--> --> -->
المشهد العراقي في شهر أيلول 2006
سقوط الاحتلال العسكري
يكتمل بسقوطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي
إذا كان من قبيل التكرار أن نسرد عوامل سقوط مشروع الاحتلال الأميركي، ومظاهر إسقاط استراتيجية «المحافظين الأميركيين الجدد» من داخل المجتمع الأميركي نفسه، إلاَّ أننا نرى أن عوامل سقوطه الأساسية أصبحت أكثر وضوحاً على الساحة العراقية في هذه المرحلة أكثر من أي وقت آخر. ولهذا سنتناول بالتحليل سقوطه السياسي والاجتماعي على أرض العراق.
بعد سقوطه العسكري: الاحتلال الأميركي يسقط سياسياً
الاحتلال الأميركي في عجلة من أمره بعد أن قطع المسافة التي حددتها له الأسرة الدولية في تطبيق آخر بنود القرار 1546، أي بعد أن تمخَّضت محاولاته عن ولادة فأر سياسي، وهو حجم «حكومة نوري المالكي» الفعلي. وإن العجلة التي يعالج الاحتلال الأميركي مآزقه على نارها ذات علاقة باستحقاقين: الاستحقاق الدولي الذي سهَّل له الخلاص من صفة «الاحتلال» ليعفي إدارة جورج بوش من تبعات مسؤولية الاحتلال حسب نصوص القانون الدولي، أما الاستحقاق الآخر فله علاقة بمصير إدارة «القرن الأميركي الجديد» الذي ستحسمه الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني القادم.
فبالنسبة للاستحقاق الأول، أصبحت إدارة جورج بوش وجهاً لوجه أمام الإلحاح غير المنظور لمنظومة الدول الرأسمالية التي أخذ صبرها ينفد خاصة وأنها ساعدت الاحتلال الأميركي طمعاً بحصة لها في كعكة العراق، وقد انتهت الفرصة النظرية المعطاة له، والاحتلال لم يحقق شيئاً يُذكر في مجال استتباب الأمن الذي يعتبر العامل الوحيد الذي يسمح لرأسمال الشركات بالدخول إلى العراق من أجل الاستثمار.
لقد بلغ نفاد الصبر عند تلك الدول درجة لم تمنع جاك شيراك، الرئيس الفرنسي، من إعلان وجوب جدولة الانسحاب الأميركي من العراق. وهو إن لم يحظ بكثير من اهتمام الإعلام لأن الإدارة الأميركية ربما قد ضغطت من أجل التعتيم على ذلك التصريح بسبب ما يجره من إشكاليات ومشاكل في وجه إدارة جورج بوش إلاَّ أنه يعبِّر عن الاتجاهات الرئيسية التي ستكون مدار جدال بين أميركا وأوروبا لاحقاً. وسيان كان الأمر، فالواقع أن فرنسا وغيرها من الدول التي مانعت العدوان الأميركي منحت تلك الإدارة فرصة لعلها خلالها تستطيع ترتيب أمرها في العراق بما يسمح بعدها باستعادة المبادرة ووضعها بين يدي الأمم المتحدة، أي بترتيب دور للدول الأخرى في العراق كضمان لمصالحها فيه.
لقد أخذ الاحتلال فرصته كاملة بذل فيها أقصى جهوده لإنجاح عملية التزوير في تركيب إدارة سياسية عراقية من جهة واستخدام كل وسائل الإرهاب والوحشية للسيطرة على المقاومة العراقية من جهة أخرى، ولكنها لم تنجح في هذه ولا في تلك.
وفي المقابل، بدلاً من أن تقوم حكومة المالكي بسد بعض منافذ عجز الاحتلال فقد أضافت إلى أعبائه عبئاً آخر في مجاليْ تشكيل حكومة كان يحلم بأنها ستكون صافية الولاء له، وعلى أساس ولائها يتم تسليم أمن العراق لقواتها العميلة، إلاَّ أنه تواجه بأطماع شريكه النظام الإيراني، الذي كان «شاطراً» باستغلال المآزق الأميركية، فحصل على حصة مهمة في مقاعد الحكومة العميلة وقراراتها. وعلى قاعدة الخديعة التي مارسها الاحتلال الأميركي مع النظام الإيراني عندما أشركه في احتلال العراق بإعطائه حصة فيه مضمراً أن تكون الاستفادة الإيرانية منها تحت مراقبته وإشرافه، فقد خدعه النظام الإيراني أيضاً عندما طمع بأن تكون حصته تحت سيطرته الإيرانية الكاملة يتصرف بها كما يشاء. أي خدع كل منهما الآخر، ووضع صاحبه أمام مأزقه الخاص. وهذا السبب سيجر تداعيات سلبية أخرى أدَّت، وتؤدي، إلى إضعاف موقعيهما معاً في المستقبل المنظور.
في مثل هذه الحالة التي لم يستطع الاحتلال الأميركي أن يفرض فيها سيطرته العسكرية بشكل مباشر، وفشل في الإمساك بها بالواسطة، تتلخص مظاهر سقوطه السياسي.
الاحتلال الأميركي يسقط اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً
لعلَّ في الصورة اليومية التي تنقلها بعض وسائل الإعلام، على قلَّتها، ما يغني عن استشراف الاحتمالات السلبية، لأن صورة الوضع في العراق أكثر من مأساوية في شتى جوانب حياة المواطنين المعيشية والأمنية، هذا عدا عن الإيغال في استفزاز مشاعر المواطنين من خلال المسِّ بكراماتهم وأعراضهم.
يمارس كل من الاحتلال الأميركي، والتدخل الإيراني، أسلوب إخضاع الشارع العراقي بقمعه وإهانته لعلَّ تلك الأساليب تخيفه فتُدجِّنه وتُسلس قيادته، وهي لا تخرج عن كونها أساليب من الفاشية تتناسب مع الإيديولوجيا الأميركية التي تقوم على احتقار الشعوب الأخرى واستغلالها لأنها ما خُلقت إلاَّ لخدمة «السيد الأميركي الأبيض»، كما تتناسب مع الإيديولوجيا السياسية الدينية، كاستراتيجية إيرانية، تستند إلى إخضاع كل الإيديولوجيات الأخرى أو استغلالها من أجل «مشروع إلهي» يزعم النظام الإيراني أنه مكلَّفٌ «إلهياً» بالجهاد من أجله.
راح سلوك الإيديولوجيتين، على الصعيدين الفكري والتنفيذي، يستخدم كل الوسائل المتاحة، ومنها القتل على الهوية، على نطاق واسع. ومع أن لكل منهما أدواته وأجهزته المستقلة عن الأخرى، إلاَّ أنهما غالباً ما يقومان بتنفيذ تلك الاستراتيجية بحملات عسكرية وأمنية مشتركة، وتضم إلى قوات الاحتلال الأميركي كل أجهزة السلطة العميلة القمعية، من جيش وشرطة وقوات أمن خاصة (وهي ترتبط بشكل وثيق مع الأجهزة السياسية والأمنية الإيرانية)، بحيث تكون نتائج كل حملة القبض على مئات من العراقيين، وخطف البعض الآخر، وتصفية للعشرات منهم يومياً.
لم تستطع استراتيجية القتل والخطف، حسب الطريقة الأميركية وعملائها وحلفائها، أن تزرع الخوف وأن ترهب العراقيين، وإنما العكس هو الذي حصل ويحصل، وتظهر من خلال اتساع رقعة الرفض الشعبي التي تتفاعل وتزداد حدة بشكل متصاعد مع تصاعد حدة المشكلات الأمنية والمعيشية.
إن ما تشكو منه القوى القادمة من خارج العراق، ممن جمعتهم وحدة المصالح في ذبح العراق وتفتيته وتدميره، هو عجزها عن احتواء الشعب العراقي. وهل يمكن احتواء شعب انتُهكت سيادته وكرامته وعرضه ولقمة عيشه وأمنه، وطالت حياة أطفاله ونسائه؟
في مقابل السقوط الأميركي تحصد المقاومة العراقية زخماً عسكرياً وشعبياً
في قياس الموازنة بين ثنائية «الاحتلال والمقاومة» تأتي حقيقة علمية ومنطقية تدل على أنه كلما ضعف أحد طرفيْ المعادلة يقوى الطرف الآخر. أو أنه كلما عجز طرف منهما عن تحقيق أهدافه تتصدر قوة الطرف الآخر قيادة الساحة والإمساك بها.
لقد أفلس مشروع الاحتلال الأميركي عندما عجز عن الإمساك بأمن العراق، وبالتالي أفلس مشروعه الاقتصادي لأنه لم يستطع أن يوفِّر الأمن العسكري الذي يحميه، ولأنه لم يستطع أن يوفر له الأمن السياسي الذي يغطيه.
تلقائياً انتقلت كرة القوة إلى مشروع المقاومة الوطنية العراقية، وقد أصبحت أكثر وضوحاً في هذه المرحلة أكثر من أية مرحلة أخرى. فقياساً إلى ما نسميه مراحل على المقاومة الوطنية أن تجتازها، فقد حقَّقت المقاومة الآن إجماعاً شعبياً في مناطق، وأخذت تظهر بوضوح في مناطق أخرى كان ممنوعاً ظهورها بالضغط على الإرادة الشعبية بإرهابها أو ممارسة التضليل على قطاعات واسعة منها. وإلى ذلك حققت المقاومة قفزات عسكرية نوعية في أدائها.
1-على الصعيد العسكري:
من حيث الكم، فقد استقر عدد العمليات العسكرية عند سقف شبه ثابت. وهذه الحقيقة تؤكد أن المقاومة لم تفقد من زخمها شيئاً على الرغم من أن مئات العمليات العسكرية الوحشية قد شنَّتها قوات الاحتلال الأميركي، مدعومة بإمكانيات النظام الإيراني، ضد معاقل المقاومة. فهذا يقودنا إلى أن عمل المقاومة العراقية لم يتأثر ولم يُصب بانتكاسة.
وفي المقابل، فقد أخذت وقائع الوضع العسكري للاحتلال تميل إلى انخفاض واضح في أدائها بفعل أكثر من عامل وضغط.
إن هذا الواقع الراهن يقودنا إلى حقيقة لا تخضع للجدل، هي أنه في معركة عض الأصابع أخذ طرف الاحتلال يصرخ، وصراخه يعلو في الشارع الأميركي وفي أروقة البنتاغون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية وفي أروقة الكونغرس ومجلس الشيوخ، وكلها تقود إلى نتيجة محققة تحمل عنوان «الخروج من العراق»، الآن قبل الغد، أي أنه على التاجر الشاطر أن يوقف الخسارة إذا لم يستطع أن يحد منها.
كما أن وقائع الأمور تدل، بناء على بيانات تصدر تؤكد استكمال جهوزية ما وضعته المقاومة الوطنية العراقية في منهجها الاستراتيجي، وهو تشكيل «جيش تحرير العراق». وقد صدر عن «القيادة العامة للقوات المسلحة المجاهدة» بيان يعلن هذا الاستكمال، ويعلن أن تبدأ عملية التحرير بدءاً بخطة تحرير العاصمة بغداد، التي أُعدَّ لها أربعة أرتال.
2-على الصعيد الشعبي:
إن مقدمات عجز الاحتلال الأميركي في العراق عن توفير الحماية الأمنية والاجتماعية والمعيشية لشعب العراق، كما تنص الأنظمة الدولية التي تلزم الاحتلال بتوفيرها، لا بدَّ من أن تسبِّب عاملاً إضافياً من عوامل النقمة والاستياء، ودافعاً من أجل الانخراط في صف المقاومة، أو في حدها الأدنى تأييدها والالتفاف حولها ودعمها بشتى الوسائل والسبُل.
منذ أكثر من عامين لمَّحت التقارير الصادرة عن مؤسسات إدارة جورج بوش إلى تصاعد التأييد الشعبي العراقي للمقاومة العراقية، وحذَّرت من تزايد وتيرته. وهي تعلم من دون أدنى شك، أن المحيط الشعبي يشكل الرئة الأساسية التي تتنفس منها المقاومة. وقد يكون من أجل هذا السبب أن قوة الاحتلال بدلاً من أن تهتم بحماية الشعب معيشياً وأمنياً راحت تشنُّ أقذر عمليات الإرهاب ضده. وكلما تصاعدت تلك العمليات كان التأييد الشعبي للمقاومة يزداد، فليس أمام العراقي ما يخسره، وهو قد خسر كل شيء. ومن اللافت أن أطفال العراق قد مهروا بمقاومة الاحتلال الأميركي بواسطة الحجارة. وتشير التقارير إلى أن هؤلاء الأطفال المدربين يساعدون في جر القوات الأميركية إلى كمائن تنصبها المقاومة العراقية. وقد تكاثرت هذه الظاهرة، بالإضافة للرمادي، في شوارع بغداد كتحدٍّ لخطة «نوري المالكي» الأمنية التي أُطلق عليها اسم «معاً إلى الأمام».
بالإضافة إلى تلك العوامل فقد لعبت مسرحية محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه دوراً إضافياً ونوعياً في تعزيز دوافع نقمة العراقيين، والسبب أن بعض الشعب العراقي الذي لم يكتشف أهميته كرمز أثناء وجوده في السلطة، كما لم يكتشف أهمية الروح الثورية التي تميِّز رفاقه، قد لمسها بشكل جيد ونوعي من خلال مقاومتهم الاحتلال وعملائه وأذنابه من على منبر «المحكمة» المذكورة. ومن خلال مقارنتهم، منفردين ومتحدين، بما يفعله عملاء الاحتلال وخدمه وحشمه بالشعب العراقي، بحيث تأكد أنهم مجموعة من الخونة واللصوص الذين قلبوا مفهوم الدولة ومركزيتها وحولوها إلى زعماء تقود جماعات من المليشيات التي كل همها أن تمعن سرقة من ثروة العراق وإجراماً بأرواح العراقيين ودمهم.
وكان من اللافت أيضاً هو البرقية التي نشرتها جريدة الواشنطن بوست الأميركية، رفعها أكثر من ثلاثماية من زعماء العشائر العراقية يطلبون فيها الإفراج عن الرئيس صدام حسين، الرئيس الشرعي للعراق، لأنه ليس هناك شخصاً غيره أو قوة تعيد للعراق وحدته. ومن بعدها تلاحقت البرقيات المماثلة التي يتواصل إعلانها يومياً وهي موقَّعة من تجمعات عشائرية وقوى سياسية وشخصيات معنوية عراقية. وقد امتدت هذه الظاهرة إلى العشائر العربية فأعلنت عشائر من المغرب والأردن موقفها الداعي للغرض ذاته.
كما أصبح الحزام الشعبي المحيط بالمقاومة أشد تماسكاً وأكثر إفصاحاً عن نفسه عبر مجموعة من رجال الدين الوطنيين في جنوب العراق. تلك المجموعة لم تخف موقفها بل أعلنته في أكثر من مناسبة، وقد ساوت في رفضها الاحتلال الأميركي مع التواجد الإيراني بكل أشكاله وألوانه، وإذا كان هذا يعبِّر عن شيء فإنما يدل بما لا يقبل الشك في أن العراقي يفتخر بانتمائه إلى عروبته. وما مظاهر الالتصاق والاستقواء بالوجود الإيراني في العراق، بدعم من النظام الإيراني، إلاَّ بدعة ابتكرها بعض النخب من رجال الدين والسياسة والاقتصاد من العراقيين المنتفعين، خاصة وأنهم ضللوا في بداية الاحتلال قطاعات واسعة من أصحاب النوايا الحسنة بأن انحيازهم لمذهبهم سيجلب لهم الخير والمنفعة. وقد ساد الاعتقاد أحياناً أن للتواجد الإيراني عمقاً شعبياً في جنوب العراق إلاَّ أن مظاهر تصاعد الرفض سواءٌ أكان على مستوى المرجعيات الدينية أم على مستوى شارع الجنوب دلَّ بوضوح على أن التواجد الإيراني هو وجود هشٌّ يستقوي بالمظاهر الميليشياوية والمخابراتية وعوامل الإغراء المالية. وإنما الإشارات التي أخذت تتراكم في الآونة الأخيرة تؤكد أن مواقف الأقلية الميليشاوية معزولة، وأنها شوَّهت الانتماء الحقيقي للعراقيين وأظهرته على غير حقيقته.
وقد أسهم في هذا الاعتقاد هو أن الميليشيات الطائفية المذهبية، كحزب الدعوة و«فيلق بدر» والمجلس الأعلى لما يُسمى الثورة الإسلامية في العراق، أعفت الاحتلال الأميركي من مهمة ملاحقة البعثيين والوطنيين والقوميين في جنوب العراق إذ نابت عنه في اغتيالهم وتهجيرهم من مناطقهم. أما الآن وبعد انكشاف الغطاء عن حقيقة أهداف تلك الميليشيات، وبعد تصاعد حدة الرفض الشعبي، أخذت تتنامى أصوات الذين تم اقتلاعهم من مناطقهم، وأخذت أصوات بنادق المقاومة بالتنامي تدريجياً في أكثر من مدينة جنوبية تلاحق الاحتلال وتضيَّق الخناق عليه بعد أن بدت تلك المناطق أكثر أمناً لقواته. وقد شهدت أكثر من مدينة حالات هروب للقوات البريطانية إلى ملاذات تعتبرها أكثر امناً لها.
فهل تكون المرحلة القادمة بداية للمرحلة الأخيرة من مراحل عمل المقاومة الوطنية العراقية، وهي مرحلة التحرير الكامل؟
يكفي أن نشير إلى أن ظروفها قد أصبحت ناضجة ومكتملة. وما لدينا إلاَّ أن نقف بقلوبنا إلى جانب الأبطال الميامين، رجال المقاومة الوطنية العراقية، بشتى فصائلها وتشكيلاتها، وعلى رأسها القوات المسلحة العراقية البطلة التي لم تخذل الشعب العراقي، والشعب العربي، في القيام بواجبها.
وما دعمنا بالدعاء إلاَّ أضعف الإيمان، وحبذا لو كان الدعم أكثر من ذلك لكان أفضل وأدسم وأكثر فائدة وتأثيراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق