مشهد العراقيين في الشتات
يا لعار الساكتين والمتواطئين
لقد أكل الخوف ألسنتهم فصمتوا عن جريمة العصر
طليعة لبنان الواحد (حزيران 2007)
في كل مرة كنت أكتب فيها تحليلاً عن «المشهد العراقي في شهر» خاص بـ(طليعة لبنان الواحد)، كنت استعرض فيه صورة ما يجري في العراق وما حول العراق، من وقائع واحتمالات، إلاَّ أنني حينما كنت أحضِّر صورة عن شهر حزيران، صُفعت بشدة في صميم ضميري، وكأنَّ شيئاً لسعني في وجداني عندما شاهدت طفلة عراقية معاقة تستجدي والدتها العلاج على أبواب المهجر العربي، وعندما شاهدت ماجدة عراقية تركت بلدها من أجل أن تفتش عن حبة دواء في أزقة الأقطار العربية لابنتها، ورأيت ماجداً عراقياً ترك بلده إلى شوارع المجهول يحمل ثمانية أطفال على كتفيه وراح يسعى في بلاد العرب الواسعة عن لقمة يقتات بها أطفاله، بعد أن حرمته وقائع ما يجري في العراق من كل شيء حتى لقمة العيش لفلذات كبده.
في تلك الحالة كان لا بدَّ من أن أحطِّم قلمي، وحطَّمت فيها كل الرؤى السياسية، والتحليل السياسي، بوقائعه ومشارفته للمستقبل، أو هي قد انهارت كلها أمام مآسي أن يهيم العراقي على وجهه طالباً لفلذات كبده ما حرمته منها انتصارات جورج بوش، وديموقراطيته، وما حرمته منها عصابات اللصوص من العراقيين الذين يحكمون العراق المحتل. وما حرمهم منها طوني بلير الذي جاء بأمر من رئيسه بوش ليرأس الرباعية التي ستجد حلاً لقضية فلسطين. وهل جاء ليوزِّع الفلسطينيين في شتات آخر، بخاصة وأنه ابتكر مع رئيسه الأميركي شتاتاً للعراقيين الذين لم يعرفوا الشتات في كل ماضيهم؟
صورة العراق واضحة في واقعها البطولي والمأساوي معاً:
-المقاومة العراقية لا تزال في كل يوم تنتصر على الاحتلال، وتدميه وهي قد وضعته على أبواب الهزيمة.
-العراقيون يتعرضون كل يوم لشتى أنواع القهر والديكتاتورية والإجرام والقتل والتدمير والتجويع والتحقير والإذلال والتعذيب والاغتصاب، وقد تحولوا إلى مختبر للآلة العسكرية الأميركية التي أعطت قلبها لعصابة العدوان من الرأسماليين الأميركيين لتستخدم كل أنواع مسميات العمليات العسكرية الضخمة، ابتدأت بالعقارب والأفاعي، ولم تنته عند فرض النظام والقانون أو السهم الأصفر أو الأخضر. ابتدأت بأم قصر ومرت بالفلوجة، ووصلت إلى القائم وتل أعفر، وهي الآن تجدد نفسها في سامراء وديالى، وعين جورج ساهرة لا تغمض، فهو يريد أن ينقذ أنفه من لعنة التاريخ، أو قل يريد أن ينقذ براميل النفط التي تحترق وهو عاجز عن الغرف منها كيفما يشاء.
وصورة مستقبل الاحتلال في العراق أصبحت واضحة وضوح الشمس ولا تخضع للتخمين، فهو على درب الهزيمة يسير. فقد اقتنع البنتاجون ومجلس الشيوخ ومجلس النواب. وهي ليست بعيدة عن أنظار البيت الأبيض إلاَّ أنه يغطيها بالمكابرة والعنجهية والغرور. تلك الصفات هي من مميزات رئيس غرست فيه إيديولوجيا الرأسماليين، المحاطين بمجموعة من الغيبيين المنتظرين انتصار الخير على الشر. وعلى الأرجح أن تكون تلك المجموعة من صنع مفكري الآلة الرأسمالية، لكي تصب نتائج غيبيتها في مصلحة كل طامع بموقع سياسي، أو متدين غطى الظلام على تفكيره، أو اقتصادي يطمح لامتلاك ثروات العالم.
كل الصورة واضحة، بوقائعها ومستقبلها، وعلى المحلل أن يجتر نفسه في كل مرة، ولا يستطيع أن يخرج إلاَّ بعدة من النتائج التي أصبحت معروفة وواضحة؟
لملمت أقلامي وأوراقي، وألقيت بالتحليل في سلة العقل، وأجلت الخوض فيه، وشحذت صوتي للصراخ، ودفعت ضميري لكي يعطي صوتي شحنات أكثر، وقرَّرت أن أصرخ: يا عيب الشوم، ويا للعار، في وجه من ماتت ضمائرهم، وغارت أصواتهم، ووضعوا عصبة على أعينهم لكي لا يشاهدوا، وأصموا آذانهم لكي لا يسمعوا.
نقولها: برافو جورج بوش، وطوني بلير، وعصابات السرقة والنهب من الرأسماليين القذرين الذين يغمسون لقمتهم بدم الشعوب.
برافو للصهيونية التي تريد أن تحقق حلمها التلمودي على أرض العراق، وتريد أن تطمس حقائق التاريخ التي سرقتها من مسماريات الآثار العراقية، والنصوص الجلدية التي أرخت لسبي بابل، وتدمير كل المنصات التي انطلقت صواريخ صدام حسين من على متونها، وتقتل العلماء الذين أنتجوها، وتبتر اليد التي صنَّعتها.
لهما معاً، الرأسمالية الأميركية والصهيونية العالمية، مصلحة في كل ذلك، حتى ولو تطلَّب ضمان هذه المصلحة إراقة أنهار من دماء العراقيين وأرواحهم، نساء وأطفالاً ومسنين، أما الذين هم محسوبون على الجيرة والأخوة فهل نقول لهم: برافو؟ وأين مصلحتهم في كل ذلك؟
نقول لهؤلاء، لكل من تلوثَّت عقولهم وضمائرهم بجراثيم حب الدولار، وجراثيم الخوف من السيد، من مالئي كراسي الحكم، وورثتهم، والعاملين في ركابهم في الثقافة والإعلام، والداعمين لهم من أنتليجنسيا المال والاقتصاد الذين إذا أردت أن تجعلهم يصرخون فاضربهم على جيوبهم، وكل العبيد ممن يعملون في خدمتهم... خوفاً من ضياع لقمة مغمَّسة بماء العبودية...
نقول لهؤلاء جميعاً: يا للعار.
أين كانت مواقفكم عندما سكتم عن احتلال العراق؟
أين كانت أقلامكم وحناجركم عندما ظلَّلتكم جماعات المعارضة العراقية، وناشدتكم التأييد في سبيل استعادة «الحرية للعراق»؟
أين كنتم عندما استباح أجنبي أرض شقيق لكم ودمروها واستعبدوا شعوبها؟
لقد هلَّلتم لـ(سقوط الديكتاتورية)!!، ورفعتم أصوات الباطل والخذلان لتحتلوا موقعاً في نادي الأحرار الذي تموله إدارة الرأسماليين والصهاينة؟
وهلَّلتم لانتصار «الحرية للعراق» التي أعلنها جورج بوش، ليس من على منصة منظمات حقوق الإنسان، بل من على منصات الآلة الحربية الأميركية، منصات أسياد الشعوب ومروضيها.
سقطت «الديكتاتورية» في نيسان من العام 2003، وخلدتم إلى فراشكم ناعمي البال، وقريري العين، فأسماؤكم ستُعلَّق على تمثال الحرية في واشنطن!!!
حسناً فعلتم، فقد أعلنتم وقوفكم ضد ما زعمتم أنه ديكتاتورية، على الرغم من أن الذي ضلَّلكم أكاذيب وافتراءات، فنحن نعترف بحقكم الديموقراطي في أن تعتقدوا بما تشاؤون. ولكن بعد أن «ذاب ثلج الحرية للعراق»، و«بان مرج» أعتى ديكتاتوريات العالم التي يرأسها جورج بوش، أليس من حق الديموقراطية عليكم أن تشحذوا أقلامكم، وأصوات ضمائركم، لتقولوا لأكثر ديكتاتوريات الرأسمالية: «ما أقبح ما تفعلين»؟
في ظل «الديكتاتورية» التي زعمتم أنه لا ديكتاتورية غيرها في العالم، والتي زعمتم أن لا خلاص منها إلاَّ بحمل مشعل تمثال الحرية في واشنطن:
-لم يمت عراقي برصاص جيشها أو شرطتها، ولم تسمح لميليشيات منفلتة من عقالها أن تقول لعراقي «ما أحلى الكحل بعينك».
-لم يقل عراقي كلمة «آخ»، إلاَّ وكانت المستشفيات مفتوحة أمامه، ولا يخرج منها إلى بيته إلاَّ وهو سليم معافى، من دون أن يدفع فلساً واحداً.
-لم يتضور عراقي جوعاً، ولم يمد يده لأحد كي يطعمه، حتى في أكثر المراحل ضيقاً وهي أيام الحصار الجائر الذي فرضته مشاعل الحرية في واشنطن.
-لم يقف أب على أبواب أحد لكي يتسوَّل ثمن الكتب لأولاده، وإنما العكس كان السائد، إذ كانت «دولة الديكتاتورية» تلزم من لا يريد تعليم أولاده أن يقوم بذلك، لأنها لن تحمله أية أعباء.
-كانت كل الخدمات متوفرة للعراقي، من ماء مكرَّرة، وكهرباء لا تنقطع، ومحروقات شبه مجانية...
على الرغم من كل ذلك كانت وسائل «الديكتاتورية»!! متفشية في العراق، وتلك من أهم مظاهرها:
-كانت عين الدولة ساهرة على أمن المواطن الاجتماعي، تحكم على من يحاول العبث به بأقصى العقوبات وأشدها، وهذا ما جعل المجرمين من الذين كانوا يريدون العبث يتهمون الدولة بـ«الديكتاتورية».
-كان محكوماً بالإعدام كل من كان يعتبر أن «الخيانة الوطنية» حقاً من حقوقه الديموقراطية، أي كل من يعتبر أن له الحق في التآمر على وطنه، بالتعامل مع الأجنبي، سواءٌ أكان الأجنبي إيرانياً أم أميركياً أم صهيونياً، أم من هويات أخرى. وهؤلاء، بعد عودتهم على دبابات «الحرية للعراق»، يستبيحون اليوم كل القيم والأعراف والتقاليد والقوانين في عراق أسهموا باحتلاله، ليس لسبب إلاَّ لأن الاحتلال نصَّبهم في مواقع، ليس المسؤولية، بل في مواقع الإذعان والتنفيذ.
-كل من كانت لا تعجبه وظيفته، أو رتبته السياسية، يفر إلى الخارج ليحمل بطاقة «معارض عراقي». وبعد أن عاد الكثيرون منهم إلى العراق لم يجد من كانوا يطمعون بموقع أو منصب ما كانوا يحلمون به، لأن مواقع الخيانة وكراسيها ملأها من هم أكثر أهمية منهم. وإذا نسيتم فاسألوا الجلبي وعلاوي والجعفري...
كل ذلك كان محسوباً، ولكن ما لم نكن لنحسبه هو أن يتحول العراقيون إلى أرض الشتات بالملايين، أما السبب فلأنهم لم يستطيعوا أن يروا فلذات أكبادهم معروضين للموت في مدارسهم، هذا إن وجدوا لهم مكاناً فيها. أو للموت في الشارع وهم يفتشون عن لقمة من الخبز. أو للخطف مقابل فدية. أو للخطف والقتل للتجارة بأعضائهم. أو للتوظيف عند تجار المخدرات، وشركات استئجار الأطفال والنساء لاستخدامهم في مهنة التسول من المارة أو على الأبواب.
لقد رغب أكثر العراقيين بالنزوح والهجرة، بالإضافة إلى حماية حياة أطفالهم، وصيانة أعراض نسائهم، فلأنهم كانوا يحلمون بأن منظمات الإغاثة الإنسانية تنتظرهم عند الحدود الفاصلة بين العراق والدول التي يقصدونها. أو أن أنظمة الدول التي يلجأون إليها ستستقبلهم بأكثر مواد الإغاثة كرماً وأريحية. كما أن أقلام المثقفين، ومنظمات حقوق الإنسان، سيسهرون الليالي، ولن يغمض لهم جفن قبل أن تقوم قيامة العالم، ولن تسترخي، قبل أن يكون العراقي الهارب من جحيم بوش وجنوده وفرق الموت والميليشيات وتواطؤ السلطات العملية، بمأمن بحياته ولقمة عيشه وكرامته...
ماذا وجدوا؟ وما هو الذي سيجدونه؟
يا للعار
لم يجد العراقي في الشتات إلاَّ ذل الشتات، ولكنه سيفتقد حلم الدفن بكرامة على أرض وطنه.
فهو عندما غادر كان يحلم بكل شيء إلاَّ أن تُنتهك كرامته، ويُرمى على الرصيف كل من لا يملك فلساً ليستأجر سقفاً يأويه، ولا يجد صدراً يضمِّد أثلام معاناته الجسدية والنفسية.
يا للعار، لقد أكل الخوف، والغباء والتآمر، ألسنة هؤلاء الذين طبَّلوا وزمَّروا لانتصارات جورج بوش، إلاَّ أنهم تحولوا إلى صامتين مذعورين وخائفين ومذهولين أمام ما يرون، وما يشاهدون من جثث تُلقى كل يوم في شوارع العراق، جثث من دون رؤوس. وأمام ملايين العراقيين يجوبون أرجاء المعمورة تائهين ممزقين من الغضب، ولا أحد يرشقهم بحبة من الكلام الذي رشُّوه تأييداً على من كانوا يسمونه معارضة زعمت أنها هربت من ويلات الديكتاتورية.
فهل هناك أقذع وأكثر وحشية وأكثر ديكتاتورية من عدوان الذين ضللوا العالم بضرورة القيام بحملة «الحرية للعراق»، فجعلوه عراقاً من دون عراقيين؟؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق