بعد انتحار الجنود الأميركيين على أسوار بغداد
العملاء والخونة ينتحرون في أوكار مآزق الاحتلال
حزيران 2009
بداية وقبل الإطلالة على مصير عملاء الاحتلال الأميركي في العراق، لا بدَّ من أن نضع أمام عيوننا حقيقتين استراتيجيين تحولان دون الغرق في أخطاء قد تحرف رؤيتنا لطبيعة اللحظة الراهنة في العراق. وهما:
-الحقيقة الأولى: أن أصل المشكلة العراقية هو في احتلال العراق.
-والحقيقة الثانية: أن أصل الحل هو باقتلاع جذور الاحتلال.
إن أصل المشكلة العراقية هو الاحتلال الأميركي محملاً بسلسلة المخاطر الاستراتيجية الكبرى التي رافقته، أما فروع المشكلة فهي الأخطاء الفرعية التي يرتكبها عملاؤه.
وإن الحل الجذري للمشاكل التي أخذت تظهر في العراق هو في تحريره جذرياً من الاحتلال وعملائه، وأما النظر إلى حل المشاكل التي يعاني منها العراق اليوم فليس من الجائز أن ننظر إليها من مناظير إصلاح ما يرتكبه عملاؤه من أخطاء.
لقد ظهرت إلى العلن على ساحة العراق المحتل مشاكل الفساد التي حمَّلوا مسؤوليتها لوزير تجارة حكومة المالكي، وغيره العشرات ممن فاحت روائح فسادهم حتى الآن، وكانت بواكيرها الأولى قد أعلنتها قوى كردية من داخل الكتلة الكردية الانفصالية لما يُسمى بـ(إقليم كردستان)، عندما هدد عدد من قيادات حزب جلال الطالباني بالاستقالة احتجاجاً على استفحال الفساد في إدارات الإقليم الانفصالية.
وبالنظر إلى السابق والراهن من حالات الفساد، لا نرى أن المستقبل سيقضي على الفساد السائد، لأنه طالما ظل العراق تحت الاحتلال، الذي هو الأصل في كل علة، سيبقى الفساد واقعاً لا مفر منه. أما السبب فيعود إلى أن استراتيجية الاحتلال قائمة على أسس من تدمير العراق بثرواته ونسيجه المجتمعي والوطني والقومي، وهو لم يأت بعملاء من الملائكة وإنما جنَّد زمرة كبيرة من الشياطين الذين لم يأتوا لإصلاح ولا من يُصلحون، بل أتوا من أجل تخريب بلدهم ومجتمع بلدهم الوطني من أجل السرقة والنهب.
ولأن الفساد مقصود بذاته، فلن تنفع، كما تتوهم حكومة المالكي، أو ما يُعرف بـ(مجلس النواب العراقي)، كل محاولاتهم في الإصلاح، أولاً لأن الفاسد لن يكون صالحاً لإصلاح مفسدين، وثانياً لأن من يشاركون فيما يسمى بـ(العملية السياسية) يقتتلون حول حجم حصصهم من السرقة والنهب. وإذا كان وزير التجارة قد حاول الهرب من مطار بغداد فإنما لكي يهرب مع ما سرقه من دم العراقيين وثروتهم وصحتهم لكي ينعم بها في الخارج، كما يفعل أمثاله. ولم يعتقلوه إلاَّ ليحصلوا على حصتهم مما سرق.
وعن مصير الخونة والعملاء لا بدَّ من النظر إليها من زاويتي ترابط رحيل الاحتلال مع رحيل عملائه، على قاعدة أن مشكلة العملاء لا يمكن أن تُحل بجهود إصلاحية لما ارتكبوه من خيانات وسرقات وجرائم، ولا يمكنهم البقاء بعد رحليه لأنه لن يبقى لهم من يحميهم من غضب الشعب العراقي. ولهذا سننظر إلى مستقبل العراق من خلال حتميتين مترابطتين: رحيل الاحتلال، ورحيل عملائه.
إن رحيل الاحتلال أصبح واقعاً لا مفر منه، لأن المقاومة العراقية كانت السبب الفاعل في إفشال خططه وأهدافه بعد أن وضعته أمام كمٍّ كبير من الخسائر البشرية والمادية، تلك الخسائر فاقت طاقة الاحتمال التي لم تستطع حتى إدارة جورج بوش أن تبررها أمام الشعب الأميركي، بل أثارت غضبه ونقمته عليها. وهذه النقمة تحولت إلى عامل ضغط شعبي شديد برز في أقوى أشكاله بتغيير الإدارة الجمهورية والمجيء بإدارة أوباما على شرط وعد منه بالانسحاب من العراق وإنهاء احتلاله.
لم يكن أوباما واضحاً تماماً بإعلانه خطة الانسحاب، والضبابية تلف المرحلة الانتقالية التي تفصل بين إعلان الخطة وموعد اكتمالها، وتحتمل وجود نوايا مبيَّتة من الخداع بالالتفاف على الوعود من أجل تجميل وجه الاحتلال على طريق تثبيته. وفي هذا السياق قد تكون محاولات الاستعانة بعوامل الإقليم الجغرافي المجاور للعراق، من العرب أو من غيرهم، أحد تلك المحاولات.
وما استبدله أوباما، من أجل إحراز مساعدة عربية وإقليمية ليس تغييراً في أهداف الاحتلال بل غيَّر في وسائل تثبيته فقط، إذ استبدل وسائل القوة العسكرية بقوة الحوار السياسي والدبلوماسي، متوخياً تشكيل قوة ضغط سياسي قوامه بناء تحالف عربي – إقليمي – عراقي، من خلال تفاهمات على توزيع المصالح وتقسيمها، بإغداق الوعود والعهود.
إن مركزية هذا التحالف ستكون برعاية خيمة أميركية لحكومة نوري المالكي، أو أية حكومة تنال رضى الولايات المتحدة الأميركية وبركتها، على أن تكون محمية بسقف خيمة عربية وإقليمية.
فخطة عمل أوباما الجديدة تقوم على تضافر أربعة أعمدة: أميركي وعراقي وعربي وإقليمي.
فإذا كان العامود الأميركي يشكل الركيزة الأساسية لخيمة التفاهمات، فإن العامود العراقي يجب أن ينال رضى وقبولاً من العامودين العربي والإقليمي، وهو بالتالي يجب أن يكون مقبولاً من الشعب العراقي ومرضياً عنه. وقبوله عراقياً لا ينفصل عن تجميل صورته وأسلوب عمله على شتى الصعد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. ولهذا كله صدرت أوامر الإدارة الأميركية الجديدة بتشكيل ورشة عمل لتنجز عملية التجميل المطلوبة، وتقوم خطواتها على الصعد التالية:
-إنجاز عملية المصالحة، أولاً: بتمتين أواصر العلاقات بين عملائه من الفسيفساء الطائفي والعرقي، وتقريب مصالحهم المتناقضة. وثانياً: محاولة استقطاب ما تستطيع استقطابه من فصائل المقاومة ووعد من يجرأ على الانجرار إلى هذا المخطط بإعطائهم الامتيازات التي لن تكون إلاَّ من جيوب العراقيين وخيرات العراق.
-إنجاز عملية الإصلاح السياسي من خلال إشهار سيف القضاء على الفساد. وهو ما يترجم نفسه بفتح ملف وزير التجارة العراقي، كخطوة معلنة أولى، تبعتها خطوات أخرى، وقد تستكملها لاحقاً بمثيلات لها لتوحي بأن الحل هو إصلاحي، وبه تجهيل لدور الاحتلال الذي وحده نشر الفساد وغيره من الجرائم التي قضت على الدولة العراقية.
-ملء الفراغ الأمني، وهو الملف الأخطر، الذي من أجل إنجازه تزعم حكومة الاحتلال، أنه لا بدَّ من بقاء عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين تحت غطاء تدريب الأجهزة الأمنية العراقية وتأهيلها. وقد تستعين الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة أمنية إقليمية وعربية من أجل توفير غطاء آخر لبقاء الاحتلال وغيره من القوى المساعدة، التي ستتشكل من أصحاب المصالح.
-ملء الفراغ السياسي العربي والدولي بإغراء الدول ذات المصلحة بإعادة علاقاتها الديبلوماسية إلى أوكار ما تعرف بـ«المنطقة الخضراء».
من كل ذلك يظهر بوضوح أن جذب شركاء لتثبيت احتلال العراق، معترف لهم بمصالحهم، تظل الهاجس الاستراتيجي الأميركي في عهد باراك أوباما. وأصبح من الواضح أيضاً أنه أطلق استراتيجية الحوار مع الإيرانيين، وشجَّع الأتراك وقدَّم لهم الإغراءات الاقتصادية، من أجل المحافظة على أهدافه الأساسية. وليس من المستبعد أن يكون «حلف بغداد» آخر آتٍ على الطريق يطرق الأبواب من جديد.
مصالحة وإصلاح و«حلف بغداد» جديد، هي «خطة طريق» رسمها عهد أوباما، ويقع في صلبها عرب ينفذون الإملاءات بإتقان وطواعية. «خطة طريق» إصلاحية لا يمكن أن يتصدى لها إلاَّ المقاومة الوطنية العراقية التي تصدت للخطة الأصل التي بدأتها إدارة جورج بوش. ولذا ستكون النتيجة كامنة في أنه كما فشل الأصل سيفشل الفرع.
إن فشل الفرع لن يتم بمواجهته أو التلهي بطرائق مواجهته، بل التركيز على أن الأصل يبقى المعركة الأساس، وإن الضغط على قوات الاحتلال بالشكل الأساسي يبقى المعركة الأساسية.
وإلى جانب كل ذلك، تبقى «خطة طريق» المقاومة في المرحلة الانتقالية حاجة ضرورية، ويمكن أن تتشكل خطوطها الرئيسية من التالي:
-مواجهة مركزية الاحتلال بحلته الجديدة، «حلة باراك أوباما الديبلوماسية»، كما واجهت «حلة بوش العسكرية». ومركزية المقاومة يتمثل بالعمل المسلح أولاً، على أن يتم رفده بعمل سياسي وديبلوماسي ليكون مكملاً له لا أن يحل محله.
-رفض المصالحة المزعومة مع عملاء الاحتلال أياً تكن المتغيرات التي طرأت على خطابهم، وكشف استحالة الإصلاح وعبثيته، وكشف الخداع والتضليل عن أهداف الحملة الإصلاحية التي يملأ دخانها اليوم سماء العراق.
-مواجهة «حلف بغداد» الجديد من خلال فتح نوافذ وأبواب مع أطرافه المحتملين، من عرب وغيرهم، وبناء جدران من الثقة والتطمين بأن مصالحهم المشروعة ستكون موفورة وأكثر ثباتاً في ظل النظام الوطني الذي ستبنيه المقاومة بعد التحرير.
وختاماً تبقى نتائج المرحلة الراهنة المنظورة أن إدارة أوباما اليوم تحاول أن تسد ثغرات إدارة بوش بإجراء تجارب الفرصة الأخيرة على فئرانها من العملاء، الذين لا شك في أنهم ينتحرون على أسوار أوهام خطة أوباما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق