-->
القومية العربية
بين ثوابت الفكر النظري ومتغيرات الخطاب السياسي
في أوائل 2008
لقد تنوَّعت معالجات المفكرين العرب والحركات السياسية القومية لطبيعة العلاقة بين أصالة الفكر القومي وحداثته، وبين حداثته وعصرنته. فهم، حتى الآن، لم يتجاوزوا حدود أدلجة العلاقة بينهما، أي عملوا على تغليب خصوصيات الثقافة التُراثية على ثوابت التشريعات القومية الحديثة، كما عملوا على تزويجهما بشكل لا يؤدي إلى صياغة علاقات سليمة بينهما. بينما الوصول إلى تعريف لا يخضع لمعايير الإيديولوجيا هو الأمر الموضوعي المطلوب، لأن هذه المعايير غالباً ما تتأثَّر بالحركة السياسية والبيئة الثقافية السائدة، فتنتج تعاريف قد تكون قاصرة عن الوصول إلى الحدود الموضوعية. ومن أجل التوفيق بين عناصر الموضوعية والعوامل الإيديولوجية ليتكاملا، لا بدَّ من أن يكون للأيديولوجيا سقف موضوعي يحميها من الغرق في تغليب الذاتي على الموضوعي.
ونحن نحسب أن سبب هذا الخلط يعود إلى الالتباس الحاصل بين حدود ثوابت النظرية القومية وحدود الدور المرسوم لآلياتها السياسية، التي من أهمها يأتي دور الخطاب السياسي.
من أجل ذلك نرى أنه يقع على عاتق رواد الفكر القومي، حركات ومفكرين، مسؤولية تحديد الأولويات، بطرح التساؤل التالي: هل وضوح الفكر يأتي أولاً، والخطاب السياسي في المقام الثاني؟ أم أن تغليب الثاني على الأول، هو ما يجب الأخذ به؟
جواباً على ذلك نجد أنه من المتعارف عليه أن يشكل الفكر النظري المجرد، وما تتوصل إليه جهود المفكرين، البوصلة التي تصوِّب اتجاهات الفكر السياسي. وإذا أردنا أن نبرهن على صحة ذلك فنجد أن ليس من برهان أكثر وضوحاً من اعتقاد كل المجتمع البشري بأولوية القيم العليا، كالعدالة والمساواة مثلاً. فتعريف العدالة والمساواة بمفاهيمهما النظرية المجردة لا تختلف من مجتمع إلى آخر، أما مفاهيم تطبيقها في هذا المجتمع أو ذاك، فتكتسب خصوصيات مرحلية ومجتمعية بشكل لا يتعارض مع مفاهيمها الإنسانية العامة. واستناداً إليه تأتي مرحلية التطبيق السياسي لتضع خصوصيات تطبيقية في مجتمع لا تنسجم مع مجتمع آخر. ولكن مهما اختلفت وسائل التطبيق، باختلاف خصوصيات المجتمعات، فإن المفهوم العام لا يتغير، بل هو مفهوم ثابت، وعلى أساسه كمعيار، يمكن تصويب أي خلل يصيب حالات التطبيق الخاصة ليعيدها إلى مسارها القيمي العام. ولهذا السبب لا يجوز على الإطلاق أن نقول هناك عدالة عربية، وعدالة أميركية، وعدالة صينية... فالعدالة واحدة أينما كانت.
وقياساً على ذلك لا يمكن أن نقول بأن المفاهيم القومية، كنظرية حديثة، تختلف من مجتمع إلى آخر، بل هناك خصوصيات قومية لهذا المجتمع أو ذاك، أي خصوصيات تطبيقية تصلح لهذا المجتمع ولا تصلح لذاك، وهذا الأمر يسمح لنا بالكلام عن قومية عربية وقومية صينية وقومية فارسية...
فالمعيار القومي له أسس وضوابط، من أهمها وحدة الأرض، ووحدة اللغة، والتجانس الثقافي للمجتمع، ووحدة مصالح أفراده، وحقهم بالسيادة الجغرافية والسياسية والاقتصادية على ثرواتهم. وحقهم بالاتفاق على قوانين وتشريعات تنظم شؤون حياتهم الدنيوية على ألاَّ تتعارض مع قوانين القيم العليا أو تتناقض معها.
الخطاب السياسي متغير يسترشد بثوابت الفكر النظري
إننا نحسب أن أسباب الالتباس في تحديد الأولويات، بين الدورين، يعود إلى وجود إشكالية معاصرة، تفرضها طبيعة الصراع بين القومية العربية وأعدائها، الذي وصل إلى مستويات دموية بين أطماع القوى الاستعمارية وقوى المقاومة العربية وتياراتها. تلك المواجهة تحتاج إلى جهد كل المقاومين العرب بغض النظر عن أطيافهم الدينية والمذهبية والسياسية، فالمرحلة تحتاج أحياناً كثيرة إلى تغليب الشعور على البرهان، فالشعور القومي هو من أهم عوامل التعبئة للدفاع عن الوجود القومي، فهو يجمع قوى المواجهة سواءٌ أكانت رؤيتها دينية، أم كانت علمانية، أم كانت تنخرط تحت سقف رؤية وطنية أو قومية.
وإذا كانت مراحل النضال القومي، في بواكيرها الأولى، قد احتاجت إلى زيادة منسوب الخطاب التعبوي في بيئة كانت لا تميِّز تماماً بين ثقافتها الموروثة وثقافتها الحديثة، أصبح لا بدَّ، الآن بعد انقضاء أكثر من نصف قرن عليها، من أن نميِّز بين بيئة البواكير الأولى وبين البيئة السائدة الآن. ونرى أن تلك البيئة أخذت تنشدُّ إلى العامل القومي أكثر فأكثر نتيجة تعميق الشعور القومي في المراحل السابقة، هذا إذا لم يكن التغيير فيها قد بدأ فعلاً، وكما أخذت معظم النخب المثقفة تشعر أن معايير العلاقة السابقة، بين منسوب الوعي النظري ومنسوب الخطاب السياسي، لم تعد تلبي حاجة الأسئلة التي ترتفع لتعيد ترتيب معايير تلك العلاقة إلى طبيعة تخضع للبرهان أكثر من خضوعها للشعور والإحساس.
وهنا يجوز لنا، عندما نريد أن نتصور معايير خاصة للعلاقة بين الثوابت القومية ومتغيرات الخطاب السياسي، أن نضع تلك المعايير على ضوء طبيعة المرحلة السياسية التي يمر بها المجتمع العربي. فهي في مراحل النضال الوطني التحرري من الاستعمار المباشر، غيرها في مراحل النضال الوطني المطلبي. إلاَّ أن هذا لا يعني أن تكون معاييرنا مختلفة بالنوعية، بل هي تختلف بالدرجة. فهي تحتاج إلى جرعات زائدة من تعبئة الشعور والوجدان في الحالة الأولى، بينما في الحالة الأخرى تحتاج إلى جرعات أكثر من البرهان العقلي.
إننا من خلال طبيعة المرحلة، نحدد طبيعة تلك العلاقة بأن نرفع منسوب الشعور والوجدان أو منسوب العقل والبرهان، وبمعنى أوضح نزيد منسوب هذا العامل أو ذاك في خطابنا السياسي. لكن في الوقت ذاته لا يجوز أن نترك تعريفنا للفكر القومي عائماً وغائباً في متاهات الخطاب السياسي، بل العكس هو الصحيح، أي أن تكون لفكرنا القومي المجرد حدوداً واضحة المعالم أولاً، ومنه ثانياً نزيد منسوب الخطاب السياسي لهذا الجانب أو ذاك، أو ننقص منه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة.
القومية واقع اجتماعي إنساني والنظرية ناظمه الفكري
ومن أجل الاسهام في توضيح ماهية الثوابت القومية نرى أنه بين رفض التعريف النظري للقومية، كنتاج فكري أوروبي مستورد، كما يحسب الرافضون، وبين واقع قومي كنتاج سياسي حديث لأسس الدولة الحديثة، مسافة لا يمكن الوقوف عندها من دون نقد وتمحيص.
الشعور القومي ليس نتاجاً فكرياً، بل هو واقع يرقى إلى مستوى الفطرة البشرية، أي هو رابط إنساني أصيل بين أفراد الأسرة الواحدة، اتَّخذ شكله الاجتماعي عندما تفرَّعت الأسرة إلى مجموعات قرابية، واكتسب شكله السياسي بعدما ضعفت المسافة القرابية بين تلك المجموعات، لتتحوَّل إلى نظام في تنظيم العلاقة بينها، ليس على أسس قرابية، بل على أسس مصيرية تحمي فيها وجودها. وعن ذلك تعارفت نتائج الأبحاث على أن من أهم تلك الأسس يأتي العامل الجغرافي واللغة والثقافة المشتركة والتراث المشترك والمصالح الاقتصادية في المقدمة منها على أن تشكل رزمة واحدة، بمعنى أن أي عامل مستقل عن العوامل الأخرى لا يشكل قاعدة ثابتة للعلاقة بين أبناء القومية الواحدة، إلاَّ أنه كلما انتفى وجود عامل منها يُضعف في أواصر تلك الروابط.
وقد أثبتت وقائع نشأة الدول الإمبراطورية تاريخياً صحة هذا الأمر، هذا مع العلم أنه لا رابط بين المجتمعات الخاضعة للسلطة الإمبراطورية إلاَّ وجود عامل القوة. فكلما دالت إمبراطورية في التاريخ تزول معها روابط العلاقة بين المجتمعات غير المتجانسة التي كانت تحكمها، وتشكل تلك الانفصاليات كيانات أخرى مستقلة تجمع ما بينها العوامل التي تشكل أسساً للدولة القومية المشار إليها أعلاه، وتبقى على هذا المنوال إلى أن تأتي إمبراطورية أخرى لتعيد دمجها بالإرغام وقوة الجيش والاقتصاد في إمبراطورية جديدة.
لا تشذ الإمبراطوريات، ذات الطابع الديني، عن هذا السياق العام، ولنا من آخر إمبراطورية إسلامية انهارت بفعل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وآخر إمبراطورية مسيحية، انهارت بفعل اندلاع نظرية الانفصال القومي في أوروبا، أكبر برهان.
وبانهيار الإمبراطورية الإسلامية، آخر تلك الإمبراطوريات، انهارت معها إمكانية بناء دولة أممية على الصعيد الديني. وبانهيار تجربة الاتحاد السوفياتي انهار معه حلم بناء دولة أممية تقوم على فكر مادي، أو على الأقل تنطلق من ثوابت ليس للدين فيه حصة.
وبفشل عامل الدين وحده، وعامل الاقتصاد وحده، في بناء دولة واحدة، جاءت نظرية بناء الدولة الحديثة على أسس قومية لتشكل الأنموذج النظري لتلك الدولة، وهي تمر الآن بتجربة تلاقي النجاح بنسب عالية. ويتم الاستمرار في بناء التجربة على الرغم من وجود الكثير من العقبات والمطبات في مواجهة القومية العربية التي تعيق تقدمها، يأتي في مقدمتها عداء التيارين الأمميين، الديني والمادي، الذي يقوده أصوليو الأديان، وأصوليو الماركسية. وقد دخلت النزعة الإمبراطورية المعاصرة، تلك النزعة التي كانت آخر ابتكارات حركة المحافظين الأميركيين الجدد، على خط مواجهة العداء للقومية العربية.
وضوح النظرية القومية وشفافيتها عامل ضروري في الحوار مع الأممية الدينية
على أساس كل ذلك، تقف الدولة القومية، والفكر القومي، أمام امتحان عسير.
وإذا كنا لن نقف طويلاً أمام عامليْ الأصولية الأممية الماركسية، والنزعة الإمبراطورية الأميركية، فلأنهما لم تحفرا في ذاكرة ثقافتنا العامة الشيء الكثير، وإن حفرتا فحفرهما لا يرقى إلى مستوى الطفرة النوعية التي تثير المخاوف المستعجلة، وإن كانت تتطلب المواجهة معهما وسائل مختلفة: فالمواجهة مع الأصولية الماركسية تخف تدريجياً بعد وعي بعض أحزابها السياسية أهمية العامل القومي واستحالة تطبيق الحلم الأممي بمعانيه السياسية، فهي أصبحت منزوعة الأنياب إلى حد كبير. أما المواجهة مع النزعة الإمبراطورية الأميركية فلا تتطلب جهداً فكرياً وسياسياً بأكثر مما تطلب جهداً مقاوماً عسكرياً بالدرجة الأولى. والأصولية الدينية الإسلامية تخوض تلك المواجهة إلى جانب التيارات القومية، وإن بأهداف مستقبلية أخرى.
تلك الأهداف، أهداف الأصولية الإسلامية، تقف في موقع النقيض مع الأهداف القومية أولاً، وتمنحها قوة الثقافة الشعبية لمعظم العرب التي تنطلق أساساً من الثقافة الدينية الإسلامية ثانياً، وأكثرها خطورة تعميم الثقافة الدينية المذهبية ثالثاً، وبنتيجة هذا الواقع تتعدد أهداف الحركة الإسلامية بتعدد أطرافها وأطيافها واجتهاداتها الدينية لتجعل المثقفين الدينين على حافة الاقتتال الديني – الديني، وهذا السبب يقود إلى احتمالات تفسيخ الأمة إلى دويلات يبلغ تعدادها العشرات.
ونحن إذا وقفنا أمام هذه الإشكالية، وأخذت منا الاهتمام الأول في بحثنا هذا، فليس لأنها الإشكالية الوحيدة، بل هي أكثرها حدة وظهوراً في ترسيم مستقبل حدود أمتنا القومية.
يكفي سبباً في جعل إشكالية العلاقة بين الفكرين الديني والقومي محورنا الأساسي، أن الحركات الإسلامية أقدر على الزرع والاستقطاب في بيئة ثقافية شعبية ذات أعماق وسقوف دينية، كما أننا نعطيها أولوية لكن على أن تنطلق هذه الأولوية من أسس الحوار وليس من محور الصراع.
إن شروط الحوار تتطلب من الطرف القومي المحاور، أن تكون عنده حدود الفكر القومي وآفاقه واضحة وجريئة، لأن الجلوس إلى طاولة حوار مع الآخرين من دون وضوح في أهداف المحاور من جهة، ووضوح أهداف الطرف الآخر من جهة أخرى، ستؤدي إلى الإرباك والتردد. وبالتالي سيؤدي إلى وضع المحاور القومي في موقع الضعف أمام آخر متمكِّن من فهم خياراته، تساعده بيئة ثقافية واسعة قادرة على تقوية مواقعه.
لذلك نحسب أن من أهم القواعد التي على القوميين أن يمتلكوها هي أن يكون فكرهم واضحاً أولاَ، وأن يكون المدافع عنه صلباً لا يتردد في الدفاع عنه مخافة من الاصطدام بالثقافة الشعبية ثانياً، وشرط ذلك أن لا يكون مسكوناً بهاجس اختيار الأسلوب الأسهل الذي يسمح له بالكسب الجماهيري ثالثاً.
من أهم ثوابت النظرية القومية أنها نتاج فكري حديث للوقاية من ديكتاتورية الدولة الدينية ولا عدالتها
تطرح هذه المسألة السؤال التالي: هل الدولة الدينية دولة ديكتاتورية؟
إن مجرد تقديس النص، يعني وجود عامل الإلزام من دون نقاش، بل من المحرمات أن يخضع النص للمناقشة، وفي هكذا حال يغيب حق الرأي الآخر في الإفصاح عن نفسه، وبغيابه تغيب الحرية الفردية، وهذا يعني غياب للديموقراطية. وغيابها يعني استحضار للديكتاتورية.
ولأن هذا الجانب متفرع ومتنوع، يكفي أن نذكِّر ببعض العناوين التي استهلكت وضع دراسات وأبحاث كثيرة، ومن أهمها:
-السلطة الدينية الحاكمة تزعم أنها تستمد سلطاتها من الله.
-التشريعات ذات مصدر إلهي مُحرَّم تعديلها.
-الاجتهاد في النص الإلهي نتاج بشري، واستخدامه دليل على الديموقراطية كلام باطل. وهو بدوره يبقى إشكالية خلافية بين المذاهب الدينية نفسها، هذا بالإضافة إلى تعدد مصادر الفقه بتعدد الفرق الدينية وهذا ما يطعن بزعم رجال الدين بإلهية التشريع.
-لم توازن تشريعات الدولة الدينية الحاكمة بين حقوق التعدديات المذهبية والتعدديات الدينية وواجباتها.
تلك الأسباب، كلها أو بعضها، أدَّت إلى ابتكار نظرية الفكر القومي في أوروبا بناء لتلبية حاجة المجتمعات الأوروبية في مواجهة عالمية الكنيسة التي كانت، تحت شعار توحيد العالم المسيحي، تبتز المجتمعات الخاضعة لسلطتها، وتفرض عليها قوانينها وتشريعاتها وتجمع الضرائب تحت مسميات الواجبات الدينية للفرد تجاه المؤسسة التي تمثل الله على الأرض، من دون أن تتلقى تلك المجتمعات مردوداً اجتماعياً، أو فائدة خدماتية. لذا انطلقت الدعوة إلى القومية أولاً من المجتمعات الأوروبية التي وعت حقيقة الأمر، ولم تر تلك الدعوات خلاصاً من سلطة عالمية الكنيسة وأمميتها إلاَّ من خلال الدعوة إلى القومية، ورفض سلطة الكنيسة العالمية. ومن بعد تلك المرحلة، واستجابة لواقع التعدديات الدينية والمذهبية في أوروبا، توسَّع الفكر الغربي في وضع أسس لنظام سياسي تقوم دعائمه على مبادئ علمانية تستجيب لمصالح كل التعدديات الدينية حيثما وُجِدت.
ويكفي هنا أن نشير إلى توضيح الالتباس الحاصل في الحركة النقدية التي تزعم أن العلمانية تقف في صف العداء للإيمان الديني، هذا إذا لم تتهمها بالإلحاد، وتُسقط عليها أحكام التكفير. وإننا نشير هنا إلى ضرورة التمييز بين تشريعات مدنية تحفظ وحدة المجتمع، وهي ذات مضمون اجتماعي سياسي واقتصادي، وبين حاجة الإيمان الديني استجابة لنزعة تفسير الكون ومصير الإنسان بعد الموت، وهي ذات مضمون ماورائي تلبي حاجات روحية وتملأ الفراغ فيها.
وبمثل هذا الفصل نستطيع تحييد العلمانية من وزر إقحامها في موقف لا تحتمله، ونبعدها عن متاهات التكفير لأنها تبغي تنظيم علاقات أفراد المجتمع المتنوع الانتماءات الدينية، فوظيفتها دنيوية، وهذا ما ليس له علاقة بمسألة الخيارات الدينية، التي هي ليست لها مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية، فهي حاجة روحية خالصة، يختار طريقها الفرد وليس المجتمع. وبهذا لو تدخَّل النظام العلماني بكل مضامينه المادية والمدنية، فليست من مهماته أن يتدخَّل بمسألة الخيارات الروحية للفرد أو للجماعة. فالجانب الأول فيه عامل الإلزام للمحافظة على أمن المجتمع المادي، والجانب الثاني فيه التزام لا تستطيع السلطات العلمانية أن تتدخل في تحديده.
وفي المقابل، عندما انتقلت هذه النظرية، بعد ثبات نجاحها في أوروبا، إلى ثقافتنا العربية، وكان انتقالها إلى مجتمعاتنا، بواسطة الرعيل القومي الأول، لأنها وجدت فيها بداية جدية لوضع حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية لآفات كانت تمارسها السلطات الدينية قبل انهيار آخر تجربة للدولة الإسلامية. وكان المراد من نشرها وتعميمها تلبية للشعور بواقع تعسف سلطة الخلافة الإسلامية العالمية على شعوب ليست متجانسة، بحيث كانت تمارس الخلافة سلطاتها مستغلة موارد تلك الشعوب وتوظفها لمصلحة شعب واحد، كان الشعب التركي هو الحاكم في تلك الفترة.
فالنظرية القومية، على الرغم من أنها تعبر عن حقيقية واقعية في العلاقة بين أفراد ومجموعات لتلبية أكثر من حاجة تشكل اللاحم القومي بينها، إلاَّ أن نشأتها كنظرية كانت بناء لحاجة سياسية، يجمع بين انطلاقتها في أوروبا وانعكاسها على الثقافة العربية.
كانت النظرية القومية، بالإضافة إلى هدفها الانفصالي عن سلطة الكنيسة أو الخلافة الإسلامية، قد أجابت على إشكالية كبرى تُختصر بإيجاد قوانين وتشريعات واحدة تستجيب لمصالح التعدديات الدينية والمذهبية التي تشكل قاعدة لبناء مجتمع القومي متآلف، كما أنها تضمن سيادة العدالة والمساواة لكل مواطني الدولة بشتى جوانب الحياة. فكانت الدعوة إلى العلمانية هي الحل النظري الذي اعتقد مبتكروها أنها قد توفِّر حلولاً لعلاقات الأديان والطوائف المتعددة التي تتشارك في وطن واحد، وهي ما تسمى وحدة منظومة الحقوق والواجبات. تلك المنظومة التي عجزت السلطات الدينية، مسيحية وإسلامية، عن توفيرها لسبب يعود أولاً إلى تطبيق ثوابت الفكر الديني. ولم تجد حلولاً للتآلف بين مذاهب الدين الواحد: في الكنيسة الأوروبية التي وجدت حلاً في تكفير بعضها البعض الآخر، وباتهام من لا يدين بمذهب الكنيسة الحاكمة بالهرطقة وإحالته إلى محاكم التفتيش لاستتابته أو لتعذيبه لإخراج عنصر الشر منه، أو للحكم عليه بالحرق حتى الموت.
وكذلك الأمر هو ما حصل في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخ الخلافة الإسلامية، وهذا ما لا نستثني منه حتى بواكير الخلافة الراشدة تلك التي أسست لفتنة انقسام الإسلام إلى مذاهب متناحرة تجاوز عددها الأربعماية فرقة حتى الآن، مروراً بالعصور الأموية والعباسية والملوكية والفاطمية والعثمانية والصفوية.
ثوابت الفكر القومي تميِّز خصوصيات المجتمعات القومية وتحترمها
تتشابه ظروف المجتمعات التي وجدت في النظرية القومية ملاذاً آمناً لشتى أطياف المجتمع الدينية والمذهبية. ولهذا لا نرى علاقة انتشار الدعوة إلى القومية العربية بضمور السلطة الدينية في الخلافة الإسلامية أي اعتقاد غريب، وهذا ما يطرح إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة في التاريخ العربي. أما التُراث فهو ما يضفي على المجتمعات القومية خصوصياتها. وإننا إذا اخترنا تحديث القوانين والتشريعات وعصرنتها، فأي جزء من التراث على تلك العملية أن تستفيد منه؟
هل كل التراث صالح للاستفادة منه؟
وإذا كان الجواب لا، فعلينا أن نراجع تُراثنا وننقده، لنهمل السلبي فيه ونستفيد من الإيجابي. وتلك هي عملية مكمِّلة ومتمِّمَة لخياراتنا التي حدد أهدافها الفكر القومي. فالحركة النقدية لتاريخنا السياسي والفكري والاجتماعي هي جزء ضروري من أجل استكمال وضع نظرية فكرية قومية متوازنة مع التحديث والعصرنة.
غياب التمييز بين الثوابت القومية وثوابت التراث تقود إلى خطاب سياسي غامض
حيث إن الثقافة الشعبية العامة، باستثناءات قليلة، تتحصن داخل الخطاب الديني، الإسلامي منه بشكل كبير، فهي تقف موقفاً سلبياً، إن لم يكن تكفيرياً، من أي فكر آخر، ومنه الفكر القومي العربي. وخوفاً من الاصطدام مع البيئة الثقافية السائدة، امتنع بعض الحركات السياسية القومية، وبعض المفكرين القوميين العرب عن القيام بعملية نقدية للتراث وللثقافة السائدة معاً، فطغى أسلوب الخطاب السياسي التوفيقي في أحيان كثيرة ولافتة وجاءت نتائجه أقرب للمبادئ الدينية التراثية وكانت على حساب المبادئ الأساسية للفكر القومي. واستناداً إليه ارتفعت شعارات تزاوج بين الفكرين الإسلامي والقومي من دون تمييز بين حدوديهما إلى الحد الذي يستغرب فيه الكثيرون من المفكرين القوميين والحركات السياسية القومية من وجود مثل تلك الحدود.
تلك هي إشكالية المرحلة الراهنة، التي أضاع فيها الخطاب السياسي حدود الفكر القومي، فطغت عليه المرحلية على الثوابت، وأصبحت أكثرية الملتزمين بالفكر القومي تنحاز إلى تغليب حدود الفكر الديني على حدود الفكر القومي، ذهب فيها البعض إلى خيار ثالث قائل بـ«الفكر القومي الإسلامي»، وبمثل هذا الاتجاه أضاع القوميون أهم ثابت من ثوابتهم، وبه زرعوا الخوف في نفوس معتنقي الأديان الأخرى أولاً، وتناسوا ثانياً أن الفكر الإسلامي المستند إلى الفقه قد أصبح أكثر من إسلام، لأن لكل مذهب إسلامي فقهه الخاص الذي وضعه المذهبيون في مرتبة المقدس. وبذلك سيتصارع أصحاب هذا الشعار حول أي فقه سيستندون في تشريعات الدولة القومية وقوانينها.
فأين تبدأ هذه الإشكالية وأين تنتهي؟
الخطاب السياسي القومي جزء مكمِّل للثوابت القومية معبِّر عنها ومتقيِّد بمضمونها
إذا كان على الفكر النظري النزول من النظرية إلى التطبيق، بحيث ينتفع به البشر، وإذا كان فكراً جديداً يهدف إلى نقل المجتمع الموجَّه إليه إلى ضفة التغيير. والتغيير بدوره لا يمكن أن يحصل بقفزات سريعة، بل يتم بنقلات متدرجة بحيث يهضمه المجتمع شيئاً فشيئاً، وقد تمر أجيال عديدة ليصل التغيير إلى حدود واضحة ومنظورة. أما السبب فهو أن الثقافة القديمة تدخل في مواجهة معه، وتضع عوائق وعراقيل في وجهه.
وكي لا تكون المواجهة شديدة تؤدي إلى رفض عميق، يلعب الخطاب السياسي دوراً أساسياً في التمهيد لنقلة تعقبها نقلة، على أن يكون مبنياً على خطط مرحلية، وأن يكون مدروساً ومتقناً، بحيث لا يصطدم مع الثقافة القديمة السائدة من جهة، وأن لا يجاريها في استسهال التقرب إلى الجماهير من أجل كسبها ثانياً. والانتقال من نقد سلبيات الثقافة القديمة وتقديم البدائل القومية المناسبة ثالثاً.
الثوابت القومية بوصلة تصوِّب اتجاهات الخطاب السياسي
قبل كل شيء، ولكي يساعد الخطاب السياسي في التغيير الفعلي، لا بدَّ من أن يمتلك، بتقديرنا، وضوح الرؤية بما يلي:
-أن تشكل الثوابت الفكرية الجديدة بوصلة للخطاب السياسي، ولا يجوز التعتيم على مضمونها، خوفاً من الاتهام بالإلحاد، أو الحكم بالتكفير على أصحابها.
-من أهم الثوابت القومية يأتي رفض بناء دولة دينية في مقدمتها. وإن هذا الأمر يستدعي نقداً للفكر الديني، لأنه من دون نقد واعٍ لا يمكن البرهان على صحة مضمون الفكر القومي وأهميته في بناء الدولة العصرية. والنقد المشار إليه يشمل نقد الفكر الديني بجانبه السياسي، سواءٌ أكان دينياً عاماً أم مذهبياً خاصاً. أما النقد بجانبه الروحي فهو ليس من مهمات الفكر القومي، والسبب أنه عندما يغرق الفكر القومي في نقد الجانب الروحي في الأديان والمذاهب، فسوف يتواجه بإشكالية التفضيل بين دين وآخر، أو بين مذهب وآخر، أو عليه أن يستنبط نظرية روحية جديدة، وهذا ليس من مهماته على الإطلاق.
-من ثوابت الفكر القومي أيضاً أن يحصر همه بتأسيس كل ما له علاقة بتنظيم حياة المجتمع القومي المادية والاجتماعية، وأساسهما العدالة والمساواة بين المواطنين كافة القائم على الأخلاق. وأما خياراتهم الروحية فهي شأن من شؤونهم الفردية لا يجوز أن يتدخل الفكر القومي فيها وكذلك الدولة القومية، بل احترام تلك الخيارات، معتقدات وطقوس خاصة بكل دين أو مذهب، وحمايتها، وأن لا تتدخل إلاَّ ضد ما يمس سيادتها ويمس وحدة المجتمع القومي.
-كي لا يصطدم بالموروث الثقافي الديني والمذهبي، على الفكر القومي أن يلحظ في ثوابته الفكرية ما يلبي حاجة النفس البشرية للدين بتعميم ثقافة مخاطر الترويج للإلحاد من جهة، ووضع خطة تربوية روحية قائمة على الأخلاق من جهة أخرى، وتهذيب وسائل الخيارات الروحية التي تلبي حاجة الإنسان للدين كخيار روحي راقٍ للخلاص في الآخرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق