-->
الاختلاف حول الهوية الثقافية والهوية القومية
أزمة أساسية تعيق طريق حركة التحرر العربي
بحث قُدِّم في مؤتمر عقدته الجمعية الفلسفية الأردنية في عمان
25/ 8/ 2008
تقديم البحث
إذا كنا نعترف بحق الاختلاف، وهو أمر ضروري في داخل المجتمع الواحد، كما هو حق ديموقراطي، إلاَّ أننا لا نجد في الاختلاف الدائر بين التيارات الثقافية العربية، حول الهوية الثقافية العربية، اختلافاً داخل الوحدة، بل هو اختلاف يقودها إلى خارج الوحدة. وإذا لم تكن الثقافة عاملاً أساسياً في توحيد المجتمع العربي، فلن تكون ثقافة لها هويتها العربية، وكل ثقافة تعمل على تمزيق المجتمع العربي من الدعوة إلى غير وحدة سياسية عربية، فهي ليست ثقافة قومية، بل هي ثقافة تكتسب هوية مشروعها السياسي الطامح إلى بناء وحدات أخرى على حساب الوحدة القومية العربية.
وإذا كنا نميِّز بين الاستفادة من كل فكر مهما كانت منابعه وبين أهدافه السياسية، نرى أن هناك علاقة بين هوية الثقافة ومشروعها الإيديولوجي، وبالتالي السياسي.
وهنا ترتفع في وجهنا أسئلة وتساؤلات عن أنواع الثقافات التي تسود في مجتمعنا العربي، مثل:
-الثقافة القطرية بمعنى تسويغ بناء أمم قطرية داخل الأمة الواحدة.
-والثقافة الدينية بمعنى ثقافة التيارات الدينية السياسية التي تتجاوز أهدافها حدود الأمة إلى خارجها تلك التي تعمل على بناء دول دينية أو مذهبية دينية ترتبط بمشروع أممية دينية.
-والثقافة الماركسية التي تربط الثقافة بمرجعيات فكرية أممية تتجاوز أيضاً حدود الأمة إلى خارجها.
-بعض التيارات الليبرالية المنفعلة بالحضارة الحديثة المرتبطة بعجلة النزعة الإمبراطورية الأميركية.
فهل التيارات الثقافية التي تعمل على بناء أمم داخل الأمة إلاَّ تيارات تكتسب هوية ثقافية تنتسب إلى مرحلة ما قبل القومية العربية؟
وهل التيارات الثقافية التي تجر أجزاء الأمة إلى وحدات أخرى تقع خارج حدودها إلاَّ تيارات تكتسب هوية ما بعد القومية؟ وإذا كنا حتى الآن لم ننجز بناء الأسوار السياسية لقوميتنا، فهل يمكننا الاعتراف بمرحلة ما بعد القومية؟
وهل التيارات الثقافية، كالثقافة الليبرالية التي هي مفتاح عام لثقافة التحرر في العالم، فيها ما يناسبنا وفيها ما يتعارض مع مفاهيمنا ذات الخصوصية، فالثقافة الليبرالية التي تدعو إلى الاستهلاك من حضارات الشعوب المتقدمة من دون الدعوة والعمل لبناء مجتمع الإنتاج، إلاَّ تيارات ثقافية تجرنا إلى الانتماء للمجتمعات الأكثر تطوراً صناعياً، وإنتاجاً حضارياً. وهل هي إلاَّ هروب إلى وراء يضعنا في دائرة الاتكالية بحيث نقتات من حضارات الأمم الأخرى ونستهلكها من دون العمل لإنتاج الحضارة، لكي يكون عندنا ما نقتات به ونسهم في توفير قوت عربي للأمم الأخرى؟
من الإجابة على هذه التساؤلات نستطيع أن نفهم أزمة الاتفاق على تعريف الهوية الثقافية العربية. تلك الهوية التي أصبحت كالعربة التي يجرها عدة أحصنة، كل حصان منها يجرها إلى اتجاه يعاكس تيار الأحصنة الأخرى، وفي مثل تلك الحالة سوف تنشطر العربة وتتشظى. والثقافة عندنا، حتى ولو كانت لغتها العربية، ومنتجوها من الذين يسكنون الأرض العربية، الثقافة التي لا تدعم أحصنتها قطر الدائرة إلى التماسك فإنها ليست ثقافة عربية.
فإذا كانت الثقافة القطرية مفهوماً يعود بالأمة إلى عصر ما قبل القومية، أي عصر الدويلات الطائفية، وهو بالتالي سيكون أقرب إلى خدمة التيارات الثقافية العابرة للقومية،
وإذا كانت الثقافة الليبرالية لا تكتسب هوية الثقافة القطرية ما قبل القومية، ولا تكتسب أيضاً هوية الثقافة عابرة القوميات، بل أهدافها تتلون وتنشد باتجاه هوية المجتمعات الأكثر تقدماً صناعياً وحضارياً، وتكون بهذا المعنى أقرب إلى المجتمعات الغربية،
ولما كانت الثقافتان القطرية والليبرالية حالتين ثقافيتين منفعلتين بمواصفات مجتمعية تتناسب مع مصالح مروجيهما، وهي ليست أكثر من ردة فعل على حالة التخلف السائدة في مجتمعاتنا، وهما ستزولان بزوال أسباب ردات فعلهما، فإن الثقافات الأممية، دينية وماركسية، لهما مشاريع سياسية مبنية على إيديولوجيا فكرية عابرة للقوميات لا يمكن العبور إليها إلاَّ بهدم الجدران القومية.
من أجل ذلك سنولي الاهتمام في دراستنا هذه للتيارات الثقافية ذات المشاريع السياسية المحددة، ولعلها الأكثر تأثيراً في الحفر تحت أسس الثقافة القومية من أجل تقويضها.
من كل ذلك نستنتج أن هناك أزمة ثقافية عربية فعلية، هناك اختلاف حول تحديد هويتها.
تعريف أزمة الهوية الثقافية العربية:
لا تعاني أمة على وجه الكرة الأرضية من أزمة هوية ثقافية شبيهة بما نعاني منها كعرب. فمفهومنا للأزمة حول الهوية هو أن الاختلاف حول تحديدها يؤدي إلى اختلاف على شتى جوانب الحياة، سواءٌ أكانت سياسية أم اقتصادية أم أمنية وعسكرية، بل إلى خلاف يعيقنا عن مواجهة مخططات الخارج بمنهج واحد واتجاهات واحدة ووسائل واحدة ويد واحدة. وما نشهده اليوم من اختلافات في الرؤى والإيديولوجيات حول هويتنا، يرتبط بما نشهده من ضعف في المواجهة في شتى القضايا العربية الساخنة، بل هو نتيجة لغياب الاتفاق حول مفهوم موحد حولها.
لم تكن الهوية أزمة حديثة بل لها جذورها التاريخية التي تمتد إلى عمق تكوينها الفكري والسياسي، أي منذ انهيار آخر حلم أممي إسلامي بسقوط الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وما شاب تطورهما من متغيرات، واختلافات عقائدية وجغرافية، وأحداث سياسية. وما انقسام المشاريع الإيديولوجية إلى قومية وأممية دينية وماركسية إلاَّ مظهر واضح من مظاهر الأزمة.
ولهذا، وكمثل كل القوميات الحديثة التي لم تعرف الاستقرار إلاَّ بعد صراع طويل، كانت قوميتنا عرضة لمتغيرات متواصلة لم نستثمرها بالوجهة الصحيحة وعلى قواعد صحيحة، بل كانت الأحداث السياسية والعسكرية هي المؤثر الأساسي التي تشكل عجينة ثقافتنا كما تشاء وكيفما تشاء.
ولعلَّ، في تقديرنا، كانت أسباب الانتشار والتوسع، بالمفهوم الإمبراطوري، الذي طبع الأحداث التاريخية للبشرية كافة، سبباً في ذلك. الانتشار الإمبراطوري الدولي، الذي انتعش في تاريخنا الحديث والمعاصر، كان قد أسهم في تقويض إمبراطورية عالمية أسسها العرب المسلمون، والمسلمون من غير العرب، وعملوا على تقويضها من أجل القضاء على كل حلم بالوحدة. وقد استخدموا كل عوامل السياسة والجغرافيا والفكر ووسائل المعرفة من أجل ذلك.
تلك الأزمة يديرها اليوم، اتجاهان إيديولوجيان: أحدهما قومي حديث، وثانيهما أممي قديم لم يتغير يقوده فكر ديني ذو أغراض سياسية يسعى لبناء دولة دينية عالمية تستمد سلطاتها مما تزعمه تشريعات إلهية، وأممي حديث تقوده فلسفة مادية تسعى لبناء دولة عالمية تستمد سلطاتها من تشريعات اقتصادية وضعية.
يستند المشروع القومي الحديث إلى فكر غربي حديث النشأة، استطاع أن يحل أكثر الأزمات حدة عند شعوب أوروبا، وتلك النظرية الفكرية، من هذا الجانب، يمكن أن تكون قد تواجهت بردود فعل سلبية على قاعدة الحكم بأن ما يأتي من الغرب هو أحد حكمين (إما غزو يجب رفضه كله، أو إشعاع يجب أخذه من دون نقد أو تمحيص).
ويمثل الثاني تياران:
-تيار أممي إسلامي يحاكي تجربة الإمبراطورية الإسلامية بآخر مظاهرها الخلافة الإسلامية في تركيا.
-وتيار أممي يحاكي الفلسفة الماركسية بآخر مظاهرها نظام الاتحاد السوفياتي من جانب آخر.
فالقومي الحديث والمعاصر يُبنى على أسس تاريخية يتَّخذ حقائق العصر بوصلة يهتدي بها. والقديم الأممي الإسلامي يتَّخذ الواقع التاريخي مرشداً له متناسياً حقائق العصر ومتغيراته. والأممي الحديث، بآفاقه ومنهجه الاشتراكي، يتخذ موقع الصراع في مواجهة الأطماع الرأسمالية، من أجل بناء دولة أممية.
إن أهداف تلك التيارات تقع على حدود متناقضة الأمر الذي يضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، فتضيع هوية الثقافة، ويتم تجهيلها، تحت مطارق النزعات الأممية. وتلك التيارات هي:
-تيار الثقافة القومية العربية التي تعمل لمصلحة بناء دولة قومية.
-تيار الثقافة الدينية السياسية التي تعمل لمصلحة بناء دولة دينية عالمية.
-تيار الثقافة المادية الصرفة التي تعمل لبناء دولة مدنية عالمية.
ولأن تلك التيارات تمثل شرائح بشرية عربية واسعة، وتعمل على التبشير بإنتاج ثقافي باللغة العربية يتم استهلاكه عربياً وهضمه عربياً، وتنعكس تفاعلاته انقساماً حاداً ليس على مستوى النخبة فحسب، بل على مستوى الانقسام الفكري على البنية البشرية التحتية للمجتمع العربي أيضاً. وقعت هوية الثقافة العربية في أزمة، وتوزَّعت إلى هويات متعددة تتصارع على حساب مواجهة الغزو الإمبراطوري الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كان الأممي الإمبراطوري الرأسمالي يعمل للاستيلاء على منطقتنا من الخارج، فهناك إجماع من التيارات القومية والتيارات الأممية، بشقيها، على مواجهته. ولكن يقود كل تيار وسائل المواجهة على طريقته ومنهجه العقيدي والسياسي، إلاَّ أن هذا الإجماع يبقى نقطة ضعف أساسية يعود سببها إلى أن المواجهة مع الخارج تترافق مع انتشار المواجهات الموضعية التي تدور بين التيارات الثلاثة حول تحديد هوية للعرب. أهوية عربية هي؟ أم هوية إسلامية تتجاوز حدود الأمة؟ أم هوية أممية مادية تهدف إلى بناء دولة عالمية؟
وبمثل هذا الجدل الداخلي صحَّ فينا القول: بيزنطية تتعرض للعدوان وأهلها يتلهون بجنس هويتنا. الأمر الذي يدفع بنا إلى معالجة مسألتين مركزيتين، وهما:
-الأولى: إشكالية تعريف الهوية الثقافية نتيجة لإشكالية الاختلاف حول هوية الأمة
إن وقوع الهوية الثقافية بأزمة ليس إلاَّ نتيجة لأزمة الاتفاق هول هوية أمتنا القومية، ومن السبب المؤسس يمكننا الانطلاق، والبحث والبناء وتوصيف المعالجات والحلول. ونحن نرى أن الإشكالية المطروحة ليست بالسهلة القريبة على المنال بقدرة سحرية، ولكنها لن ترقى إلى درجة المستحيل، بل يجب أن تبقى الحلم الأساسي الماثل في حركة دؤوبة تتصدى للمسؤولية فيها الحركة القومية العربية، أحزاباً وهيئات وقوى وشخصيات معنوية ومفكرين قوميين، تعمل على توحيد جهدها أولاً كتمهيد لا بدَّ منه لحركة حوار جدي مدروس مع التيارات الأخرى ذات الاتجاهات الأممية السياسية.
الثانية: تقوية جدران صمود الفكر القومي مسؤولية التيارات القومية
ومن أجل كل ذلك، يتطلب الأمر ورشة عمل فكري، تستند إلى نتائج البحث الأكاديمي الصارم، إذ بغيره انزلق الخطاب القومي الراهن إلى المحاباة والمجاملة والتنازل عن كثير من ثوابته، أو على الأقل جعل تلك الثوابت واهنة تنوء تحت أثقال ما تزعمه الحركات السياسية، خاصة منها التي تستند إلى حركة فكرية، صعوبة المواجهة مع الثقافة الشعبية السائدة.
وعلى شتى الأحوال يطرح هذا الأمر إشكالية ترتيب الأولويات: بين أولوية الخطاب السياسي أم أولوية النظرية الفكرية، ومن منهما عليه أن يصوِّب الاتجاهات للآخر.
كما يطرح البحث عن الإشكاليتين: أزمة هوية الأمة، وأزمة هوية الثقافة، إشكالية على غاية من الأهمية تشكل المدخل الأساسي في التغيير، وهي إلى متى يستمر انكفاء الأحزاب السياسية، العقائدية منها على وجه التحديد، عن النظر إلى المصالحة بين الفلسفة والإيديولوجيا؟
أولاً: تعريف هوية الثقافة
(ملاحظة: لم نقم بتوثيق ما ورد في الدراسة لأنها تعتمد على نتائج بحوث موسَّعة سابقة للمؤلف نُشرت في كتب ودوريات. لذلك اقتضى التنويه)
1-مفهوم الثقافة:
إن «التراث الثقافي هو مجموعة النماذج الثقافية التي يتلقاها جيل من الأجيال عن الأجيال السابقة، وهو من أهم العوامل في تطور المجتمعات البشرية، لأنه هو الذي يدفع المجتمع إلى السير خطوة جديدة في سبيل التطور، فعن طريق دراسة ذلك الإرث يصل العلماء إلى التجديد والابتكار». والمسألة التراثية هي هاجس إنساني لا تنحصر أهميته بالأمة صاحبة التراث فحسب، بل تستفيد منها المعرفة الإنسانية أيضاً، لأنها عبارة عن تراكمية المعارف في التراث الإنساني بحضاراته المتعاقبة المختلفة. وتراثنا العربي هو جزء من أهم أجزاء هذا التراث الإنساني لأنه الأقدم والأعرق في التاريخ.
فالثقافة تتميز بثلاث خصائص رئيسية: إنها إنسانية، وإنها تنتقل من جيل إلى جيل، أو من وسط اجتماعي إلى وسط آخر. وإنها قابلة للتعديل والتغيير، وفق ما يحيط بالإنسان من ظروف خاصة جديدة.
2-مفهوم الثقافة العربية:
هنا يستحضرنا التساؤل التالي: هل كل من كتب بلغة عربية، حتى لو سكن الأرض العربية، يعبِّر عن الثقافة العربية، بل هل اللغة وحدها هي التي تعطي للثقافة هويتها؟ وهذا يستتبع التساؤل التالي: لو كانت لغة التأليف هي التي تحدد هوية الثقافة، لكانت الكتب المعرَّبة من العوامل التي تسهم في تحديد هوية الثقافة العربية.
فهل الثقافة الدينية ذات الأهداف الأممية تسهم في تعريف هوية الثقافة العربية؟
وهل الثقافة العلمانية ذات الأهداف الأممية تسهم في تعريف هوية الثقافة العربية؟
إن كل ثقافة لا تستند إلى خصوصيات المجتمع القومي، ولا تهدف إلى خدمة هذا المجتمع، فهي لن تنتسب إلى ثقافة هذا المجتمع.
إن الثقافة الإسلامية، كانت ذات نشأة عربية، بلغة عربية، وعلى أرض عربية، وفي مجتمع شبه الجزيرة العربية، ومن أجل التغيير في البنى المجتمعية العربية، هي ثقافة عربية، لخصوصية أهدافها وأدواتها ووسائلها. لكن إذا انتزعنا منها خصوصياتها، ووظفنا تأثيرها لغير مصلحة الأمة العربية، فهل تبقى على صلة وثيقة بالثقافة العربية؟
وهذا يستتبع التساؤل التالي: هل تمثل الدعوات الإسلامية التي تؤمن بأن القومية العربية ما وجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام، كلاً أو جزءاً، من الثقافة العربية؟
كما أن دعاة الفلسفة الماركسية ممن يسكنون الأرض العربية، ويتكلمون باللغة العربية ويكتبون بها، لكنهم يعتبرون القومية العربية شوفينية المضمون والأهداف، ويدعون إلى تجاوزها ومحاربتها، ويبشرون ويناضلون من أجل وحدة أممية، يفرضون علينا التساؤل التالي: هل يرتبط إنجاز الماركسيين العرب وكتاباتهم وتنظيراتهم، بأي رباط مع الثقافة العربية؟
جواباً على كل ذلك، نعتبر أن هوية الثقافة العربية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمضمون المشروع الثقافي الإيديولوجي لأية حركة فكرية أو أية حركة فكرية سياسية. فكل مشروع ثقافي يحمل مضموناً سياسياً أممياً، دينياً كان أم علمانياً، يقع خارج تعريف الهوية الثقافية العربية لأنه لا يعبِّر عن خصوصياتها.
وفق هذه الأسس يمكن التمييز بين الثقافة القومية كحالة تراكمية للمعارف الإنسانية، وبين ثقافة مرحلة معينة تمر بها الأمة. فالحالة التراكمية هي نقل ثقافة مرحلة لاحقة عن ثقافة مرحلة سابقة بجدلية ترفض السلبي وتبني على الإيجابي وتضيف شيئاً جديداً إليهما. هذا الأمر يساعدنا على تعريف الأمة وثقافتها، ويجعلنا نتساءل: هل الثقافة العربية كانت نتاجاً لثقافة إسلامية فقط؟ أم أنها كانت نسيجاً لتراكم جدلي تاريخي تفاعلت فيه ثقافات سابقة لشعوب عاشت في أماكن جغرافية مجاورة للجزيرة العربية؟
هذا الأمر نجده مدخلاً لمعالجة الالتباس الحاصل في مفهوم الأمة العربية كحالة تكوَّنت تاريخياً بشكل تراكمي بلغت أوجها في الإمبراطورية الإسلامية التي كان العرب يمثلون جزءاً منها. ومنه جمعت الأمة العربية بين حضارات الشعوب التي تشكل الآن جزءاً منها، تلك الحضارات تفاعلت بشكل جدلي أنتج ثقافة عربية تمثل المرحلة الإسلامية أهم مراحلها. هذا التفاعل أضفى على مفهوم الأمة العربية تعريفاً أوسع من العامل العرقي، ومن العامل الديني، ومن العامل اللغوي، ومن العامل الجغرافي البيئي، واتَّسع أكثر من وعاء ثقافة واحدة، إذ أصبح يعنيها كلها، إلاَّ أن عامل اللغة أسهم بشكل جدي وواضح في انصهار كل تلك العوامل في وحدة جديدة عُرفت بالثقافة العربية الواحدة. الثقافة التي يجد كل عرق من أعراقها حصة له فيها، كما يجد له مصلحة في المحافظة عليها وحمايتها. كما تجد كل ثقافة دينية، قبل تنزيل الدعوات السماوية وبعدها، حصة في تكوين الثقافة العربية سواءٌ أكانت هذه الحصة كبيرة أم كانت صغيرة. هذا الأمر يدفعنا إلى القول بأن كل ثقافة فرعية لها خصوصيتها ولها احترامها داخل الجسد الوحدوي، بما يغرس الاطمئنان في نفوس التجمعات المتعددة في المجتمع العربي، ويجد له حماية بالمحافظة على الوحدة المركزية التي وحدها تضمن لها حماية معتقداتها ومصالحها.
وإذا كنا نحفظ الدور الأكبر للمرحلة الإسلامية في التاريخ العربي، فإنما هذا الدور كما نعتقد لا يستند إلى العامل العرقي كما كان معروفاً قبل انطلاقة الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية. كما لا يستند إلى إلزام روحي إسلامي لكل تنوعات الأمة الروحية، لأن هذا الإلزام سيجرنا أيضاً إلى الاختلاف حول مذهبية هذا الالتزام. تلك الوقائع التاريخية: انتشار الدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية، شاملاً بلاد ما بين النهرين شرقاً، أي ما يُسمى بسورية الطبيعية، وشواطئ المحيط الأطلسي غرباً، والسودان جنوباً، أسهمت بشكل واضح في رسم معالم القومية العربية، وتشكلت من تفاعلها معالم الثقافة العربية.
هذا الجزء من الإمبراطورية الإسلامية حاز على شروط الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية الموحدة عبر اكتساب اللغة العربية. فلعب عامل اللغة عند الشعوب والأعراق، التي أصبحت رعايا للدولة الإسلامية، دوراً كبيراً في اكتساب الثقافة الإسلامية، وأسس بنية حضارية اكتسبت خصائص الثقافة الجديدة متكاملة مع خصائص البنى الحضارية للشعوب والأعراق الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشعوب الأخرى، التي كانت من رعايا الإمبراطورية الإسلامية، والتي لم تكتسب اللغة العربية، لم تستطع التفاعل مع الدعوة الإسلامية، وبالتالي مع الدولة الإسلامية، وهذا ما تؤكده وقائع عودة تلك الشعوب إلى أحضان قومياتها وأديانها السابقة بعد انهيار الدولة الإسلامية الواحدة.
وإذا كانت الحضارات التي عرفتها دويلات المشرق العربي، دويلات سورية الطبيعية، من أقدم الحضارات في العالم، قد سبق تاريخها مرحلة سيادة الإسلام، فإن الإسلام شكَّل مرحلة من أهم مراحل التاريخ العربي، إلاَّ أن هذا لا يعني أن المرحلة الإسلامية كانت العامل الوحيد في تكوين الهوية العربية، بل كان لكل حقبة زمنية منذ آلاف السنين دور في تكوين تلك الهوية.
وإذا كانت الثقافة القومية نتاجاً لكل المراحل، ولا نستثني الدعوات السماوية منها، لأن كل واحدة أخذت عن التي سبقتها، وكانت الدعوة السماوية الأولى قد أخذت عن المراحل الحضارية والثقافية التي سبقتها. ويكفي في هذه الدراسة المتواضعة أن نشير إلى القليل من دلائل الحضارات التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية، ومنها نستدل على الكثير من البراهين والأدلة التي تخدم استنتاجاتنا:
-بداية الخلق، والجنة، والطوفان. (([1]) ديورانت، ول: قصة الحضارة (المجلد الأول / الجزء الثاني): جامعة الدول العربية: 1965م: ط 1: (ترجمة محمد بدران): ص 16. (لما تقدم العهد بمدنية السومريين (حوالي العام 2300 ق. م.) قام شعراؤهم بكتابة قصص عن بداية الخلق وعن جنة بدائية،، وعن طوفان مروع غمر تلك الجنة وخرَّبها عقاباً لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين. وتناقل البابليون والعبرانيون قصة هذا الطوفان، وأصبحت –بعدئذٍ- جزءًا من العقيدة المسيحية).
-قصة النبي موسى: مصدرها الأساطير السومرية ونقلتها الكتب السماوية. (ديورانت، ول: قصة الحضارة (المجلد الأول / الجزء الثاني): م. س: ص 18 – 19. (بعد العام (300 ق. م.) أنشأ سرجون الأول مملكة عاصمتها مدينة آجاد (على مسيرة مائتي ميل من دول المدن السومرية). لم يكن سرجون من أبناء الملوك، بل ابن عاهر من عاهرات المعابد. واصطنعت الأساطير السومرية له سيرة شبيهة، في بدايتها بسيرة موسى. وجاء فيها أن أمه –وضيعة الشأن- أخرجته إلى العالم سراً، ووضعته في قارب مُغلَق، فأنجاه أحد العمال، وأصبح ساقٍ للملك، فقرَّبه وازداد نفوذه. وخرج على سيده وخلعه وجلس على عرش آجاد).
-قصة آدم وحواء نجد لها أصولاً في المرحلة الآشورية. (([1]) راجع فراس السواح: مغامرة العقل الأولى: ص 100. (وتجد الكثير من هذه الدلائل والبراهين في الحفريات السومرية منذ 2300 سنة قبل الميلاد).
ثانياً: أسئلة لا بدَّ منها على طريق حلٍّ للأزمة
إن البحث عن هوية للثقافة السائدة، في هذه المرحلة، يدفعنا إلى البحث عن أجوبة عن الأسئلة التالية:
1-هل لثقافتنا هوية قومية عربية؟
إن كل ظاهرة عامة، خاصة إذا كانت ظاهرة تتكرر عالمياً، فهي علمية. ولأن الظاهرة القومية تتكرر عالمياً فهي ظاهرة علمية. ونسترشد بما آلت إليه إمبراطورية الإسلامية عندما سقطت في الحرب العالمية الأولى، فعاد كل شعب إلى حدوده القومية بآخر وقائعها ومفاهيمها وعواملها قبل سقوط الإمبراطورية الأم وتفسخها. فعادت دول البلقان إلى أسوارها القومية، وتركيا إلى القومية التركية، وبلاد فارس إلى قوميتها الفارسية، وإسبانيا إلى قوميتها الإسبانية.
ونسترشد أيضاً بما آلت إليه الإمبراطورية الاشتراكية العالمية، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي الدولة العالمية الأم، عادت كل الدول التي شكلت هيكليتها إلى قواعدها القومية سالمة. إلى القومية الروسية، وإلى القومية الأوكرانية، والقومية البلغارية....
و لا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة معرفية ثابتة تقول إنه لو جمَّدنا كل واقعة في التاريخ عند الحدود التي وصلت إليها، لكان العالم كله قد ثبت عند حدود صراعات القبائل، ولكان على المرحلة القبلية التي طبعت تاريخنا العربي أن تبقى ثابتة، ولكان يجب علينا الاستقرار عند مرحلة الغزو المتبادل الذي كان يطبع أهداف الزحف البابلي القادم من بلاد الرافدين باتجاه سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وكذلك أهداف الزحف الفرعوني القادم من مصر. وكان يجب علينا تثبيت ممالك سبأ، وتدمر، وغيرها وغيرها...
2-هل هوية ثقافتنا هوية دينية؟
لما كان الفكر القومي قد نشأ في أوروبا ردَّاً على أممية الكنيسة واستغلال الشعوب الأوروبية تحت ستار التكليف الإلهي، والحيلولة دون تطوير العلم بحجة مخالفتها للتعاليم الإلهية، فقد استطاع، حتى ولو بمفاهيمه الشوفينية والفوقية، أن ينقل الأمم الأوروبية من عصر الظلام إلى عصور التنوير والتطور والتجديد الفكري والسياسي والعلمي والحضاري.
وهل كان حال الدولة الدينية في التاريخ العربي الإسلامي أقل قسوة من دولة الكنيسة؟
عن ذلك، تحت ذريعة أممية الدولة الإسلامية ورسالتها الإلهية، وشرائعها الثابتة، التي يعتقد الإسلاميون أنها تصلح لكل زمان ومكان، كانت علاقة السلفيين الإسلاميين بمحاولات التجديد والتطوير التي بذلها الفلاسفة والمفكرون الإسلاميون علاقة صراع وتكفير، انتصر فيها النقليون على العقليين، فأحرقوا الكتب وحاكموا المتنورين الذين نادوا بسلطان للعقل على النقل.
وإننا لو أخضعنا تلك الوقائع لمحاكمة عقلية تستند إلى مبدأ التفكير الحر غير المقيَّد، وعلى قاعدة تستند إلى أنه لا معرفة جديدة يمكن أن تكون مقطوعة الجذور عن المراحل المعرفية التي سبقتها، لخلصنا إلى نتائج مغايرة عن تلك التي توصَّل إليها المفكرون الإسلاميون السلفيون.
إن البحث عن تلك النتائج تستدعي الوقوف على معرفة المراحل التاريخية التي مرت بها مختلف الجماعات والمجتمعات التي عاشت في المنطقة التي رست فيها مراكب الأمة العربية وفق المفاهيم الحديثة والمعاصرة التي هي عليها اليوم.
وإذا فرضنا جدلاً أن الدين يشكل قاعدة وحيدة صالحة لثقافة واحدة في المجتمع العربي، سواءٌ أكان على الصعيد الوطني أم كان على الصعيد القومي، فمن الموضوعي أن نقوم بمعالجة الإشكاليات التالية:
-أي الأديان السماوية الثلاثة تشكل ثقافة لمجتمعنا، وبالتالي أي من تشريعاتها يمكن تطبيقها في المجتمع الوطني، والمجتمع القومي؟
-أي المذاهب الدينية يمكنها أن تشكل ثقافة لمجتمعنا، وأي تشريع مذهبي يمكن تطبيقه؟
-كيف نعالج إشكالية التكفير والتكفير المضاد بين الأديان من جهة، وبين المذاهب من جهة أخرى؟
-كيف نقارب بين التشريعات الأممية وبين التشريعات الدينية والمذهبية الدينية؟
-هل يمكن للأديان تبادل الاعتراف بعضها بالبعض الآخر؟
-هل يمكن للمذاهب الدينية أن تتبادل الاعتراف أيضاً؟
لقد قمنا بمعالجة هذه الإشكاليات بالكثير من البحوث العامة والبحوث التفصيلية، فلم نجد لها دواءً شافياً. ونتائج أبحاثنا، معطوفة على نتائج أبحاث عدد من المفكرين العرب، تشكل مادة أساسية تكفي للاتفاق على وضع خطة ثقافية تعمل على التمييز بين حاجة الإنسان إلى التهذيب الروحي، وبين إغراقه في المشاريع السياسية المستحيلة التحقق والتحقيق.
3-هل هوية ثقافتنا هوية أممية تستند إلى الفكر الماركسي؟
عندما دعت الماركسية إلى بناء دولة أممية مبنية على أسس وحدة حقوق العمال في العالم كونهم يتعرضون إلى الاضطهاد، فإنما بنت مشروعها الإيديولوجي على أساس قيمة عليا تستند إلى توفير حقوق المضطهدين وضمان تلك الحقوق. إن القيم العليا، بصفتها الإنسانية العامة، تشكل رابطاً بين أبناء المجتمع الواحد، ورابطاً بين أبناء المجتمعات الإنسانية كافة، إلاَّ أنها لن تشكل أساساً لبنيان سياسي عماده دولة عالمية، تحكم كل شعوب العالم. وإن الماركسية قد برهنت على استحالة تحقيق هذا الحلم بنفسها عندما نادت بقيام المجتمع الشيوعي القائم على أرضية انتقال الفرد من مرحلة المعرفة النفعية إلى مرحلة الذوبان المعرفي الكلي بالقيم العليا المجردة عن النفعية الفردية والاجتماعية من خلال قاعدتها الفكرية: من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته. بحيث يلغي بلوغ كل البشر هذا المستوى من الذوبان مفهوم الدولة بمفاهيمها التقليدية.
كان حلم الماركسية جميلاً ببناء دولة أممية توفِّر للإنسان حياة دنيوية سعيدة، شبيهاً بجمال حلم الوعد بالجنة بالمفهوم الديني الميتافيزيقي، إلاَّ أن تحقيق هذا الحلم غير متيسر بمقاييس الموضوعية العلمية على الكرة الأرضية. ولهذا تتحول ثقافتنا، إذا أصبحت عالمية بالمفهوم الماركسي، إلى ثقافة من دون هوية خاصة. وهنا يدركنا التساؤل: هل ما هو ثقافي غير واقعي يعطي هوية لثقافة يجب أن تمهّد الطريق لسعادة مجتمعات واقعية؟
وفي جانب الماركسية السياسي، من خلال إدراكنا لنتائج أسسها النظرية الإيديولوجية، تدعو إلى رفض القومية وتحول دون تحقيقها كحاجة واقعية من جهة، من دون أمل في تحقيق مجتمع عالمي أممي مثالي من جهة أخرى.
إلاَّ أنه، على الرغم من ذلك، فلا شيء يمنعنا من الاستفادة من مقولاتها وقوانينها الاقتصادية والسياسية إذا استطعنا أن نضفي عليها خصوصياتنا الثقافية العربية.
ثالثاً: نتائج ومقترحات
إذا كان موضوع بحثنا هو تعريف الهوية القومية، وبالتالي تعريف هوية الثقافة العربية، فإن الهوية القومية هوية عربية، وإذا كان هدف الثقافة العربية وضعها في خدمة الأهداف القومية، نستطيع أن نقف عند مسلمة هي أن الهوية القومية عبارة عن مركز قوة تجذب كل العوامل الثقافية باتجاه مركزيتها، وتضعها في خدمتها.
والتعددية داخل الفكر العربي، أو الثقافة العربية، بهذا المعنى يجب أن تنجذب باتجاه المركز القومي العربي. أما أن تكون طاردة إلى خارجها فهي تكون في خدمة كل الأهداف باستثناء الهدف المركزي القومي.
فالتعددية ذات المركزيات المتعددة، كما هو حاصل في الصراع بين النزعات الثقافية الأممية والأصول الثقافية القومية العربية، فهي في داخل الثقافة العربية تشكل عاملاً طارداً وجهته كل الجهات باستثناء مركزيتها القومية العربية.
أما الحل من أجل استعادة تعريف للتعددية الثقافية داخل الوحدة المجتمعية العربية فلا يمكن أن يتم من دون إعادة توجيه التعددية الحاصلة الآن، بنسختها الراهنة، إلى تحديد مركزية الجذب القومي العربي. ولكن على أساس أن تتم الاستفادة من التنوعات الثقافية التي تختزنها الثقافات الطاردة إلى خارج المركزية القومية، ووضعها في مصلحة المجتمعية القومية العربية.
وإنه بمثل هذا العلاج نخرج من أزمة تعريف الهوية الثقافية العربية، وتصبح التعددية عامل توحيد لا عامل تفتيت، عامل استعادة الوعي القومي لا عامل تغييبه وتجاهله.
وهذه هي أزمتنا الثقافية العربية، وإننا إذا أردنا أن نسهم في الحل، نقترح دراسة الخطوات التالية:
لا بدَّ، قبل كل شيء، من التمييز بين النزعات الإمبراطورية التي تعمل على تصدير نفسها إلى الخارج بوسائل سياسية وفكرية وعسكرية، وبين أنسنة القيم العليا التي يتم تصديرها بوسائل حوارية. فالأولى تعمل للاستيلاء على الأمم الأخرى من أجل إخضاعها بالقوة تحت أكثر من ذريعة، ومن أهمها:
1-النزعات الرأسمالية، ومن أبرز مظاهرها، في عصرنا هذا، مشروع أمركة العالم باعتبارها تمثل (نهاية التاريخ)، وقيادته على مقاييس الأفكار الرأسمالية.
2-النزعات الدينية، ومن أبرز مظاهرها، في عصرنا هذا، مشروعيْ (لا حاكمية إلاَّ لله) ومشروع (ولاية الفقيه)، باعتبارهما على الرغم من تناقض أهدافهما وتكفير أحدهما للآخر، يمثلان (أمراً إلهيا) لقيادة العالم إلى الخلاص في الآخرة. والنزعتان معاً يمثلان نهاية للتاريخ أيضاً.
3-النزعات الماركسية الأممية، وكان الاتحاد السوفياتي من أبرز تجاربها في التاريخ. وعلى الرغم من انهياره لا تزال نزعة بناء حلم أممي تسكن مخيلة الماركسيين.
4-على الرغم من أن بعض التيارات الدينية الإسلامية قد اختار بناء دولة قومية عربية، وعمل على تفكيك الكثير من ألغام الصدام بين القومية والدين إلاَّ أنه لا يزال التيار الأضعف، وهو بطبيعة الحال سيكون صلة الوصل في تعميق الحوار بين قومية أهداف مجتمعنا وعالميته.
5-على الرغم من أن قطاعاً من الشيوعيين العرب عملوا على المقاربة بين الماركسية، كنظام دنيوي اقتصادي، والقومية كنظام اجتماعي سياسي، إلاَّ أنه لم يبلغ المقدار الفاعل والمؤثر للتقريب بين الماركسيين العرب والقوميين العرب، من أجل إدارة حوار وتعميق اتجاهاته وأهدافه.
لكل من النزعات الثلاث أهداف القفز فوق القوميات والمجتمعات القومية، تلك الأهداف التي تجمد العالم بأسره داخل دائرة حروب لا تنتهي ولن تنتهي، وهي مشاريع الدول الدينية التي أثبتت وقائع التاريخ أنها لا تتمتع بصفة الاستمرار، ومشروع التوسع الإمبراطوري الأميركي الذي يشهد نهايته في العراق، هذا الأمر يدفع بنا للدعوة إلى أن تأخذ المرحلة القومية فرصتها بالنمو، باعتبارها نتاج الفكر الحديث الذي مهَّد الطريق أمام نشأة مجتمعات قومية متماسكة أسهمت بشكل جدي وملموس في بناء الحضارة الحديثة والمعاصرة. المرحلة القومية التي تعمل على بناء علاقة متينة بين دولة تعبِّر عن مصالح المجتمع من جهة، وترتبط بالمجتمع البشري بعلاقات متوازنة تحكمها القيم الإنسانية العليا من جهة أخرى.
وعلى قاعدة المصالحة بين الدولة والمجتمع القومي المتعدد، والمصالحة بين شتى القوميات على الكرة الأرضية، تُبنى أسس ثقافة عربية قومية تدين بالولاء لمصالح الأمة العربية أولاً، كما تبني لعلاقات إنسانية متكافئة مع الثقافات الأخرى ثانياً.
إن هذا الأمر يترتب عليه عودة التيارات الفكرية والثقافية الأممية إلى دائرة التعددية داخل الوحدة، على أن يسبقها خروج تلك التيارات من التعددية خارج الوحدة وضدها. ويقابل ذلك انفتاح القوميين على كل ما هو إنساني في إيديولوجيا تلك التيارات.
وبناء على كل ذلك نقترح المرور بالخطوات التنفيذية التالية:
أولاً: أن يبدأ التيار القومي، بكل فصائله، بدراسات تهدف إلى توحيد رؤيتها عن الفكر القومي.
ثانياً: دراسة التيارات الثقافية الأممية التي تعمل على ساحتنا العربية، وتحديد اتجاهاتها وأهدافها. وتشخيص نقاط التلاقي ونقاط الافتراق معها.
ثالثاً: الدعوة إلى حوار منظم بين تلك التيارات، وضمان شروط استمرارها.
رابعاً: صياغة النتائج المتفق عليها، والعمل على تعميمها ونشرها.
خامساً: العمل من أجل إنتاج ثقافة عربية موحدة، تحصنها أهداف سياسية تضمن توظيف جهود كل التيارات لخدمة القضايا الساخنة في الوطن العربي.
سادساً: أن تكون الأهداف الإنسانية، التي يُعبَّر عنها بالقيم العليا، الجامع المشترك بين كل التيارات، من أجل بناء فكر قومي بعيد عن التعصب والشوفينية.
سابعاً: خصوصية المجتمع العربي كونه منبعاً لكل الأديان السماوية من جهة، وللحاجة إلى موقف واضح من الثنائية الفلسفية (الروح والمادة) من جهة ثانية، يستدعيان من الفكر القومي العربي أن يحدد موقفاً منها. وهذا لا يعني الإغراق في المسألة الدينية، أو الدعوات المادية، بل العمل بما يشبع حاجة الإنسان الروحية الميتافيزيقية كجامع إنساني عام بين كل المجتمعات البشرية. هذا الأمر يستدعي التمييز بين مسألتين:
1-تهذيب معتقدات ووسائل الانتماء إلى دين أو مذهب.
2-توحيد التشريعات المدنية التي تساوي بين الجميع، على قاعدة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات الأمر الذي يوجب على الدولة القومية أن تستحضر في تشريعاتها كل ما يضمن للمجتمع القومي عوامل الوحدة والدفاع عن تلك الوحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق