الخميس، فبراير 25، 2010

إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان بعد العدوان الأميركي على العراق في العام 1991

-->
إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان بعد العدوان الأميركي على العراق في العام 1991
مقدمة:

أولاً: أي لبنان يريده المشروع الأميركي أن يكون؟

ا- قاعدة إعلامية- سياسية. 2- جسراً اقتصادياً.
3- جداراً أمنياً.

ثانياً: أية وسائل يعتمدها المشروع الأميركي لبناء نظام يساعده على تحقيق أهدافه؟

ا- تشكيل جهاز سياسي موال.
2- بناء جيش لبناني يحقق الأغراض منه.
3- بناء جهاز أمني- قمعي.
4- إصدار قوانين وتشريعات مناسبة.
5- بناء قاعدة شعبية ونخبوية سياسية موالية.
6- ضرب الاتجاهات الفكرية/ السياسية ذات المضامين الوحدوية.
ثالثاً: إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان من زاوية تأثر وتأثير القوى الخارجية ذات المصلحة فيه.
1- دُولياً.
2- إقليمياً.
3- مستويات التقاطع والتناقض بين المصالح الأميركية وحلفائها الإقليميين.
أ- كيف نرى مستويات العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني في لبنان؟
ب- كيف نرى مستويات العلاقة بين أميركا والنظام السوري في لبنان؟
رابعاً: الواقع الراهن للقوى ذات التأثير الوطني/ القومي في لبنان؟
ا- واقع الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية قبل الثاني من آب 1990.
2- واقع المقاومة الفلسطينية.
3- الواقع الجماهيري الوطني/ القومي.
4- دور النظام السوري، والحكومة اللبنانية.
خامساً: التحديات والمهمات التي سوف تواجه القوى الوطنية والقومية في لبنان.
ا- تشخيص الواقع الراهن.
2- القضايا والتحديات التي تواجهها على الصعيدين الوطني والقومي.
أ- التحديات على المستوى القومي.
ب- التحديات على المستوى الوطني اللبناني.
سادساً: المهمات المطلوبة من القوى الوطنية والقومية في لبنان.
***
مقدمـــــــة
بعد إعلان وقف إطلاق النار في الخليج، تدل التقارير الواردة والمعلومات المتوفرة على أن أطراف التحالف العدواني، وبشكل خاص أميركا وفرنسا، يتسابقون على قطف الثمار في منطقة الشرق الأوسط.
بالاستناد إلى أن التأثير الأميركي يسبق التأثير الفرنسي بأشواط بعيدة في منطقتنا بشكل عام، وعلى الساحة اللبنانية بشكل خاص، لا يلغي حقيقة تسريع الخطوات الفرنسية لضمان حصتها في أية حلول قادمة اعى الصعيد الاقتصادي والسياسي في المنطقة العربية بشكل عام، وعلى الصعيد السياسي في لبنان بشكل خاص.
تنال الساحة اللبنانية، في هذه المرحلة، اهتماماً خاصاً في ملف المشاكل الكثيرة والمعقدة على ساحة الشرق الأوسط، كمسألة الخليج والعراق والقضية الفلسطينية وحل النزاع العربي- الصهيوني ، لأن مشكلة لبنان تتقاطع مع أكثر هذه القضايا وبشكل خاص منها القضية الفلسطينية لأسباب قربه الجغرافي من الأرض المحتلة ولوجود المقاومة الفلسطينية الكثيف على أرضه.
لبنان، تاريخياً، يمثل بؤرة للنفوذ السياسي- الثقافي الفرنسي، وهو، كذلك، محطة مهمة للسياسة الأميركية لما له من علاقة مباشرة بالصراع العربي- الصهيوني من جهة، وكبوابة اقتصادية - سياسية- إيديولوجية تجاه المنطقة العربية من جهة أخرى، وهو بالتالي محطة لأنظار النظام السوري الذي عمل على امتلاك حصة فيه تسهِم في تحقيق مصالحه المتعددة الجوانب يأتي في طليعتها أمنه السياسي والعسكري أولاً، وهو بوابة للدخول في رحاب حل ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط، ثانياً، ولا يخفى أخيراً أنه يأتي في أولوية الاهتماماًت الصهيونية لأنه يشكل بوابة خطرة لأمنه العسكركي والإيديولوجي كما فيه ما يثير الأطماع الاقتصادية، التي تأتي في أولوياتها السطو على مياهه.
إذا كان المشروع الأميركي قد أعطى النظام السوري امتيازات سياسية وأمنية في لبنان في مرحلة ما قبل الثاني من آب 1990 لأسباب تتعلق بدور مطلوب منه في ضرب الحركة الوطنية اللبنانية، خاصة في أهم مفاصلها الإيديولوجية القومية، أو تحجيمها أو احتوائها فكرياً وسياسياً وإيديولوجياً لأنها كانت شريكاً لمنظمة التحرير الفلسطينية ذات التأثير الأساس في مواجهة الصهيونية، إلا أن الامتيازات التي أعطيت له في الفترة الممتدة بين الثاني من آب / أغسطس 1990 حتى لحظة إعلان وقف إطلاق النار في الحرب العدوانية ضد العراق، تطرح نفسها إشكالية تدفعنا إلى التساؤل : هل يستمر المشروع الأميركي بالاعتراف بها في هذه المرحلة؟
إذا كان المشروع الأميركي قد فوَّض الكيان الصهيوني بأن يشكل قاعدة عسكرية رئيسة له في مراحل سابقة، هل ما زال هذا التفويض ساري المفعول بشتى عناوينه وتفاصيله؟
لأسباب وطموحات أميركية في تطويع كل القوى في العالم، خاصة من لها مصالح في المنطقة العربية ومن لها علاقة أو طموح في أن تلعب دوراً في احتواء الصراع في الشرق الأوسط، كيف يمكن أن نتصور التخطيط الأميركي الهادف إلى فرض هيمنته على العالم؟ وكيف نعتقد أنه سوف يواجه القوى الدولية والإقليمية في المنطقة العربية؟
وإذا كان المشروع الأميركي يستهدف الهيمنة على المنطقة العربية ويأتي لبنان في موقع مميز فيها، ما هي إحتمالات تطور الأوضاع فيه من زاوية الأهداف الأميركية، ومن زوايا كثرة الطامعين الدوليين والإقليميين، كذلك من زاوية ما ينتظر القوى والحركات الوطنية والقومية من مهمات عديدة في المرحلة المقبلة؟
لأن التأثيراًت الأميركية هي المرشحة كي تلعب الدور الأهم والأبرز، وهي الناظم الأساسي لكل التحركات الأخرى، دُولياً وإقليمياً، سوف نعالج إحتمالات المستقبل على الساحة اللبنانية من الزاوية الأميركية كنقطة استناد أساسية في المراحل اللاحقة، أما حيث يتطلب الأمر تأشيراً أو تحليلاً للزوايا الإقليمية والدولية فهي لن تخرج، في اعتقادنا، عن دائرة التأثر والتأثير بالعامل ا لأميركي.
في ظل هذه المنهجية في الاستقصاء والتحليل سوف نتناول، في تقريرنا هذا، العناوين الرئيسة التالية:
أولاً: أي لبنان يريد المشروع الأميركي أن يكون؟
ثانياً: أية وسائل يعتمدها المشروع الأميركي لبناء لبنان يستطيع المساعدة على نجاح الأهداف الاميركية؟
ثالثاً: إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان من زاوية تأثر وتأثير القوى الخارجية ذات المصلحة فيه.
رابعاً: الواقع الراهن للقوى ذات التأثير الوطني والقومي في لبنان.
خامساً: التحديات والمهمات التي سوف تواجه القوى ذات التأثير الوطني/ القومي في لبنان.
سادساً: المهمات المطلوبة من القوى الوطنية/ القومية في لبنان.

أولاً: أي لبنان يريد المشروع الأميركي أن يكون؟

في المنطق الأمبريالي يأتي العمل للسيطرة على مقدرات الشعوب الأخرى في أولوية اهتماماًته، ومقدرات الشعوب هي تحديداً مواردها الأقتصادية، ولكي تضمن الأمبريالية استمرارية السيطرة على هذه الموارد، عليها أن تضمن وجود إدارة سياسية محلية تتعاون معها على قاعدة اقتسام الارباح، فتنال الأخيرة نصيباً أقل، لكنه في جميع الحالات يكون أكثر مما تستوعبه حاجاتها الشخصية، فتتحول الإدارة المحلية، في هذه الشراكة، أنموذجاً مصغراً عن الإدارة السياسية الأمبريالية في استغلال جماهيرها.
إن لبنان لا يحتل موقعاً اقتصادياً، بمعنى امتلاكه ثروات طبيعية تشكل إغراء للمنطق الأمبريالي، لكن لبنان بموقعه الجغرافي، الأمني، السياسي، الإعلامي، يشكل ممراً مهماً باتجاه الأقطار العربية الأخرى التي تمتلك ثروات اقتصادية استراتيجية.
في سياق المشروع الاميركي الذي يستهدف استمرار هيمنته على المنطقة العربية، بعد انتهاء العدوان على العراق، بشكل مباشر، لا يلغي اعتماد الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، قاعدة أساسية لكي تقوم بدور الوكيل للرأسمالية العالمية، لكن، على شرط أن يكون هذا الكيان محاطاً بأنظمة عربية مجزأة وضعيفة تسهل السيطرة عليها؛ وقمعها من دون التورط في حروب تستنزف الطاقات البشرية لهذا الكيان. وإذا كان لا بُدَّ من هذه الحروب فالعمل يجري لتقليل الخسائر، فما يربكها، إذاً، هي حرب العصابات والاستنزاف التي تمارسها المقاومة الفلسطينية.
يأتي لبنان، في هذه المرحلة، ليلعب دوراً جديداً- قديماً يساعد على تحقيق الأهداف الأميركية بواسطة نظام سياسي يدين بالولاء والطواعية، وما يريده المشروع الأميركي من أي نظام سياسي في لبنان القيام بعدد من المهمات تتلخص بالعناوين التالية:
ا- أن يكون لبنان قاعدة إعلامية- سياسية، يروج ويعمل على تطبيق الاتجاهات الأمبريالية- الأميركية، سياسياً واقتصادياً في المنطقة، وأن يكون ممراً تنطلق منه هذه الاتجاهات نحو العمق العربي.
2- ان يكون محطة وجسراً اقتصادياً باتجاه المنطقة كذلك.
3- أن يقوم بدور الجدار الأمني ليمنع التحريض السياسي والإعلامي والثقافي بما يخدم الوجود المستقر للأمبريالية في المنطقة، بشتى اشكاله، كما يشمل هذا المنع حلفاء الأمبريالية؛ ويأتي الكيان الصهيوني على رأس هؤلاء الحلفاء، حيث إن المهمات المرحلية للنظام السياسى في لبنان أن يمنع أية اعمال عسكرية ضد هذا الكيان.
ثانياً: أية وسائل يعتمدها المشروع الأميركي لبناء نظام في لبنان يستطيع المساعدة على نجاح الأهداف الأميركية؟
على قياس الأدوار المرسومة لأنظمة الحكم المرتبطة بالمشروع الأميركي، تعمل الإدارة الأميركية على تأسيس إدارة حكم في لبنان تدين بالولاء السياسي لها، كما تعمل على تنفيذ رغباتها، عادة يرتضي لعب دور كهذا بعض الفئات والقوى ذات الثقافة المتأثرة بالغرب والتي ترتبط مصالحها الفئوية، سياسياً واقتصادياً، معه.
إن الإدارة الأميركية، لأسباب متعددة ومعروفة، اعتمدت النظام السوري، في ظل الضعف الذي أحاط بأزلامها، وسيطاً لتنفيذ عدد من المهام على الساحة اللبنانية منذ العام 1976. قَبِل هذا النظام التكليف الأميركي لأن له مصالح على هذه الساحة، لذا فقد استقر وجوده العسكرى والأمني والسياسي منذ ذلك العام وحتى الآن.
لقد عمد النظام السوري إلى ترتيب أوضاع سياسية وأمنية تؤمن له حالة نسبية من الاستقرار. وعمل كذلك، في فترة انشغال الأميركيين في إدارة العدوان الآثم على العراق، مستغلاً اتفاقية الطائف والحاجة الأميركية إلى عباءته العربية في تغطية عدوانه، لكي يستولي على مكاسب كثيرة جعلته يمسك، إلى حد كبيو، بالقرار السياسي والأمني في لبنان عندما أشرف على تشكيل الجهازين السياسي والأمني حسب طرائقه وأهدافه.
إن ما سمحت به الإدارة الأميركية للنظام السوري، أو بمعنى أدق ما غضَّت الطرف عنه، يتناقض في المراحل اللاحقة مع أهدافها، أميركياً وصهيونياً، التواقة إلى الإمساك المباشر بالمنطقة العربية بشكل عام وبلبنان بشكل خاص دون الحاجة إلى وكيل أو وسيط.
هذه الإدارة تعمل جاهدة للاتكاء على وكلائها في المنطقة ما دام هؤلاء لم يستخدموا وكالتهم لغير مصلحة الأمبريالية، وهي في هذه الحالة تعمل على المحافظة على مصالحهم في لبنان. فالأمبريالية، إذاً، تعطي إذا أخذت، فهي لن تعطي دون ثمن، وهذه حالها بالتعامل مع النظام السوري.
كيف يتصرف المشروع الأميركي في ظل الوضع الراهن في لبنان، وما هي وسائله لاستعادة ما كسبه النظام السوري من جهة، وكيف يمكن أن يتصرف بما يحقق له الإمساك المباشر بالقرار على هذه الساحة من جهة أخرى؟
لكي تضمن الإدارة الأميركية مصالحها، لا يمكنها ذلك دون استرداد ما أخذ منها أو تقليص ما تعتقده متنافياً مع إمساكها المباشر بلبنان على الصعد السياسية والعسكرية والأمنية، لإعادة ترتيب الأجهزة على كل تلك الصعد بما يضمن ولاء هذه الأجهزة لها في المراحل القادمة دون أن تترك لأي طرف آخر، وكيل أو وسيط، ما يعيق قراراتها.
إن العمود الفقرى، بشرياً، لبناء هذه الأجهزة، يتم انتقاؤه ممن يتميزون باعتناق أو اعتقاد النهج الثقافي أو الفكري أو السياسي، أو السياسي- الاقتصادي ذي المحتوى الغربي بشكل عام وبالمحتوى الأمبريالي- الأميركي بشكل خاص.
فاذا كان لا بُدَّ من التحديد، بأكثر دقة ممكنة، للوسائل الأميركية في بناء هيكل سياسي/ عسكري/ أمني/ اقتصادي/ ثقافي، في لبنان، نعتقد أن الوسانل المطلوبة لتأمين ذلك تتلخص بالخطوات التالية:
1- تشكيل جهاز سياسي موال لها، وهذا الجهاز يتضمن كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة، وأعضاء الحكومة. وهذا يقتضي في المراحل اللاحقة إعادة النظر بما حققه النظام السوري من مكاسب على هذا الصعيد، خاصة وجود أكثرية داخل الحكومة ترتضي الخضوع لتوجيهاته.
2- العمل على تسريع بناء الجيش اللبناني، وتزويده بالأسلحة التي قد تنقل مباشرة من منطقة الخليج لكي يصبح بمقدوره ضبط الأمن في لبنان دون الاستعانة بالقوى الإقليمية وخاصة قوات النظام السوري. وهي في هذه الحالة تعمل على أساس أن لا يكون لأحد حصة في لبنان إلا بالمقدار الذي تسمح به المصالح الأميركية، أو ما يكون تحت سيطرتها المباشرة، وإبقاء الجيش اللبناني خاضعاً للقوة السورية أمر يتعارض مع المصالح الأميركية مباشرة على المدى البعيد، لأن الإدارة الأميركية لن تستطيع ضمان استمرار الولاء السوري لها، نتيجة أية متغيرات قد تحصل ولا تكون في حسابات هذه الإدارة.
3- بناء جهاز أمني، كوزارة الداخلية والشعبة الثانية اللبنانية وإعادة إحياء نشاط الأفراد والمسؤولين الذين كانوا على رأس هذه الأجهزة في العهد الشهابي الذي لم يكن على ودٍّ كامل مع النظام السوري في أواخر العقد السادس من هذا القرن، لكي يتأكد من مدى السيطرة التي تعمل الإدارة الأميركية على إرسائها في الإدارات السياسية والأمنية والعسكرية في لبنان.
4- العمل على إصدار قوانين أو قرارات جديدة تخدم تلك الإدارات في اتجاهاتها سواء كانت قرارات او قوانين تصب في الإطار السياسي أو الأمني، وهي إنما تعمل على إصدارها لكي تعطي الصفة القانونية والشرعية لكل الإجراءات التي تقوم بتنفيذها، والمتابعة على المنوال ذاته، المؤسسات السياسية والأمنية.
والسلطة السياسية في لبنان، تحت ستار إعادة النظام والأمن، قامت بإصدار عدد من التشريعات تمسُّ الحريات العامة، من سياسية وفكرية وثقافية وإعلامية، هذه التشريعات التي كأنها تصب في مصلحة المواطن اللبناني الذي قد يجد فيها ما يرتاح اليه بعد معاناته الطويلة من الحرب والتدمير والقتل والسرقة، لكن ما إن تعود الأوضاع إلى حالتها الطبيعية سوف يظهر السراب الخادع وسوف تظهر المضامين الحقيقية لتوجهاتها ونتائجها.
5- نعتقد أن المشروع الأميركي سوف يعمل لإعادة بناء قاعدة شعبية ونخبوية- سياسية موالية للغرب ثقافياً وفكرياً، لكي تقوم بدورين:
* دور حماية الاتجاهات الغربية، ثقافياً، سياسياً، فكرياً.
* دور الوقوف في وجه الامتداد الوطني والقومي المعادي للاتجاهات الغربية.
إن ما يترتب على ذلك، هو إعادة تطويق الاتجاهات القومية وإجبارها على التقوقع د اخل دائرة العمل القطري الضيق.
6- إن المرحلة القادمة سوف تتطلب من المشروع الأميركي- الأمبريالي- الصهيوني، عقد أو فرض اتفاقية سايكس- بيكو جديدة، بمضامينها التفتيتية، لكن هذه المرة على قاعدة ضرب أي توجه فكري- سياسي له مضامين وحدوية، هذا التوجه يشكِّل الخطة السياسية العامة على الساحة العربية بشكل عام وعلى الساحة اللبنانية بشكل خاص.
أخيراً، واستناداً إلى ما تقدم، تؤكد الإدارة الأميركية أن على لبنان أن يكون لها بالكامل، تعطي لوكلائها فيه ما يحقق مصالحهم بما لا يتعارض مع مصلحتها، لهذا ليست هي على استعداد لأن تكون بالمستوى/ الأخلاقي/ السياسي التي يهمها أن يعود لبنان موحداً أو أن لا يكون، إذ تقتضي ظروف مصالحها ومصالح وكلائها أن يقسم لبنان إلى مناطق نفوذ لهؤلاء الوكلاء (جغرافياً، سياسياً، أمنياً). فوحدة لبنان ليست هدفاً أميركياً مجرداً، بقدر ما هي وسيلة من وسائل المحافظة على مصالحها. وهذه المصالح قد يؤمنها لبنان الموحد أو لبنان المجزأ.
ثالثاً: إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان من زاوية تأثر وتأثير القوى الخارجية ذات المصلحة فيه.
كما أن المشروع الأميركي، بما كسبه من مواقع متقدمة على الصعيدين الدولي والعربي، وما كسبه من الأوراق الرابحة لفرض سيطرته وإمساكه بالقرار الدولي والعربي، فإن قوى دولية وإقليمية وعربية تعمل للإمساك بأوراق أخرى تسمح لها باحتلال مواقع لها على الساحة اللبنانية.
أية إحتمالات نعتقد حصولها على الساحة اللبنانية من هذه الزاوية على الصعد الدولية والإقليمية والعربية؟
ا- دولياً:
من هذه القوى تأتي فرنسا في طليعة الدول الغربية، بعد أميركا، التي تعمل جاهدة للتقليل من خسائرها على هذه الساحة وإعادة تثبيت أوراقها، وهي الدولة الغربية ذات النفوذ والتأثير الثقافي والسياسي، تاريخياً، في لبنان منذ عهد الانتداب وحتى الآن.
إن كانت فرنسا قد دخلت إلى صف العدوان على العراق، على الرغم من محاولاتها الدؤوبة لتمييز نفسها، فلكي تحفظ، حسب ادعاءات مسؤوليها المعلنة، مقعدها على طاولة المؤتمرات التي سوف تُعقد لمعالجة الأوضاع الشرق أوسطية.
إن فرنسا تعرف أن الاخطبوط الأميركي الذي اندفع بحرارة إلى الخليج، ودفع بإمكانيات عسكرية كبيرة، إنما يعمل للسيطرة المطلقة على العالم وبشكل أساسي على منطقتنا الغنية بالنفط. وهو لن يعطي حتى حلفاءه الذي شاركوا بالعدوان على العراق، سوى ما يسمح لهم فيه، لأنه استطاع أن يخضع كل دول المنطقة لنفوذه. ففرنسا، على قاعدة هذا المفهوم، سوف تعمل بجهد كبير للإمساك بحصتها من النفوذ على بعض الأنظمة العربية ذات العلاقة التاريخية معها، كدول المغرب العربي ولبنان.
في هذه المرحلة بالذات، وضمن المعلومات المتوفرة، تعمل فرنسا للتنسيق مع دولة الفاتيكان ذات الروابط الدينية مع لبنان من جهة، وعلى تأهيل وتوحيد حلفائها من السياسيين المحليين الذين تربطهم وحدة المصلحة المرحلية في استعادة مواقعهم المفقودة على الساحة اللبنانية من جهة أخرى.
ولفرنسا، استناداً إلى موقعها الثقافي والسياسي والديني والتاريخي في لبنان، دور قد لا يستطيع المشروع الأميركي إلغاءه، لكن في أسوأ الحالات قد يعمل على التقليص منه.
ففي دائرة التنافس الأميركي- الفرنسي على الساحة اللبنانية، لا يغيب عن بالهما معاً أن هذا التنافس يجب أن لا يصل إلى الحدود التي تعيد لبنان إلى فلك الاتجاهات الوطنية، خاصة تلك التي تتميز بعمق ورؤية قومية، مما يدفعهما معاً إلى العمل على قاعدة أن تستعيد القوى اليمينية اللبنانية نشاطها وتأثيرها. خاصة تلك التي تقف في صف المعاداة لحركة التحرر الوطني وحركة التحرر القومي، سواء منها الداخلية أو الخارجية. وقد لا ينجو النظام السوري من لسعات التحالف الأميركي/ الفرنسي/ اليميني الداخلي، على الرغم من أنه قد أدى خدمات جلى لقوى التحالف الاطلسي في حرب الخليج، وقبلها في الوضع اللبناني بعمله لتحجيم الدور الوطني اللبناني والفلسطيني.
2- إقليمياً وعربياً:
تستخدم مراكز القوى الدولية لتنفيذ مخططاتها، عادة، في المناطق ذات العلاقة بمصالحها، قوى محلية وأخرى محيطة بتلك المنطقة، على أن تكون ذات مصلحة مرتبطة مع القوى الدولية.
كان لبنان معبراً للقوى الدولية باتجاه المنطقة العربية، لكن لِما تأسس فيه من اتجاهات وطنية وقومية منظمة بحركات وأحزاب وقوى مستقلة، جعل منه محطة للصراع بين الطموحات القومية المتجهة نحو التحرر وبين قوى التسلط الدولي والإقليمي والمحلي، لذا شهدت الساحة اللبنانية أتوناً مستمراً من الحروب الداخلية والخارجية منذ أكثر من ستة عشر عاماً، تدخل فيها منذ بدايتها قوتان أساسيتان: هما النظام السوري والكيان الصهيوني، وقد عملت كلاهما، على الرغم من التناقضات في موقعيهما، على تحقيق الأهداف ذاتها والتي تلخصت بضرب الاتجاهات الوطنية والقومية التحررية بطلائعها الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل الثورة الفلسطينية.
لكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أن النظام الشعوبي في إيران قد دخل، وإن متأخراً، على خط المواجهة مع القوى الوطنية والقومية في لبنان.
فالكيان الصهيوني صاحب المصلحة المباشرة في القيام بضرب كل ما يهدد أمنه العسكري وأمنه السياسي والإيديولوجي، ولأن الساحة اللبنانية تحتضن بداخلها هذين الخطرين، حولتها الأداتان العسكرية والأمنية الصهيونية إلى ساحة تتلقى الاعتداءات المستمرة مستندة إلى دعم غربي/ أميركي بشكل خاص، وتجاوب داخلي من قبل بعض القوى المحلية التي تقف على الطرف النقيض من الاتجاهات الوطنية والقومية.
أما النظام السوري، ولأسباب مصلحية بعضها أصبح واضحاً والبعض الآخر ما زال مستوراً، فقد كان بدوره العسكري والأمني المباشر منذ العام 1976 يقوم بتطبيق أو تدجين الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية، مكملاً ما قام به الكيان الصهيوني.
إن الدورين السوري والصهيوني، بمصلحتهما المباشرة في التدخل على الساحة اللبنانية، لم يكونا إلا مرتبطين بالمشروع الأمبريالي العام باتجاهاته الفكرية رالسياسية، وأهدافه الاقتصادية ذات الأولوية في مشاريع هيمنته على المنطقة العربية.
إذا كان المشروع الأمبريالي- الأميركي يعمل على تحقيق هيمنته بشكل غير مباشر، في المراحل السابقة، على لبنان ذي الأهمية الاستراتيجية في المنطقة العربية، فلأجل أن يظهر الصراع على هذه الساحة، وكأنه صراع بين المصالح الإقليمية. وإذا كان لتدخله، أحياناً، مظاهر مباشرة فإنما كان يغلفها بثوب القاضي الذي يستمع إلى أطروحات الخصوم المتصارعين لكي يحكم «بالعدل» و«القسطاس». وكانت أحكامه باستمرار تأتي لمصلحة كل من، الكيان الصهيوني والنظام السوري، واعترافه لهما بالمصالح الأمنية والسياسية في لبنان، هذا الاعتراف يصب في دائرة تقوية موقعيهما كقاعدتين أثبتتا أمانتهما في العمل لمصلحة الاتجاهات الأمبريالية- الأميركية.
لكن التدخل الأمبريالي- الأميركي، مباشرة في الحرب التي دارت على أرض الخليج، لاقتناعه بأن حجم الإمكانيات العسكرية، وحجم التحدي الإيديولوجي الذي اطلقه العراق في وجه الأمبريالية، كان أكبر من قدرة حلفائه الإقليميين على ردعه، وحيث إن هذا التدخل كان سافراً بالمستوى الذي لم تعد الأمبريالية الأميركية قادرة على ستر دورها الرئيس والأساسي في المنطقة العربية، كان لا بُدَّ لهذه الإدارة من أن تعمل في المنطقة بشكل مباشر ومكشوف بمساعدة من حلفائها الإقليميين، الأمر الذي يدفعها إلى استكمال الشوط المباشر الذي بدأت فيه.
3- مستويات التقاطع والتناقض بين المصالح الأميركية وحلفائها الإقليميين:
على الأساس الذي أخذت فيه الإدارة الأميركية على عاتقها، بشكل مباشر، فتح الملف اللبناني، والعمل على ترتيب وضعه، بما يضمن لها إمساكاً مستمراً فيه، نطرح التساؤلات حول الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كل من الكيان الصهيوني والنظام السوري، في المرحلة المقبلة. ومن هذه التساؤلات:
- ما هي مستويات التقاطع والتناقض بين المصالح الأميركية، وحلفائها الإقليميين؟
-ما هي مستويات التقاطع والتناقض بين النظام السوري والكيان الصهيوني؟
- أي مستوى من التناقض تسمح المصالح الأميركية بلوغه بين حلفائها، وهل يؤدي هذا التناقض إلى حدود الصدام بينهما؟
إن إجابة موجزة ومكثفة حول هذه التساؤلات نعتبرها ضرورية، لذلك نعتقد أن ما يربط المصالح الأمبريالية- الأميركية مع كل من النظام السوري و إسرائيل لا يختلف بين كل منهما على انفراد وبين أميركا.
أ-كيف نرى مستويات العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني بالنسبة للبنان؟
ما يجمع بين المصلحتين الأميركية والصهيونية، علاقة استراتيجية على قاعدة التكامل بين الفكرين الاستعماري الاقتصادي والاستيطاني، فالفكر الاستعماري الاقتصادي يحتاج إلى قواعد انطلاق ثابته باتجاه المناطق ذات الثروات الخام وذات الطابع الإستهلاكى وهذا ما يعبر تماماً عن الفكر الأمبريالي- الأميركي.
أما الفكر الاستعماري الاستيطاني، فيرتكز على إيديولوجية قومية دينية، وهو بحاجة إلى ركائز دولية قادرة على تأمين الإسناد والحماية لها، وهذا ما يعبر عنه تماماً الفكر الإيديولوجي الصهيوني.
من هنا تتكامل المصالح بين الأمبريالية الأميركية والعنصرية الصهيونية. فالتفاعل بينهما بلغ مستوى العلاقة الجدلية، أحدهما يستفيد من بقاء الآخر، فتقاطع المصالح بينهما هي القاعدة الأساسية وتعارضها هو الأمر الثانوي. فكما أن الأمبريالية لن تطمئن إلى وجود بديل للكيان الصهيوني في المنطقة فإنها تعمل على أساس إبقائه راسخاً ومستقراً. وفي المقابل يعمل هذا الكيان على ترسيخ وجوده مستقوياً بالقوة الأمبريالية أميناً على تثبيت علاقاته بها. لذا فإن أي اهتزاز قد يطرأ على هذه العلاقة الجدلية القائمة على تبادل المصالح لن يسمح باستمراره، فالتعارض بين مصالحهما، إذاً، لن يكون إلا أمراً عارضاً.
لكننا لو استدركنا التساؤل الذي يدور حول من له أرجحية في القرار، الضغط الأمبريالي- الأميركي، أم الضغط الصهيوني، فإننا نعتقد أن المعادلة ليست على هذا الشكل، لأن الارتباط الاستراتيجي بينهما يستند إلى منطق التسوية الدائمة لكن ليس على قاعدة التفاهم الدائم، لأن البنيان الإيديولوجي القومي- الديني، بينهما ليس متجانساً، فما يربطهما هو نقاط التقاطع بالمصالح، وإذا طغى التنافر الإيديولوجي بينهما، فإن التناقض والتصارع هو البديل، وهنا يخسر الطرف الأميركي اقتصادياً إذا فقد الكيان الصهيوني كقاعدة ارتكاز قمعية وعدوانية في المنطقة. ويتهدد الكيان الصهيوني كوجود إيديولوجي، قومي- ديني، إذا افتقد القوة الدولية الحامية لهذا الوجود. من هنا نعتقد أن هناك منطق تسووي دائم بينهما على قاعدة الضرورة في تكامل المصالح.
إذا كانت مستويات العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني حسب الفهم الذي عرضناه، وإذا كانت أميركا فد أمسكت بالملف اللبناني بشكل مباشر بعد انتهاء حرب الخليج ، ولأميركا مصالح مباشرة في ترتيب الوضع اللبناني، وإذا كان للكيان الصهيوني مصالح في لبنان، فهل تتعارض مصالح الطرفين أم تتوافق، وكيف يمكن اتفاق الطرفين على حل تسووي إذا تعارضت هذه المصالح؟
المصالح الأميركية في لبنان تتلخص باعتماده قاعدة وممراً، أما اعتباره قاعدة ، كما أشار التقرير في فقرات سابقة، فبالإمساك بالهرم السياسي فيه والعسكري والأمني والإعلامي، لكي تشكِّل هذه القاعدة ممراً لتصدير السياسة الأميركية إلى المنطقة من جهة، وبالتالي إيجاد حدود آمنة جغرافية ونفسية وإيديولوجية للكيان الصهيوني بما يشعره بالاطمئنان والاستقرار، والعمل كذلك للحصول على مكتسبات في المياه اللبنانية كحاجة حياتية ضرورية له.
أما مصالح الكيان الصهيوني، بسقفها الإيديولوجي الأعلى، القومي/ الديني، فتقتضي العمل على التوسع الجغرافي حتى حدود الفرات والنيل كما رسمتها الإيديولوجية اليهودية التوراتية ، وهذا ما يحقق الحلم التوراتي.
إذا كان سقف المصالح الصهيونية المشروعة، حسب مفهوم الأمبريالية الأميركية، الاعتراف بكيانها السياسي وحدودها الجغرافية الآمنة وتأمين مصالحها الحيوية مع الجوار العربي ، فإن هذه المصالح حسب العقيدة الصهيونية/ التوراتية تمثل الحد الادنى. من هنا يتضح التناقض بين الرؤيتين الأمبريالية والصهيونية. فكيف يتم التوفيق بينهما؟
إن الأمبريالية الأميركية لن تقاتل ضد تحقيق الحلم التوارتي/ الصهيوني، لكن تحقيق هذا الحلم قد يؤدي إلى استثارة العرب؛ حتى إن الإيديولوجية الدينية، بشكل عام، ومنها اليهودية، تجنح لتحقيق أهدافها العليا كسقف لا تستطيع التنازل عنه لأنه يمس عقائدها الأساسية. فالصهيونية التوراتية تعمل، حسب ادعاءاتها، لاستعادة أرض " اسرائيل " من الفرات إلى النيل لأنها تشكل هدفاً دينياً أساسياً.
فالأمبريالية الأميركية لن تقاتل ضد تحقيق الحلم التوراتي/ الصهيوني، لكن تحقيق هذا الحلم قد يؤدي إلى استثارة العرب حتى المتحالفين منهم مع أميركا، إذ ذاك قد تثار المتاعب في وجهها وهو ما لا تريده، فالمصالح الرأسمالية لن تنمو سوى في ظل الأجواء الهادئة. اذن، لن تغامر الرأسمالية الأميركية بمصالحها في سبيل حلم توارتي/ يهودي لا يربطها معه رباط عقائدي ديني.
نقاط التقاطع بين المشروعين الأمبريالي/ الأميركي، والصهيوني/ اليهودي، قائمة على تبادل المصالح المادية، أحدهما يشكل غطاء آمناً لمصالح الآخر سياسياً وعسكرياً. أما نقاط التناقض فهي قائمة على الأسس الإيديولوجية الدينية. فالحلم الأميركي ذو مضمون اقتصادي، ويعمل على أن مصلحته لن تمر عبر مشروع إيديولوجي مسيحي لكي ينفذ حروباً صليبية جديدة في المنطقة العربية، فلماذا يورط نفسه في حروب توراتية إذاً؟
من هنا، تبدأ خطوط التماس بين المشروعين: الأمبريالي والصهيوني، لكن هل تستطيع أميركا أن تمارس ضغطاً على المشروع الصهيوني/ التوراتي في الوقت الذي تؤكد فيه المعلومات والوقائع والتحليل أن النظام الأميركي هو الذي يتعرض لضغوطاًت جدية ومستمرة من قبل الصهاينة داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها؟
إن اليهود في العالم، ومنها أميركا، كذلك بعض تياراتهم داخل، إسرائيل ذاتها، لا يؤمنون جميعهم بالإيديولوجية التوراتية ولا يعملون على تحقيقها. هذه التيارات اليهودية تنتمي في اتجاهاتها السياسية/ الاقتصادية/ الأمبريالية إلى العقيدة الأمبريالية بشكل عام التي تريد تأمين مصالحها داخل الساحة العربية/ الإسلامية بدون المرور بحروب صليبية/ دينية أو توراتية/ دينية.
فالأمبريالية الأميركية تستفيد من هذه التيارات داخل اليهود في العالم، لكي تشكِّل ضغوطاً على أصحاب الاتجاهات الصهيونية/ التوراتية لفرض المنطق التسووي بين الأمبريالية والتوراتية.
في إطار فهمنا لهذه المعادلة، يمكننا أن نثبت الحقيقة الأساسية التالية: كلما استطاع العرب أن يكونوا في المستوى الذي يهددون فيه مصالح الأمبريالية فإنهم يعمقون نقاط التناقض بين الصهيونية والأمبريالية خطوة على طريق انكفاء المشروع الصهيوني/ التوراتي، ومن ثم التحرر من القيود الأمبريالية...
فإذا كان الصراع واحداً ضد المشروعين، وإذا كانت نقاط التقاطع أكثر من نقاط التناقض بينهما، فإننا نعتقد أن أي حل تعمل الإدارة الأميركية على فرضه على الساحة اللبنانية لن يكون بمعزل عن التوافق مع العدو الصهيوني وحسب شروط الحد الأدنى له، أو بالمحافظة على أمنه العسكري والسياسي والمحافظة على مصالحه الأساسية، والتي تقوم باعتقادنا على ثابتين اثنين: إيجاد حدود آمنة للكيان الصهيوني، والحصول على مكتسبات في المياه اللبنانية.
ب-كيف نرى مستويات العلاقة بين أميركا والنظام السوري في لبنان؟
إذا كان التصور السابق صحيحاً للتوفيق بين المصلحة الأمبريالية/ الأميركية وبين المصلحة الصهيونية، فإن التوفيق بين المصلحة الأميركية ومصلحة النظام السوري، كنظام، تقوم على دعائم أخرى. فكيف يكون التوفيق بينهما إذاً؟
بداية لا بُدَّ من الإشارة إلى أن إحتمالات هذه المرحلة كما قمنا بتحديدها وكما نعتقد، تبقى صحيحة ما دام النظام السوري الحالي قائماً، فبقاؤه بقاء لنهجه واتجاهاته الراهنة. وإذا أصاب هذا النظام تغييراً، في بنيته أو نهجه، فإن هذا التغيير قد يؤدي إلى اتجاهات أخرى، وإن الإحتمالات سوف تتغير تلقائياً.
يعمل النظام السوري للمحافظة على بقائه واستمراره كهدف مركزي، لذلك فهو يخطط لإقفال أية بوابات قد تضعفه، ومعالجة أية مشكلات يواجهها، ومنها: الاحتلال الصهيوني للجولان: فهو يعمل على حلها بأية وسيلة لا تشكل له إحراجاً داخلياً أو عربياً، قد يكون من هذه الوسائل اتفاقاً سياسياً، ولا مانع من أن يكون حلاً أميركياً.
* الثورة الفلسطينية: العمل على احتوائها ومصادرة قرارها تحت زعم أن القضية الفلسطينية هي قضية قومية، فهو غارق في محاولات طمسها كقضية قومية حارة تشكِّل له الإحراجات التي ترمى في وجه شعاراته القومية.
* الإمساك بمفاتيح البوابة اللبنانية للحصول من حكومتها على علاقات سياسية وأمنية وإعلامية مميزة، فمن هذه البوابة تأتي رياح الإحراج والمشاكسة بما تمتلكه من اتجاهات واسعة من الوعي الوطني والقومي، إضافة لأن في داخلها يمكث ثقل سياسي رعسكرى للمقاومة الفلسطيثية.
* إقفال أية ساحة عربية أخرى تسلك طريق الاتجاهات القومية، ومحاربة أي نظام سياسي فيها يشكل إحراجاً له، هذا السبب الذي دفعه إلى الوقوف بشراسة ضد العراق ودون أن يتردد في الوقوف في داخل الخندق الأميركي في أثناء العدوان عليه.
من المشاكل التي يواجهها النظام السوري، تأتي الساحة اللبنانية في رأس اهتماماته، هذه الساحة تعتبر واحة فعل سياسي للتيارات الوطنية والقومية التي تتناقض مع طبيعة النظام السوري واستراتيجيته، ولم تفقد أهميتها حتى الآن على الرغم من أن معظم هذه التيارات خضعت لقيود إشرافه، واستكانت لأساليب قمعه، وما يصح على التيارات اللبنانية يصح كذلك على فصائل المقاومة الفلسطينية.
إذا كانت مصالح النظام السوري تتطلب الحصول على امتيازات واضحة ومشرَّعة من السلطة اللبنانية لتحجيم واحتواء أو ملاحقة كل اتجاه وطني/ قومي، سواء كان حزباً أو أفراداً، فإنما هذه الامتيازات تحقق له عدداً من الأهداف، من أهمها: الإقفال أو السيطرة على أية بوابة قد تشكل خطراً أمنياً أو سياسياً على الداخل السوري أولاً، وتكريس زعامة هذا النظام على المنظمات الوطنية أو القومية بما يكسبه قوة وتأثيراً في اتخاذ أي قرار على صعيد المنطقة العربية.
تقاطع مصالح النظام السوري على الساحة اللبنانية، إذاً، مع مصالح الأمبريالية الأميركية في ضرب أو تحجيم التيارات الوطنية والقومية، وتتوافق كذلك مع المصالح الصهيونية على الرغم من اختلاف المنطلقات والمواقع.
إن كان النظام السوري يعمل لتمييز منطلقاته في احتواء التيارات الوطنية والقومية عن المنطلقات الأميركية، وعندما يحاول تغليف هذه المنطلقات برداء من الحرص القومي على منع تلك التيارات من الانحراف، فإنما يوهم نفسه بذلك، لأن النتائج التي يحصدها العمل القومي من تصرفات ذلك النظام إنما هي سلبية تماماً. وقد ظهرت سلبيتها بوضوح على مستوى أداء الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية على الساحة اللبنانية.
لم يقع النظام السوري في الوهم بمفرده، هذا إذا انطلقنا من حسن النية في تحديد موقعه، إنما هذا الوهم قد أصاب بسهامه معظم الأحزاب والقوى اللبنانية والفصائل الفلسطينية عندما اعتقدت أن للنظام السوري دوراً قومياً صادقاً، وبناء على هذا الوهم قد تثبت علاقاتها معه.
إن ما ينطبق على ما يمثل أهدافاً للنظام السوري في لبنان، يشمل أهدافه بالعلاقة مع الثورة الفلسطينية التي تتواجد على أرضه، لأن هذه الثورة، في حال عدم استجابتها لأهدافه الثابتة من العلاقة معها فهي، في تقديره، تشكِّل ثغرة في جدار أمنه الداخلي وبالتالي تمنعه من الاستفراد بزعامة عربية وإقليمية يطمح إليها.
لكن ما تجدر الإشارة إليه، في هذه المرحلة، هي أن مواطن القوة لدى الثورة الفلسطينية، بعد أن كانت محصورة في ساحة لبنان، أنها قد عززت مواقعها منذ بداية الانتفاضة في الضفة الغربية وقطاع غزة، في ساحة فلسطين ذاتها. كما أن منظمة التحرير الفلسطينية، بعد انتهاء العدوان الأميركي على العراق، اكتسبت مواقع جديدة، قد يظهر زخمها في الأشهر القادمة، في المغرب العربي وأوروبا والاتحاد السوفياتي، حيث لهذه القوى، لأنها تفتش عن مواطن قوة في الشرق الأوسط في سبيل تعزيز دورها فيه، مصلحة في تمتين علاقاتها مع منظمة التحرير الحالية لصداقات أو لحوارات واتفاقات سابقة معها، لأن المراهنة على تغيير من داخلها هو مطلب وحاجة اسرائيلية وأميركية وعربية كانت منحازة كلياً إلى الخندق الأميركي في أثناء عدوانه على العراق. ولأن هذا التغيير سوف يكون في صالح تلك القوى المتحالفة لأنها سوف تأتي بالبدائل التي تتفق معها على موقف سياسي واحد، وإن هذا بدوره يحرم من كان خارج قوى التحالف العدواني من أوراق قوية تؤهلها لأن تلعب دوراً فيما يخطط للمنطقة. هنا يكمن، حسب اعتقادنا، سر الإحتمال بأن منظمة التحرير الفلسطينية قد اكتسبت مواقع جديدة عربياً وأوروبياً.
في ظل هذه المتغيرات والاحتمالات هل يبقى للنظام السوري دوره التقليدي السابق، القائم على تحجيم دور منظمة التحرير الفلسطينية أو احتوائه على الساحة اللبنانية؟
نعتقد أن النظام سوف يعمل على تغيير وسائله، لأنه لو أصر على ممارسة أسلوب التصفية العسكرية والسياسية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان، ولنفترض أنه نجح بذلك، فإنه لن يحقق هدفه بالاحتواء، حيث لمنظمة التحرير مواقع قوة أخرى في داخل الأرض المحتلة ومع العرب والأوروبيين الذين لهم مصلحة في دعمها.
أية اتجاهات، إذاً، سوف تحدد سقف أساليب النظام السوري بالتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان؟
بين الخيار الأميركي- الصهيوني الذي يعمل على أساس تحجيم دور منظمة التحرير الفلسطينية أو إلغائه ، وبين الخيار الاوروبي- السوفياتي الذي يعمل على أساس بناء الجسور مع منظمة التحرير الفلسطينية، قد يتبع النظام السوري أسلوب الانتظار والمهادنة مع المنظمة برفع سيف التهويل على وجودها في لبنان، لكن دون استخدامه، وهو يحقق غايتين من وراء ذلك، الأولى إبقاء شعرة معاوية مع المشروع الأميركي، وإضفاء الحماية على السلطة اللبنانية الحاكمة، فيبرز أمامهما أنه حاجة ضرورية لهما في محاولة لتثبيت مكاسبه السياسية التي حصل عليها حتى الآن.
أما الثانية فلكي يبقي جسوراً ممدودة بينه وبين القوى الأخرى، المغاربية- الأوروبية- السوفياتية، التي تعمل على أساس عقد مؤتمر دولي برعاية مجلس الأمن.
وكما يعبر عن ذلك، فالنظام السوري سوف يمسك بالعصا من الوسط، مما يسهل عليه الانتقال إلى أحد طرفيها إذا ما استطاع طرف ما أن يحقق الغلبة في المراحل القادمة.
استناداً إلى ما تقدم، كيف يمكن التوفيق بين مصالح النظام السوري والمصالح الأميركية في لبنان في مرحلة ما بعد العدوان على القطر العراقي؟
إن المصالح الأميركية تقتضي، في مرحلة الحركة الديبلوماسية الراهنة، أن تبذل جهداً لمنع جدار التحالف الذي حقق مكتسبات عسكرية وسياسية، من أن ينهار في مرحلة المعركة السياسية. وهي في الوقت ذاته تعمل لجني أكثر ما يمكن من الأوراق التي تعزز مواقعها والمحافظة على قوة قرارها.
لهذا، فيما يختص بالساحة اللبنانية، التي تشكل حالياً دائرة التجاذب بين أكثر من قوة دولية وإقليمية وعربية والولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا بشكل عام وفرنسا والفاتيكان بشكل خاص، النظام السوري، الكيان الصهيوني وإيران، هل يمكن للمشروع الأميركي أن يستمر في التوافق مع النظام السوري حسب اتفاقاتهما السابقة؟
على قاعدة أن تقوم الإدارة الأميركية بفرض سيطرتها على مناطق نفوذها أو تقوية مواقع النفوذ، نرى أن الاتفاقات الأميركية- السورية السابقة لن تبقى إطاراً صالحاً للعمل فيه لأن مضامينها الأساسية تتميز بإعطاء دور مهم للنظام السوري على الساحة اللبنانية ، وهي تنص على الاعتراف له بعلاقات مميزة مع لبنان تشمل القضايا التي نصَّ عليها كل من اتفاق مورفي- الأسد واتفاقية الطائف، وهي:
ا- الاتفاق بين الدولتين على التعاون والتنسيق في القضايا الأمنية التي تقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا. وعليه فإن لبنان لا يسمح لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف أمنها، على أن يتم وضع اتفاقات بين البلدين في هذا الشأن. وإذا كانت هذه الاتفاقات تمثل الهدف الأساسي للنظام السوري، فإن هناك تشريعاً للاستعانة به في لبنان، مرحلياً، لمساعدته على إنهاء حالة الحرب فيه كهدف ظاهر، وضرب القوى المناهضة للأمبريالية والصهيونية كهدف حقيقي.
2- على لبنان، لضمان استمرار العلاقات المميزة مع سوريا بعيداً عن التخريب، أن يمنع أي تشويش إعلامي ضد هذه العلاقات، والدولة اللبنانية معنية باتخاذ الاجراءات رالقوانين والقرارات التي تلزم الإعلام المحلي للتقيد بما يضمن استمرار هذه العلاقات.
3- التنسيق في مواقف لبنان وسوريا على صعيد العلاقات الخارجية، وإنه في دائرة تمتين علاقات لبنان مع الدول العربية، عليه أن يكون حريصاً على إقامة علاقات مميزة مع سوريا.
تأتي هذه الامتيازات السورية في لبنان، باعتراف من الولايات المتحدة الأميركية، لأسباب تكتيكية في المشروع الأميركي في ظرف محدد. كان المشروع الأميركي مجبراً على الاعتراف بها لحاجته لدور النظام السوري في تحقيق عدد من الأهداف الأميركية، ومن أهمها: ضرب وقمع أو احتواء الاتجاهات الوطنية والقومية المعادية للأمبريالية والصهيونية من جهة، وضرب أو قمع أو احتواء الثورة الفلسطينية التي تهدد الأمن الصهيوني من جهة أخرى.
في مقابل تحقيق هذه الأهداف التي كانت متناسبة مع المشروع الأميركي- الصهيوني منذ ما قبل العام 1976، تاريخ الدخول النظامي السوري، عسكرياً وسياسياً، إلى لبنان وفي مقابل خدمات قدمها هذا النظام في احتواء الساحة اللبنانية وقمعها في أثناء العدوان الأميركي على العراق، كان على الإدارة الأميركية أن تدفع ثمناً ما للنظام السوري، والذي جاء اتفاق مورفي- الأسد، واتفاقية الطائف واستباحة المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية ضامناً له.
إن الاتفاقات المعقودة بين الإدارة الأميركية والنظام السوري، التي دفعت فيها تلك الإدارة للنظام ثمناً جاء على حساب لبنان، لم تكن سوى اتفاقات مرحلية يكون فيها المشروع الأميركي قد استطاع أن يقوي مواقعه في الشرق الأوسط كهدف رئيس ينفذ منها إلى وضع يده على لبنان من دون حاجة إلى وسيط، وفي هذه المرحلة التي انتهى فيها العدوان الأميركي على العراق قد تمثل اللحظة المناسبة لأن تتولى الإدارة الأميركية القيام بمثل هذه الخطوة.
أن تقوم الإدارة الأميركية بتقنين دور الوسيط بينها وبين لبنان، عليها أن تقنن قواعده لتمسك بها مباشرة على الصعد السياسية (رئاسة الجمهورية وتركيبة الحكومة) والعسكرية (الجيش اللبناني تدريباً وإشرافاً وتجهيزاً) والأجهزة الأمنية (وزارة الداخلية وأجهزة المخابرات). في تقديرنا، سوف تعمل الإدارة الأميركية على إلغاء ما حققه النظام السوري من مكاسب أكثر مما يسمح به المشروع الأميركي في المرحلة الراهنة من أجل تأمين جو من الاطمئنان للقوى اللبنانية ذات الولاءات الأميركية، والعمل من جهة أخرى لإملاء الفراغ، حيثما دعت الحاجة، ببدائل لبنانية أخرى تكون فيه الإدارة الأميركية مطمئنة إلى حسن أدائها على الصعد السياسية والعسكرية والأمنية.
لكن على الرغم من ذلك سوف تبقى الإدارة الأميركية ضامنة للاتفاقات المعقودة بين النظام السوري والدولة اللبنانية إذا بقي هذا النظام أميناً لتعهداته في عدم المساس بالمصالع الأميركية والأمن الصهيوني ولجم التطرف في داخل الاتجاهات الفكرية والسياسية القومية.
إن التنسيق للتوفيق بين المصالح الأميركية ومصالح النظام السوري، سوف يبقى مشوباً بالحذر من كليهما، لذا قد يعمل كل منهما على تثبيت قواعد شعبية وسياسية تدين بالولاء له، على أن تعتنق هذه القواعد اتجاهات إيديولوجية وسياسية، عميقة استراتيجياً ومرحلياً، لكي تستطيع أن تلعب حصان طروادة الثابت لكل منهما.
جاء تقديرنا هذا نابعاً من زاوية المشروع الأميركي أولاً وحلفائه الإقليميين والمحليين ثانياً. لكن إذا أخذنا هذا التقدير من زاوية حركة التغيير الوطني والقومى، كيف نرى الصورة فى مثل هذه الحالة؟
رابعاً: الواقع الراهن للقوى ذات التأثير الوطني والقومي في لبنان.
إن مبدأ الصراع بين الأمة العربية وبين القوى المعادية، على الرغم من تعدد وجوهها وأشكالها وألوانها وجنسياتها، أصبح قانوناً له صفة الثبات والديمومة إلى أن تزول معالم التناقض بين هذه الأمة وبين القوى التي تقف في الخندق المعادي لها.
في منطق الصراع بين نقيضين تدور معارك متعددة يعمل كل نقيض على تجميع ما أوتي من إمكانيات القوة لشطب نقيضه من ساحة الصراع، لكن المعارك بين المتناقضين ليست محددة بشكل واحد، لكنها قد تعني المعارك ذات الطابع الإيديولوجي، أو الفكري، أو السياسي، أو الاقتصادي، ويكون الطابع العسكري هو أحد اشكالها، والذي يعتبر أشدها قسوة وأكثرها خسائر. وقد لا تكون أى من هذه المعارك حاسمة لنتائج الصراع، وهذا ما عرفه تاريخ الصراع العربي- الأمبريالي- الصهيوني، على الأقل، في تاريخه الحديث الذي بني على روحية ومنهجية اتفاقية سايكس- بيكو. ذلك التاريخ الذي شهد معارك عديدة نرى من المفيد تعدادها، ومن أهمها: معارك الاستقلال، الانتفاضات الفلسطينية من العام 1936، المعارك العسكرية التي حصلت في الأعوام التالية: 1948 في فلسطين ، 1956 في مصر، 1967 مصر وسورية والأردن، 1973مع مصر وسورية، 1975 في لبنان ولا تزال، معارك الاستقلال في الجزائر، 1978 في الجنوب اللبناني، 1982 مع أجزاء كبيرة من لبنان ، 1980 - 1988بين العراق وإيران، وأخيراً وليس آخراً في العام (1990 - 1991) بين ثلاثين دولة وبين العراق، ولم يقتصر الأمر على تلك المعارك العسكرية، وإنما حصل الكثير من مظاهر الصراع السياسي والإيديولوجي، مثل معركة حلف بغداد 1958، المؤامرة على الوحدة المصرية - السورية (1958 - 1961)، (اتفاقيات كامب- ديفيد 1978)...
إن ما أسفرت عنه تلك المعارك من نتائج، لم يقسها العرب، ذوو الاتجاهات القومية الوحدوية، بمقياس الانتصار العسكري، وإنما لحالة الصراع بين قوى التحرر القومية وبين قوى الأمبريالية والصهيونية لها مقاييس أخرى، وهذه المقاييس تستند إلى قاعدة أساسية هي كم استطاعت معركة ما أن تخلق حوافز نضالية جديدة، وكم اكتسبت حركة التحرر من مناضلين جدد، وكم خلقت من عوامل تعبوية جديدة، على مستوى عمق الوعي ومستوى الانتشار الأفقي.
أما إذا كانت مقاييس حركات التحرر قائمة على مقدار ما حققته من انتصارات عسكرية، فإن كل المعارك العسكرية التي فرضت على الأمة العربية كان الكسب فيها لصالح القوى المعادية، فاستناداً إلى تلك المقاييس سوف تكون النتائج هي الضرورة في استسلام قوى التحرر وخروجها من مواقع ا لصراع.
ولأن مقاييس منطق الثورات التحررية لا تستند إلى نتائج المعارك العسكرية، وإنما إلى نتائج أخرى، نجد أن قوى التحرر على المستويين الوطني والقومي تمتلك امكانية الاستمرار في التمسك بخنادقها النضالية.
فعلى قاعدة هذا التفسير، سوف يستمر العدوان الاطلسي- الأميركي- الصهيوني ضد العراق، بصيغ وأشكال جديدة يصب في سياق الصراع المستمر بين الأمة وأعدائها.
حيث أن الأمة، بمعنى الطبقات الجماهيرية الواسعة بطلائعها الواعية فكرياً وسياسياً وأداء نضالياً. لم تعترف لقوى الأمبريالية والصهيونية بحقها في استعبادها واستنزافها وسرقة خيراتها وإخضاعها، فإن المعركة مستمرة والصراع مستمر كذلك على كل المستويات وبشتى الإمكانيات المتوفرة أو التي يمكن توفيرها.
إن لبنان القطر العربي، الذي أصابه ويصيبه ما تتعرض له الأمة العربية كان مرآة انعكست عليها ردود الفعل القومية والوطنية التي صاحبت مرحلة تعرض العراق للعدوان الآثم. لكن ردود الفعل كان منها السلبي ومنها الإيجابي، منها المنهزم المتقوقع ، ومنها القومي الصادق، جاء في مقدمة ردات الفعل الإيجابية التعاطف الواسع الذي ظهر واضحاً في الأوساط الشعبية الواسعة، وفي أوساط المثقفين اللبنانيين والبعض القليل من القوى الوطنية وبعض الحركات الإسلامية.
فإذا كنا قد عالجنا احتمالات تطور الوضع في لبنان من زاوية المشروع الأميركي والقوى المرتبطة بعجلته، وهذا يمثل أحد خنادق الصراع، فلا بُدَّ، إذاً، من النظر إلى هذه الاحتمالات من زاوية الاتجاهات الوطنية والقومية، الخندق الآخر في الصراع.
ا- واقع الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية قبل الثاني من آب 1990:
مثلت الساحة اللبنانية قبل العام 1975 أرضية خصبة في احتضان الاتجاهات الوطنية والقومية، وإن هذه الاتجاهات قد أخذت تترجم وعيها النظري بمشاركة نضالية إلى جانب المقاومة الفلسطينية.
جاء هذا التطور على الساحة اللبنانية ليتجاوز الخط الأحمر الفكري ثم العملي للدوائر القطرية المغلقة التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
مؤشر الخطر هذا كان إنذاراً لأحفاد سايكس- بيكو لإطلاق شرارة المؤامرة على الساحة اللبنانية عندما عجز النظام اللبناني عن قمع هذه الاتجاهات. لذا اندلعت الحرب في لبنان منذ العام 1975، وكانت القوى المعادية تستهدف من إشعالها ضرب مؤشرين خطرين بنظرها: الفكر الوطني التحررى بأحزابه اللبنانية، ونزع البندقية الفلسطينية التي تستخدم في معركة تحرير فلسطين.
المشروع الأميركي عرّاب هذه الحرب، ولأنه كان يعتقد أن مصلحته تقتضي بأن يبقى وراء الستارء استخدم فيها وكلاء محليين وغير محليين، ولأن بعض وكلائه، بدخولهم المباشر، يضعون حلفاء أميركا من العرب في موقع الإحراج، كان الوكيل السوري، في لباسه التقدمي، "القومي " حليفاً مزعوماً للاتجاهات الوطنية والقومية، هو الوكيل الأهم الذي أُعطي الضؤ الأخضر للتدخل مباشرة في لبنان في ظل السكوت الصهيوني.
إن النظام السوري في لبنان، باستخدامه سياسة العصا والجزرة، استطاع في خلال ست سنوات من فرط عقد الحركة الوطنية اللبنانية بفعل العصا، وأن يشرذم فصائل منظمة التحرير افلسطينية. وهكذا استتب الأمر للنظام السوري الذي استمرأ طعم النجاح في دوره المكلف به مما جعله في موقع الثقة أمام الإدارة الأميركية، وفي دائرة التطمين للكيان الصهيوني، نجاحه هذا أعطاه فرصاً جديدة لالتزام عروض أخرى في دائرة المشاريع الأميركية، كان آخرها دخوله حلقة التحالف الدولي - العربي العدواني ضد العراق، وإطلاق يده حرة على الساحة اللبنانية.
استكان بعض أطراف الحركة الوطنية اللبنانية وأسلست القياد للنظام السوري بفعل انتهازية مكشوفة تارة وخوفاً من تصفيتها وقمعها جسدياً تارة أخرى، فأرتضت أن تحافظ على الشكل في هيكليتها وأفرغت نفسها من أي موقف سياسي فعلي يتناسب مع مبادئها المعلنة والمكتوبة، وأخذت تمارس التضليل في شعاراتها لجماهيرها وقوعدها، أي أنها أصبحت من التلامذة الناجحين في تقليد الأسلوب التضليلي للنظام السوري، بارتداء ثوب وطني قومي لم يختبيء تحته مشاريع معادية لتطلعات الأمة.
في مواجهة حملات القمع والتضليل التي قادها النظام السورى وأجهزته، أغرقت بعض أطراف الحركة الوطنية اللبنانية نفسها بالمصلحة الفئوية وتقوقعت في دائرة القطرية الضيقة على قاعدة طلب السلامة الجسدية، وهذا يمثل نجاحاً مهماً للمؤامرة، وهذا ما يفسر سكوت وتبرير هذه الأطراف عن تدمير المخيمات الفلسطينية في الشمال وبيروت. إن هذه الأصوات لم تقف، كذلك، بعد قرار حل الميليشيات موقفاً جدياً ضد طلب عدد من المسؤولين في السلطة اللبنانية بانتزاع البندقية الفلسطينية، وقد تناست هذه القوى أن للبندقية الفلسطينية دوراً نضالياً قومياً ساندتها وانخرطت معها لمرحلة ليست بالقصيرة ودفعت من أجل حمايتها دماً وعرقاً.
أطل العام 1990 في الوقت الذي تحولت فيه الساحة اللبنانية من أرضية خصبة بالاتجاهات الوطنية والقومية، ومن ساحة مشاركة في ساحة الصراع على المستوى القومي، إلى دائرة قطرية محاصرة، لعبت بعض القوى فيها دور المحرض ضد تلك الساحات والقضايا الساخنة على الرغم من التدخل الأمبريالي- الأميركي المباشر.
لكن على الرغم من كل هذا، فإن الساحة اللبنانية بجماهيرها الشعبية وقواها المثقفة، وشريحة عريضة من قواعد بعض الأحزاب الوطنية، لم تتحول إلى ساحة شعبية معادية لحركة النضال القومي، وإنما إذا صح التعبير، فإن بعض قيادات الأحزاب الوطنية اللبنانية أصبحت أنموذجاً نظامياً مصغراً تمارس التضليل على قواعدها، لتصبح مثيلاً مشابهاً للأنظمة العربية المرتبطة بالعجلة الاميركية التي تمارس التضليل على جماهيرها.
إذن، كان وضع بعض الأحزاب الوطنية اللبنانية في الوقت الذي كان يتعرض فيه القطر العراقي للعدوان الوحشي، في حال من التقوقع القطري الضيق، فكرياً وسياسياً، راضخة لعصا النظام السوري، قانعة بما تحققه من مكاسب السلامة الشخصية، داعية إلى مواقف سياسية على المستويين الوطني والقومي تصب في صالح المشروع الأميركي، لبناناً وعربياً.
2- واقع المقاومة الفلسطينية:
حينما وضعت القوى الأمبريالية- الصهيونية خطتها لضرب العراق في موقع التنفيذ، كانت فصائل المقاومة الفلسطينية منقسمة على نفسها بين مهادن للنظام السوري وبين مؤيد للعراق، لكن منذ أن بدأ الحصار الفعلي للعراق، وإعلان الرئيس صدام حسين مبادرته في 12 آب 1995، رابطاً فيها بين مشكلة الكويت وبين القضية الفلسطينية، شهدت الساحة الفلسطينية تحولاً إيجابياً، في مواقفها السياسية، فصائل وجماهير، حسمت فيه مواقفها السياسية إلى جانب القطر العراقي، وأبدت استعدادها لخوض المعركة ضد الأمبريالية والصهيونية من خندقه.
لعبت الفصائل والجماهير الفلسطينية في مخيمات لبنان عامة، وبشكل واسع في مخيمات الجنوب بشكل خاص، دوراً إيجابياً إلى جانب العراق في صموده.
بعيداً عن المواقف السياسية لفصائل المقاومة الفلسطينية حول العدوان الأميركي على العراق، تعاني هذه الفصائل وضعاً ذاتياً على الساحة اللبنانية وإرباكاً على هذه الساحة في مواجهة المرحلة القادمة، خاصة ، تحديات ما هو مطروح من حلول للساحة اللبنانية تعتبر الثورة الفلسطينية جزءاً أساسياً فيه، وما هو مطروح حتى الآن هو العودة بهذه الثورة إلى مرحلة ما قبل 1968، مجردة من السلاح ممنوعة من القيام بأي عمل عسكري، يتساوى في مواجهة هذه التحديات الفصانل الحليفة للنظام السوري والواقعة في الخندق المناقض له.
3- الواقع الجماهيري الوطني/ القومي/ الإسلامي في لبنان:
إذا كان من نظرة للاعجاب يمكن أن يسجلها المتابع للواقع الجماهيري على الساحة اللبنانية، فإنما تكمن في التأييد الواسع الذي أظهرته هذه الجماهير للقطر العراقي، ولم يعرف هذا التأييد الجماهيري حدوداً أو تصنيفات سياسية أو دينية، وإنما كان شاملاً لكل قطاعات الشعب اللبناني، بخنادقها السياسية المختلفة وخنادقها الدينية والمذهبية، وفي كل المناطق الإدارية، سواء تلك المعتقلة تحت حراب الكيان الصهيوني أو النظام السوري، أو حراب هذه أو تلك من الميليشيات اللبنانية.
لقد جاء هذا التأييد الشعبي الكبير ليعبر عن نفسه في حالة وجدانية قومية بارزة في حماسها، سابقة في خطوتها كل المواقف السياسية للتنظيمات، والتي قد تكون أحدثت تأثيراً أو ضغطاً على هذه التنظيمات باتخاذ مواقف مؤيدة للعراق بخجل ومستنكرة للعدوان الأمبريالي- الأميركي.
جاءت مواقف بعض التنظيمات والأحزاب وكأنها تحاول الالتفاف على المواقف الجماهيرية لركوب موجتها للاستفادة منها، لكن هذه المواقف الخجولة للتنظيمات لم تدم طويلاً لأنها خضعت لابتزاز النظام السوري، وتراجعت بفعل القمع الذي انصب على تقييدها واحتوائها كمرحلة أولى، ثم تغيير اتجاهاتها إلى دائرة الهجوم على العراق متناسية ما تمثله القدرات العراقية من ثقل وأهمية في معركة الأمة العربية ضد الأمبريالية والصهيونية.
يأتي في هذا السياق، وبالدرجة من الأهمية، ضرورة دراسة الخطاب السياسي لبعض التنظيمات والأحزاب اللبنانية خاصة تلك التي تنتمي إلى الخط الوطني والقومي التحرري. ولأن في هذا ما يلفت النظر وبما يحتوي عليه من تناقضات مع المبادىء الفكرية والسياسية الثابتة في نهجها الفكري الإيديولوجي. ومن أهم هذه التناقضات تأتي مسألة محاولة التوفيق والتزاوج بين القطرية التفتيتيه وبين القضايا القومية الوحدوية، ومحاولة التزاوج بين محاربة الأمبريالية والصهيونية والوقوف في خندقهما، ومحاولة التزاوج بين الرجعية العربية وحركات التحرر التقدمي.
إن الحركة الجماهيرية، مهما بلغت من القوة والتأثير بحسها الوطني والقومي، قد تصل في مرحلة ما إلى الوقوف لحظة من التشكك في معتقداتها، وإذا كانت المنابر الإعلامية المهيمن عليها مجمعة على موقف واحد من التزوير والتبرير وتزويج المتناقضات، وقد أحدثت هذه الحملة الإعلامية المسعورة المزورة للحقائق إرباكاً واضحاً بعد أن وضعت المعارك العسكرية أوزارها في قناعات الجماهير المتولدة عن إحساسها ووجدانها القومي، خاصة وأن القطر العراقي لم يترك له أي متنفس يقدم فيه معطى يجعل الجماهير تخرج فيه من نفق الهزيمة النفسية التي تقبع فيه منذ العام 1948.
تشهد الحالة الجماهيرية، في هذه المرحلة، تحديداً، حالة من التراجع والاحباط قد يدفعها إلى شعور جديد بالهزيمة، خاصة وأن وسائل الإعلام الأمبريالية أصبحت اخطبوطاً مسيطراً حتى على الإعلام العربي واللبناني، بما فيه من كان يمكن أن يشكل محطة استراحة ترفع عن آذان الجماهير وقلوبها بعض العبء الذي يحدثه القصف الإعلامي المتواصل والمخطط والمسيطر.
لكن على الرغم من كل ذلك، وإذا صح أن نصنف دائرة المثقفين ذوي الاتجاهات الوطنية والقومية في دائرة الجماهير، نجد أن شريحة واسعة من هؤلاء تعمل للدفاع عن الثوابت الوطنية والقومية في الصراع بين الأمبريالية والصهيونية وحلفائها من التابعين والرجعيين وبين قوى التحرر الوطني والقومي.
4- الدور النظامين السوري واللبناني على الساحة اللبنانية:
أصبح واضحاً أن الاتجاهات السياسية للنظام السوري التي تحدد دوره في لبنان تتوافق مع المشروع الأميركي، كذلك الاتجاهات السياسية للنظام اللبناني تتوافق أو تحاول التوفيق ما بين خضوعها للإرادة السورية وبين خضوعها للمشروع الأميركي.
الواقع، إذاً، أن السلطة السياسية والأمنية لكل من النظامين السوري واللبناني تقوم بتنفيذ أدوار مرسومة لهما من قبل المشروع الأميركي، وهي، بالفعل، تنفذ بدقة ما يطلب منها كما أثبتت التجربة، وكما تثبت صلاحيتها حتى الآن في أمانتها وولائها لأسيادها.
لقد لعب النظامان دوراً مهماً في مرحلة العدوان الآثم على العراق، فإذا استثنينا دور النظام السوري على الصعيد العربي، فإنما الإشارة إلى دوره على الساحة اللبنانية يأتي في درجة من الأهمية لما استطاع أن يحققه في كبت صوت الوجدان القومي والوطني الذي ارتفع على هذه الساحة بشكل بارز، سواء كان القمع مصلتاً على رؤوس التنظيمات التي رأت في صمود العراق حربة أساسية في مجرى الصراع العربي- الأمبريالي الصهيوني، أو على منع أو قمع أية تحركات شعبية، بالتظاهرة أو البيان أو الاعتصام، في مناطق هيمنته أو في المناطق الخارجة عن سلطة وجوده المباشر.
وفي إطار آخر، عمل النظامان معاً، وبتوسل من الإدارة الأميركية على حماية حدود الكيان الصهيوني، عندما اتخذ قرار بانتشار الجيش اللبناني في الجنوب بعد انكفائه عنه منذ ستة عشر عاماً، وكانت السرعة في اتخاذ القرار ثم تنفيذه ضرورية لمنع قيام أية عمليات عسكرية ضد الكيان الصهيوني لكي لا تتحرك جبهة عسكرية أخرى تشكل متنفساً للعراق، أو تكون دافعاً لمشاركة العدو الصهيوني في المعركة بشكل مباشر وسافر، لما لهذا الاشتراك من إحراج وإرباك لقوى التحالف العدواني على العراق.
يأتي في رأس الأهداف التي رسمها المشروع الأميركي، والتي تتوسل منع إرباكه في عدوانه، هدفان هما: الأول قمع أية ردات فعل شعبية عربية تستنكر عدوانه أو تضرب مصالحه ومصالح حلفائه. أما الثاني فيستهدف منع الكيان الصهيوني من المشاركة المباشرة في العدوان، على قاعدة منع أي عمل يشكل استفزازاً له. وهذا العمل قد يأتي من البوابة اللبنانية بشكل أساسي. وهذان الهدفان استطاع النظام السوري بمشاركة من النظام اللبناني في انجاحهما بكفاءة وإخلاص.
إن ما نفذه النظام السوري بغطاء من النظام اللبناني، إنما كان التزاماً يهدف النظامان من ورائه الحصول على مكاسب وأثمان، ومنها:
أ- مساهمة النظام السوري في القضاء على الثورة في القطر العراقي التي تقف حجر عثرة في وجه مخططاته.
ب- تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بالاحتلال الصهيوني لكل من الجولان وجنوب لبنان، استناداً إلى وعود أميركية في تطبيقها، فهل يلتزم الأميركيون بوعودهم؟
إننا، وفي تقديرنا، ومن خلال التجربة المرة مع المصداقية الأميركية، ولارتباط المصالح الأميركية بالمصالح الصهيونية استراتيجياً، نشك تماماً بمصداقية هذه الوعود، ويأتي تصنيفها في خانة الأوهام والسراب الذي لا بد للحقيقة المرة عندما تظهر ان تصفع هذين النظامين، كما أنه في أسوأ الأحوال التي قد تبرهن فيه الإدارة الأميركية عن مصداقية معينة، فإن تنفيذ هذه القرارات لن يصب سوى في مصلحة المشروع الصهيوني.
إن هذه الإحتمالات سرف تبرز إشكالاً حقيقياً في وجه القوى والتنظيمات اللبنانية التي ساندت النظام السوري ودعمت مواقفه السياسية، عندما يبرز رهانها خاسراً، على المستويين القومي والوطني. وإنها مهما تمتعت بمقدرة على تزوير الحقائق كما فعلت في أثناء العدوان فإنها، بفعل الوعي الشعبي، لن تستطيع الاستمرار في طمس الحقائق.
خامساً: التحديات والمهمات التي سوف تواجه القوى ذات التأثير الوطني/ القومي في لبنان.
جاء استعراضنا للواقع السائد على الساحة اللبنانية عاملاً مساعداً لتحليل الاستنتاجات، وتحديد التحديات والاشكالات التي سوف تواجه القوى والتنظيمات الوطنية والقومية ذات الاتجاهات الجذرية ، لتساهم في تحديد المهمات المستقبلية التي سوف تضطلع بها.
نرى، في معرض تحليلنا لاحتمالات تطور الأوضاع في لبنان من زاوية الاتجاهات الوطنية والقومية الجذرية، أن نعالج النقاط التالية:
ا- تشخيص الواقع الراهن للقوى والتنظيمات الوطنية والقومية.
2- القضايا والتحديات التي تواجه هذه القوى على الصعيدين الوطني والقومي.
ا- تشخيص الواقع الراهن للقوى والتنظيمات الوطنية والقومية في لبنان:
إذا كنا قد وصفنا في فقرات سابقة الواقع الميداني والسياسي للقوى والتنظيمات الوطنية والقومية في لبنان بنتائجها الراهنة ويكون بعضها قد ارتضى أن يكون في معتقل النظام المخابراتي السوري، لكننا في هذا السياق سوف نقوم بتشخيص الأسباب التي دفعت هذه القوى إلى ارتضاء تكبيل نفسها بمثل هذه القيود التي تغل أيديها.
بالعودة إلى تصنيف الاتجاهات الفكرية للقوى والتنظيمات اللبنانية، قد يهدينا إلى تشخيص أفضل وأكثر دقة.
عرفت الساحة اللبنانية منذ الخمسينات من القرن العشرين حركة ناشطة من التيارات الوطنية والقومية الفكرية، وقد تميزت تلك المرحلة، بعد تكوين الاتجاهات الفكرية، إلى تأسيس حركات منظمة تتخذ لنفسها اتجاهات فكرية وطنية يغلب على بعضها الاتجاهات السياسية المنغلقة على ذاتها وانحصرت اهتماماتها وأهدافها بالجوانب السياسية اللبنانية، كما وضعت في برامجها التغييرات السياسية والاجتماعية التي تخدم هذه الأهداف، ويغلب على بعضها الآخر الاتجاهات الأممية التي قفزت فوق الهموم القومية وتجاوزتها.
في الجانب الآخر نشأت حركات قومية بعضها استند إلى اتجاهات فكرية وإيديولوجية على قاعدة الدعوة القومية الوحدوية سياسياً، وبعضها الآخر انطلق من الاهتمام بقضية قطرية عمل على دعمها بالدعوة إلى احتضانها قومياً. والبعض الثالث كانت قاعدة انطلاقه من اتجاهات سياسية عملت على تحصين نفسها بالدعوة الوحدوية القومية.
لكن ما أن شارفت الستينات من القرن العشرين على نهايتها حتى كانت تحولات فكرية وسياسية وتنظيمية قد أخذت تظهر على الاتجاهات الوطنية من جهة والاتجاهات القومية من جهة أخرى. قبل أن نقوم بتشخيص هذه التحولات لا بُدَّ من الإشارة إلى التغييرات الميدانية التي حصلت على الأرض اللبنانية التي احتضنت القضية الفلسطينية كقضية قومية، والى ازدياد مستوى القمع ضد الوطنيين والقوميين الذي أخذت تمارسه الأجهزة الأمنية اللبنانية، وهذا قد شكل تحدٍّ للتنظيمات الوطنية وقواها.
إن نقاط التماس المباشرة بين القضية الوطنية اللبنانية والقضية الفلسطينية كقضية قومية، أخذت تؤثر وتحفر خندقاً نضالياً لها في داخل التنظيمات الوطنية اللبنانية ومنها ذات الاتجاهات الاممية. كان من نتائج التفاعل بين الفكر الوطني وضرورة احتضان القضايا القومية أن أخذت تترجم نفسها على الاتجاهات الفكرية والسياسية لتلك التنظيمات في بناء مؤسسات يغلب عليها النضال في سبيل الهموم المشتركة.
في المقابل، أخذت التيارات القومية طريقها باتجاه تحولات، حافظ بعضها على اتجاهاته الفكرية والإيديولوجية والنضالية ذات الطابع القومي الوحدوي على الرغم من الشروخ التنظيمية التي حصلت في داخلها، وبعضها الآخر قد حل نفسه لكنه انخرط في تيارات أممية. أما البعض الثالث الذي بنى فكره القومي انطلاقاً من حاجات سياسية فقد أصابته الشرذمة إلى حركات متعددة متنافسة.
استناداً إلى التحولات الفكرية التي حصلت، والى بعض الشرذمة التي شقت طريقها في داخل التيارات القومية على الساحة اللبنانية، إلا أن الخندق النضالي الواحد الذي نبت من وقائع الساحة اللبنانية للدفاع عن القضية الفلسطينية وثورتها كان له الأثر الفعال في توحيد الجهود باتجاهات وحدوية سياسية، لم ترتق حتى أواخر العقد السابع من القرن العشرين إلى مستوى الفكر الوحدوي.
إذا كان الفكر الوحدوي، إيديولوجياً وسياسياً، هو الضرورة لتحصين الخندق النضالي الواحد، فإن مجريات المؤامرة على الساحة اللبنانية، قد أنضجت وجود تيارات تفتيتيه لكنها في هذه المرة ترتدي ثوب الدين والمذهبية، هذه التيارات وقفت في خندق المؤامرة لتطرح فكراً مذهبياً عمل على منع اللقاء الفكري الوحدوي للتيارات الوطنية والقومية.
ما حصل، هو أنه قبل أن تعكس وحدة الخندق النضالي نفسها على بناء تيار فكري وحدوي، عملت المؤامرة على تمزيق الصف النضالي الواحد لمنعه من أن يأخذ وقته الكافي لبناء فكري يستطيع الصمود في وجه القوى المعادية.
كانت النتائج التي حصدتها المؤامرة في إحداث شرخ مهم في التجربة النضالية الوحدوية على الساحة اللبنانية، ومنها أصبح الطريق سالكاً أمام المؤامرة لتنفيذ ما أُوكل إليها من مهمات وأهداف عسكرية وأمنية وسياسية، ومن هنا اجتاحت المؤامرة المخيمات الفلسطينية وحصل التزوير الوطني والقومي في مساعدة العدوان الآثم على العراق، وقد يتم تمرير أهداف أخرى في ظل غياب مرجعية الفكر القومي الوحدوي كفكر موجه لمسار العمل السياسي.
من الدلائل على خطورة تصفية مرجعية الفكر الوحدوي، ما حصل ويحصل من تزوير فاضح ومكشوف، تحت ظل صمت وسكوت بل ومساعدة بعض التنظيمات الوطنية القطرية، حول ما دار من أعمال تصفية ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان تحت شعار حماية القضية الفلسطينية، والوقوف في الخندق الأمبريالي تحت شعار مقاومة الأمبريالية، والصمت عن حماية الكيان الصهيوني تحت شعار مقاومة الصهيونية، والدفاع عن الرجعية العربية في الوقوف خلف متراسها العدواني ضد العراق تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية.
تأتي هذه الدلائل لتؤكد أنه إذا افتقدت البوصلة الفكرية، تحديداً الفكر القومي الوحدوي، فإن الاتجاهات السياسية سوف تصبح مضللة وتائهة؛ وقد تجرها رياح القوى المعادية إلى مينائها لتسهم في حمايته في الوقت الذي تظن نفسها فيه أنها تفتش عن هذا الميناء لضربه وتدميره، وهذا ما هو حاصل فعلاً على الساحة اللبنانية وهذا هو الواقع الذي تعيش فيه أكثرية من التنظيمات الوطنية اللبنانية.
استناداً إلى هذا التشخيص، هل نظن أن الأمور قد تظل ثابتة على ما هو عليه الواقع الآن؟ إننا نعتقد أن سياق مجريات الأوضاع التي سوف تنجز بإرشاد من المشروع الأميركي وركائزه داخل النظام اللبناني، سوف تكشف الكثير من الأوهام، التي انساقت إليها تلك الأطراف الوطنية؛ هذه الأوهام استندت إلى استسلام للأمر الواقع، وتغلبت فيه المصلحة الفئوية على الحالة النضالية في سبيل المبادىء. فهي لذلك، سوف تجد نفسها من جديد في مواجهة تحديات وإشكاليات حتى على صعيد الساحة السياسية القطرية، وهذا ما سوف نتعرض إلى تحليله في الفقرة التالية.
2- القضايا والتحديات التي تواجه القوى والتنظيمات على الصعيدين الوطني والقومي في لبنان.
إننا نعتقد أنه بالإمكان الفصل بين القوة المنظمة والحزبية وبين الجماهير التي لم تؤطر نفسها داخل التنظيمات، وإذا اعتقدنا أن الاوساط الوطنية والقومية المثقفة، هي جزء من الجماهير. وإذا كانت المواقف الفكرية والسياسية لتلك القوى المنظمة متخلفة عن ملامسة أهداف المؤامرة التي تنفذ ضد الأمة العربية، وفي طليعتها القطر العراقي والقضية الفلسطينية، وكانت متخلفة كذلك بمواقفها الفكرية والعملية والنضالية عن مواقف الجماهير بوجدانها وبحسها القومي وطموحاتها في أن تلعب دورها القومي في المشاركة القومية.
من ايماننا بصحة اعتقادنا هذا، نرى أن التحدي الأساسي الزي سوف يواجه القوى المنظمة والأحزاب الوطنية والقومية اللبنانية، التفتيش عن مخارج تستطع فيه هذه القوى والأحزاب اللحاق بالجماهير لتقصير المسافات بين طموحات الجماهير ومواقفها القومية وبين مواقف القوى والأحزاب.
وحيث أن طموحات الجماهير، كما أثبتتها المواقف القومية المعلنة، كانت واضحة في تأييدها لمشاركة العراق في صد الأعتداء الأمبريالي- الصهيوني عنه، فإن بعض القوى والأحزاب الوطنية اللبنانية لن تستطيع إغفال ما أغفلته من ضرورة اعتناق وممارسة الفكر القومي الوحدوي، وهذه الإشكالية الفكرية سوف تسم المرحلة القادمة بطابعها واهتماماتها.
لكن التحدي الفكري القومي الوحدوى لن يأتي من حاجة فكرية مجردة، وإنما سوف يساعد على طرح هذا التحدي الأساسي بالحاح ما سوف يصفع بشدة أوهام وآمال تلك القوى التي راهنت على الحصول على مكاسب سياسية، داخلياً وقومياً.

ما هي التحديات المرتقبة في المراحل اللاحقة؟

إن هذه التحديات سوف تكون على مستويين: وطني وقومي.
أ- التحديات على المستوى القومي:
في دائرة الصراع العربي- الأمبريالي/ الصهيوني، لا بُدَّ من استعادة بعض الحقائق الأساسية التي تتحكم في مجريات هذا الصراع، قبل هذه المرحلة، وفي أثنائها:
كان المخطط الأمبريالي/ الصهيوني، بتكامل دوريهما القائمين على التناوب بينهما لاستغلال طاقات الأمة العربية، هو مخطط استراتيجي، إن كان من حيث أهدافه، أو من حيث العلاقة بين الأمبريالية والصهيونية.
* إن هذا المخطط قائم على فلسفة سايكس- بيكو وإفرازاتها اللاحقة، كاتفاقية كامب ديفيد واتفاق 17 أيار عام 1983 واتفاقية الجولان عام1974. هذه الفلسفة لا تزال مستمرة في محتواها التقسيمي والتفتيتي، يعمل على تنفيذه على قاعدة التناوب والتكامل كل من الاستعمارين: الاقتصادي والاستيطاني.
* إن الصراع على المصالح العالمية الذي كان سائداً بين القوتين العظيمين: الاتحاد السوفياتي وأميركا، كان يؤمن للأمة العربية، إلى حد ما، التوازن في الصراع بينها وبين الأمبريالية. لكن في الوقت الذي استطاع فيه المخطط الدولي الأميركي/ الصهيوني أن ينجح في تمزيق الأوصال الديموغرافية والسياسية والاقتصادية للاتحاد السوفياتي، إختل التوازن الدولي لصالح ذلك المخطط، وبالتالي أصاب الأمة العربية بسلبياته.
إذا كان المخطط الأميركي/ الصهيوني قد استطاع أن يخترق الصف العربي، باحتوائه للنظامين: المصري والسوري بما يمثلانه من أهمية استراتيجية، بشرياً وعسكرياً وسياسياً، وتتبين خطورة هذا الاحتواء إذا ما أُضيفت تلك الأهمية إلى الثقل الاقتصادي المهم لدول النفط الخليجية التي تمثل حالة ارتماء متكامل في أحضان الأمبريالية الأميركية.
إذا كان الصراع الفكري/ السياسي/ الاقتصادي بين الأمة وأعدائها هو المحور الأساسي، فإن الصراع العسكري المستمر بينهما هو الوجه المكمل يلجأ إليه أعداء الأمة لحرمانها من متاريسها العسكرية كلما شعروا أن هذه المتاريس قد تجاوزت الحدود المسموح بها.
أما فقدان التوازن السياسي/ العسكري، بوجهيه الدولي والعربي/ النظامي، الذي اتجه لصالح المخطط الأمبريالي/ الصهيوني فهو ليس شيئاً جديداً إذا ما قيست الحالة الراهنة بالمراحل السابقة. وإنما السلبية فيه هو أن الأمة قد فقدت في العراق إمكانيات كانت تصلِّب مواقفها، وتدعمها بشكل أساسي. لكن انحياز الميزان لصالح القوى المعادية لن تكون نتائجه بعد إضعاف الإمكانيات العراقية إلا تأخيراً زمنياً في بلوغ الأمة أهدافها ولن يكون تأخيراً نوعياً، لماذا؟
عندما حددت الأمة، بطلائعها الفكرية الثورية، أهدافها واستراتيجيتها، إنما تعتقد أن التحدي الأساسي الذي يواجهها هو التحدي الفكري/ الإيديولوجي، أما استراتيجيتها لتحقيق الانتصار في معركة التحدي إنما تنصب باتجاه تثوير الجماهير فكرياً وإيديولوجياً، التي إن لجأت إلى استخدام الجانب العسكري في معركة التحدي الفكري/ الإيديولوجي فإنما يكون استخدامها أو لجوؤها إلى هذا الجانب بوعي متوج بأصرار وإرادة متكاملتين.
لهذا تأتي العوامل الأخرى، التي تتمثل بالإمكانيات الدولية الصديقة والإمكانيات النظامية العربية، إذا توفرت، مساعدة لتسريع الخطى باتجاه التغيير المنشود، لكن إذا افتقدت هذه الإمكانيات، وهي كانت مفقودة في النصف الأول من هذا القرن، لن تؤثر على القناعة المطلقة بمتابعة معركة الصراع مع الأمبريالية.
فإذا كانت المعركة بين الأمة وبين الأمبريالية معركة فكرية/ إيديولوجية/ حضارية/ سياسية، فإننا نرى أن التحديات التي تواجه الأمة تتمثل بما يلي:
تواجه الأمة العربية، في هذه المرحلة كما في المراحل السابقة، تحدياً نابعاً من الأطماع الاستعمارية في الموارد الاقتصادية لهذه الأمة وفي موقعها الجغرافي الاستراتيجي. فهي قاعدة اقتصادية، للمواد الخام وأهمها النفط أولاً ولأنها تشكِّل سوقاً استهلاكية واسعة ثانياً، وهي قاعدة أساسية منها تستطيع أميركا الاستقرار فيها لمواجهة أي خطر سوفياتي.
كانت الأمبريالية الأميركية، بعد أن ورثت الأمبريالية الأوروبية، تسيطر على المنطقة العربية، بطريقتين: مباشرة من خلال الكيان الصهيوني المحاط بأنظمة عربية ضعيفة، وغير مباشر من خلال الأنظمة العربية المرتبطة بها.
في هذه المرحلة، دخلت الجيوش الأميركية مباشرة إلى المنطقة وفي نفسها البقاء طويلاً فيها، وتؤكد على أن حضورها المباشر هو استراتيجية جديدة ثابتة قائمة على مشروعين تعمل على تنفيذهما:
* الأول من خلال بناء نظام أمني إقليمي يعتمد على منظومة من الدول العربية الموالية لأميركا وللغرب، تساندها إمكانيات عسكرية أميركية جوية وبحرية، مع الأحتفاظ بترسانة من الأسلحة.
* الثاني من خلال بناء نظام أمني عالمي يشارك فيه الأوروبيون مشاركة رمزية، من مهماته الأساسية حراسة الأمن الاقتصادي لدولها والأمن العسكري للمناطق الخاضعة لنفوذها، ولمنع قيام أية حركات معادية لها، سواء على مستوى الأنظمة أو على مستوى الحركات الفكرية أو السياسية أو الشعبية التحررية.
فعلى المستوى القومي، يبرز تحديان أساسيان:
الأول: بقاء الكيان الصهيوني، جسماً غريباً في المنطقة العربية وعنصراً دائماً هدفه فرض التمزق الجغرافي والسياسي على الأمة، وفرض التفتت الفكري والإيديولوجي على حركاتها التحررية. أما ترجمة ذلك على أرض الواقع القطري فتتم في منع إيجاد حل عادل للقضية افلسطينية أولاً، وفرض معاهدات أمنية على دول الجوار العربي تكبلها وترتهن قرارها ثانياً، وفي منع قيام أنظمة عربية ذات اتجاهات قومية/ وحدوية تمتلك السلاح الاستراتيجي ثالثاً.
الثاني: التواجد العسكري الأميركي المباشر في المنطقة بدعم من حلفائه الأوروبيين، الذي يترجم نفسه بأهداف معلنة واضحة وهي المحافظة على أمن النفط أولاً، وعلى الاحتفاظ بديمومة الأنظمة العربية الموالية لها وضرب القواعد التحررية في الأنظمة والحركات، ثانياً.
إن شعارات قوى التحرر حددت أعداء الأمة بالأمبريالية والصهيونية والرجعية، وكانت واجهة الصراع منصبة بشكل مباشر على مقاتلة العدو الصهيوني، فاذا بالأمبريالية تصبح في المواجهة المباشرة.
فالتحديات النظرية لم تتغير مضموناً، لكن التحديات العملية أضافت أعباء جديدة على حركات التحرر في الأمة العربية. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الحركات تراهن على إسقاط الكيان الصهيوني كخطوة أساسية على طريق إسقاط الهيمنة الأميركية، سوف تتغير المعادلة في هذه المرحلة إلى مرحلة المواجهة ضد الأصيل والوكيل معاً.
هذان التحديان الأساسيان يستندان في تعزيز قدراتهما في البقاء بشكل مباشر أو غير مباشر على مجموعة من الأنظمة العربية المرتبطة كلياً بهما، حيث يتبادل الطرفان عوامل تعزيز وجودهما. فالأمبريالية والصهيونية تدعم هذه الأنظمة بأسباب البقاء، لأنها ترفدها بالإمكانيات المادية والأمنية. والأنظمة، تلك، تدعمهما بتوفير كل ما يلزم لبقائهما عسكرياً واقتصادياً، ذلك، لقمع الحركات الثورية سياسياً وأمنياً، وتقديم التسهيلات السياسية والعسكرية لهاتين القوتين المعاديتين.
لا بُدَّ، في مثل هذه الحالة، أمام الحركات التحررية التي تقف في خندق مواجهة الأمبريالية والصهيونية، من أن تواجه تحدياً آخر، الذي ليس سوى تلك الأنظمة العربية التي تشكل عامل إسناد حقيقي للتحديين الأساسيين المزروعين في المنطقة العربية.
ب- التحديات على المستوى الوطني في لبنان:
إن التحديات التي تواجه القوى والحركات والأحزاب مثل الاحتلال الأميركي المباشر لمنطقة الخليج والاحتلال لأرض فلسطين، تطال كل حركات التحرر العربية حتى منها التي تتبنى اتجاهات وطنية/ قطرية بسبب الانعكاسات السياسية لهذه التحديات على وضع الأنظمة القطرية.
تأتي التحديات على المستوى القومي لتنعكس مباشرة على الساحة اللبنانية بمقدار أكبر من انعكاساته على أية ساحة عربية أخرى للأسباب التالية:
- أهمية الساحة اللبنانية في داخل المشروع الأمبريالي/ الصهيوني كمقر للأجهزة المخابراتية الأميركية وللأجهزة الإعلامية لتسويق اتجاهاتها السياسية.
- أهميتها، كذلك، القائمة على ترابط القضية الفلسطينية مع القضية اللبنانية في أكثر من جانب، يأتي على رأسها الاطماع الصهيونية في مياه لبنان واحتلال جزء من أرضه.
إذا لم تكن التحديات القومية تحمل حوافز كافية للقوى الوطنية اللبنانية للانخراط في خندقها النضالي، بينما مشاريعها السياسية تؤكد على وجود هذه الحوافز، إنما انعكاسات هذه التحديات على الساحة اللبنانية هي أكثر من واضحة.
إن العودة إلى استقراء المواقف الراهنة لهذه القوى التي رهنت قرارها للنظام السوري تؤشر إلى أن هذه المواقف كانت استسلاماً لحملة الضغط التي مورست عليها. فالأهداف السياسية لهذه القوى والأحزاب قائمة على ثوابت يعتبر التنازل عنها إلغاء لتلك الأهداف الذي هو إلغاء لمبرر وجودها.
إن الثوابت السياسية في أهداف القوى والأحزاب الوطنية اللبنانية هي التالية:
* النضال ضد الأمبريالية بشكل عام والأميركية منها بشكل خاص.
* النضال ضد الصهيونية وضد اغتصابها للأرض الفلسطينية.
* النضال ضد الرجعية العربية وتصنيف موقعها داخل دائرة التحالف مع الأمبريالية.
* النضال ضد الأنظمة العربية المرتبطة بالمشروع الأمبريالي.
* النضال في سبيل الديمقراطية، وضد الأنظمة الديكتاتورية واجهزتها القمعية.
* النضال في سبيل بناء أنظمة تحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في حدها الأدنى وفي سبيل تطبيق النهج الاشتراكي كحد أقصى.
بالعودة إلى أسلوب المقارنة بين الأهداف السياسية/ النظرية لهذه القوى والأحزاب مع مستوى التطبيق الذي تمارسه في هذه الظروف لوجدنا مفارقات غريبة تفصل ما بين النظرية والتطبيق، وسوف نحاول أن نحدد هذه المفارقات في عناوينها الرئيسة، حيث لا يمكن التوفيق بين المتناقضات التالية:
-بين موقف النضال ضد الأمبريالية الأميركية، والسكوت عن احتلالها لجزء من الارض العربية وممارسة الاعتداء ضد العراق، وقد تخطت مواقف بعض الأحزاب حدود السكوت إلى حدود التبرير للعدوان الأميركي وإدانة القطر العربي الذي يتعرض لهذا العدوان، واتخاذ الموقف السياسي ذاته الذي اتخذته الأنظمة المرتبطة بالأمبريالية بمعاهدات استسلامية مع الصهيونية.
- بين موقف النضال ضد الصهيونية وضد اغتصابها لأرض فلسطين، وبين السكوت عن تدمير المخيمات الفلسطينية في لبنان، بل وأحياناً التواطؤ على تدميرها. كذلك بين تحرير الأرض اللبنانية المحتلة وبين اتجاهات النظام اللبناني الحالي إلى حماية العدو المحتل من عمليات المقاومة تحت ذريعة تحرير الأرض بالوسائل الديبلوماسية يكون فيها الحَكَم أميركياً ليصبح فيه الخصم والحكم.
- بين موقف النضال ضد الرجعية العربية وبين الوقوف في خندق التبرير لها عندما استعانت بالقوات الأمبريالية الأميركية المطعمة حكماً بقوات صهيونية لممارسة العدوان ضد قطر عربي يقف في الخط المعادي للأمبريالية والرجعية معاً.
-بين موقف النضال في سبيل الديمقراطية، وبين ارتهانها لأنظمة تمارس القمع على شعبها وعلى شعب عربي آخر، مع تأييدها اللامحدود للنظام اللبناني الحالي الذي يبني مؤسساته الأمنية لكي تنفذ الأهداف الأمبريالية والمؤهلة لأن تلعب دور القمع ضد الاتجاهات الوطنية والقومية.
-بين الدعوة إلى بناء أنظمة تحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وبين التأييد اللامحدود لنظام يقوم في تركيبته على الولاء لمصالح الطبقات الرأسمالية والمرتبطة بالاجنبي.
استناداً إلى استحالة التوفيق بين هذه المتناقضات، سوف تواجه بعض القوى والأحزاب الوطنية بالتحدي الفكري/ السياسي أمام جماهيرها وقواعدها، لأنها مضطرة إلى تقديم التفسير لمواقفها المتناقضة مع أهدافها.
إذا كانت، هذه الجماهير والقواعد ساكتة اليوم عن القيام بأي حساب ضد هذه المواقف لظروف أمنية قمعية استثنائية، فإن جردة الحساب تلك لن تبقى نائمة وإنما سوف تبرزها الجماهير الواسعة عندما تستعيد ذاتها وتخرج من دوامة الحرب العبثية، حينذاك يبدأ الاستحقاق الأهم، وهو التحدي الأساسي، الذي بناء على خياراته تتحدد النتائج: إما الاستمرار على المواقف المتناقضة، أو العودة إلى العلاقة المنطقية بين النظرية والتطبيق، مقدمتان تعطي أحدى نتيجتين : أما سقوط القوى والأحزاب التي تصر على مواقفها المتناقضة، وإما أن تستعيد هذه الأحزاب صحوتها لتشكل خطوة أولى على طريق استعادة صفائها النضالي في تحديد الأهداف المبدأية، ورسم المواقف السياسية الصحيحة للنضال في سبيل تحقيق هذه الأهداف.
إن المرحلة القادمة، في تقديرنا، سوف تحمل صحوة للقوى والأحزاب تؤدي إلى التراجع عن مواقفها التكتيكية، السابقة والحالية، لسببين هما:
الأول: إن من يتوهم من تلك القوى والأحزاب بأن مسيرة المرحلة القادمة سوف تحقق الأهداف المبدأية أو بعضاً منها سوف يصطدم بأن النظام السياسي/ الأمني/ العسكري الراهن، يتم بناؤه لتحقيق مصالح كل من الأمبريالية وحماية الكيان الصهيوني ومحاربة الاتجاهات التقدمية لتصب في خدمة الأنظمة الرجعية والموالية للأمبريالية. ولن تكون الأهداف الوطنية السياسية/ الاجتماعية/ الاقتصادية إلا النقيض الفعلي لأهداف النظام الحالي. ساعتئذ قد تولغ القيادات المركزية لهذه الأحزاب في مراهناتها للحصول على حصة في البنيان الإداري لهذا النظام، ولأن هذه الحصة لا يمكن الاستفادة منها إلا على مستوى الأشخاص ولن تتحقق فيها مصالح القواعد الحزبية أو الجماهيرية، وهذا بحد ذاته سقوط للقيادات وفاتحة للتغيير في قياداتها وعودة هذه الأحزاب إلى صفائها النظري والتطبيقي.
الثاني: بعض القوى والأحزاب، على مستوى بعض القادة وبعض القواعد تواجه التحديات النضالية المطروحة، عند اتهامها بالتقصير النضالي، بأنها لا تستطيع الوقوع في تجربة المغامرة، لأنها قد تكون قاتلة لها إذا تجرأت ووقفت في خندق المواجهة لقوى الأمر الواقع الإقليمية وادواتها المحلية.
ولأن إحتمالات المرحلة القادهة سوف تشهد انحساراً للفلتان القمعي/ الأمني/ الاقليمي/ المحلي، ولأن اتجاهات المشروع الأمبريالي القادم تعمل على تنظيم القمع الأمني وتشريعه وحصره بأيدي النظام اللبناني القائم بعد إسقاطه للعوامل الإقليمية المباشرة والعوامل المحلية الفالتة، سوف تنتهي الذريعة التي يتلطى بها حالياً بعض القوى والأحزاب سبباً لرهن مواقفهم السياسية على حساب أهدافهم المبدأية.
إذا كانت التحديات التي تواجه القوى والأحزاب الوطنية اللبنانية أصبحت واضحة المعالم على الصعيدين القومي والوطني بشكل عام، فإننا نعتقد ان التحديات على المستوى الوطني الخاص تتحدد بالعناوين التالية:
* في الإطار السياسي: في المرحلة الراهنة التي تعمل الإدارة الأميركية على الإشراف مباشرة على مناطق نفوذها من خلال بناء أنظمة موالية لها يكون على رأسها أفراد ذوو اتجاهات فكرية وسياسية تؤهلها للعمل، من دون تعقيدات أو إحراجات، مع الدوائر الأمبريالية، نرى أن هذه الحال تطبق على النظام الذي يتم بناؤه في لبنان حالياً. ونرى كذلك أن وجود نظام سياسي يتميز بمثل هذه المواصفات السياسية التي لا تتعارض مع استقلالية القرار الوطني فحسب وإنما ترتهن للقوى المعادية لهذا القرار. كذلك سوف يصنع على قياسه وحسب اتجاهاته ومصالحه قوانين وقرارات، مؤسسات وإدارات، على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية.
إن تركيب نظام سياسي في لبنان في مثل هذه المواصفات، بمباركة وتأييد من قبل بعض الأحزاب الوطنية، أو في الحد الادنى صمتاً وتزلفاً تكتيكياً، مسألة غير مفهومة على الإطلاق لأن هذه الأحزاب تتصرف كمن، يسهم في حفر قبره بيديه.
فالأحزاب والقوى الوطنية سوف تكون في ظرف ما، خلف متراس المواجهة لهذا النظام شاءت أم أبت. ولا ينفعها أن بعض أركانه يمتّون بصلة القربى للاتجاهات الوطنية، حيث إنها سوف تكتشف وإن متأخرة، أن من هم محسوبون من هؤلاء الأركان على الصف الوطني إنما قد باعوا هذا الصف بعد أن حققوا مكاسب وطموحات خاصة سوف يعملون للدفاع عنها بكل قوة.
* في الإطار الأمني: نظام هذه مواصفاته السياسية وارتباطاته الخارجية لن يستمر دون مخالب تؤمن له الإمساك جيداً بالوضعين السياسي والأمني، ويأتي على رأس استهدافاته ضرب أية اتجاهات سياسية تتعارض مع مصالحه. لهذا فهو يدعم مواقعه وإمساكه بالسلطة بالقوانين والأنظمة والقرارات التي تستهدف تكبيل الحريات الديمقراطية السياسية، وسوف يعمل على فرض تطبيق هذه القوانين بواسطة مؤسسات أمنية، بدأت طلاثعها الحقيقية تبرز واضحة من خلال رموز القمع السابقة التي ناضلت الحركة الوطنية طويلاً من أجل إقصائها عن مواقعها وإلغاء القوانين والتشريعات التي تكبل الحريات الديمقراطية للبنانيين.
إذا ما سارت الأوضاع بشكل هادىء وطبيعي في هذه المرحلة التي تشرف فيها الإدارة الأميركية بواسطة سفيرها في لبنان تحت مراقبة وتوجيهات المخابرات المركزية الأميركية، فإن نظاماً أمنياً قمعيأ في لبنان يحضر نفسه منذ الآن للهيمنة على إدارة النظام السياسي.
إذا كانت بعض الأحزاب الوطنية اللبنانية التي رهنت مواقفها في هذه المرحلة ترى من هذا النظام دموعه التي تسيل حزناً على لبنان الذي يذبح، فإنها تكون واهمة في رؤيتها لأن هذا النظام يحمل السكين في جيبه لذبح الاتجاهات الوطنية والقومية، ولأننا نرى في الافق القريب كيف تستعيد قوى أجهزة المخبرين نشاطها وتعد نفسها لممارسة أدوارها ووظائفها التي تم التخلص منها بعد نضال عشرات السنين دفعت فيها الحركة الوطنية من دماء شهدائها ومن عذابات مناضليها وملاحقاتهم واعتقالهم الشيء الكثير.
في الوقت الذي تستسلم فيه بعض الأحزاب الوطنية لأحلام وأوهام أو تمريراً للطرف الذي لا تجرؤ فيه على المغامرة في المعارضة والرفض، نعتقد أن عودة كرابيج التعذيب ضد مناضليها آتية لا ريب فيها، وهذه الكرابيج هي التي سوف تعيد لهؤلاء المستسلمين صحوتهم على الواقع الجديد الذي أسهموا بصنعه أو سكتوا عن هذا الصنيع بحجة توفير الدم والعذاب.
إذا كان اعتقادنا ينطلق من أن الصحوة الوطنية لا بُدَّ من أنها قادمة، فليس أمامنا إلا التحذير من أن الثمن سوف يدفع، بعد أن يكون حبل المشنقة قد تصلبت عقدته، هو أكثر من الثمن الذي كان يمكن دفعه قبل أن يعقد الحبل.
* في إطار تحرير الأرض الوطنية: من المستغرب أن تعلن بعض الأحزاب الوطنية أن تحرير الأرض اللبنانية المحتلة من قبل العدو الصهيوني هو مؤكد، لأن ضغطاً أميركياً على العدو سوف يحقق هذا الغرض، فهل بلغت الثقة بالأمبريالية هذا الحد؟
إذا كنا نعتقد جازمين أن احتلال أجزاء من أرض الجنوب والبقاع الغربي قد تم بناء للمشروع الأمبريالي الأميركي، كما أن رفض تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 425 قد تم بتواطؤ أميركي أيضاً، والعدوان الشامل الذي شن على لبنان في العام 1982 كان برعاية أميركية للحصول على اتفاق 17 أيار / مايو؛ فإننا نتساءل هل حصلت متغيرات ما في الموقف الأميركي لكي تدفعه للضغط على العدو الصهيوني بالانسحاب من لبنان دون قيد أو شرط؟
إن انسياق بعض الأحزاب الوطنية في المخطط الشامل للنظام اللبناني الراهن، الذي لا يتميز عن العهود السابقة باتجاهاته وارتباطاته، على الرغم من تجميله بوجوه اعتبرها بعض الوطنين أنها وطنية، وأنها تشكل ضمانة للمشروع الوطني، لهو المغامرة بذاتها وهي مغامرة لا تحتمل نصف نجاح أو نصف فشل، وإنما هي فاشلة تماماً لأن الرهان على حلول وطنية من قبل المشروع الأميركي الذي يمسك بالقرارين الإقليمي والمحلي هو سراب وهو تراجع مشين أمام مؤامرة جديدة واضحة المعالم والاتجاهات والنتائج.
في اعتقادنا، سوف يستفيق الحالمون، وطنيون كانوا أم مرتبطين بعجلة القرار الأميركي، ليجدوا أنفسهم أنهم قدَّموا للمشروع الأميركي- الصهيوني كل الشروط المطلوبة منهم، لكن من دون أن يحصلوا على أية ضمانات لاستعادة الأرض.
فإذا قدَّم اللبنانيون، في هذه المرحلة، السلاح الذي كان يقاوم العدو، السلاح الذي فرض عليه انكفاء عن أجزاء كبيرة من الارض اللبنانية التي احتلها، سواء كان هذا السلاح لبنانياً أو فلسطينياً، فماذا يبقى لدى هؤلاء الذين اندفعوا في تسليم عناصر القوة لديهم، وطنيون أم سلطويون، غير انتظار وضع شروط أخرى كمقدمة للانسحاب من الأرض؟ إن على هؤلاء جميعهم أن يترقبوا، إذا ما قيض لهم تجريد المقاومين الفعليين من بنادقهم، مطالب صهيونية باتفاقية 17 أيار / مايو / مايو / مايو أخرى؛ قد تكون اتفاقية 17 كانون أو 17 شباط... الخ. وعليهم كذلك أن ينتظروا مطالب باقتسام المياه اللبنانية لحاجة العدو اليها، وفي ظل غياب البندقية المقاومة والقرار المقاوم، سوف يعطي هؤلاء بمحض إرادتهم ما قاتلوا في سبيل الحفاظ عليه عشرات السنين.
إن مثل هذه التحديات لن تواجه النظام اللبناني، لأنه بالأصل لم يدفع دماً وليس هو في الموقع الفكري/ السياسي المستعد لدفع الدم أو العرق أو حتى عناء التفكير، لكن هذه التحديات سوف تقرع بقوة بوابات الضمائر الوطنية وعقولهم فقط دون غيرهم.
* في إطار تأمين العدالة الاجتماعية: إذا لم يكن بالامكان، حالياً، تحديد الموقع الاقتصادي المرسوم أميركياً للبنان، باستثناء ما يتسرب من معلومات تدل على أن بيروت بشكل خاص قد تحل مكان هونغ كونغ كوسيط اقتصادي تتمركز فيها ادارات الشركات الرأسمالية الغربية الكبرى، فإنما نعتقد أن لبنان سوف يستمر كبلد للخدمات التجارية رالسياحية، ولن يشهد تطويراً ملحوظاً في القطاع الصناعي أو الزراعي على مستوى الإنتاج المؤهل للتصدير. هذا الواقع هو المطلوب من الرأسماليين اللبنانيين لأنه يتناسب مع طبيعة الاتجاهات الاجتماعية/ الاقتصادية لأركان النظام اللبناني والمستفيدين منه.
إذا ما وضعنا هذا الواقع الراهن في دائرة المقارنة بما سبقه في لبنان، ومع غيره من الدول المثيلة له، يصبح بالإمكان تصور النتائج التالية:
إن الطبقات الداعمة للنظام السياسي الراهن في لبنان، هي حكماً الطبقات التي تتألف من التجار والرأسماليين أصحاب النهج الاحتكاري/ الاستغلالي، في مثل هذه الحالة لن يكون للرأسمال قلب أو عقل تجاه المواطنين الآخرين إلا ما يساعد هذه الطبقات على المزيد من تكديس الرساميل.
إن الرأسمالية اللبنانية قد تجد نجاحات واستغلالاً أكثر على صعيد الخدمات والتجارة وهنا تكمن مصلحتها، سهولة في العمل وكسب وفير. إن الاتجاهات الاقتصادية القائمة على الربح السريع، سوف تبتعد عن توظيف هذه الرساميل في المشاريع الإنتاجية كالزراعة والصناعة، وهذه الاتجاهات لا ترهن الاقتصاد الوطني لخدمة الرساميل فحسب، وإنما ترهنه للقطاع الإنتاجي الأجنبي كذلك. إذ ذاك يبقى لبنان سوقاً استهلاكية مرتهنة إلى تخلف في الإنتاج الاقتصادي الوطني، وبالتالي تفاوت كبير في الدخل الفردي وبالتالي استفحال البطالة، وهذا قد يؤدي في اعتقادنا إلى حصول فجوات كبيرة بين الطبقات.
أما إذا قامت الشركات الصناعية الأجنبية بانشاء فروع لها في لبنان طمعاً بالاستفادة من تدني أجور اليد العاملة وأجور الشحن للتسويق، قد تنعكس إيجاباً في تراجع نسبة البطالة، وقد تتحسن أوضاع جزء من اللبنانيين الذين قد يجدون عملاً، لكن هذه الحال تبقي الاقتصاد الوطني مرتهناً للرأسمال والقرار السياسي الأجنبي.
إن هذه الاحتمالات هي مستقبلية لكنها قد لا تحل المشاكل الاجتماعية/ الاقتصادية الكبيرة التي تركتها الحرب في لبنان، في الوقت الذي يكون فيه النظام السياسي في لـبنان عاجزاً عن حلها إلا بواسطة القروض والمساعدات الخارجية، وهذه بدورها لن تكون دون وظيفة سياسية تعمل لدفع النظام السياسي إلى مزيد من الارتهان للقرار الإمبريالى/ الرجعي العربي.
هذه من التحديات الأخرى التي سوف تواجه المشروع الوطني بأطرافه وفصائله وأحزابه، لأنه في الوقت الذي ينتهي فيه كابوس الحرب الذي يأمن المواطن في زواله على حياته، فإنه سوف يجد نفسه لاهثاً وراء الرغيف.
باستعراضنا للعناوين الكبرى للتحديات الوطنية التي سوف تواجه المشروع الوطني على المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية والتحررية ، نكون قد أطلينا بشكل أكثر وضوحاً على احتمالات ما سوف تحمله المراحل القادمة من تحولات تبين أن جميعها تتطلب من القوى والأحزاب الوطنية أ، تواجه مهماتها الأساسية في النضال لأجل تحقيق ما رفعته من شعارات سابقة تنازلت عنها إما وهماً وإما جهلاً أو تجاهلاً وإما انحناء أمام عاصفة مرحلية لكسب أنفسها.
سادساً: مهمات القوى التحررية القومية/ الوطنية اللبنانية في المراحل القادمة:
إن جوهر المهمات المطروحة أمام القوى والأحزاب اللبنانية سواء كانت اتجاهات وطنية أم قومية، تندرج في مسألتين:
الأولى: وحدة التحديات المطروحة " على المستوى السياسي/ التحرري. هذه التحديات تندرج في دائرة المواجهة ضد الأمبريالية والصهيونية، فهي واحدة في الخليج، وسوريا، ومصر والأردن وفلسطين ولبنان...
الثانية: استعادة التجربة النضالية الموحدة قبل العام 1982 لدراستها وتقويمها والاستفادة من نتائجها الايجابية، بعد إفراغها من سلبياتها، في المراحل القادمة.
إذا كانت وحدة التحديات المفروضة على الأقطار العربية، واحداً واحداً، واضحة بالواقع أمام القوى والحركات والأحزاب اللبنانية، فإن هذا الوضوح لم يترجم بوحدة فكرية/ إيديولوجية، فأهمية الترجمة الفكرية، لها علاقة ببناء حالة نضالية واحدة تتصف بالديمومة والاستمرار، فوحدوية الحالة النضالية النابعة من الوضوح الفكري تضع الحركات والأحزاب المؤمنة بها في جو نفسي- وجداني- إيماني بوحدة المصير الذي له تأثيراته الجاذبة في رؤية مكامن العدو واستشراف خطورته على الذات الوطنية حتى والتي كان بعيداً عنها جغرافياً، فالمغاربي يراه في الخليج وكأن خطره قائم في المغرب، والعراقي يراه في فلسطين وكأنه في العراق... واللبناني يراه في العراق وكأن السكين في قلبه ما دامت هذه السكين مغروزة في القلب العراقي، والسوري لن يصاب بوهم إنهاء احتلاله لأرضه إذا ما بقي العدو متمسكاً باحتلال أرض فلسطين.
إن غياب الوحدة الفكرية عن وحدة الحالة النضالية في التجربة الوطنية/ القومية على الساحة اللبنانية، قبل العام 1982، كان سبباً في تراجع الوحدة النضالية. لذلك فقد انكفأت معظم الحركات والأحزاب والقوى الوطنية في لبنان عن دورها النضالي إلى جانب المقاومة الفلسطينية، تحت شتى الذرائع والأسباب وأهمها أن هذه القوى قدمت ما فيه الكفاية ولم يعد باستطاعتها أن تقدم أكثر.
فإذا كنا نعتقد أن المخطط الأمبريالي/ الصهيوني كان ولا يزال يتآمر بالدرجة الأولى على تدمير الاتجاهات الوحدوية فكرية وفعلية ، فإنما التقصير بعد العام 1982 عن الدفاع عن المخيمات الفلسطينية إنما هو وقوع في شرك المؤامرة، وفي الوقت الذي كانت تظن فيه بعض القوى أن سكوتها عن تدمير المخيمات، مهما كانت المبررات، تحمي نفسها من التدمير فإنما كانت تتوهم ذلك، لأن المؤامرة كانت منصبة على إحداث التجزئة النضالية بين القوى اللبنانية والفلسطينية التي ائتلفت في خندق نضالي واحد منذ نهاية الستينات، وأن تدمير هذا الخندق إنما كان يصب في دائرة المؤامرة. فالخطورة التي كانت تمثلها الحركة الوطنية اللبنانية بما هي حضور لبناني داخلي وامتداد نضالي عربي على المشاريع الأمبريالية/ الصهيونية هي في وحدة أحزاب هذه الحركة أولاً، وفي وحدتها مجتمعة مع المقاومة الفلسطينية ثانياً، ولكي تلغي الأمبريالية والصهيونية هذه الخطورة كان عليها أن تضرب الوحدة النضالية اللبنانية- الفلسطينية أولاً، ووحدة أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية ثانياً، وهذا ما حصل بالفعل منذ الاجتياح الصهيوني للبنان في العام 1982.
لم تتراجع شعارات أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية حتى الآن عن تحديد صف الأعداء وحصرها في الخطرين الأمبريالي والصهيوني، كمالم يتراجع المخطط الأمبريالي عن ارتباطه الوثيق بالمخطط الصهيوني، وهما، متحدان، ما زالا يمارسان سياسة العدوان الهجومي ضد الأمة العربية، قطراً قطراً.
ما حصل في هذه المرحلة من احتلال رضائي " لأراضي دول مجلس التعاون الخليجي كمحطة للعدوان ضد العراق، ما كان ليحصل بمثل هذه الفظاعة والسرعة لو كانت طلائع هذه الأمة موحدة فكرياً ونضالياً.
إن توحيد الجهود العدوانية للأمبريالية والصهيونية لم يواجه بوحدة دفاعية عربية وإنما بصمت تارة أو تواطؤ تارة أخرى. إن هذا الاختلال بالمعادلة، وحدة عدوانية وتمزق دفاعي إن وجد، أمَّن للأمبريالية والصهيونية انتصارات أخرى دفعت بهما إلى التفرد بحكم العالم، وتشكل المنطقة العربية جزءاً منه.
في الوقت الذي اجتاحت فيه قوات الغزو الأميركي بشكل مباشر أمتنا العربية التي اسلست لها القياد مجموعة من الأنظمة، سوف يمسك المشروع الأميركي بهذه الأمة اجيالاً بعد أجيال، إذا ما بقيت الأنظمة فيها والحركات التحررية في مقدمتها مستسلمة للواقع المهين.
ولأنه في هذه الأمة إمكانيات لا يستهان بها من الوعي التحرري، إذا ما قيست بما كانت عليه قبل اربعين سنة خلت، فإن التخطيط لوضع هذه الإمكانيات في موقعها الصحيح له دور مهم جداً في انتشال الأمة من مواقع الاحباط واليأس.
فمن المهمات الملحة والأساسية الموكولة على عاتق حركات التحرر الوطني والقومي أن توحد نفسها وتجمع إمكانياتها لخوض المواجهة الشاملة على قاعدة التكامل بين المهمات الوطنية والمهمات القومية، والمطلوب ممارسته على صعيد كل قطر مطلوب كذلك من القوى والأحزاب الوطنية/ القومية في لبنان.
فالمهمة الأولى هي مهمة تحررية قومية لمنع المشروع الأمبريالي- الصهيوني من التمدد كخطوة أولى، ثم إكراهه على التراجع كخطوة ثانية، وإن أية حركة تحررية وطنية لن تستطيع تحقيق أهدافها أو جزء من هذه الأهداف إذا لم تصب مقدماته الأولى في منع المؤامرة العامة، أمبريالية وصهيونية، من الاستفادة الكاملة من واقع التمزق القطري الحاصل والهيمنة على الوضع العام، وتكريس هزيمة نفسية جديدة عند جماهير امتنا العربية في المرحلة الراهنة.
فالمهمة الأولى، إذا كانت مطلوبة قومياً، فإنما أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية وقواها التقدمية معنية بها بشكل أساسي وملح في هذه المرحلة في أن تبادر إلى استطلاع مواقعها وتحديد أدوارها في ساحة المواجهة القومية الشاملة.
فالمواجهة القومية الشاملة تتطلب اصطفافاً جبهوياً واسعاً على المستويين القومي والوطني بين كل الأطراف الجدية في المواجهة على قاعدة وحدة الأهداف السياسية في التحرير، والتكامل في الوسائل النضالية.
إذا أصاب هذا الاصطفاف الجبهوي نجاحاً على مستوى قطر ما من هذه الأقطار، وسوف يصيب، فإنه يصبح رافداً وعاملاً مساعداً على طريق التحرير القومي الشامل، فالنجاح الوطني في معركة تحررية سوف يصب بإمكانياته وطاقاته، بشرياً ومادياً وسياسياً، إلى جانب قوى الثورة المؤتلفة في جبهة قومية موحدة.
يمكن أن ينخرط في الدانرة الجبهوية كل الأطراف ذات الاتجاهات الفكرية التحررية، وطنية وقومية وإسلامية، انطلاقاً من الأهداف الأساسية الداعية إلى تحرير أقطار الأمة العربية من الهيمنة الاستعمارية والصهيونية أولاً، وقيام أنظمة وطنية ديمقراطية ذات اتجاهات في التعددية السياسية التحررية ثانياً.
يأتي تحرير الأمة من الأمبريالية والصهيونية في أولوية الاهتمامات، لأنه لا تقدم لهذه الأمة على المستويات الاقتصادية والسياسية في ظل الكابوس الأمبريالي الذي يعمل على إبقاء التخلف الاقتصادي والتبعية السياسية لهذه الأقطار ليستطيع تسويق انتاجه.
وأما الاتفاق على قيام أنظمة وطنية ديمقراطية، ذات اتجاهات قومية توحيديه، على قاعدة التعددية السياسية فهي اعتراف بحق جميع الأطراف والفصائل المنخرطة في العمل الجبهوي لممارسة حقوقها السياسية في ظل الأنظمة التي يتم تحريرها.
إن الأمبريالية الأميركية ، في المرحلة الراهنة، حيث تعمل على تكريس أوحدية قرارها في العالم ،لم تستطع حتى الآن أن تحسم النتائج لصالحها بعد العدوان على العراق. فالمهمة الملقاة على عاتق الأحزاب والقوى أن تقوم بواجباتها الوطنية للحيلولة دون تثبيت نظام لبناني موال للمشروع الأميركي ومهادن للمشروع الصهيوني، وهذا لن يحصل في ظل تشرذم أطرافها من جهة وفي ظل لامبالاتها تجاه فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى.
قد يكون العمل في اتجاه إعادة توحيد الحالة النضالية بين الأحزاب اللبنانية شائكاً في ظل هيمنة إقليمية وفي ظل نظام لبناني مسيطر عليه إقليمياً وأميركياً لـتنفيذ أهدافهما. لكن الاتجاه لتشكيل نواة من بعض هذه الأحزاب ليست بالعملية المستحيلة لكي تكون هذه النواة عنصر جذب للأحزاب والقوى الأخرى متى سمحت ظروفها الذاتية، التي قد تكون رهاناً واهماً أو انحناء مؤقتاً أمام موجة القمع، للالتحاق بها.
هذه النواة على المستوى اللبناني، ومن ضمن اعتقادنا لضرورة استعادة الحالة النضالية القومية الموحدة، تواجه ظروفاً مؤاتية في هذه المرحلة لكي تستعيد حيويتها في الالتحام مع الثورة الفلسطينية وفصائلها الموجودة على الساحة اللبنانية.
إن مهمة كهذه تشكل أولوية نضالية في هذه المرحلة تحديداً التي يعمل فيها المشروع الأميركي / الصهيوني على ابتلاع فريسته بعد العدوان الغاشم على العراق.
تكون هذه المهمة ضرورية وعاجلة لتحمل في ذاتها عناصر القوة في هذا الظرف بالذات الذي يعتقد فيه كثيرون أن عناصر الضعف هي المسيطرة.
إن عناصر القوة، كما نعتقد، هي السائدة لأنه يقف إلى جانبها عنصران مهمان:
الأول: إن ابتلاع الفريسة لا يمكن أن يحصل الا في ظل أوضاع هادئة تسمح للأفعى بالاسترخاء، والمخطط الأميركي في هذه المرحلة يعيش هذه الحالة.
الثاني: إن حالة الهيجان الوجداني التي تعيشها الجماهير العربية عامة واللبنانية خاصة لم تتحول إلى حالة يأس، وإنما هي مستنفرة وفي حالة من الغضب عما حصل من جراء العدوان الأميركي على الأمة العربية. وسوف تزيد حالة الغضب اشتعالاً عندما يكشف كذب الإدارة الأميركية في تنفيذ كل قرارات مجلس الأمن ومنها القرار الرقم 425 الخاص بلبنان، والقرارات المتعلقة بما يسمى أزمة الشرق الأوسط. وسوف تخل هذه الإدارة بوعودها لأنها لن تضحي بحليفها الصهيوني وبمصالحه. وإذا نفذت هذه القرارات فإن آلية التنفيذ لن تكون على حساب الكيان الصهيوني وإنما سوف تكون على حساب حقوق لبنان الأمنية والمائية، وعلى حساب الحقوق الوطنية للأقطار العربية الأخرى.

ليست هناك تعليقات: