حامية من أجل تجميل ديكور الهروب تبعاً للخطوات التالية:
1-هروب الإدارة الأميركية من أوساخ احتلالها لتعلِّقها برقبة حكومة نوري المالكي
كاستحقاق دولي مُلزمة بتوفيره، تنفَّست الإدارة الأميركية الصعداء بعد أن قامت بإنجاز تشكيل صوري لحكومة المالكي، فوصفته بالإنجاز التاريخي، وراحت تنسج على تاريخيته من أجل أن تعلٍّق أوساخ الاحتلال عليه، كانت قد مهَّدت له بالكشف عن دور أجهزة حكومة عملائها في الخطف والقتل والاحتجاز والتعذيب.
وكاستحقاق أمام الراكعين من الدول المشاركة في الاحتلال تحت خديعة القيام بـ«إعادة إعمار العراق»، كمثل اليابان، من الذين ضغطت عليهم منظمات الضمير في بلدانهم للانسحاب، ابتدأت قوات الاحتلال الأميركي، بالتوافق مع تابعها القوات البريطانية، بتسليم مهمة الأمن لما يُسمَّى الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة نوري المالكي، في محافظة السماوة، على أن تُستكمل الخطوة الأولى بتسليمها الأمن في محافظة ميسان في وقت لاحق.
من الواضح أن إستراتيجية الهروب للقوات البريطانية كانت واضحة، وأصبحت أكثر إلحاحاً، بعد انفجار الوضع في كل من العمارة والبصرة، دفعت فيها قوات الاحتلال البريطاني عدداً من جنودها سقطوا قتلى أو جرحى. وأصبحت حاجتها للهروب أكثر من ضرورية بعد أن غرقت في بحر الفوضى الأمنية التي اندلعت شرارتها بين العصابات التي تتسابق على امتصاص دم العراق. تلك العصابات التي ترتبط مع مافيات أجنبية ومنها المافيات الإيرانية.
ليس كل ما يجري في الجنوب عموماً، والبصرة والعمارة خصوصاً، يتم على قاعدة الصراعات الداخلية بين عصابات الخونة بسبب السيطرة على عائدات التهريب، وهو وجه من الحروب الداخلية المتوقع حصولها فحسب، وإنما الجزء الأساسي منها، وهو الأهم، فهو تصعيد المقاومة الوطنية العراقية من عملياتها في تلك المنطقة أيضا. تلك المقاومة التي أبرزتها وسائل الإعلام بصورة أهل البصرة الغاضبين على الاحتلال، فلم يمض يوم من دون أن تتناقل الأخبار والتقارير جزءًا منها. ومما يثبت ذلك هو انكفاء لقوات الاحتلال البريطانية التي أخذت تعزل نفسها في ثكنات تحيط بها الحواجز الكونكريتية.
أما عن الدور الإيراني في تأجيج الفوضى، ومنها افتعال عمليات التطهير الطائفي في البصرة، فعائد إلى استغلال فرصة الإرباك الأميركي والبريطاني من أجل استكمال مخطط الهيمنة على جنوب العراق.
2-هروب الإدارة الأميركية من شوارع العراق بتكليف مهمة الأمن لعملائها
تحاول قوات الاحتلال الأميركي، وبعجلة من أمرها، إلى تمهيد ساحة أمنية أمام عملائها، باجتياحات وحصارات وعمليات عسكرية وحشية من أهم معالمها حصار الرمادي وبغداد. تقوم بذلك ظناً منها أنها «تجفِّف» تلك المناطق من عناصر المقاومة وقياداتها. ولكن تلك الحصارات، على الرغم من أنها تصيب العراقيين بأشد أنواع المعاناة والضيق، إلاَّ أن المقاومة تتصدَّى لها على طريقة الكمائن، وهي بدلاً من أن تقود إلى تحقيق أهداف الاحتلال وعملائه، فهي تصيب منهم الخسائر الكبيرة التي يتم التعتيم عليها.
3-هروب الإدارة الأميركية من شراكة النظام الإيراني في الاحتلال إلى علقم المساومة معه على الملف النووي.
تراهن الإدارة الأميركية على أن إصرارها على التفاوض مع النظام الإيراني حول الملف العراقي قد يؤدي إلى استراحة المحارب المنهوك القوى. وعلى طريقة المساومة على ما لا يملكه الطرفان أصبح على العراق أن يدفع ضريبة حماية المشروع النووي الإيراني حسب الخطة الإيرانية، والمراهنة الأميركية على منع فتح أبواب جديدة تنال من أمن قواتها في العراق وأمن قوات حليفتها البريطانية.
وعلى العموم، تُعتبر خطة احتواء العراق المفكك المعزول عن الوطن العربي بمثابة إستراتيجية تخدم مصالح الطرفين الأميركي والإيراني. ولا يغيب عن تحليل المراقب أن إيران تعمل من أجل تعزيز موقعها الإقليمي، وهذا لا يمكن أن تتوفَّر شروطه بوجود عربي فاعل ومستقل القرار، وبوجود عراق وطني موحَّد الأرض والشعب، وتلك شروط تلبي أيضاً مصالح الإدارة الأميركية التي تعمل جاهدة من أجل تفكيك الوطن العربي، لأنه بدون هذا التفكيك لا يتناسب مع مخطط «الشرق الأوسط الكبير». ذلك مشروع يقف على طرفيْ نقيض مع أية دعوة توحيدية. وحيث إن حزب البعث العربي الاشتراكي لا يزال مصراً على شعاراته في الوحدة العربية، سيبقى نقيضاً استراتيجياً للمخططين الأميركي والإيراني على حد سواء، وسيبقى عرضة لاستهدافاتهما بالخلاص منه.
إن ذلك الالتقاء بين مصالح الطرفين لا يلغي دعوتنا إلى النظام الإيراني لبناء علاقات ثقة مع الأمة العربية، ومع العراق بشكل أكثر خصوصية، بسبب من الانتماء إلى محيط جغرافي واحد ومحيط ثقافي تعود جذوره للتراث العربي الإسلامي. وإن إصرار النظام الإيراني على تنفيذ إستراتيجيته لهو مغامرة لن يُكتب لها النجاح، وهي مغامرة تخدم الاستعمار والصهيونية على المديين القصير والطويل.
إن نداءنا هذا، وإن كان يتكرر من فترة إلى أخرى، فهو لحرصنا الشديد على تكامل جهود دول المنطقة من أجل القضاء على أحلام النقيض الأساسي، المتمثل بالمشروع الاستعماري والصهيوني أولاً، ومن بعده لكل حادث حديث.
ليس نداؤنا مستنداً إلى فراغ، بل ازداد رسوخاً بفعل العوامل التي أخذت تطفو على السطح بشدة ملفتة للنظر، وهي وإن كانت الأحداث التاريخية قد أثبتتها فإن واقع الحال الراهن جاء ليؤكدها. إن الواقع الراهن الآن هو ما يتسرب من أخبار، وما يُعلن من بيانات، كلها تنتسب إلى أصوات شيعية، لم تكن أحداث إسقاط العلم الإيراني عن القنصلية الإيرانية في كل من البصرة وكربلاء إلاَّ أقل مظاهرها. وما على كل من يريد أن يصل إلى الصورة الحقيقية لموقف سكان جنوب العراق تجاه النظام الإيراني إلاَّ أن ينزل إلى شوارع البصرة والكوفة والنجف وكربلاء...
4-هروب الإدارة الأميركية من شر الاعتراف بالهزيمة الكاملة إلى شر تقسيطها بالانسحاب التدريجي
لو قرأنا تصريحات جورج بوش، وزمرته الحاكمة المحيطة به، قراءة سطحية لنال منا اليأس كل منال. فهم لن يخرجوا من العراق، كما يتوهمون، إلاَّ منتصرين.
وبقراءة لبعض زوايا تلك التصريحات، التي يدعون فيها الأميركيين إلى التحلي بالصبر، لا نجد فيها إلاَّ توسلاً للمعترضين على الحرب في العراق، والداعين إلى الانسحاب منه بسرعة، بما له من دلالة تنبئ عن شدة حالة الاعتراض وتصاعدها وتناميها كلما استقبل الأميركيون أحد قتلاهم، أو كلما قرَّرت إدارة بوش صرف دولار جديد لتمويل نفقات الحرب في العراق وأفغانستان.
بالإضافة إلى اعتراض الحزب الديمقراطي في أميركا، بعد أن أصبح العدوان مُكْلِفاً بالدم والمال الأميركي، لم تستطع بعض القوى النافذة في الحزب الجمهوري من إخفاء حقيقة مواقفها الداعية إلى الخروج من العراق بناء على معرفتها بالوضع المأساوي للجنود الأميركيين نتيجة المواجهة البطولية التي تقودها المقاومة الوطنية العراقية.
لقد صرَّح السيناتور جيمس دين، رئيس الحزب الديمقراطي: من واجب إدارة جورج بوش ألاَّ تدع الشعب الأميركي يفكر ببناء جدارية أخرى كأحد نتائج الحرب في العراق، شبيهة بجدارية ضمت أسماء خمسة وخمسين ألف جندي قتلوا في فيتنام.
ومن أهم معالم حالة الاعتراض الأميركي، في هذه المرحلة، خاصة وأن من المعروف عن الشعب الأميركي أنه الأكثر انفصالاً عن قضايا العالم والأكثر جهلاً بها، هي أن العدوان على العراق أخذ يؤسس لحالة شعبية ناقمة، ودخلت تأثيراته وتداعياته إلى ذهن المواطن العادي وذاكرته وأسلوب تعبيره. ليس أقلها المواقف الجريئة لأحد المخرجين الأميركيين ضد الاحتلال، ودخول تلك الحالة إلى الأغنية الشعبية التي يؤديها عدد من المغنين في أميركا، هذا بالإضافة إلى تداول بعض الحكايات الساخرة عن هروب الجنود الأميركيين من الخدمة العسكرية، وإلى دخول النقد الساخر لسلوكات رئيس الولايات المتحدة الأميركية عن طريق قصص مخصصة للأطفال، وفيها يتم وصف الرئيس بالغبي والدمية...
وإن كان الرئيس الأميركي يستطيع أن يركل القانون الدولي برجله، فهو لا يستطيع أن يركل بها أصوات الناخبين في الانتخابات القادمة. وهو لا بدَّ من أنه سيكون مجبراً على الاكتراث لرأي الناخب الأميركي قريباً. وقد ظهرت المعالم التي تدل على ذلك، ومن أهمها إعلان الجنرال جورج كايسي عن البدء بالانسحاب التدريجي للجنود الأميركيين في شهر أيلول من هذا العام، على أن يكون تخفيض القوات ملحوظاً حتى نهاية العام 2007.
قد يعزو البعض أسباب هذا القرار، كفسحة تكتيكية تمارسها إدارة جورج بوش لجذب أصوات الأميركيين في الانتخابات لصالح الحزب الجمهوري، وهذا صحيح برأينا. إلاَّ أن ضغط الشارع الأميركي الذي أعطى نتائجه، بينما لم تتجاوز عتبة القتلى حسب إحصاءات البنتاغون الألفين وخمسمائة قتيل، وعتبة النفقات الحربية التي تصل إلى عتبة بضع مئات من المليارات، لن تنخفض حرارته أبداً، خاصة وأن ارتفاع عدد القتلى وعدد المليارات تمر في مراحل تصعيدية.
على العموم يُجمع المحللون، سواءٌ منهم ممن يتعاطفون مع الإدارة الحالية أم ممن هم على تناقض معها، على أن العد العكسي لإنهاء الاحتلال الأميركي قد بدأ.
ونحن نقول إن العد العكسي هو بمثابة السم الذي أصبح جورج بوش وزبانيته مجبرين على أن يتجرعوه. وقد سبقهم غيرهم إلى تجرعه. والحبل على جرَّار قوارير السم الذي تقوم المقاومة الوطنية العراقية بصناعتها من رمل صحراء العراق وسعف نخيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق