-->
-->
عفلق وقضية فلسطين: قضية العرب المركزية([1])
مقدمات منهجية:
أولاً: يتميز ميشيل عفلق بأنه شغل موقعين متكاملين: ميشيل عفلق المفكر، وميشيل عفلق القائد الحزبي.
ثانياً: كان عفلق يصيغ أفكاره في جو نقدي في واقع التيارات الفكرية والسياسية العاملة في الحقلين القومي والقطري.
ثالثاً: لا يمكن استيعاب موقف عفلق من القضية الفلسطينية إلا من داخل اتجاهاته في الفكر القومي العربي.
رابعاً: لم يضع ميشيل عفلق، منذ بداية التأسيس نظرية متكاملة للمسألة القومية وقضاياها السياسية المتفرعة عنها.
خامساً: ثبات إستراتيجية عفلق الفكرية والسياسية من القضية الفلسطينية.
I- مواقف التيارات الماركسية السلبية من المسألة القومية قادتها إلى مواقف سلبية من القضية الفلسطينية.
II- ترابط المضمون الفكري للقومية العربية عند عفلق مع القضايا القطرية.
III- أشرق حب عفلق للقومية العربية حبا لقضية فلسطين.
1- تحالف الصهيونية مع الاستعمار والرجعية العربية.
2- ليست الصهيونية والاستعمار مشكلة فلسطينية فحسب، بل مشكلة قومية عربية أيضاًَ.
3- دفاع العرب عن فلسطين هو دفاع عن أنفسهم، والجماهير العربية هي صاحبة المصلحة في النضال من اجلها.
4- الوجه العملي لموقف عفلق النظري من القضية الفلسطينية.
5- دعوة ونضال من أجل إنقاذ بعض فصائل المقاومة من الاتجاهات القطرية ومساعدتها ضد الانزلاق في الفكر والممارسة القطرية.
6- موقف عفلق من التسوية السياسية للصراع العربي - الصهيوني .
IV- مشروع عفلق المستقبلي، الفكري - السياسي، لمواجهة الخطر الصهيوني - الاستعماري.
1- كسب صداقة الشعوب الغربية.
2- المراهنة على تطوير مواقف الدول الاشتراكية وشعوبها.
3- علاقة العرب مع الشعوب الإسلامية.
4- انعقاد الأمل على الأقطار العربية التي آمنت بخط التحرير الكامل.
5- انتظار تحول في وحدة الجماهير العربية ونضالها.
6- الوعي القومي العربي في توثيق التفاعل مع قضية فلسطين.
7- العمل من أجل قومية المعركة.
8- الحوار والانفتاح بين شتى القوى التقدمية والقومية.
9- انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة أمل منتظر في تجديد روح الثورة القومية.
V- خاتمة.
***
محور عفلق وقصية فلسطين: قضية العرب المركزية
كدنا نتوه من أين نبدأ، في الدخول إلى قضايا الأمة، بين قائل بأن المدخل هو البحث الأكاديمي الهادئ المستقرئ نتائجه بعلمية جافة. وبين قائل، علينا الخروج من برودة هذا المنهج بالمعرفة إلى رحاب حرارة الإيمان، لأن حرارة الإيمان هي وقود ضروري للنضال.
ليس بين القائل بهذا أو بذاك تناقض، بل فيه تكامل ضروري وحاجة ماسة. نحن بحاجة إلى عقل هادئ متماسك الأعصاب لكي يستل من التاريخ والنص حقيقة قد تغيب عن أذهاننا في حرارة النضال والتعبئة النضالية. فهذا المنهج بالمعرفة يرسم الخطى الشمولية إلى نضال وعمل، هما بحاجة ضرورية وماسة، أيضاً، إلى حرارة الإيمان والحب للقضايا التي نناضل من اجلها.
لقد تناول عدة باحثين، بالتنقيب والتحليل، قضية فلسطين في فكر ميشيل عفلق؛ وتداخل في النظر إلى نتاج أبحاثهم كثيرون من المعقبين. لكننا نرى أن المستقبل يدعونا إلى الاستمرار بالبحث والتنقيب، وإلى معقبين يلاحظون ويصوبون. فعملية الوصول إلى أفضل نتائج المعرفة تتطلب الدأب والمثابرة. اللهم إلا إذا كنا نحسب أننا توصلنا إلى الحقيقة كاملة، وليست هناك حقيقة مطلقة. أما إذا وجدت فلا معنى لاستمرار الحياة العقلية، فسوف نتحول، ساعتئذ، إلى مقلدين ومستسلمين وحافظين وباصمين ومفسرين.
لماذا ينظر عدة باحثين إلى مسألة ما؟ ولماذا لا نحصر المسألة في يد باحث واحد؟ ولماذا لم يتوقف حبنا للمعرفة عن الحقائق التي توصل إليها السابقون من فلاسفة ومفكرين وأنبياء ورسل ونابغين ومتميزين في مجتمعاتهم؟
إنني أحسب بأن توق البشرية للمزيد من المعرفة هو اعتراف واضح بأن لا حقائق مطلقة في المعرفة البشرية، باستثناء القيم والمبادئ الأخلاقية السامية. وكل ما عدا ذلك فهو خاضع للحقيقة النسبية. من هنا، أدعو إلى ان نفتح باب البحث على مصراعيه، وان تتعدد النتائج والرؤى، ولندع الواحد يكمل الأخر، وان يكون تعدد المناهج بالمعرفة مصدر إغناء لها. فبهذا الأسلوب تتكامل الرؤى، فنتوصل منها إلى رؤية أكثر قرباً من الوحدة المعرفية لشتى مناحي حياتنا وقضايانا وعلى شتى الصعد.
كانت هذه المقدمة جزءاً من هم شعرت به عندما أردت أن أكتب هذا البحث عن عفلق والقضية الفلسطينية. والسبب انه من بديهيات البحث المنهجي ان يستند إلى ما سبقه من أبحاث تناولت الموضوع ذاته، لكي يقرأها الباحث بقصد الاستفادة منها أولاً، والتطوير والاغناء ثانياً. ومن خلال قراءاتي لأبحاث الذين سبقوني وصلت إلى الكثير من الفائدة، وكدت ان الغي فكرة البحث من جديد لأن الأبحاث السابقة بلغت من الغنى مما أثار ارتياحي. ولكن تبين لي ان هناك زوايا أخرى، ومنها الزوايا المنهجية، لم يقف فيها من سبقني، للنظر من خلالها إلى موضوع البحث. وقفت ساعتئذ، في إحدى هذه الزوايا وأطللت منها وشاهدت من خلالها فكر عفلق الفلسطيني، ووجدت أنني من زاويتي قد استطيع ان أضيف إلى جهد من سبقني لبنة أخرى إلى زوايا البحث. وهكذا كان. ولعلي كنت قد أصبت فأرتاح لما بذلت من جهد، أو أكون قد أخفقت فمنكم الاعتذار.
بداية نرى أنه لا يمكننا ان نفهم مواقف ميشيل عفلق من شتى القضايا الفكرية والسياسية إلا من خلال تحديد بعض الملاحظات المنهجية التي علينا ان نسلكها في خلال مراجعتنا لأي جانب فكري أو سياسي قام بمعالجته، وهنا نلقي الضوء على بعض ما حسبناه ضرورياً من المقدمات المنهجية.
أولاً: يتميز ميشيل عفلق بأنه شغل موقعين متكاملين: ميشيل عفلق المفكر، وميشيل عفلق القائد الحزبي.
قلائل هم الذين شغلوا هذين الموقعين معاً. لقد تميز بعض المبدعين في الشأنين الفكري والسياسي باحتلال موقع واحد؛ إما موقع المبدع في الفكر، أو موقع المبدع في السياسة. أما ميشيل عفلق فقد تميز بأنه شغل هذين الموقعين معاً. لهذا فقد أبدع بعض المفكرين بإنتاج الفكر وابتعدوا عن العمل الجماعي المنظم في سبيل تطبيق ما أبدعوا. وأبدع بعض السياسيين في تطبيق فكر ما وأضافوا إليه من خلال ممارساتهم. فأما ميشيل عفلق فقد أبدع فكراً وأسهم كثيراً في تطبيق إنتاج فكره.
وكثيراً ما يتبادر إلى أذهان الذين درسوا فكره ان هناك انفصالاً ما بين فكره وبين ما أنتجته القيادة الجماعية للحزب الذي أسسه.
ومنعاً للوقوع في مثل هذا الالتباس، علينا أن نحذر من الوقوع في أخطاء منهجية عندما نأتي بشواهد، أحياناً، من مقررات أو مواقف اتخذتها القيادة الحزبية البعثية بشأن قضية فلسطين أو غيرها، لأننا عندئذ سوف نكون متعسفين عندما نفرق بين ما جاء مباشرة في مقالات عفلق وأحاديثه، وبين ما جاء في مؤتمرات الحزب ومقرراته. وفي مثل هذه الحالة علينا ان نضع ندواته مع الحزبيين، وكلماته التي كان يلقيها في كل المناسبات السنوية في الذكرى السنوية لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، ومقالاته، ومقر راث الحزب في دائرة واحدة.
ثانياً: كان عفلق يصيغ أفكاره في جو نقدي لواقع التيارات الفكرية والسياسية العاملة في الحقلين القومي والقطري
كان العديد من التيارات الحزبية والفكرية والسياسية ذات تأثير وفعالية في وسط قطاعات واسعة من المجتمع العربي، ولهذا السبب كان عفلق يتناول بالنقد أفكار وسياسات تلك التيارات. ومن هنا نرى، منهجياً، أنه لا بد من وصف الاتجاهات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في الزمن الذي كان يصيغ فيه عفلق أفكاره. فمواقفه الفكرية كانت ذات صلة نقدية لمواقف تلك التيارات واتجاهاتها من القضايا القومية ومنها القضية الفلسطينية. فهو كان يقاتل على جبهتين:جبهة العدوان العسكري الصهيوني - الاستعماري من جانب، وعلى جبهة التيارات الفكرية والسياسية العربية من جانب آخر.
ونحن إذ نعود بالذاكرة إلى بعض وقائع الصراع التاريخي السياسي والفكري لتلك التيارات، ومن أهمها النظرية الماركسية واتجاهات الحركة الشيوعية العربية ومواقفها السياسية والفكرية، فإنما الهدف من العودة إلى نقدها ليس إلا من اجل أن نحدد موقع اللحظات التاريخية التي أسهمت في تكوين فكر عفلق على مسار القضية القومية بشكل عام، ومسار تطور قضية فلسطين بشكل خاص لأنها موضوع بحثنا المباشر. وإننا إذ ندخل إلى هذه الحلبة فليس من موقع التعصب الحزبي بل من موقع الناقد الموضوعي لتجارب شكلت محطة للنقد الذاتي عند التيارات المذكورة.
ثالثاً: لا يمكن استيعاب موقف عفلق من القضية الفلسطينية إلا من داخل اتجاهاته في الفكر القومي العربي.
كانت القضية الفلسطينية قطرية بجغرافيتها التي رسمتها اتفاقية سايكس - بيكو. لكنها، في الواقع التاريخي، كانت جزءاً من القضية القومية العربية، وهي جزء لا يمكن ان نفصله بتاتاً عنها. واكتسبت أهميتها القصوى من انها صوبت الأنظار نحو الفخ الذي نصبته الاتفاقية المشؤومة من اجل زرع العوائق في وجه أية مشاريع، فكرية وسياسية، تعمل من أجل توحيد الجزء العربي من الإمبراطورية الإسلامية.
رابعاً: لم يضع ميشيل عفلق، منذ بداية التأسيس نظرية متكاملة للمسألة القومية وقضاياها السياسية المتفرعة عنها.
ترك عفلق للتجارب النضالية دوراً في صياغة تلك النظريات. وقد برر ذلك قائلاً بأنه لا يمكن صياغة نظرية متكاملة لأوضاع متحركة. بل إن تحديد المسارات العامة للنظرية هو الأصل، والنضال من أجلها هو الكفيل باستكمالها. لذلك كان الحزب «حركة ثورية نضالية تقوم على الفكر، لا مدرسة فكرية تبشر بالثورة والنضال» ([2]). لأنه، كما يقول، إذا تحولت مهمة الحزب إلى البحث النظري بعيداً عن أية حالة نضالية لكان عليه أن يتقلص إلى حلقة دراسية وعمل نظري مجرد([3]).
خامساً: ثبات إستراتيجية عفلق الفكرية والسياسية من القضية الفلسطينية
من خلال رصدنا لمواقف عفلق وفكره، كما سوف نرى في النتائج الأخيرة من البحث، وجدنا أن ثبات رؤيته الإستراتيجية سمح لنا في البحث الأكاديمي على أن نأتي بشواهد لتدعيم بعض النتائج من نصوص متباعدة، نسبياً في الزمن التي قيلت فيه. وكي لا يعد هذا ثغرة منهجية، كان لابد من الإشارة إليها في هذه المقدمة.
هنا وبعد تحديد الخطوات المنهجية سنحاول ان نطل، مسترشدين بها، على الاتجاهات الفكرية والسياسية للتيار الماركسي من القومية العربية وقضاياها، كمدخل لتحديد مواقف ميشيل عفلق حول القضية الفلسطينية واتجاهاته الفكرية منها.
I- مواقف التيارات الماركسية السلبية من المسألة القومية قادتها إلى مواقف سلبية من الفلسطينية؟
لم يكن التنافس بين حزب البعث والأحزاب الشيوعية العربية يقع تحت ضغط التنافس الحزبي المتعصب، وإنما كانت تحكمه جملة من المواقف المبدئية والسياسية من المسألة القومية العربية وما يتفرع عنها من قضايا قطرية. وكان عفلق حريصاً كل الحرص على ان تكون التعدديات الفكرية عامل صحة وتكامل وليست عامل تفريق وتفتيت. ولهذا يعبر في العام 1976م، عن ذلك قائلاً: «كيف نكون ثوريين اشتراكيين مجددين، وفي الوقت نفسه نرى في الشيوعية خصماً فكرياً بدلاً من أن نرى فيها صديقاً وحليفاً؟»، أما الذي كان سبباً في تلك الفجوة بين البعث والشيوعيين فكانت الصيغة الستالينية([4])، التي كانت تلزم كل الأحزاب الشيوعية بأن تعمل من أجل مساندة الاتحاد السوفيتي في مواقفه الدولية. ولأن عفلق كان يرى ان تلك الصيغة لا تحقق مصلحة الأمة العربية الفكرية والسياسية، كانت مواقفه الناقدة للشيوعية عائدة إلى خوفه من ان تصبح «عامل تشويش وتضييع للوقت على الثورة العربية»([5]).
لقد عبر عفلق منذ الأربعينات عن ان الصراع، بدلاً من أن يكون مع الغرب الرأسمالي لوحده، على ان تلتف سواعد كل الحركات والتيارات والأحزاب العربية لتوحيده ورفده. انبرت الأحزاب الشيوعية العربية إلى الوقوف في الخندق المضاد للعمل الشعبي العربي المشترك، ومن هنا خاض حزب البعث العربي الاشتراكي صراعاً غير مباشر مع الشيوعية([6]).
لقد أستند هذا الصراع إلى جملة من التناقضات الفكرية والسياسية. وقد رأى عفلق ان الشيوعية ليست مجرد نظام اقتصادي «بل هي رسالة. . مادية، أممية تنفي حقيقة القوميات في العالم، وتنكر الأمس الروحية والوشائج التاريخية التي تقوم عليها الأمة» ([7]). فهي تريد إذاً، «أن تهدم العصبية القومية في أمة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الأمم الأخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم» ([8]). وانطلاقاً من قناعاتهم الفكرية «يقرر الشيوعيون أن العرب عاجزون عن تحقيق استقلالهم ونهضتهم القومية إذا لم يربطوا مصيرهم بمصر العالم... (ويحسبون أنهم) وحدهم يستطيعون إيجاد هذا الارتباط المزدوج، بأن يلحقوا العرب فكرياً بالنظرية الشيوعية، وان يلحقوهم سياسياً بمنظمات الأممية الثالثة» ([9]). ولهذا السبب، يقول عفلق: «سوف تبقى تأثيرات النظرية الشيوعية سلبية على القومية العربية، ما لم تعبر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية متماسكة شاملة، قابلة لأن تتحقق في العمل المنظم» ([10]). لكن على الرغم من ان العرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث»، فهم «لا يرون إمكان الإفادة من الاتصال الثقافي إلا إذا تكونت شخصيتهم القومية، وبلغت مدا كافياً من النمو والوضوح والوعي لخصائصها يسمح لها بتمثل الأفكار الأجنبية وتحويلها إلى ما يزيد في نموها وتوضيح اتجاهها» ([11]).
فاستناداً إلى إيديولوجيتهم الأممية وقف الشيوعيون العرب موقفاً مستغرباً من القضايا القومية، فحسبوا انها مجرد جزئيات أممية. وكل موقف يتجاوز السقف الأممي، كما حسبوا يصب في دائرة الفكر الشوفيني. لهذا السبب انعكست اتجاهاتهم الفكرية على تحليلهم للقضايا القومية العربية. ووزعوا أحكامهم على شتى قضايا الساعة في ا لأربعينات بين تقدمية وفاشية. وغرقوا في توزيع الأحكام على شتى الاتجاهات الفكرية والسياسية، وحسبوا ان صراع الطبقات هو المقياس الذي على أساسه يمكن محاكمة نتائج الأمور. فتناسوا، في تلك اللحظة، مفهوم الاستعمار وأهدافه، فانعكست اتجاهاتهم تلك سلباً على حركات التحرر الوطنية والقطرية. فأصبح عندهم المناضل ضد الانتداب الفرنسي، مثلاً، فاشياً. ولم يتذرعوا بأي سبب إلا ان فرنسا في ذلك الحين كانت حليفاً للاتحاد السوفييتي. وكان الأمر نفسه ينطبق على مواقفهم من القضية الفلسطينية. فأصبح مقياسهم الطبقي مقياساً يكيلون به اتجاهات الصراع بين الفلسطينيين العرب واليهود على أساسه. ومن غريب الأمور أن اليهود بنظر الشيوعيين العرب، كانوا يمثلون الجانب التقدمي بينما المقاتلون في سبيل منع المشروع الصهيوني من السيطرة على أرض فلسطين أصبحوا هم الفاشيين. فالأممية الشيوعية، في تلك المرحلة، أصبحت في نظر القوميين رديفاً للعوائق الفكرية والسياسية التي تحول بين العرب والنضال في سبيل التحرر والاستقلال.
نتيجة لتلك المواقف المستغربة التي وقفها الشيوعيون ضد القضايا القومية، التي شكلت جزءاً من المشاريع المعادية لطموحات الأمة العربية، وقف حزب البعث، منذ الأربعينات وقبلها، بشكل سلبي من الحركة الشيوعية العربية كرد فعل ضد اتجاهاتهم الفكرية والسياسية من قضايا الأمة العربية.وقد جاء في بيان الحزب البعث، في العام 1945م، ما يؤشر بوضوح حول مواقف الشيوعيين العرب، وبعض مضمونه يقول: إن الشيوعيين حسبوا ان الصراع الأساسي هو بين تقدم وفاشية، فأيدوا الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورفعوا صور ديغول إلى جانب صور ستالين. وكانوا يحسبون ان مجرد الصراع الطبقي هو تتويج لمعركة التحرر، فاقتصرت دعوة الشيوعيين على مبدأ حسم الثورة الاجتماعية قبل أي شيء آخر، بينما كانت الحركة العربية التي يقودها حزب البعث، تقرن التحرر الوطني بالثورة الاجتماعية([12]).
نتيجة لتلك الإيديولوجية الشيوعية، تحالفت الأحزاب الشيوعية العربية مع الحكومات العربية المحلية، التي كانت قائمة، وأيدوها في سياسة التخاذل أمام الفرنسيين في محاربة القومية العربية. «وكان الحزب الشيوعي الوحيد الذي تجرأ على الدعوة الصريحة إلى مصادقة الشعوب الاستعمارية والتفاني في حبها وخدمتها وتقديس أبطالها... كل ذلك بحجة التساوي بين الأمم. . . وباختلاق تفريق كاذب بين الحكومات الاستعمارية وبين شعوبها، الذي يعتبره الشيوعيون بريئاً من وزر الاستعمار. . . وأخذوا يحتفلون بأعياد فرنسا القومية»([13]).
لقد أثبتت النتائج اللاحقة خطأ الوقوع في الخندق المعادي للقومية العربية، وخطأ فهم الصراع في فلسطين على أنه بين طبقة وطبقة، وهذا كان مدار نقد ذاتي مارسته الأحزاب الشيوعية العربية، ولكن بعد ان ضاع من عمر النضال القومي عشرات السنين.
II- ترابط المضمون الفكري للقومية العربية عند عفلق مع القضايا القطرية
لماذا ركز عفلق على المسألة القومية أولاً، ولماذا أعطى الجانب الروحي فيها أرجحية تسبق كل الجوانب الأخرى ؟
بالإضافة إلى ان المسألة القومية العربية لم تكن سراً مغلقاً، بل جاء عفلق في مرحلة كانت النظرية القومية تسير على طرق الإنضاج النظري بإسهامات من العديد من المفكرين القوميين العرب الذين سبقوه، لكن عفلق رأى أن الشعور القومي يسبق كل نظرية أخرى.
تواجهت المسألة القومية عند عفلق بعاملين: جفاف المسألة النظرية في فكر السابقين وابتعادها عن أية حالة نضالية، والتحدي الفكري للنظرية المادية الماركسية التي تؤمن بأن المادة / الاقتصاد هي المحرك الوحيد للتاريخ، وهي بهذا تنفي تأثير العامل الروحي في حياة المجتمعات والشعوب.
وجد عفلق، في تاريخ الأمة العربية، ان الدعوة الإسلامية بما تتضمنه من قيم روحية، قد أعطت لهذه الأمة زخماً ودفع بها إلى بناء أهم تجربة سياسية ارتقت بالعرب من مستوى الشعوب والقبائل المتصارعة إلى وحدة سياسية وروحية سيطرت على إمبراطورية واسعة الإرجاء لمئات من السنين. وهذا ما أضاف إلى فكره القومي قناعة راسخة بأهمية العامل الروحي في معارك التحرر والتغيير .
جفاف النظرية القومية، ومادية الماركسية المعادية للقومية، ومضامين الدعوة الإسلامية الروحية، بالإضافة إلى التحدي الاستعماري في السيطرة على الأمة العربية الذي ولد الشعور والحاجة أمام العرب إلى خوض معارك الاستقلال، شكلت بمجموعها عناصر أساسية في صياغة الفكر القومي البعثي عند عفلق، واتسمت بمميزات خاصة أثارت من حولها الكثير من نقد الماديين والمثقفين، الذين لم يريحهم أن يروا «الثقافة تتحول إلى نضال» ([14]).
لماذا ركز عفلق، منذ أوائل الأربعينات، على دور العاطفة والحب كأهم عناصر تكوين النظرية القومية؟
كانت طبيعة المرحلة تفرض تميزاً في الدعوة إلى القومية العربية وذلك لمواجهة الدعوة إلى الوحدوية الإسلامية كاستمرار للتجربة التي لم يكن قد مضى على سقوطها ربع قرن من الزمن، وكان فيها ما يخيف العرب الآخرين من غير المسلمين. وكذلك في مواجهة الفكر الماركسي المادي والذي فيه ما يخيف كل أصحاب الأديان السماوية. وكان الفكر الماركسي، بدوره، يفتقد غياب تحديد علمي للمسألة القومية. لهذا جاء في المسألة القومية التي كان عفلق يعمل على إنضاجها، ما ينقض الأخذ بكل التجربة الإسلامية السابقة، وما يزرع الاطمئنان في نفوس غير المسلمين، وفيها ما يحاول الإجابة عن أهمية دور الروح والدين المتجدد عند من يخشون طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي في حياة الأفراد والأمم على حد سواء.
وقد رد على الاتجاه الأول بأن أعطى للدين، كجانب روحي لا بد من أن يتسلح به الإنسان دوراً مهماً، لأنه جانب عملي. ودعا إلى الأخذ من الإسلام روح الثورة التي حررت العرب، منذ بداية الدعوة الإسلامية، من عوامل الفرقة والتشتت على الصعيد الديني، عبادة إله واحد كبديل لتعددية الأصنام. وعلى الصعيد السياسي؟ وجود نظام واحد يخضع الجميع لأحكامه، كبديل لتعدد القبائل والعشائر، وقوانين الأعراف العشائرية.
أما بالنسبة للماركسية فقد رد عليها بربطه معنى القومية بمعنى الأسرة الصغيرة، وأعطى معنى إنسانياً لروابط الحب التي تشد أبناء القومية الواحدة بعضهم لبعض «لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة» ([15]). وميز معنى القومية عند العرب، في مرحلتهم الراهنة، عنه عند الغرب. فالغربيون "لا يختلفون على استقلال البلاد وحريتها ووحدتها، لأنها مستقلة موحدة، بل على تعريف المواطن وحقوق المواطنين. وهم لا يتنازعون على تاريخ الأمة وماضيها ومستقبلها، إنما على توزيع الثروة» ([16]) أما نحن العرب، فلا نستطيع «أن نضمن للمشكلة الاقتصادية حلاً إلا إذا اعتبرت فرعاً ونتيجة لأزمة المشكلة القومية» ([17]). ولهذا عد عفلق ان اختزال معنى القومية بجانبها المادي الاقتصادي يشكل خطورة على نضالنا القومي، فدعا إلى إعطاء «المفاهيم الروحية والقيم السامية معناها الحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة ثانية على الواقع وتفهمه وتستجيب لأطروحاته» ([18]).
وربط عفلق من جهة أخرى المسألة القومية بضرورة العمل من أجل الوحدة السياسية للأمة العربية. فكان هذا الربط شرطة لازماً وضرورياً لوحدة النضال في شتى السبل لتحرير الأمة من شتى مشاكلها التي تعاني منها. فوحدة الفكر والشعور القومي تؤدي إلى وعي وحدة المصير، ووحدة المصير لا تكون فمكنة إلا «بتكوين عقيدة واضحة عن الوحدة العربية (لتصبح) الموجه الأول لتفكيرنا، والناظم الرئيس لكل ناحية من نواحي نضالنا» ([19]). ولا بد من أن يكون النضال عاملاً أساسياً لتحقيق أهداف الأمة، و«إن النضال ضد الاستعمار هو أحد شعارات القومية العربية»([20]). ولن يكون النضال مثمراً إلا إذا توحدت الجهود القومية، لذلك لن تتم وحدة النضال القومي من خلال عقلية التجزئة، أي العقلية القطرية، بل يحتاج العرب عندما ينكرون بالمسألة الوحدوية ان يرتقوا بحسهم الروحي إلى مستوى علاقات الحب بين أفراد الأسرة الواحدة. ولهذا عندما تعتبر الأحزاب والحكومات أن «الوحدة العربية محصلة ونتيجة لنضال كل قطر»، ويرى عفلق ان العكس هو الصحيح لأن الإيمان بالوحدة والنضال من أجلها هما اللذان يوجهان نضال القطر وجهوده الوجهة الصحيحة([21]) أولاً، وهي تعني ثورة دائمة ما دامت التجزئة قائمة([22]) ثانياً، و أصبحت التجزئة «تساوي بقاء واستمرار الكيان الصهيوني»([23]) ثالثاً.
ويعطي عفلق للنضال أولوية يعتز بها، فهو يقول «إذا بحثنا عن شيء في ماضي حزبنا يساعدنا على متابعة النضال، وينفعنا في حاضرنا، لوجدنا في ماضي الحزب روحاً نضالية أكاد أصفها بأنها في بعض الأحيان كانت صوفية. . . نظرة إلى النضال، والى الأهداف المقدسة، فيها كل الأيمان وكل التواضع وكل الزهد، وفيها الذوبان في القضية، ذوبان الأنانية»([24])، وإن هذا التصوف «الذي كان يميز الحزب في بدايته، هي عملية صعبة بلا شك. ولكن إذا أحجمنا أمام صعوبتها، فإنها تعرض حزبنا وتعرض ثورتنا لمخاطر كثيرة. إذا نحن لم نخلق للأجيال الجديدة ما ينمي صفاتها النضالية الحرة»، نترك لهم صفات استسهال الأمور، وهو من الصفات القتالة([25]).
لم يكن ميشيل عفلق يعنى بأن للنضال وجهاً سياسياً وقتالياً فحسب، بل إن النضال هو تجربة فكرية أيضاً. ولأن النضال متعدد الوجوه، ومن أهم وجوهه أنه تجربة للأفكار ومصهر لها، ولا يمكن لنظرية ما أن تتجه نحو النمو والاكتمال إلا بإخضاعها للتجربة، لم يكن بالإمكان، يقول عفلق، أن يأتي الحزب بالصيغ النظرية الجاهزة والكاملة لما يجب ان تكون عليه الحياة في المجتمع العربي المنشود، «بل اكتفى بوضع إشارات وعلامات وملامح وخطوط أساسية، تاركاً للأجيال العربية الصاعدة المناضلة أن تغني بتجربتها الحارة العميقة، المتفاعلة مع الأحداث القومية والعالمية، هذه المؤشرات الثورية»([26]).
ويركز، أخيراً، على ضرورة التمييز بين توحيد النضال وتوحيد السياسات الرسمية، ولا يمكن أن يستعاض عن ذاك بهذا «في حين ان الأصل هو الاعتقاد على نضال الشعب العربي»([27]). ولماذا النضال العربي، كما لا بد من أن نتساءل؟ وجواب عفلق هو ان «منطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في الدول العربية من التوحيد والتجزئة فحسب، بل يدفعها إلى التعاكس والتناقض. وهكذا نصل إلى هذه النتيجة؛ لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال ما لم يمارس نضال الوحدة»([28])، وهذا أمر صحيح ومنطقي، لأنه عندما يعتمد الدم القومي، وتتوحد المشاعر القومية من حول أية قضية قطرية، لا بد من أن نصل إلى تجربة ميدانية تعمل على إقناع المنخرطين في ساح النضال من جدوى النضال القومي الموحد وجزاءاته؛ كما تبرهن على أهمية توحيد الجهود بين شتى المواطنين العرب في تحقيق انجازات لا يمكن لجهود فئة قطرية أن تحققها. وهي، بالإضافة إلى الوضوح النظري في الفكر القومي العربي، تؤدي إلى نتائج ملموسة ومحسومة، فلن تكون أقل من أنها تشكل درساً مقنعاً يصل بالعرب إلى الربط بين جدوى التوحد الفكري القومي في نضالاتهم، وبين جدواه وجزاءاته السياسية، وبالتالي انعكاساتها على شتى وجوه المصالح القومية.
لأهمية النضال الشعبي القومي في ذكر ميشيل عفلق وفي تراث حزب البعث، سوف نجد أهميته العملية والنظرية من خلال الفقرة التالية والتي سنطل فيها على موضوع (عفلق والقضية الفلسطينية). ومن هنا، نحسب أن كل من لا يلم بأهمية الفكر القومي، ذي الاتجاهات التوحيدية السياسية، بشموليتهما: نظراً وإيماناً ونضالاً، لن يستطيع أن يفقه موقف عفلق الفكري والنضالي من كل قضية قطرية، كما أنه لن يتحمس للعمل من أجلها.
III- أشرق حب عفلق للقومية العربية حباً لقضية فلسطين
بماذا تميزت مواقف عفلق السياسية من القضية الفلسطينية عن مواقف الاتجاهات الأخرى؟ ولكي نلم بتلك التمايزات، لابد من أن نتتبع عدداً من تعريفاته لشتى العوامل التي تعمل على توجيه القضية الفلسطينية باتجاهات محددة، ومنها:
1- تحالف الصهيونية مع الاستعمار والرجعية العربية:
عن الصهيونية، قبل تأسيس كيانها الاغتصابي على أرض فلسطين، يقول عفلق: إن الخطر الصهيوني ليس مجرد غزو اقتصادي، وإنما هو «بالدرجة الأولى غزو ديني لا يشبهه في التاريخ إلا الحروب الصليبية: ولا يقوى على دفعه إلا يقظة الإيمان في نفوس العرب»([29]). وهي ليست ذات مشروع أحادي الجانب، وإنما هي حركة عدوان وراءها رأسماليون يغذونها ودول استعمارية تجد في مؤازرتها ربحاً لها([30]).
بين الطرفين علاقة جدلية يتبادلان فيها المصالح، وإن النضال ضد الواحد منها هو نضال حكماً ضد الآخر. ولا يمكن اقتلاع أحد طرفي التحالف من دون اقتلاع الآخر، وبهذا المعنى يقول عفلق: «الاستعمار يسخر إسرائيل، ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تسخر الاستعمار نفسه، فتوصل العرب إلى القضاء على الاستعمار يحل أضخم جزء من المشكلة، ولكنه لا يحلها كلها. . . وبالتالي فإن نضالاً آخر يجب أن يرافق نضالنا ضد الاستعمار وهو نضالنا ضد الصهيونية»([31]). وللصهيونية علاقات متميزة: مع الاستعمار بشكل مباشر؛ ومع الرجعية العربية بشكل غير مباشر.
أ- علاقة الصهيونية مع الرأسمالية علاقة وجود ومصير
- كلاهما يخدم الآخر، ويعمل على تعزير مواقعه، فيربط عفلق بين الصهيونية والرأسمالية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة. لقد تلاقت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية لخلق دولة إسرائيل. وكانت مساعدته للحركة الصهيونية هي «الحيلولة دون الوحدة العربية، والحيلولة دون قوة الأمة العربية»([32]).
- وللصهيونية وجه متمم للأهداف الاستعمارية، وهو وجود علاقة عميقة «تصل وجود إسرائيل بمشكلتنا القومية من جميع نواحيها. . . نظامنا الاقتصادي واتجاهنا الاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية»([33]).
- ولأهمية الروابط الاقتصادية التي يقف وراء التحالف بين الصهيونية والاستعمار، يرى عفلق ان الدول الغربية تناصر الصهيونية «لأنها تجد في مناصرتها من الربح أكثر مما تلاقي في معاداة العرب من الخسارة»([34]).
ب- الأنظمة الرجعية العربية هي وجه آخر مساعد للصهيونية والاستعمار احتواء القضية الفلسطينية
ليس الاستعمار وحده هو الذي يعمل على احتواء قضية فلسطين، بل هناك العديد من الأنظمة العربية التي يعدها عفلق المساعد الأيمن له، وهي التي تعمل ليس على اقتلاع قضية فلسطين بالهجوم ضد أية مظاهر للمقاومة الفلسطينية فحسب، وإنما بالهجوم ضد أية حركة وطنية في أي قطر عربي أيضاً([35]).
2- ليست الصهيونية والاستعمار مشكلة فلسطينية فحسب، بل مشكلة قومية عربية أيضاً
استناداً إلى تعريفه للصهيونية رأى عفلق أن الصهيونية والاستعمار وجدا في أرض فلسطين منطلقاً للعدوان،بشتى أشكاله، ضد الأمة العربية. وفي تحديده الواضح، هذا، استطاع ان يلقي عب ء النضال من أجل تحرير فلسطين على عاتق الأمة العربية بكاملها على أن يكون النضال الفلسطيني هو رأس الحربة في مسار التحرير. فدعا إلى أن يرى العرب «بوضوح وجرأه أن كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية ووحدتنا القومية. . . يسمح بتدعيم (كيان إسرائيل) إلى حد يصعب أو يتعذر معه. . . التخلص من هذا الخطر»([36]).
3- دفاع العرب عن فلسطين هو دفاع عن أنفسهم، والجماهير العربية هي صاحبة المصلحة في النضال من أجلها
كان عفلق، في دعوته الأمة العربية، يحدد أن الجهة صاحبه المصلحة الأساسية في مقاومة إسرائيل والاستعمار هي الجماهير العربية. وكانت دعوته مبكرة، وقد سبقت موعد تقسيم فلسطين بسنوات، ولهذا نرى من المفيد أن نعود إلى أهم ما جاء في بعض مقالاته التي كتبها في أوقات مبكرة سبقت حصول نكبة فلسطين.
- في مقال كتبه في العام 1946 م تحث عنوان «لا ينتظرن العرب ظهور المعجزة، فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي»، يقول: لا يجوز تحويل مشكلة فلسطين إلى وجهة عاطفية عقيمة «بأن لا نرى فيها إلا صوره لغدر الدول الغربية فينا». لهذا لا يجوز الاعتماد على خطب الزعماء وتصريحات الوزراء ووعود رؤساء الدول العربية، لأن فلسطين لن ينقذها إلا العمل الشعبي([37]).
- وفي مقال آخر، في العام 1948 م، يربط بين تحرير فلسطين وبين العمل الشعبي العربي فيقول. «لقد كان مفروضاً أن تكون معركة فلسطين، منذ البدء، معركة العرب جميعاً، لأن مصيرهم مرتبط بمصيرها. ولكن السياسة المعكوسة عملت على خلق وتبديد إمكانات الشعب العربي بشتى السبل، وأدت إلى أن عرب فلسطين أنفسهم ظلوا بأكثريتهم الساحقة بعيدين عن المعركة وعبئاً عليها». ولهذا كان من الواجب أن يستفاد من إمكانيات عرب فلسطين إلى أبعد حد ممكن «لأن الغاية من اشتراك الأقطار العربية لم يكن تعطيل هذه القوى بل دعمها وتأييدها، وأن يكون الدور العربي هو الإمساك بزمام «التوجيه الشامل فيها جميع الذين يشلون الإيمان بوحدة الأمة العربية»([38]).
- أوقع ضياع فلسطين في العام 1948م، هزة عنيفة في الضمير العربي، وفجر العديد من المحاولات الثورية، فكان الرد على الضياع في الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958م، وكان تجاوب الجماهير معها شاملاً وأمتد من المحيط إلى الخليج، وبهذا كانت الجماهير تدرك «أن الجواب الوحيد على الاستعمار والصهيونية هو الوحدة»([39]).
- ميز بين قضية فلسطين والقضايا القومية الأخرى، وأعطاها خصوصيات تنفرد بها، ومنها: أنها اكتسبت خصوصيات دولية وعالمية، وأصبحت قضية العصر. وعالميتها انها مرتبطة بمصالح الكثير من الدول الرأسمالية الاستعمارية. والنضال من أجلها هو نضل ضد مصالح الاستعمار والصهيونية، لذلك سيكون الحل النهائي والسليم والمبدئي لها «إنهاء الاستعمار والصهيونية في العالم كله» ([40]) ولخطر الوحدة العربية، وبالتالي الوحدة النضالية، على الوجود الصهيوني، عملت الصهيونية، بعد تأسيس كيانها في قلب الوطن العربي، على منع حلم الوحدة من النمو([41]) ولأهمية الوحدة في حياة العرب، أنصب نشاط الاستعمار والصهيونية على منعها بمساعدة الرجعية العربية([42]). أما في المقابل فقد أصبحت الوحدة تعنى، بالنسبة للعرب، البقاء والدفاع عن المصير. وأصبحت الهدف القومي الرئيس، الذي «يتضمن تحقيقه تحقيق كل الأهداف الأخرى»، وأصبح «كل كلام عن معركة التحرير دون وحدة هو لغو وخداع» ([43]).
- أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، وأصبح العمل من أجل تحرير فلسطين معياراً للإخلاص لجميع القضايا القومية، ففيها «تتلخص وتتركز السمات الأساسية لصراع الأمة العربية التاريخي مع أعدائها: الاستعمار الغربي والامبريالية والصهيونية. . . وأصبحت كل معركة تخوضها الجماهير العربية.... ترتبط بمعركة فلسطين، تؤثر فيها وتتأثر بها»([44]).
4- الوجه العملي لموقف عفلق النظري من القضية الفلسطينية.
لم تكن دعوة عفلق تلك آتية من وراء جدران أربعة كان ينظر منها للمشكلة بمنظار البعيد عن مخاطر النضال، بل أسهم مع رفاقه في تشكيل فصائل شاركت، فعلاً، في حرب العام 1948م، التي دارت رحاها بين اليهود والفلسطينيين. وهنا لا يمكن القفز فوق الحقيقة التي عمل فيها الحزب، بالإضافة إلى وعيه النظري لموقع قضية فلسطين القومي، هو أن قيادة الحزب وأعضائه قد قاموا بالممارسة النضالية العملية إلى جانب الفلسطينيين حينها شاركوا في معارك التصدي للعصابات الصهيونية على الأرض الفلسطينية. وقد سقط من البعثيين عدد من الشهداء في أرض المعركة([45]).
في خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات، استمرت رؤية عفلق، من القضية الفلسطينية، على وتيرتها الأولى لأنه لم يتغير الشيء الكثير على صعيد الأنظمة العربية، حتى تلك التي تسلمت قيادتها حركات وأحزاب قومية. والسبب أن تلك الأنظمة كانت غير مستقرة بعد، لكنها، على الأقل راحت تعد نفسها لممارسة دور جديد على صعيد الصراع العربي - الصهيوني الاستعماري.
لقد عرفت القضية الفلسطينية مستويين من العمل في سبيلها: المستوى الرسمي، والمستوى النضالي الشعبي. وهنا لابد من أن نثبت الحقيقة التاريخية التي تؤكد أن المستوى الشعبي قد سبق كل المستويات الرسمية، حتى قبل أن تأسس تلك المستويات، وعندما تأسست ظهر العجز الرسمي حيال مواكبة القضية بل اختزلتها إلى بيانات وقرارات غير ذات مضمون. لكن الحالة النضالية الشعبية لم تفقد حرارتها على الإطلاق، وإن كانت قد ابتعدت عن الأضواء في مرحلة ما، فإنما كان السبب هو الحالة التي كانت فيها الكواليس الرسمية تعمل على احتواء قضية فلسطين وبتر أية علاقة لها بالجماهير الشعبية، وذلك لكي تنسخ أي حوافز نضالية تتغذى منها تلك الجماهير . وإذا ما عدنا إلى استنكار التاريخ لوجدنا الكثير من المواقف المانعة للمستويات الرسمية حيال: لقضية الفلسطينية؛ ولوجدنا كم كانت حرارة النضال الشعبي تحاصر مواقف الأنظمة وتحرجها وتعري مواقفها، وتفرض عليها أحياناً كثيرة مواقف لا تروق للأنظمة أن تتخذها.
يكفي أن نراجع بإيجاز أهم المحطات التاريخية التي مرت فيها أطوار تأثير النضال الشعبي من أجل قضية فلسطين، وأهم ردود الأفعال الفكرية والنضالية عليها:
منذ الستينيات، وبعد أن انطلقت أول ثورة فلسطينية مسلحة، بتاريخ 1/1/1965م، كان لحزب البعث دور الريادة في احتضان تلك الثورة ومساعدتها بالإعلام والتبرعات والانخراط في صفوفها([46]). كما أصدر الحزب عدة بيانات تأييد وتبشير بالعمل الفدائي، وكانت مواقفه تتلخص بما يلي:
- عجز الأنظمة عن استرداد فلسطين. فالكفاح الشعبي المسلح هو الطريق الرئيس استردادها.
- لانتقاد من يدعون الحرص على فلسطين، والذين لا يجرؤون على الإشارة إلى مجهود «العاصفة».
- مكان العمل الفلسطيني هو على أرض فلسطين وليس في المؤتمرات. ويعد عمل «العاصفة» وأسلوبها في الكفاح الشعبي المسلح هو ما يجب على العرب أن يأخذوا به([47]).
5- دعوة ونضال من أجل إنقاذ بعض فصائل المقاومة من الاتجاهات القطرية، ومساعدتها ضد الانزلاق في الفكر والممارسة القطرية.
رأى عفلق الجوانب الايجابية في المقاومة، ومن أهم تلك الايجابيات هي منازلتها للاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح. وبذلك غدت هوية المقاومة الفلسطينية هوية قومية «تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية»([48]) ولما بدا أن الثورة الفتية تستند إلى منطلقات قطرية، وخوفاً من أن تتقوقع في داخل الأسوار القطرية الفلسطينية، أسهم الحزب في تأسيس فصيل قومي، في مطلع نيسان / أبريل من العام 1969م، وأطلق عليه أسم جبهة التحرير العربية. والتي حددت منطلقاتها القومية، المستندة إلى عمق فكري أسم ن تأسيسه عفلق، وفيها عبرت عن الترابط الوثيق بين النضال المسلح من أجل فلسطين والنضال الجماهيري العربي من أجل الوحدة والتحرر والنهضة الحضارية، وقد نصت مقدمة البيان التأسيسي للجبهة على أن: «فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين» ([49]).
واستناداً إلى أن الحزب قد حمل «أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبة» ([50])، وللدلالة على قومية المعركة استندت جبهة التحرير العربية في هيكلية تنظيمها ليس على الشباب الفلسطيني فحسب وإنما عل شباب حزب البعث العربي الاشتراكي بتنظيماته القومية أيضاً، ومن المعروف أن تنظيمات الحزب منتشرة في معظم الأقطار العربية. وكان نشاط الجبهة بارزاً في أحداث الأردن (1970-1971)، وكذلك في صد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وكان من أهم مهمات الجبهة أن لا تكون بديلاً لأحد، ولكن أن تعمل جاهدة في رص صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية([51]).
وعلى مسار أخر، كانت لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، منذ العام 1969م، تجربة موازية لتجربته في تأسس جبهة التحرير العربية، وهي البدء بإعداد البعثيين بتدريبهم على استعمال السلاح لبناء أول تجربة للمقاومة الشعبية في جنوب لبنان، وكان نموذجها بناء قوى شعبية مقاتلة في القرى المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وهكذا استدعت التجربة عدة سنوات، كان من أهم نماذجها، تجربتي الطيبة وكفر كلا، وفيهما حصلت عدة مواجهات بين جيش العدو الصهيوني وبين المقاتلين البعثيين في تلك القرى. وقد أقلقت تلك التجربة قيادة جيش العدو، وقد عمل في محاولة منه على إحباطها، ولهذا السبب شنت قوات من الكومندوس الصهيوني، في العام 1975م، عدة هجمات على القريتين، وسقط نتيجة المواجهة عدد من الشهداء البعثيين([52]). وبمثل تلك الشواهد التاريخية، قارب حزب البعث العربي الاشتراكي بين رؤيته النظرية للنضال في سبيل القضية الفلسطينية وتجاربه العملية. وحمل أعضاء الحزب في لبنان السلاح، منذ العام 1975م، للدفاع عن الثورة الفلسطينية.
كان الخوف عند عفلق، بشكل أساسي، ينطلق من أن تتحول القضية الفلسطينية إلى قضية قطرية، لأنه ساعتئذ سوف يكون من السهل محاصرتها وإنهاؤها.وكان الخوف الأشد من ان تتحول المقاومة الفلسطينية إلى حركات قطرية، لأنه أخذت تتشكل بعض معالم تلك المنزلقات في فكر المقاومة واتجاهاتها، فكان الفكر القطري هو أحد المظاهر السلبية التي أخذت تطبع اتجاهات عدد من تلك الفصائل، منذ أوائل السبعينات من القرن العشرين، وهي أخذت تحاول أن تستفيد من كل الأنظمة بدون تفريق بين رجعي وتقدمي([53]).
وللخوف الذي أصاب الأنظمة الرجعية من أن تبقى قضية فلسطين قومية الاتجاهات والنضال، ولما تشكله من خطر على التحالف الاستعماري الصهيوني – الرجعي، عمل أطرافه على «تثبيت قطرية الفلسطينيين، ومحاصرتهم فيها، وعزلهم أو إبعادهم عن العلاقة المصيرية بالثورة العربية»([54]).
6- موقف عفلق من التسوية السياسية للصراع العربي –الصهيوني
وتتابعت التطورات والمتغيرات الجديدة بعد الانتصار الذي حققه العرب في حرب تشرين الأول / أكتوبر من العام 1973م، وقد برزت إلى العلن دعوات إلى انعقاد مؤتمر دولي يعمل على إيجاد حل لقضية الصراع العربي - الصهيوني على قاعدة التسويات السياسية. وقد رافق ميشيل عفلق من خلال فكره تلك التطورات وأبدى وجهة نظره بشكل كان يواكب فيه الحدث. وهنا نرى من المفيد أن نتابع رؤية عفلق فيما له علاقة بالتسويات والمساومات التي كانت تدور في العلن حيناً وفي السر أحياناً كثيرة.
كان الاستعمار والصهيونية يعملان على إحباط ما تحقق من إنجازات على الصعيد القومي: الناصرية في مصر، وحزب البعث في سوريا والعراق، بحيث توهم أن هزيمة الأنظمة القومية التقدمية تساعد على كبح الحركة الوحدوية القومية؛ فخطط لأحداثها في الخامس من حزيران / يونيو من العام 1967م. لكن مخططو الهزيمة فوجئوا بالرد الجماهيري بظهور المقاومة الفلسطينية، وإحداثها هزة عنيفة عند الجماهير العربية بدلت الهزيمة النفسية وزرعت بديك عنها أملا جديداً. ولما جاءت حرب تشرين الأول / أكتوبر من العام 1973م، وحاول المخططون ان يجيروا نتائجها المهمة إلى تمرير تسوية سياسية، لكن نتاج الحرب أصبحت عقبة في طريقها، لأن الروح التي خلقتها تتنافى مع روح الاستسلام([55]).
لكن ضلوع السادات في المخطط الأمريكي - الصهيوني فاق كل التوقعات في سرعته؛ فعقد اتفاقية مع العدو الصهيوني، وكانت أول اعتراف سياسي بكيانه في تاريخ الصراع معه. ولهذا يحب عفلق أن التسوية التي عقدها السادات مع الصهيونية، بعد الانتصار الذي أحرزته الجيوش العربية في حرب تشرين كانت مفارقة جارحة([56])، ودقت مسماراً في النضال ضد الاستعمار، لأن المصالحة مع الصهيونية هو إنهاء لحالة النضال ضد الاستعمار من جهة، وتنكر لقضية فلسطين من جهة أخرى. ومن مساوئ التسوية أنها تعترف بالاستعمار والصهيونية معاً، وهما يشكلان العاملين الأساسيين، ليس في اغتصاب فلسطين فقط، وإنما هما عاملان محبطان لوحدة الأمة من جهة ومصالحها من جهة أخرى. ومع التسوية نتناسى نزعة الاستعمار إلى الاستغلال والسيطرة وأطماعه في ثروات الأمة العربية. ونتناسى، أيضاً، بقاء الكيان الصهيوني أداة عدوان ضد الأقطار العربية. وعامل تهديد وإضعاف لها([57]). لم تكن التسوية تشكل الوجه الوحيد الخطير الذي يهدأ قضية فلسطين، بل كانت هناك ظاهرتان أساسيتان تسهمان في هذا التهديد، وهما:
- المتحدثون عن التحرير من دون الإعداد لمستلزماته.
- ومدعو الاعتدال لجر العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني.
وقد غاب عنهما معاً أن الصلح مع عدو كالعدو الصهيوني، أو التوهم بالقدرة على خداعه«هي مهمة مستحيلة. لكن ما هو الحل؟ يجيب عفلق بأن الشيء الممكن تأجيله هو الحرب لحين تتوفر إمكاناتها. اما غير الممكن، وغير الجائز، فهو الاستعاضة عن الحرب بالصلح، لأنه "انحدار في طريق الضعف، وضياع للحق القومي»([58]).
4- مشروع عفلق المستقبلي، الفكري – السياسي، لمواجهة الخطر الصهيوني – الاستعماري
أما كيف يحدد عفلق صورة الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي بعد أن عقد السادات اتفاقيات كامب - ديفيد؟ وكيف يمكن تطوير سبل مواجهة هذا التطور الخطير على صعيد الصراع العربي - الصهيوني؟
يرى عفلق ان قضية فلسطين تلخص القضية العربية، لكن ثورتها لم تصبح ثورة العصر «لأن النضال العربي لم يرق بعد إلى مستوى قضية، وهذه مهمة الشعب العربي وجماهيره المناضلة وطلائعه الثورية. هذه المهمة التي يجب أن لا توكلها إلى احد، ولا تتنازل عنها لأحد»([59]).
فإذا كان العامل الأول والأساسي في إستراتيجية المواجهة يتمحور حول إيلاء المهمة للشعب العربي، فهذا لا يلغي توفير عوامل أخرى مساعدة له، ومنها:
1- كسب صداقة الشعوب الغربية: على الرغم من أن الغرب كان سبباً في زرع الكيان الصهيوني، فإن هذا يجب أن لا «يمنعنا من التعامل والتفاعل مع شعوب الغرب»([60]).
2- المراهنة على تطوير مواقف الدول الاشتراكية وشعوبها: على الرغم من حداثة علاقة العرب مع الدول الاشتراكية وشعوبها؛ وعلى الرغم من أنه لا يزال ثمة فارق بين نظرتها إلى قضية فلسطين ونظرتنا، فإن هناك أملاً بأنها سوف تطور موقفها في المستقبل باتجاه تغليب السياسة المبدأية تجاه قضية فلسطين على السياسة الواقعية([61]).
3- علاقة العرب مع الشعوب الإسلامية: لأن العرب يعتزون بعاطفة القربى تجاه الشعوب الإسلامية، خاصة إذا وقفت موقفاً إيجابياً حاسماً من القضية الفلسطينية، فإن على العرب أن يعملوا من أجل أن يحظوا على الدعم من تلك الشعوب([62]).
4- انعقاد الأمل على الأقطار العربية التي آمنت بخط التحرير الكامل: على الرغم من تشتت الأمة بين متواطئ مع الاستعمار والصهيونية وبين سائر في ركاب التسوية، يبقى هناك أمل كبير في الأقطار التي آمنت بخط التحرير الكامل، وبالانتفاضات الشعبية العربية ضد التسوية والصلح مع العدو([63]).
5- انتظار تحول في وحدة الجماهير العربية ونضالها: من المهمات الملحة لتحرير الوطن العربي من النفوذ الامبريالي والقضاء على الاستعمار والصهيونية، هي في تحرير طاقات الجماهير العربية. وهناك قليلون هم الذين توجهون إلى الجماهير الشعبية، باعتبارها صاحبة الوطن وصاحبة القضية، وصاحبة الحق في النضال([64]). والمطلوب تأمينه والدفع إليه هو أن تشترك الجماهير «اشتراكاً كلياً في المعركة القومية»([65]). لكل ذلك فإن معركة المواجهة حدوث تحول جذري في دور الجماهير لكي تكون الوحدة وحدة نضال وكفاح تعيد للنضال العربي حرارته وتحتضن الجماهير الفلسطينية المقاتلة([66]).
6- الوعي القومي العربي في توثيق التفاعل مع قضية فلسطين: هناك ضرورة وحاجة لتكوين هذا الوعي، لأنه ساعتئذ يدرك «كل مواطن عربي.. . ويؤمن بأن استرداد حريته وكرامته ذو صلة وثيقة بقضية فلسطين، وبمعركة تحريرها»([67]).
7- العمل من أجل قومية المعركة: لأنه لن يتم تحرير فلسطين إلا ضمن المخطط القومي النهضوي الشامل([68]). يصبح من المطلوب أن تتوزع المسؤوليات في داخل الجسم النضالي القومي الواحد؟ فعلى الثورة العربية ان تحمي المقاومة وترفدها بالعطاء النضالي المستمر؛ وعلى المقاومة ان تبقي قضية فلسطين في مستواها النضالي القومي بمزيد من الاقتراب والاندماج مع نضال الجماهير العربية([69]).
8- الحوار والانفتاح بين شتى القوى التقدمية والقومية: بعد أن يعاد المشقات التي عاناها الحزب على صعيد العلاقات مع القوى العربية الأخرى، وبعد أن شق الحزب طريقه الخاص "بالمشقة والكفاح والإيمان، ضد الذين كانوا يدعون الحقيقة واحتكارها»([70])، يدعو عفلق إلى المزيد من الموضوعية والانفتاح والحوار مع القوى التقدمية والقومية الأخرى، لأنه من الطبيعي ان تتعدد التجارب الثورية في المجتمع العربي وتتنوع. وأن تكون كل تجربة مكملة لتجربة الحزب لا منافسة له، وإنه «في منتهى الشذوذ أن تكون هذه التجارب مغلقة بعضها على بعض، فلا تستفيد إحداها من التجارب الأخرى ولا تفيدها»([71]).
9- انتفاضة الشعب الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة أمل منتظر في تجديد روح الثورة القومية: فمن غير المهم أن تحاصر القوى المتآمرة القضية الفلسطينية، ولا يهم أن تقتلع المقاومة من أكثر من ساحة، لأن أية انتفاضة شعبية في الأرض الفلسطينية المحتلة هي دعم أساسي للقضية الفلسطينية ومقاومتها وفك للحصار عنها([72]). وعلى الرغم من ضعف وسائل الصمود للشعب الفلسطيني، فهناك ضرورة أساسية لصموده في الأرض «وتصديه البطولي لقوات الاحتلال الصهيوني»([73])، لأن هناك ترابطاً بين الصمود في داخل الأراضي المحتلة مع المقاومة في الخارج، ولهذا يؤكد عفلق على أن بطولات الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة هي الضمانة الرئيسة لاستمرار المقاومة في خارجها([74])، وهو الذي يجدد روح الثورة فيها([75]).
وعلى الرغم من أن ما قاله عفلق يعود إلى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، تأتي انتفاضات الشعب الفلسطيني، التي ما أن تخبو لسبب أو لآخر حتى تتجدد، لكي تؤكد صدقية فكر عفلق وحزب البعث ورؤيتهما السياسية الواضحة. تستند تلك المصدقية والرؤية إلى عمق استشراف آفاق المستقبل؛ وتعودان، في أسسهما، إلى البدايات التي انخرط فيما عفلق والبعث في التنظير والنضال من أجل قضية فلسطين، أي إلى أواسط الأربعينات من القرن العشرين.
وإننا نرى، بعد مرور أكثر من نصف قرن، أي منذ كتب عفلق قائلاً: لا ينتظرن العرب المعجزة، فلسطين لن تحررها الحكومات بل العمل الشعبي، ان الوافر العربي المتمثل في ضعف الحكومات العربية والبديل المتمثل في العمل الشعبي، ما زالا يشكلان أساساً واقعياً ونظرياً لتحديد إستراتيجية النضال القطري والقومي من أجل فلسطين.
يأتي طرفا المعادلة، في زمننا الراهن؛ الواقع الذي يتمظهر في عجز بعض الحكومات العربية وتواطؤ بعضها الآخر من جهة، والبديل لهما الذي يتمظهر في الحس النضالي الشعبي من جهة أخرى، لكي يعطينا الدليل على صدقية الرؤية التاريخية لفكر عفلق وحزب البعث.
لم يكن مصدر الرؤية الفكرية مستنداً إلى أحلام الغرف المقفلة، بل كانت المعاناة الفكرية والنضال الميداني وحب القومية العربية وقضيتها المركزية في فلسطين، كلا متماسكاً يرفد بعضها البعض الأخر في تكوين إستراتيجية واضحة لحزب البعث وشتى التيارات القومية المنخرطة في هذا السبيل. فماذا نرى بعد وفاة عفلق؟. رحل عفلق وأستمر حزب البعث مؤمناً بإستراتيجيته الفكرية والنضالية حول قضية فلسطين. وتمظهر الاستمرار بما يلي:
1- ما زالت فلسطين تلعب دور قضية العرب المركزية.
2- ما زال التلاحم الاستعماري الصهيوني يعبر أصدق تعبير عن ارتباط مصالحهما المشتركة، فهما يهد دان مصالح العرب القومية انطلاقاً من إلحاحهما على إنهاء القضية الفلسطينية.
3- ما زال واقع الحكومات العربية عاجزاً عن تحرير فلسطين.
4- من أجل ضرب أي مصدر يزعج الكيان الصهيوني حصل العدوان الثلاثيني على عراق البعث منذ أكثر من عشر سنوات.
5- ومن أجل منع إستراتيجية الحزب حول قضية فلسطين من أن تكون مؤثرة في المستقبل يتم التشديد على تأخير رفع الحصار عن العراق.
6- إن تلازم انتفاضة فلسطين اليوم مع إرادة العراق للتصدي لمشاريع الاستعمار والصهيونية، يعد مظهراً أساسياً من مظاهر تلاحم النضال القومي، ويشكل أهم مصدر للخوف عند الأطراف المعادية، ولهذا يعملون على الفصل بينهما.
7- إن النضال من أجل تأييد انتفاضة فلسطين ودعمها، والنضال من أجل فك الحصار عن العراق، جدد عند الشعب العربي روح الثورة من جهة؛ وأعطى زخماً لأستمرارية المقاومة ضد كل المشاريع المعادية من جهة أخرى.
8- إن إصرار العراق على دعم الانتفاضة في فلسطين، بكل حرارة وصدق ومحبة ووعي لإستراتيجيته في العمل القومي، يدل بوضوح على عمق تلازم النضال القومي عند البعث مع كل نضال من أجل القضايا القطرية.
9- ما زالت انتفاضة فلسطين، كما كان عفلق يعبر باستمرار، حافزاً أساسياً لنضال الشعب العربي ولاستمرار المقاومة القطرية والقومية في خارج فلسطين. وجعلتنا الانتفاضة في الداخل نتأكد من أنها تجدد روح الثورة ليس على المستوى القطري فحسب، وإنما على المستوى القومي أيضاً.
V- خاتمة
وإذا كان يمكننا أن نستدل على تطورها في المشروع الفكري، فإننا نخلص إلى نتيجة أن موقف عفلق من القضية الفلسطينية، على المستويين النظري و العملي كان ثابتاً والثبات في النظرية، هنا، له علاقة بنتاج تقييمها. ولم يكن ثبات مواقف عفلق النظرية والعملية آت من إصرار على جمود في الرؤية والمكابرة على صحة المنطلقات، ولكن ثباتها جاء من أنها خضعت للتجربة لأكثر من نصف قرن من الزمن وأثبتت صحتها. فهل من يقول الآن بغير ما قاله عفلق منذ الأربعينات من القرن العشرين عن أن قضية فلسطين هي:
- قضية اغتصاب ثنائي صهيوني – استعماري، تساندهما وتتواطأ معهما حكومات وأنظمة عربية.
- قضية قومية لا لانتماء قومي شوفيني بل لأن الاستعمار والصهيونية، موضوعياً، هما طرفان متكاملان متضامنان على اغتصابها لتشكل ممراً آمناً فمصالحهما في المنطقة العربية. وقد أثبتت الدلائل على أن النضال ضدهما، بمنطق وإمكانيات قومية، فيه جزء كبير من حماية الأمة العربية لنفسها. وهنا، لن نتردد في القول أن كل عربي يقاتل من أجل فلسطين فهو يدافع عن نفسه ويدرأ خطر الثنائي الاستعماري، الصهيوني عنها. فلا يمنِّننِّ أحد على الفلسطينيين بأنه عندما يقاتل معهم، أو عندما يقدم الدعم لهم، فكأنه يقدم خدمة قطرية.
- وقد أثبتت التجربة التاريخية أنه لا يمكن استعادة فلسطين بغير النضال، على ان يتميز بحرارة الإيمان بعدالة قضيتها وأن يكون شعبياً بشكل أساسي، وان تكون جذوره ذات عمق قومي عربي تستفيد من كل أنواع الدعم على المستوى العالمي والإنساني.
- يشكل النضال الشعبي المسلح أهمية قصوى في إخضاع العدو وإرباكه وإنزال الخسائر ببنيته البشرية والاقتصادية. فقد دلت التجارب التاريخية، طوال نصف قرن من الزمن، ان معظم الحكومات العربية إذا لم تكن متواطئة فهي متخاذلة. وتبقى الحقيقة النظرية أن الجماهير العربية هي الحصان الذي راهن عليه عفلق وما زلنا نحن حتى الآن نراهن عليه. فالجماهير العربية ظلت حتى الآن حقيقة واقعية لم تتجاوزها مراحل النضال المتعاقبة.
- إيمانه باستحالة الدفاع عن المصير القومي من دون وحدة نضالية عربية بالدرجة الأولى دفعه إلى الإيمان إلى أن يقول بأن فلسطين ستتحرر بالكفاح الشعبي العربي، ويعد هذا الكفاح نقطة أساسية لا يمكن بدونها أن تطلب من الأنظمة العربية أولاً وقوى التحرر العالمية ثانياً والقوى الإسلامية غير العربية ثالثاً ان تعمل بصدق وحرارة للإسهام والمساعدة في معركة التحرير تلك. وقد عبر عن هذه الحقيقة بما يلي: «إن الوحدة هي عمل شعبي نضالي، تصنعه الجماهير العربية المراعية المنظمة"، وبما أن تاريخ القضية الفلسطينية أرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالتين النضاليتين: القطرية الفلسطينية والقومية العربية، فإن بقاء قضية فلسطين، كما يقول: ستبقى "مطروحة بكل ثوريتها، وكامل حقها في إزالة الاغتصاب.... »، وسوف تبقى تعبيراً "عن إرادة الثورة في الأمة العربية وأجيالها الصاعدة. . . كما (هي) بعث للثورة في كل أرض عربية، وجواب على كل المتقاعسين، عن معركة فلسطين"([76]).
- أما عن دور الآخرين، من غير العرب، من شعوب غربية وإسلامية، أي تلك الشعوب الصادقة في مساعدة العرب على تحرير فلسطين، فلا يجوز، بل من غير الواقعي وغير الممكن أن يسبق دورهم دور العرب بمثل تلك المهمة، وإنما من الممكن أن يكون من العوامل المساعدة في التحرير. ومن هنا يرى عفلق ان الجهد القومي العربي، بتياراته الفكرية المتعددة يجب أن يسبق أي جيد آخر. ولو تلكأت شتى التيارات العربية عن القيام بالدور الريادي لن تكون القوى الأخرى: العالمية العلمانية والعالمية الإسلامية، أكثر حماسة في دعم الفلسطينيين في معارك تحرير فلسطين. ألا تكفي هذه الدلالة إلى أهمية العامل القومي العربي في ان يكون العامل الأساس في اعتبار قضية فلسطين قضية عربية بالدرجة الأولى؛ لهذا لن تكون قضية فلسطين قضية إنسانية أو قضية إسلامية قبل أن تكون قضية عربية. فعروبة القضية هي مدخل لا بد منه من أجل إدخالها إلى دائرة الاهتمام الإنساني العالمي والإنساني الإسلامي.
ولهذا نخلص إلى القول بإيجاز عن علاقة فكر عفلق، كمفكر وأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي ونضاله من أجل فلسطين بأن حبه الخاص للقومية العربية أشرق حباً خاصاً للقضية الفلسطينية، ودفعه إيمانه بوحدة المصير القومي العربي إلى الإيمان بان تكون القضية الفلسطينية في القلب من هذا الإيمان.
([1]) قدَِّم الرفيق حسن غريب هذا البحث في الندوة الفكرية التي عقدها مكتب الثقافة والإعلام القومي في الذكرى الثانية عشرة لرحيل ميشيل عفلق، القائد المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي، التي عُقِدت في 24-25/ 6/ 2001 في بغداد: و نُشر في كتاب «البعث وفلسطين»: صادر عن مكتب الثقافة والإعلام القومي: في العام 2001.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق