إدارة بوش بعد فشلها في العراق
ترثي الحلم الضائع
وتفتش عنه في أدراج النظام الإيراني والنظام العربي الرسمي
في 23/ 4/ 2008
لقد نصَّ المشروع التنفيذي لليمين الأميركي المتطرف على اعتبار العراق مركز دائرة جغرافية محيطة به، واعتبار إسقاط مركز الدائرة إسقاط للدائرة كلها، وكانت المرحلة الثانية قد بدأت بعد إعلان جورج بوش إنهاء العمليات العسكرية في العراق في الأول من أيار من العام 2003.
فكانت المرحلة الثانية تعني إسقاط كل من سورية وإيران، أو احتواءهما، معاً باعتبار أن الدول الأخرى المحيطة بالعراق ساقطة في سلة الاحتواء.
ولما تبيَّن للإدارة الأميركية أن مركز الدائرة لم يسقط بفعل انطلاقة المقاومة العراقية بسرعة، أجَّلت الإدارة موعد تنفيذ المرحلة الثانية انتظاراً لإنهاء المقاومة العراقية أو احتوائها في عملية سياسية مشبوهة، تلك العملية التي أصبحت في مهب الريح.
منذ تلك اللحظة التقط أصحاب المصالح، ومنهم النظام الإيراني، الفرصة المناسبة لمساومة إدارة جورج بوش من أجل الحصول على موقع قوة ثابت في قرار الإقليم المجاور لإيران، وأكثره تأثيراً القرار العربي. ولما كان القرار العربي غائباً، رفع النظام الإيراني درجة تصلبه في التفاوض مع العدو الأميركي، واحتل صدارة طاولة المساومات مع الأميركيين.
منذ تلك اللحظة انقلبت كل معادلات السيناريو الأميركي في العراق والمنطقة، وسلكت تلك الإدارة سياسة الهروب إلى الأمام في كل المجالات، وانقلاب المعادلات يعني أن كل من كان المشروع الأميركي يستهدفه بعد إسقاط العراق تحوَّل في الاستراتيجية الأميركية إلى مشاريع إنقاذ لها من الورطة التي وقعت فيها. وتوسعت دائرة تحميل مسؤولية الفشل لدول جوار العراق من جهة، ولكل من ساعد وأسهم في احتلاله من جهة أخرى، ووزَّعت الإدارة أوامرها وراحت تمارس الضغوط كما يلي:
-الضغط على الحكومة العميلة لتوفير مستلزمات الأمن المنفلت في كل أنحاء العراق.
-مطالبة سورية بضبط حدودها أمام أي تسلل خارجي مزعوم.
-اتهام إيران بتخريب الأمن في العراق لمصلحة مشروعها.
-اتهام النظام العربي الرسمي بالتخلي عن العراق.
-اتهام حلفائها في منظومة الدول الرأسمالية بالتخلي عن محاربة ما تزعم أنه إرهاب في العراق، حتى وإن غطى البعض تقصيره بالهروب من العراق إلى أفغانستان.
سيان هربت إدارة بوش إلى الأمام أم هربت إلى الوراء، فإنها تمضي آخر أيامها في المراهنة على لا شيء إلاَّ على الأحلام والأوهام، والتسريع في سرقة نهب ثروات العراق، وتوقيع اتفاقيات غير قانونية، والتسريع في هدم وتخريب ما تبقى للشعب العراقي من معالم الوحدة الوطنية، معالم كانت تدل على أن هناك حضارة كانت تلف هذا البلد في معظم زوايا النهضة والعمران.
وفي محاولة الإنقاذ الأخيرة أشرفت رايس على توليد مؤتمرين في هذا الشهر:
-الأول: عقدته دول الإقليمين العربي ودول جوار العراق في دمشق وغايته أمنية، تبغي إدارة بوش منه أن يساعدها على ضبط الحدود الجغرافية مع العراق، متوهمة أن زخم المقاومة يهب من تلك الحدود.
-الثاني: عقدته في الكويت من أجل تشديد الأوامر على النظام العربي الرسمي الخانع من أجل إعادة فتح سفارات في بغداد أولاً. وتأليب أنظمة دول الخليج ودويلاته ضد ما تصوره خطراً إيرانياً على اعتبار أن أسباب الأتون الأمني المشتعل في العراق تعود إلى دور إيراني ناشط، متناسية أنها نسقَّت مع طهران في احتلال العراق.
في ظل سلاسل الهروب تتوهم كوندوليزا رايس، رسول جورج بوش إلى الأنظمة العربية الرسمية، والسيف المسلط على رقابهم، على أن حضَّهم على إعادة فتح سفاراتهم في بغداد يشكل الحبل الذي «سينقذ الزير جورج بوش من بئر العراق العميق».
ومتوهمة أيضاً أن تأثير فتح تلك السفارات سيوازن تأثير الوجود الإيراني في العراق، متناسية أن النظام العربي الرسمي عاجز حتى عن أن يحمي نفسه، فكيف يمكنه أن يحمي وجود أكبر جيش يحتل العراق، جيش بدوره عاجز عن توفير الأمن لنفسه.
تناست إدارة جورج بوش أن احتلال العراق لم يكن ليتم بمعزل عن تواطؤ عربي رسمي، وإيراني رسمي. كما تناست أن مشروعها آل إلى الفشل على الرغم من المساعدات التي قدَّّمها بعض الأنظمة العربية الرسمية والنظام الإيراني للإدارة بعد الاحتلال. وتناست أن تلك المساعدات قبل الاحتلال وبعده لم تستطع إيقاف المقاومة العراقية ولا التخفيف من زخمها. ولا عجب في ذلك، فالصدمة التي روَّعت فيها المقاومة العراقية إدارة بوش وكبحت سرعة اجتياحها قد عطَّلت كل حسابات الكومبيوتر والتكنولوجيا المتقدمة.
ولن يكون ردنا على الآليات التي تستخدمها الإدارة في محاولة إنقاذ نفسها من سقوط مروِّع في الانتخابات الأميركية القادمة، إلاَّ أن دخولها إلى معالجة مآزقها في العراق من بوابة إعادة السفارات العربية إلى بغداد، أو من بوابة إلقاء تبعات الفشل على التدخل الإيراني، ليس إلاَّ مدعاة للسخرية من حسابات لا علاقة لها بالمنطق وعلم الرياضيات.
قرَّر مؤتمر الكويت أن يقوم بعض الرسميين العرب بافتتاح سفاراتهم في بغداد خاصة وأن وزير خارجية الحكومة العميلة العراقية قدَّم الضمانات لحمايتها بتوفير الملاذ الآمن في سجن «المنطقة الخضراء». والمضحك في الأمر أن هذا السجن ليس بمنأى عن صواريخ المقاومة وقوة اختراقها الأمني، وإنه بالكاد يستطيع هذا الوزير أن يحمي نفسه، ويحمي أسياده.
يعرف جورج بوش كل تلك الحقائق، لأنها ساطعة كالشمس، ولكنه يريد أن يحجبها بغربال من خيوط العنكبوت، فهو بحاجة مع إدارته وحزبه لفسحة من الوقت الضائع يستغلها حتى الانتخابات الأميركية القادمة.
أما واقع الأمر فهو أن تلك المؤتمرات وما تتمخض عنه من قرارات. والعلاجات التي تخرج بها. والاتهامات التي تروِّج لها إدارة جورج بوش ضد إيران. فبعيد كل البعد عن الحقيقة. لقد غامرت الإدارة في احتلال العراق، ولم تكن لتنجح في مراحله الأولى، ولم تكن لتبقى فيه طوال خمس سنوات، لولا المساعدة التي قدمها له بعض النظام العربي الرسمي زائداً مساعدات النظام الإيراني وتسهيلاته. والغريب في الأمر هنا أنه يلقى بالملامة عليهما معاً. وتلك أهم مظاهر هروب إدارة جورج بوش إلى الأمام. فعلى ماذا تدل كل تلك المتغيرات؟
نحن نرى هنا، أن الخلاف الدائر بين إدارة بوش، وإدارة النظام الإيراني، شبيه باختلاف قادة القراصنة على توزيع حمولة السفينة التي غنموها، وينطبق الأمر أيضاً على البحارة. كما نرى من الصعوبة بمكان أن يتفقا على ذلك، خاصة وأنهما يريدان الاحتفاظ بالغنائم والسفينة معاً، وبالأخص أن غنائم السفينة كثيرة جداً تسيل لها لعاب دول العالم الطامعة بقطعة منها.
إنه قبل ستة أشهر من الانتخابات الأميركية، لا يزال قادة القراصنة وبحارتهم يتبارون ويتقاتلون، ويعمل كل منهم على إبراز أوراق قوته، وقد انخرطوا في ورشة تصفيات داخلية، بحيث يعمل كل منهم على اجتثاث الآخر.
وما «جولة فرسان» نوري المالكي، أحد البحارة القراصنة، في البصرة وبغداد والناصرية وكربلاء، إلاَّ مظهر من مظاهر اقتتال البحارة المستأجرين.
وما جولة ديك تشيني وكوندوليزا رايس، متوَّجة بمؤتمر هنا أو هناك، بالتحريض ضد الشريك الإيراني، إلاَّ مظهر من مظاهر اقتتال قادة القراصنة.
ولن يحصل أي من المتقاتلين على ما يريد، كما أن الاتفاق بينهم ممنوع، وسيستمر الاقتتال إلى المرحلة التي يعتبرونها حاسمة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. ففيها تراهن إدارة جورج بوش على التجديد لها بشخص جون ماكين ليتم التجديد لمشروعها في العراق، ويراهن النظام الإيراني على وصول الديموقراطيين إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية طمعاً بنصب طاولة حوار معه.
لقد تناسى المؤتمرون، أنه ليس بمؤتمراتهم يجد العراق حلاً لمشكلته، ومن أهم ما تناسوه أن إدارة الصراع ليست بأيديهم، كما أن النتائج لن يحددوها بأنفسهم، فمشكلة العراق هي الاحتلال، ولن يدوم احتلال العراق بوجود مقاومة أثبتت استمراريتها، مقاومة تعتبر أن كل من تواطأ من أميركيين ودول أجنبية أخرى، ومن أنظمة عربية رسمية، ونظام إقليمي إيراني، وأدوات محلية ترتبط بتلك القوى، يتساوون في ارتكاب جريمة الاحتلال. وكأني بالمقاومة تقول: تآمروا وأتمروا أينما شئتم وكيفما شئتم، وفصلوا ثوب العراق على مقاييس الاحتلال، لكن طائر قرار الحسم سيحط على شجرة المقاومة.
لقد حدد المنهاج الاستراتيجي للمقاومة في أيلول من العام 2003، أن المقاومة تتوجه بفعلها القتالي ضد قوات الاحتلال وضد المتعاملين والعملاء أفراداً وأحزاباً وهيئات وتعطيل الأدوار المحتملة لأنظمة عربية متآمرة، وحرق أصابع تلك الأنظمة في تعاملها المخطط والمحتمل مع الشأن العراقي، وتأزيم الإقليم ومفرداته ومنع تحقيق مصالح الآخرين المجاورين على حساب العراق ووحدته الوطنية، وتعظيم تكلفة مساندتهم للعدوان وتعاملهم مع إفرازاته الداخلية في العراق المستهدفة تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على حساب مصالح عرقية ومذهبية وجهوية وفئوية مرتهنة للاحتلال ومرتبطة بوجوده.
واستناداً إلى واقع مآزق الاحتلال والمتآمرين معه، واستناداً إلى ثوابت المقاومة، نرى:
-إذا كنا ننتظر متغيرات ستحصل في الإدارة الأميركية، تحديداً بنجاح الديموقراطيين في الوصول إلى الرئاسة، فإنما المتغير الأساسي هو أن يبادر الرئيس الجديد للوفاء بتعهداته تجاه الشارع الأميركي الذي انتخبه، وهذا التعهد واضح لا لبس فيه، ردَّدته التظاهرات المليونية الأميركية قائلة: أخرجوا من العراق.
فلا حوار مع إيران حول العراق، ولا غير إيران، يجدي نفعاً. وإنما التفاوض مع المقاومة العراقية على شروطها المعلنة، هو الكفيل بذلك. لأن إيران طالما تريد استبدال احتلال باحتلال، فهي تتناسى أنه لن يُسمح لها بموطأ قدم على أرض العراق، ولا بسلطة على أي مجموعة من الشعب العراقي.
-وإذا كانت الغاية من دعوة الأنظمة العربية لفتح سفاراتها في بغداد، حماية الاحتلال وحكومته العميلة، وحماية ما يزعمه عملية سياسية، ومصالحة وطنية، فالدعوة وتلبية الدعوة مرفوضتان من قبل المقاومة. وإنما نحسب أن الدور العربي ليس مطلوباً فحسب، وإنما هو واجب أيضاً، ولكن على قواعد حماية الأمن القومي العربي، والعراق المحرر من كل أنواع الاحتلال، والموحَّد بأرضه وشعبه جزء أساسي من هذا الأمن.
-ولأن المقاومة العراقية تعتبر أن تناقضها الرئيسي أولاً وأخيراً مع الاستعمار والصهيونية، فهي تعتبر أيضاً كل من يساعدهما، ويستمر في هذه المساعدة، سيصبح بمثابة التناقض الرئيسي إلى أن يفيء إلى أمره. وهذا ما ينطبق على الأنظمة العربية الرسمية والنظام الإيراني على حد سواء. فهل سيفيء هؤلاء وينتقلوا من ضفة التعاون مع العدو الرئيسي إلى ضفة الدفاع عن أمن الوطن العربي والإقليم المجاور له؟
وهل ستتم المراجعة قبل فوات الأوان؟
-ولأن المقاومة العراقية تعتبر أن كل قوة عراقية، أفراداً ومجموعات وقوى وأحزاب، تقع في دائرة التناقض الرئيسي طالما تقوم بمساعدة الاحتلال، وستتعرض لنيران المقاومة إلى أن تفيء إلى أمرها. فهل بعض القوى، وفي المقدمة منها التيار الصدري، سيفيء إلى أمره ويحسم قراره ويوظف طاقاته في حرب مفتوحة ضد الاحتلال؟ وأن يخرج نهائياً من المراهنة على أي عملية سياسية تحت خيمته؟
ليس هناك عند تلك القوى ما تخسره إذا حسمت أمرها إلى جانب المقاومة، بل هناك الكثير مما تكسبه في عراق محرر موحد، خاصة إذا نظَّفت صفوفها من كل الطائفيين والمجرمين وأصحاب السوابق ومن المرتبطين مع المشروعين الأميركي والإيراني.
فهل ستحمل المرحلة الباقية من عمر الاحتلال وعملائه قراراً واضحاً وصريحاً بانحياز هذا التيار إلى المقاومة؟
فإذا كانت المقاومة العراقية قد أعدَّت نفسها لاحتمال كثرة المتآمرين عليها، وحجب المساعدات عنها، واحتمال حصارها، كما هو حاصل الآن، فهي تنذر ضمناً وجهاراً كل الذين اندمجوا في مشروع العدو الرئيسي بالخروج من مواقعهم، سواءٌ أكانت مُصمَّمة عن سابق تصور لأوهام أو أطماع، أم كانت عن سذاجة ومراهنات وهمية، أم كانت عن خوف لحاجة أمنية أم معيشية، وإذا التبست على مداركهم النتائج النهائية، فعليهم أن يتبصروا للحظة، وأن يسألوا الشارع الأميركي عن مصير الاحتلال الأميركي ليجدوا الخبر اليقين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق